ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
القواعد
القرآنية القاعدة
الخامسة والعشرون: (وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا
تَخْوِيفًا) د.عمر
بن عبد الله المقبل الحمد
لله رب العالمين، وصلى الله
وسلم وبارك على نبينا وإمامنا
وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى
وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى
يوم الدين، أما بعد: فهذا
مرتع خصب، وروضة غناء، نتفيأ في
ظلالها معنىً من معاني كلام
الله عز وجل، ومع قاعدة من
القواعد التي تتصل بفقه السنن
الإلهية في الأمم والمجتمعات،
تلكم هي القاعدة القرآنية التي
دل عليها قول الله تعالى: {وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا
تَخْوِيفًا}[الإسراء: 59]. وقد
تنوعت عبارات المفسرين في بيان
المراد بهذه الآيات التي يرسلها
ربنا تعالى، فمن قائل: هو الموت
المتفشي الذي يكون بسب وباء أو
مرض، ومن قائل: هي معجزات الرسل
جعلها الله تعالى تخويفا
للمكذبين، وثالث يقول: آيات
الانتقام تخويفاً من المعاصي. وهذا
الإمام ابن خزيمة: يبوب على
أحاديث الكسوف بقوله: باب ذكر
الخبر الدال على أن كسوفهما
تخويف من الله لعباده، قال الله
عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ
بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}(1). وكل هذه
العبارات - في تنوعها - تشير إلى
أن الآيات لا يمكن حصرها في شيء
واحد، وما ذكره السلف - رحمهم
الله - إنما هو عبارة عن أمثلة
لهذه الآيات، وليس مرادهم بذلك
حصر الآيات في نوع واحد منها،
وهذه هي عادة السلف في أمثال هذه
المواضع عندما يفسرونها. والمهم
هنا - أيها المستمعون الفضلاء -
أن يتأمل المؤمن والمؤمنة
كثيراً في الحكمة من إرسال هذه
الآيات ألا وهي التخويف، أي: حتى
يكون الإنسان خائفاً وجلاً من
عقوبة قد تنزل به. يقول
قتادة: في بيان معنى هذه القاعدة
القرآنية: {وما نرسل بالآيات إلا
تخويفا}: "إن الله يخوف الناس
بما شاء من آية لعلهم يعتبرون،
أو يذكرون، أو يرجعون، ذكر لنا
أن الكوفة رجفت على عهد ابن
مسعود، فقال: يأيها الناس إن
ربكم يستعتبكم فأعتبوه"(2). وروى
ابن أبي شيبة: في مصنفه من طريق
صفية بنت أبي عبيد قالت: زلزلت
الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت
السرر، فوافق ذلك عبد الله بن
عمر وهو يصلي، فلم يدر، قال:
فخطب عمر الناس وقال: لئن عادت
لأخرجن من بين ظهرانيكم. وهذا
التوارد في كلمات السلف في بيان
معنى هذه الآية يؤكد أن السبب
الأكبر في إرسال الآيات: هو
تخويف العباد، وترهيبهم مما يقع
منهم من ذنوب ومعاصٍ، لعلهم
يرجعون إلى ربهم الذي أرسل لهم
هذه الآيات والنذر، وإن لم
يرجعو فإن هذه علامة قسوة في
القلب - عياذاً بالله تعالى - كما
قال تعالى: {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ
بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا
وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا
بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى
إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً
فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام:
42 - 44]. وكما
قال ربنا عز وجل: {وَلَقَدْ
أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ
فَمَا اسْتَكَانُوا
لِرَبِّهِمْ وَمَا
يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. - فإن
قلتَ: ما الجواب عما روي عن ابن
مسعود رضي الله عنه أنه قال - لما
سمع بخسف -: كنا أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم نعد الآيات
بركة، وأنتم تعدونها تخويفا!(3). فالجواب
أن مراد ابن مسعود رضي الله عنه -
كما بينه الإمام الطحاوي: -: أنا
كنا نعدها بركة؛ لأنا نخاف بها
فنزداد إيماناً وعملاً، فيكون
ذلك لنا بركة، وأنتم تعدونها
تخويفاً ولا تعملون معها عملاً،
يكون لكم به بركة، ولم يكن ما
قال عبد الله س عندنا مخالفاً
لما جاء به كتاب الله عز وجل من
قول الله عز وجل: {وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا
تَخْوِيفًا} أي: تخويفاً لكم بها
لكي تزدادوا عملا،وإيمانا
فيعود ذلك لكم بركة"(4). أيها
القارئ الفطن: ومع
وضوح هذا المعنى الذي دلت عليه
هذه القاعدة القرآنية: {وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا
تَخْوِيفًا}،ومع ظهوره، إلا أن
من المؤسف جداً أن يقرأ الإنسان
أو يسمع بعض كتاب الصحف، أو
المتحدثين على بعض المنابر
الإعلامية من يسخرون أو يهوّنون
من هذه المعاني الشرعية
الظاهرة، ويريدون أن يختصروا
الأسباب في وقوع الزلازل أو
الفيضانات، أو الأعاصير ونحوها
من الآيات العظام في أسباب مادة
محضة، وهذا غلط عظيم! ونحن لا
ننكر أن لزلزلة الأرض أسباباً
جيولوجية معروفة، وللفضيانات
أسبابها، وللأعاصير أسبابها
المادية، ولكن السؤال الذي يطرح
نفسه: من الذي أمر الأرض أن
تتحرك وتضطرب؟ ومن الذي أذن
للماء أن يزيد عن قدره المعتاد
في بعض المناطق؟ ومن الذي أمر
الرياح أن تتحرك بتلك السرعة
العظيمة؟ أليس الله؟ أليس الذي
أرسلها يريد من عباده أن
يتضرعوا له، ويستكينوا له لعله
يصرف عنهم هذه الآيات؟! ولا
أدري! ألم يتأمل هؤلاء دلالة هذه
القاعدة من الناحية اللغوية؟
فإنها جاءت بأسلوب الحصر: {وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا
تَخْوِيفًا}، فهي في قوة الحصر
الذي دلّ عليه قوله تعالى -: {وَمَا
مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل
عمران: 62] ، وهي فقوة الحصر الذي
دلّ عليه قوله تعالى: {وَمَا
مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي
كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] ونحوها
من الآيات. ثم ماذا
يصنع هؤلاء الذين يهوّنون من
شأن هذه الآيات - شعروا أم لم
يشعروا، قصدوا أم لم يقصدوا -
بمثل تلك التفسيرات المادية
الباردة، ماذا يصنعون بما رواه
البخاري ومسلم عن عائشة زوج
النبي صلى الله عليه وسلم أنها
قالت: كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا عصفت الريح، قال: "اللهم
إني أسألك خيرها وخير ما فيها
وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من
شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به"
قالت: وإذا تخيلت السماء - وهي
سحابه فيها رعد وبرق يخيل إليه
أنها ماطرة - تغير لونه، وخرج
ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت
سري عنه، فعرفت ذلك في وجهه،
قالت عائشة: فسألته؟ فقال: لعله
يا عائشة كما قال قوم عاد: {فلما
رأوه عارضا مستقبل أوديتهم
قالوا هذا عارض ممطرنا}(5). ولا
أدري كيف يجيب هؤلاء - هداهم
الله - عن قوله تعالى في حق قوم
نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا
نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}
[نوح: 25]؟ يقول
ابن كثير: في بيان معنى قوله عز
وجل:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ}: أي:
من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم
على كفرهم ومخالفتهم رسولهم: {أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا نَارًا} أي: نقلوا
من تيار البحار إلى حرارة النار. وأما ما
يورده بعض الناس من قولهم: هناك
بلاد أشد معصية من تلك البلاد
التي أصابها ذلك الزلزال، ويوجد
دول أشد فجوراً من تلك التي
ضربها ذاك الإعصار، فهذه
الإيرادات لا ينبغي أن تورد
أصلاً؛ لأنها كالاعتراض على
حكمة الله تعالى في أفعاله
وقضائه وقدره، فإن ربنا يحكم ما
يشاء ويفعل ما يريد، والله يقضي
بالحق، وربنا لا يُسأل عما
يفعل، وله سبحانه وتعالى الحكمة
البالغة، والعلم التام، ومن
وراء الابتلاءات حكم وأسرار
تعجز عقولنا عن الإحاطة بها،
فضلاً عن إدراكها. وبعد:
فهل بعد هذا البيان والوضوح
يستريب منصف في أهمية تدبر
وتذكر هذه القاعدة القرآنية
الكريمة: {وَمَا نُرْسِلُ
بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}؟! نسأل
الله تعالى أن يرزقنا الاعتبار
والادكار، والاتعاظ بما نوعظ
به، ونعوذ بالله من قسوة القلب
التي تحول دون الفهم عن الله وعن
رسوله، والحمد لله رب العالمين. _______________ (1) صحيح
ابن خزيمة: 2/309. (2)
تفسير الطبري. (3) شرح
مشكل الآثار (9/6). (4) شرح
مشكل الآثار (9/6). (5)
أخرجه الشيخان. -------------------- هذا
الكتاب يعبر عن رأي كاتبه
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |