ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
العرب..
إطلالة تاريخية
(1
- 3) تأليف:
يوجين روغان ترجمة
وعرض: كمال حسين البيطار ومحمد
فقيري المصدر
: دار الخليج 01/12/2009 المؤرخ
والكاتب البريطاني يوجين روغان
يروي في هذا الكتاب “العرب
اطلالة تاريخية” حالة
العرب في العصر الحديث بدءاً من
الدولة العثمانية، ثم في عهود
الاستعمار وصولاً الى الحرب
الباردة وحتى الوقت الراهن حيث
تسعى الولايات المتحدة لإقامة
نظام دولي احادي .ويتناول روجان
وهو أستاذ لتاريخ الشرق الأوسط
في جامعة اوكسفورد وواضع كتاب “حدود
الامبراطورية العثمانية” وضع
العرب من اقصى المغرب حتى
الجزيرة العربية، محاولاً
تعريف الهوية العربية، إضافة
الى الصراع العربي
“الإسرائيلي” وعملية
السلام، وجمال عبدالناصر وصعود
القومية العربية، وقوة النفط
الاقتصادية والسياسية، والصراع
بين الإسلاميين والعلمانيين .
لكن هناك سؤالاً حائراً يعتمل
في النفس ينبغي طرحه وهو: لماذا
يهتم روغان وأمثاله من المؤرخين
أو المستشرقين الغربيين بالعرب
كل هذا الاهتمام، فيجندوا
أنفسهم لكتابة تاريخ العرب .لا
شك أن هناك رسائل بالغة الأهمية
مبثوثة بين السطور، ممزوجة ببعض
الخبث والسم .الكتاب يقع في 550
صفحة، وصدر مؤخراً عن دار “بنغوين”
للنشر . قادة
الغرب مدعوون لدراسة وفهم تاريخ
المنطقة يستعرض
المؤلف في هذا الكتاب الذي حظي
برواج كبير وعبر فيه الكاتب عن
وجهة النظر الغربية في قضايا
الشعوب العربية الكبرى، تاريخ
هذا العرق على مدى خمسة قرون منذ
الفتوحات العثمانية ومروراً
بالأحقاب الاستعمارية
البريطانية والفرنسية وفترة ما
بعد الحرب الباردة وحتى العصر
الحاضر الذي طغت عليه الهيمنة
الأمريكية وشهد سقوط بغداد
وصعود القاعدة ونهاية حقبة بوش
ومجيء عهد أوباما . ولكن،
لماذا حظي العرب وتاريخهم بهذا
الاهتمام من قبل روغان فأخرج
لهم وللعالم هذا الكتاب
المرجعي؟ يقول
المؤلف إن تاريخ العرب أثار
دهشته فأبهره واولع به لثراء
هذا التاريخ وتنوعه . ويذكر
المؤرخ أنه قضى شطراً من طفولته
في بيروت والقاهرة، حيث تعلم في
الجامعة العربية والتركية كي
يتسنى له قراءة المصادر
الرئيسية لتاريخ العرب . وتنامى
لدى روغان الاهتمام بالشرق
الأوسط ولازمه هذا الاعجاب كما
يقول . جعل
الكاتب المؤرخ يوجين روغان
تاريخه عن العرب في أربعة عشر
فصلاً وعنون لفصول كتابه كما
يلي: من
القاهرة الى اسطنبول، التحدي
العربي للحكم العثماني،
امبراطورية محمد علي المصرية،
مخاطر الإصلاح، موجة الإصلاح،
موجة الاستعمار الأولى: شمال
إفريقيا، فرق تسد: الحرب
العالمية الأولى وتسوية ما بعد
الحرب، الامبراطورية
البريطانية في الشرق الأوسط،
الامبراطورية الفرنسية في
الشرق الأوسط، نكبة فلسطين
وعواقبها، صعود القومية
العربية، أفول شمس القومية
العربية، عصر النفط، قوة
الإسلام، ما بعد الحرب الباردة . واللافت
في مقدمة تاريخ روغان عن العرب
انه استهلها من لبنان وسلط
عدسته التحليلية على مشهد
اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق
رفيق الحريري سنة ،2005 وعرّج على
الحضورالسوري العسكري والسياسي
والأمني في لبنان منذ أن دخل
الجيش السوري لبنان سنة 1976 تحت
مظلة قوات الردع العربية .
واعتمد المؤلف في كتابة تاريخه
عن أمة العرب على كثير من
المصادر العربية راجياً أن يرى
القراء الغربيون تاريخ العرب
بعيون عربية عساهم يخرجون
بانطباعات مختلفة تغير بعض
الأفكار المسبقة عن العرب . المقدمة:
الاغتيالات يستهل
المؤلف يوجين روغان مقدمة
تاريخه عن العرب بسرد حدثين
مزلزلين دهما لبنان، وشكل الأول
منهما منعطفاً في تاريخ هذه
البقعة من العالم العربي التي
كانت، شأنها شأن بقية اصقاع
بلاد الشام، مسرحاً لأحداث جلل
كان لها وقعها الهائل على المدى
البعيد والمتوسط . ويبدأ روغان
بذكر اغتيال وزراء لبنان رفيق
الحريري في الرابع عشر من
فبراير/شباط سنة ،2005 ولا ينسى أن
يشير الى أن هذا التاريخ له
دلالته إذ يصادف ما يسمى بعيد
فالنتاين “الحب” الذي يحتفي
فيه النصارى وغيرهم في فبراير/شباط
بهذه المناسبة التي اصطلحوا على
وصفها بأنها عيد “الحب” . ورغم
تلميح المؤلف الى الاتهامات
التي وجهت للحريري بأنه مسؤول
جزئياً عن الفساد الذي شاب
عملية إعادة اعمار قلب بيروت
إلاأنه أكد أن الحريري بثرائه
وقوة شخصيته ودعم معظم الأنظمة
العربية له وتفانيه في خدمة
بلده كان يمثل أمل لبنان الوحيد
بالنهضة والسير على طريق
الازدهار والنماء والحداثة .
فبقتله جرى اغتيال حلم لبنان،
حسبما يرى روغان الذي يشدد على
أن سياسة الحريري واشاعته الأمن
هما اللذان شجعا الاستثمارين
العربي والأجنبي اللذين كان
لهما دور في الانتعاش النسبي
الذي شهده لبنان في تلك الحقبة . وبالطبع
فإن توقف روغان ملياً عند حادثة
اغتيال رئيس وزراء لبنان
واشادته في مقدمة كتابه بالدور
الكبير الذي لعبه الحريري في
تحديث لبنان وإعادة اعماره بعد
تركه الخراب الذي دمر لبنان بعد
الحرب الأهلية له دلالته، لا
سيما تركيزه على أن تقديم
الرئيس الحريري لاستقالته في
اكتوبر/تشرين الأول من عام 2004
إنما كان احتجاجاً على تدخل
سوريا في السياسة اللبنانية . وما
لبث المؤرخ روغان أن انتقل من
اغتيال الحريري الى اغتيال
الصحافي المؤرخ المؤلف سمير
القصير، الذي اغتيل بسيارة
مفخخة حين كان يهم بالتوجه الى
عمله يوم 2 يونيو/حزيران سنة 2005
ليكون هو الثاني في قائمة
الشخصيات التي جرى اغتيالها في
لبنان بعد مقتل الحريري . وتبرز
أهمية انتقاء مؤلف الكتاب لحدث
مقتل القصير حين نستقرئ رأي
روغان في الدور الفريد الذي
يعتقد المؤلف أن القصير قد لعبه
في التوعية وفي تجسيده للرؤية
الحداثية التي تستلهم جوهر
فلسفتها وتوجهاتها من نموذج ما
يسمى بالنهضة العربية التي يمثل
جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده
أعظم رموزها في التاريخ العربي
المعاصر، حسبما يرى روغان . ولا شك
في أن المؤلف يرى في سمير القصير
نموذجاً لا بد من
تأمله . لذا نراه يستشهد في
المقدمة بمقال شهير للقصير،
الذي يعتبر أحد أهم رموز “حركة
14 آذار” المناهضة للتدخل
السوري في لبنان، كان نشره في
صحيفة “النهار” قبل برهة وجيزة
من مقتله تحت عنوان “السقم
العربي” أو “علة العرب” في
القرن 21 . ويصور المقال حال
المواطن العربي في كافة أرجاء
ما يسميه القصير ب “الوطن
العربي” وتبدد أوهامه وتحطم
احلامه حين صدمه حتى النخاع
فساد حكوماته وطغيانها ونزوعها
المطلق نحو الاستبداد والقهر
والقمع . ويقتبس روغان من المقال
قول القصير: “أي إحساس بائس ذلك
الذي يجتاح المرء حين يدرك أنه
عربي يعيش في هذا الزمان، فشطر
من العرب يستبد به الشعور
بالاضطهاد، وشطر آخر يكره نفسه
ويجلد ذاته . إحساس عميق بالقلق
والانزعاج يستولي على العالم
العربي . ومع ذلك، فإن العالم
العربي لم يكن يعاني دائماً من
مثل هذه “العلة”، ويوازن
القصير بين حال العرب البائس في
هذه الحقبة وبين عصرين تاريخيين
صعدت احوال العرب خلالهما
وازدهرت حتى بلغوا أوج العظمة
أو كادوا يلمسون سقف الكمال بعد
أن امتطوا صهوة المجد الذي سعوا
اليه حثيثاً فحظوا منه بالنصيب
الأوفى . القصير
الخطير ويطرح
سمير القصير، كما يورد روغان في
مقدمته، السؤال الصعب: “كيف آل
بنا الحال لنكون على هذه الدرجة
من الركود والجمود والتخلف؟
وكيف تحولت ثقافتنا من ثقافة
حية الى ثقافة اهتزت ثقة الناس
بها حتى اورثت عرب زماننا
شعوراً بالدونية والمنبوذية،
وصار ابناء العرب جماعة أو
طائفة لا يوحد بينهم سوى البؤس
والشقاء والموت؟” . وطرح سمير
اسئلة لطالما اقضت مضجع
المفكرين العرب وصناع السياسة
والقرار في الغرب على حد سواء في
عصر ما بعد هجمات الحادي عشر من
سبتمبر سنة 2001 . الجهاد
عدو الغرب ويقول
روغان بعد ايراده نتفاً من آراء
القصير في المقدمة: “يرى الشطر
الأعظم من الناس في الغرب أن
الخطر الأعظم الذي يتهدد أمنهم
وأسلوب حياتهم إنما هو ذاك الذي
يطل شبحه من العالمين العربي
والإسلامي ويتمثل في ما صار
يعرف اليوم ب “الارهاب الجهادي”
. ولا يفهم السواد الأعظم من
الغربيين أن عدداً كبيراً من
الحرب ومن ابناء العالم
الإسلامي يرون أن أكبر خطر يهدد
أمنهم وطريقة حياتهم إنما هو
ذاك القادم من الغرب، وينبغي أن
يدرك الطرفان بجلاء أن هناك صلة
حقيقية ورابطة لا ريب فيها بين
الجمود والتأخر والركود
والاحباط العربي من ناحية وبين
التهديد الارهابي الذي يشغل بال
الديمقراطيات الغربية ويقلقها . ويرى
روغان في مقدمته أن على قادة
الغرب وصناع القرار فيه وزعماء
الفكر كذلك أن يولوا التاريخ
اهتماماً أكبر إن كانوا يرجون
علاجاً للأسقام التي يعاني
العالم العربي من ويلاتها
وآثارها اليوم . “أليس من عجب أن
يحاول المؤلف في هذا الموضع أن
يلقي في روعنا أن زعماء الغرب
قلوبهم معنا ويحرصون على البحث
الحثيث المتفاني عن دواء يطبب
أدواءنا ويشفي أمراضنا” . ويقول
روغان عن ربعه أهل الغرب إنهم
غالباً ما يقللون من القيمة
الراهنة للتاريخ . وهنا يستشهد
الكاتب بمقولة للمعلق والمحلل
السياسي جورج ويل حين كتب يقول:
“عندما يقول الأمريكيون عن شيء
إنه تاريخ، فإنهم لا يعنون سوى
أنه أمر لا قيمة له ولا وزن،
وأتفه من أن يذكر” . وليس ثمة ما
هو ابعد، بنظر روغان، عن
الحقيقة من هذا الهراء . وهنا
يصرخ المؤلف صرخة أخرى مهيباً
بقومه أن يهبوا فيفهموا التاريخ
لأنهم، كما يرى، بأمس الحاجة
الى صرف المزيد والمزيد من
الاهتمام للطريقة التي جرب بها
العرب التاريخ وخبروه وعاشوه
وفهموه بعقولهم هم . وهذا بنظر
ورغان يجنب قادة الغرب ليس فقط
إعادة التاريخ بنفس النسق
والوتيرة، بل يحصنهم من كارثة
تكرار الأخطاء التاريخية . ويرى
روغان في مقدمته أن القرون
الخمسة الأولى بعد ظهور
الإسلام، والتي تمتد من القرن
السابع الميلادي وحتى القرن
الثاني عشر كانت عصر
الامبراطوريات الإسلامية
العظيمة التي هيمنت على شؤون
العالم . وكان للعرب حضور دولي
غامر فاعل يمتد من العراق
وجزيرة العرب الى اسبانيا
وصقلية . فحقبة فجر الإسلام هي
مبعث فخر واعتزاز لأمة العرب
بأسرها، وهي في ذات الوقت مرعاة
للأسى بوصفها مجداً غابراً ضاع،
وعصراً ذهبياً كان العرب فيه هم
القوة الجبارة المهيمنة في
العالم . غير أن الاسلاميين
اليوم يرجعون اصداء عصر العزة
الاسلامية والكبرياء ليخلصوا
الى نتيجة مفادها أن العرب
بلغوا أوج عظمتهم عندما كانوا
يتمسكون بدينهم الاسلام الى
الحد الأقصى . خذوا
منهم مصابيح الدرب ويواصل
المؤرخ روغان تسويق نموذجه “سمير
القصير” فيقول في مقدمة تاريخه:
كان سمير يعتقد أن الحقبة
الثانية من احقاب العزة والعظمة
العربية، أو على الأقل عصر
الآمال والتطلعات العظيمة،
إنما بدأت في القرن التاسع عشر .
وكتب القصير فوصف تلك الحقبة
بأنها “نهضة القرن التاسع عشر
الثقافية”، وقال: “لقد اشاعت “النهضة”
الشهيرة التنوير ونشرته في كثير
من المجتمعات العربية”، “وهنا
بيت القصيد، إذ نقع على ومضة من
فكر المؤرخ ونلمس طرفاً من
توجهاته من خلال ما يبديه من
اعجاب . فالمؤرخ روغان يرى أن
هذه النهضة “أي تلك التي كان
رفاعة الطهطاوي وجمال الدين
الأفغاني ومحمد عبده أبرز
ممثليها وابطالها” صاغت ثقافة
عصرية علمانية بامتياز وكانت
هذه الثقافة واضحة المعالم
انتشرت في العالم العربي واثرت
فيه الى حد بعيد في القرن
العشرين . “أنشأت مصر ثالث أقدم
صناعة سينما في العالم، وفي
غضون ذلك، من القاهرة الى بغداد
ومن بيروت الى الدار البيضاء
نهض الفنانون الرسامون
والشعراء والموسيقيون
والمؤلفون المسرحيون والأدباء
الروائيون ليشكلوا ثقافة عربية
حية جديدة” . كما أن
ثقافة عصر النهضة العربية صاغت
أيضاً السياسات العربية في
القرن العشرين، وفيما اشتدت
عملية المخاض التي أذنت بانعتاق
العرب من نير الاستعمار ونيلهم
لاستقلالهم ولدت أمة العرب من
جديد وانطلقت لتلعب دوراً مهماً
في الشؤون والقضايا العالمية .
ويورد القصير عدة أمثلة بارزة
ليدلل على ما يقول: “مصر
الناصرية مثلاً كانت احدى
الدعائم الرئيسية للفكرة
والمنظومة الأفرو آسيوية وما
تلاها من حركة عدم الانحياز،
والجزائر المستقلة، القوة
المحركة للقارة الإفريقية
بأسرها، أو المقاومة
الفلسطينية التي انبثقت من رحم
نكبة فلسطين ومضت قدماً لتعلي
من شأن الحقوق الديمقراطية من
دون أن ترضخ لايديولوجية الضحية
التي شاعت في حقبتنا الراهنة
وعششت في العقول وضربت اطنابها”
. فلننس
تاريخنا إذاً ويركز
المؤرخ روغان على مسألة ان سمير
القصير، القومي العلماني كان
يعتقد أن الإصلاحات الحداثية
التحديثية في القرنين التاسع
عشر والعشرين كانت هي الأهم
والالصق بروح عصرنا والأقرب الى
تصوراته واحتياجاته في أيامنا
هذه من العصر الذهبي في القرون
الخمسة الأولى للإسلام . ووصف
القصير النهضة بأنها: “عصر تسنى
للعرب فيه أن ينظروا الى
المستقبل بتفاؤل” . ويعقب روغان
بأن الوضع لم يبق على هذه الحال،
ويرى أن هذا من الوضوح بحيث
تنتفي الحاجة الى تبيانه .
فالعالم العربي اليوم ينظر الى
المستقبل بتشاؤم يتنامى يوماً
عن يوم . ولم تعد الرؤى
العلمانية قادرة على إلهام
الغالبية العظمى من الشعب
العربي فقد افلست أو كادت بنظر
الأكثرين وانزوت وأضحت عاجزة عن
اغراء العرب بمحاسنها بعد كل ما
خاضوه من تجارب مرة أورثتهم
الاحباط . ومن
هذا المنطلق يرى المؤرخ روغان
أن الاسلاميين سيحرزون نصراً
سهلاً وساحقاً في حال دخلوا أي
انتخابات حرة ونزيهة ومنصفة “ومن
ثنايا الكتاب، يدرك القارئ الذي
لا تفوته القراءة بين السطور أن
مثل هذا الاحتمال “فوز
الاسلاميين في الانتخابات”
يشكل هاجساً مقلقاً بالنسبة
لروغان، بل هو كابوس مخيف لا
يتمنى تحققه أبداً” . ولا شك في
أن روغان كان يكن اعجاباً
شديداً بفكر القصير وقدراً غير
قليل من الانبهار بتصوراته،
وهذا، على ما يبدو، هو السر في
كثرة اقتباساته من القصير الذي
يقول إن شعور “الخزي” يستولي
على الإنسان في المنطقة العربية
حين يحس بأنه عربي في هذا الزمان
. حلاق
يبوح بالأخبار ينقل
الكتاب شهادات حية للأحداث التي
يصف مثل يوميات شهاب الدين أحمد
بن بدير البديري الشهير بالحلاق
والتي سجلها خلال القرن الثامن
عشر بحلب، بالإضافة الى
الملاحظات التي دونها الجبرتي
عن احتلال جيش نابوليون بونابرت
سنة 1798 وما دونه رفاعة الطهطاوي
عن العاصمة الفرنسية في كتابه
الشهير “تخليص الابريز في
تلخيص باريز” والذي ترجم بعدها
الى الانجليزية بعنوان “إمام
في باريس” 1826
1831 والذي سجل فيه انطباعات
مصري عن العادات والتقاليد
الفرنسية أوائل القرن التاسع
عشر، حيث امتزج في ملاحظاته
الإعجاب بالاشمئزاز، فقد قال
مثلاً إنه أحس بصدمة عندما رأى
الرجال في فرنسا عبيداً للنساء
منقادين لهم بغض النظر عما إذا
كانت المرأة التي تسوقهم جميلة
أم لا . ويتطرق
روغان في تاريخه عن العرب الى
ذكر الملك فيصل، ملك العراق
الذي عينته بريطانيا في هذا
المنصب سنة 1921 بعد انهيار ملكه
في مهده اثر احتلال فرنسا
لسوريا . كما
يذكر المؤلف سيد قطب الأديب
المصري الذي ذاع صيته بعد ذلك
بعد أن صار من اقطاب ما يسمى
بالأصولية الإسلامية وساقه
نظام الرئيس عبدالناصر الى حبل
المشنقة . ومن كل
ما كان يراه يجري أمام ناظريه في
دمشق في منتصف القرن الثامن عشر
خلص أحمد البديري الى قناعة
يقينية عنده، وفحواها أن
الامبراطورية العثمانية كانت
تعاني من خلل خطير، فالحكام
غارقون في الفساد، والجنود
كانوا جامحين عنيدين غير
منضبطين وغلاء الأسعار تكتوي
بناره العباد ويعصف بالبلاد،
كما تردت الاخلاق الى الحضيض
وزاد من تدهورها تراجع سلطة
الحكومة حيث دب الوهن في
أوصالها . بؤر
الفساد وفي
تلك الفترة، حسبما يقول روغان،
استقاء من يوميات البديري
وغيره، لم يكن يحكم دمشق، التي
يعتبرها المؤلف أس البلاء
وبؤرته، ولاة اتراك ترسل بهم
اسطنبول ليحكموا باسم السلطان،
بل كان حكام دمشق وقتها حكاماً
محليين معظمهم من أصول كردية
مثل بيت العظم الذين كانوا قد
راكموا ثرواتهم “بحسب المؤلف
روغان” في القرن السابع عشر من
انتزاع أراض زراعية شاسعة حوالي
مدينة حماه، ثم استقر بهم
المقام في دمشق وازدهرت أحوالهم
وتضخمت ثرواتهم ورسخوا أقدامهم
في المدينة بصفتهم من اثرى
اثريائها وأقوى أقويائها . وحكم
دمشق في الفترة من 1724 الى 1783
خمسة من أبناء أسرة آل العظم
لمدة خمسة واربعين سنة كاملة . ====================== العرب..
إطلالة تاريخية (2
- 3) 04/12/2009
تأليف:
يوجين روغان ترجمة
وعرض: كمال حسين البيطار ومحمد
فقيري المؤرخ
والكاتب البريطاني يوجين روغان
يروي في هذا الكتاب “العرب
اطلالة تاريخية” حالة
العرب في العصر الحديث بدءاً من
الدولة العثمانية، ثم في عهود
الاستعمار وصولاً الى الحرب
الباردة وحتى الوقت الراهن حيث
تسعى الولايات المتحدة لإقامة
نظام دولي احادي . ويتناول
روجان وهو أستاذ لتاريخ الشرق
الأوسط في جامعة اوكسفورد وواضع
كتاب “حدود الامبراطورية
العثمانية” وضع العرب من اقصى
المغرب حتى الجزيرة العربية،
محاولاً تعريف الهوية العربية،
إضافة الى الصراع العربي - “الإسرائيلي”
وعملية السلام، وجمال
عبدالناصر وصعود القومية
العربية، وقوة النفط
الاقتصادية والسياسية، والصراع
بين الإسلاميين والعلمانيين. لكن
هناك سؤالاً حائراً يعتمل في
النفس ينبغي طرحه وهو: لماذا
يهتم روغان وأمثاله من المؤرخين
أو المستشرقين الغربيين بالعرب
كل هذا الاهتمام، فيجندوا
أنفسهم لكتابة تاريخ العرب.لا
شك أن هناك رسائل بالغة الأهمية
مبثوثة بين السطور، ممزوجة ببعض
الخبث والسم. الكتاب يقع في 550
صفحة، وصدر مؤخراً عن دار “بنغوين”
للنشر. بلاد
العرب ترزح تحت الاحتلال
العثماني ثم البريطاني
والفرنسي هل
تكمن مشاكلنا في التاريخ، أم أن
الحل يختبئ في ثناياه ولابد لنا
من سبر أغواره كي نعثر على كنوزه
. لنفترض أننا شمرنا عن ساعد
الجد وقمنا قومة واحدة نروم
التعرف إلى تاريخنا فهل لنا أن
نهرول إلى شلومو أو مردخاي
ليلقنوننا تاريخنا، وما الضير
في ما نستقيه من شايلوك أو عزرا
أو حتى من بيريز؟ كل
يراه من زاويته، ولطالما أطنب
البشر في وصف التاريخ حتى قال
قائلهم إن التاريخ هو أبو
الثقافات، وقال آخر إن التاريخ
هو ذاكرة الأمم ووجدانها . إلا
أن المدهش أن ينهض مثل روغان،
مؤلف الكتاب، بهذه المهمة فينذر
نفسه ويبذل جهده لتدوين هذا
السفر المهم . ولكن ألا يحق لنا
أن نقف وقفة استفسار تلتمس
إجابة شافية فنقول لماذا؟ وماهي
الدوافع الحقيقية التي تحرك
روغان ومن لف لفه ولم كل هذا
الاهتمام بتاريخنا نحن العرب
وتاريخ أمتنا؟ ألا يحق لنا أن
نطرح هذه الاسئلة وأخواتها،
سيما وأننا قضينا دهرنا في
العصور المتأخرة ونحن نتعرض
للدغ تلو اللدغ وتنهال علينا
الضربات من المشرق والمغرب حتى
اجترأ علينا الغير فصاروا هم
الحماة الكماة في بعض من عواصم
بلداننا؟ بالأمس
كان الاستشراق ومازال أبالسته
يصولون ويجولون ويعربدون في
شرايين تاريخنا ويتلونون بكل
لون ليؤثروا أعمق الأثر فينا
ويتسللوا حتى إلى ضمائرنا
وينبشوا قبور حكايانا ولا يرعوا
في شبابنا وناشئتنا إلاً ولا
ذمة وهم يحاولون هدم ثوابتنا
وتخريب عقائدنا وبث الريبة
والشك في أقدس تصوراتنا
ومبادئنا، فهل ندع الوحوش تنهش
في مهجنا وأكبادنا دون أن نحرك
ساكناً؟ في
الفصل الأول من كتابه يتناول
روغان ذلك التحول التاريخي
الكبير، ألا وهو أفول شمس
المماليك وهيمنة العثمانيين .
ويتحدث المؤلف عن معركة مرج
دابق الحاسمة التي غيرت وجه
المنطقة . وكانت
هذه الموقعة بين العثمانيين
بقيادة “سليم الأول” وجيش
المماليك بقيادة السلطان
الأشرف “قانصوه الغوري”،
السلطان المملوكي التاسع
والأربعين قد جرت سنة 1517م على
مشارف حلب في مكان يدعى ب”مرج
دابق” . وكانت السلطة قد آلت إلى
المماليك سنة 1250 فحكموا أقدم
وأقوى دولة إسلامية في ذاك
الزمان . وامتدت رقعة هذه الدولة
التي اتخذت من القاهرة عاصمة
لها فشملت مصر وسوريا والجزيرة
العربية . وجابه المماليك في هذه
المعركة أكبر خطر واجهوه في
حياتهم فعصف هذا الخطر الماحق
بهم وسرعان ما قوض ملكهم في بلاد
الشام مؤذنا بعصر جديد لن تلبث
الأبصار أن تشرئب فيه إلى
اسطنبول التي ستكون عما قريب
حاضرة الدنيا والكابوس الذي يقض
مضجع الغرب لقرون . التحدي
العربي لحكم العثمانيين يعتمد
المؤلف في الفصل الثاني من
الكتاب على مدونات حلاق دمشق
أحمد البديري، الذي أرّخ حوادث
دمشق اليومية، وهو المعروف باسم
أحمد البديري الحلاق، الذي يرى
روغان أنه كان حسن الاطلاع إلى
حد بعيد على مناحي السياسة
وطبائع المجتمع الدمشقي في ذلك
العهد في أواسط القرن الثامن
عشر، وتغطي مذكرات البديري
الرجل الذي يقر روغان بأن
التاريخ لم يتحفنا بشيء يستحق
الذكر عن حياته سوى أنه كان
حلاقاً في دمشق خلال الفترة من
سنة 1741 وحتى سنة 1762 . ويقتبس
روغان من “المؤرخ” الحلاق أحمد
البديري فقرات تنم عن القلق على
مصير “الدولة العليا العثمانية”
. ويعرب المؤلف عن رأيه بأن
الدولة العثمانية كانت،
واستناداً إلى مذكرات البديري،
تعاني خللاً وأسقاماً بدأت تفتك
في جسد الامبراطورية وتوهن
قواها مؤذنة بتسارع تدهور
أحوالها نحو شفير الاندثار .
فالمفهوم العام في ذلك الزمان
عن الدولة القوية أنه كان ينبغي
أن يكون لها جيش قوي كبير ومقتدر
لفرض سلطتها وبسط هيمنتها
وهيبتها . ولابد لمثل هذه
المملكة من ثراء فاحش يتيح لها
إمكانية إنشاء جيش ضخم شديد
البأس . وكانت الضرائب في تلك
الأزمنة هي الوسيلة التي تكاد
تكون وحيدة للحصول على أموال
طائلة لحشد جيش عرمرم قوي . ولجباية
الضرائب كان لابد للدولة من
تحقيق الازدهار الاقتصادي في
مملكتها . ولكي تزدهر أحوال
الناس ليدفعوا الضرائب كان يجب
على الدولة أن تطبق قوانين
عادلة تحول دون ظلم الناس، ومن
هنا ينطلق روغان ليغرف من
يوميات أحمد البديري الحلاق
الذي يعطي لمحة عن أحوال البلاد
والعباد في تلك الحقبة . ولعل
تلك الفترة التي يتحدث عنها
الحلاق البديري في مذكراته كانت
من أسوأ مراحل تاريخ دمشق
المتأخر، فقد تفشى في تلك
الأيام ظلم ما بعده ظلم وعاش
معظم الناس في فقر مدقع وضنك،
وكان من الأسباب الرئيسية لهذا،
حسب ما يوحي به كلام البديري
الذي يقتبس روغان منه، جور
الحكام وعسف التجار ومن يستغل
تلك الأوضاع من أراذل المجتمع
وسفلته . ويتمخض عن هذا البؤس
والبغي تخلف تفرخ في مستنقعه
الأمراض والأوبئة الفتاكة التي
تحصد الناس حصداً مثل الطاعون
وغيره، هذا إضافة إلى الجوائح
والنوائب الطبيعية كغارات
أسراب الجراد والرياح العاتية
والزلازل والسيول والأمطار
والفيضانات التي تجرف الشجر
والبيوت والحيوانات والبشر . ويؤسس
روغان في الفصل الأول من تاريخه
عن العرب لتصورات محورية رأى
أنه لابد منها لفهم ما أعقب تلك
الحقبة من أحداث وما استجد من
أوضاع ونظم قامت في عهود
العثمانيين لاسيما الفترات
المتأخرة منها . جبل
لبنان ويسلط
الكتاب الضوء في فصله الأول على
جبل لبنان والسياسة التي
انتهجها العثمانيون بشأنه بعد
هيمنتهم على المنطقة واستتباب
الأمر لهم في كافة أرجاء بلاد
الشام . غير أن العجيب أن روغان
يجزم ببعض المعلومات التي هي في
أحسن أحوالها خلافية بامتياز . ففي
حديثه عن جبل لبنان ركز المؤلف
على أنه نشأ في هذه البقعة من
العالم نوع من الحكم الذاتي في
منطقة شرقي المتوسط . وفي هذا
اعتساف للأمور وتحميلها ما لا
تحتمل، فهذه القضية مثار جدل
عريض ولم يستطع أحد من المؤرخين
أن يثبت استقلالية جبل لبنان في
تلك العصور بحال من الأحوال . وحين
يعرض للموارنة الذين فروا من
اضطهاد الملل النصرانية الأخرى
التي كانت تخالفهم في المعتقد
لهم وسكنوا جبل لبنان في عصر
بيزنطة يشير روغان إلى أنهم
دعموا الصليبيين وآزروهم في
العصور الوسطى وتوطدت لذلك
علاقاتهم بالفاتيكان من بعدها،
وافتتحت في روما سنة 1584 كلية
مارونية لتعليم اللاهوت
الماروني للموهوبين من
الموارنة الشبان، ولتمتين
أواصر الأخوة بين الموارنة
والكنيسة الكاثوليكية
الرومانية . دروز
الجبل وأما
الدروز، فالقاسم المشترك
الأعظم بينهم وبين الموارنة هو
أنهم فروا كذلك من بطش إخوانهم
الشيعة الاسماعيلية الذين
حكموا مصر في عهد العبيديين بعد
أن انشقوا عن شيعتهم في القرن
الحادي عشر وهربوا من القاهرة
ويمم شطر جبال لبنان الجنوبية
زعيمان هما نشتكين الدرزي وحمزة
بن علي بن محمد الزوزني الذي كان
أعلن ألوهية الحاكم “أبو علي
المنصور بن العزيز بالله بن
المعز لدين الله الفاطمي” بأمر
الله سنة 408 للهجرة . وفي تلك
المرتفعات في جنوب لبنان كانت
نواة الوجود الدرزي . فخر
الدين المعني الثاني ويرى
روغان أن فخر الدين المعني
الثاني “1572 - 1635” أمير جبل
لبنان كان أشبه بشخصية انتزعت
من صفحات مكيافيلي فقد انتهج
سياسة خبيثة “برأي المؤلف”
امتزج فيها العنف بالمكر
والدهاء لتوسيع نطاق ما تحت يده
من أراض ولترسيخ أقدامه وتوطيد
سلطانه . وقفز فخرالدين إلى سدة
السلطة سنة 1591 في أعقاب اغتيال
والده فخر الدين الأول الذي آلت
إليه زعامة آل معن وكان اسمه
قرقماز، وسبب قتله، حسب المصادر
التاريخية إنما كان اتهام أمير
طرابلس وعكار يوسف سيفا وأمير
البقاع ابن فريخ له بحادثة سرقة
قافلة تحمل خراج مصر وفلسطين
إلى اسطنبول بالقرب من جون
عكار، حيث لاقت هذه التهمة
قبولاً لدى الباب العالي على
الرغم من عدم صحتها . ويقول
المؤلف إن فخر الدين المعني
الثاني حافظ على علاقة طيبة
بالعثمانيين في العهد الأول من
حياته ووطد أركان الإمارة
المعنية، إلا أن تحالفه مع
توسكانا وأوروبا بشكل عام أثار
ريبة العثمانيين وأحسوا
بنواياه التوسعية الانفصالية
بعد أن امتد سلطانه إلى خارج جبل
لبنان حتى منطقة السواحل
وفلسطين وأجزاء من سوريا وأصبح
حاكما على تلك المناطق كلها سنة
999 ه في عهد السلطان العثماني
أحمد الأول . نزعات
التمرد ودور الغرب ويرى
روغان أن السبب الأساسي في خلاف
فخر الدين المعني الثاني مع
العثمانيين وانقلابهم ضده هو
أنه لما شعر فخر الدين بالقوة
والتمكن شرع بتنفيذ مخططه، الذي
أحس العثمانيون بأنه يرمي لهدم
الخلافة العثمانية بالتعاون مع
أوروبا وبخاصة إيطاليا التي
راسلها وطلب منها العون فبعثوا
له بالأموال فشكل جيشاً كبيراً
زاد عدده على أربعين ألفاً
وأعلن فخرالدين المعني العصيان
في بلاد الشام وأرسلت له
فلورنسا ورهبنة جزيرة مالطا
والفاتيكان وفرسان المعبد
بصقلية الإمدادات . إلا أن
السلطان أحمد الأول لما أدرك
خطورة الموقف أرسل جيشاً بقيادة
الصدر الأعظم مراد باشا الذي
استطاع أن يهزم فخر الدين الذي
هرب إلى إيطاليا التي مكث فيها
حتى مات السلطان أحمد وتولى
بعده مصطفى الأول الذي لم يمكث
في الحكم سوى ثلاثة أشهر ثم تولى
بعده السلطان عثمان الثاني فبعث
له فخرالدين برسائل كثيرة
يستعطفه فيها ويظهر ندمه وتوبته
وتعهد فخر الدين هو وشيوخ الجبل
بحسن السيرة حتى عفا عنه
السلطان عثمان الثاني وسمح له
بالعودة إلى لبنان سنة 1027ه . أفول
شمس الطموح غير أن
فخر الدين مالبث أن قام بالثورة
مرة أخرى مستغلاً انتقال السلطة
من عثمان إلى ابن أخيه مراد
الرابع ووقوع عدة اضطرابات بسبب
الانكشارية، وقام بمكاتبة
الطليان مرة أخرى فلم يخذلوه بل
أمدوه بالأموال والرجال . بيد أن
فخر الدين تعرض لهزيمة نكراء
على أيدي العثمانيين لأن نفوذه
هذه المرة كان أقل من السابق
فانتصر والي دمشق عليه وأخذه
أسيراً هو وولديه وأرسلهم إلى
اسطنبول، إلا أن السلطان مع ذلك
لأن في معاملته بل وأكرم وفادته
لكنه استبقاه وولديه ليأمن شره .
وأما فخر الدين فأحس بحقد شديد
وأضمر الانتقام وقام بمراسلة
حفيده قرقماز من محبسه عند
الخليفة العثماني يطلب منه
الثورة ويحرضه على الخروج على
السلطان في لبنان ومقاتلته
ليضغط على الخلفية ليفرج عنه،
وبالفعل ثار حفيده وعلم الخليفة
مراد الرابع بما جرى فأمر على
الفور بإعدام فخر الدين المعني
الثاني وولديه وأرسل جيشاً إلى
قرقماز ليقمعه وانتهت بذلك ثورة
فخر الدين المعني الثاني، وكان
إعدام فخر الدين المعني الثاني
في اسطنبول سنة 1635م . أمبراطورية
محمد علي المصرية يستوقفنا
المؤرخ روغان في الفصل الثالث
من كتابه عند عتبات القرن
التاسع عشر، فيسرد علينا واقعة،
وإن بدت غريبة، فإنها تشي
بالكثير عن أحوال بلدان الشرق
الأوسط العربية، ولاسيما
المحروسة مصر في ذلك العصر . ففي
يونيو/ حزيران سنة 1798 ظهرت قبالة
الساحل المصري سفن بريطانية دون
سابق إنذار، وما لبثت أن ألقت
مراسيها ومدت جسور النزول من
على متن تلك السفن وهبطت القوة
التي كانت على ظهرها على الشاطئ
فخف لاستقبالها المحافظ الحاكم
في تلك البقعة، أي في البلدة
المتواضعة آنذاك، البلدة
الميناء، ميناء الاسكندرية
وسرعان ما أفصح البريطانيون عن
الرسالة التي أتوا لتبليغها،
فثمة غزو فرنسي وشيك يروم
مهاجمة مصر . هكذا قال الانجليز
يومها وحذروا الحاكم من هذه
الغارة الفرنسية البحرية
وعرضوا مساعداتهم لصد هذه
الحملة . غير أن الحاكم آمر
القوة في الميناء استشاط غضباً
وأحس بأن كرامته مرغت بالوحل
وبأن عزة الامبراطورية
العثمانية العظمى التي يمثل قد
استفزت، فهذه أرض السلطان وبلده
ولا يمكن لا للفرنسيين، ولا لأي
كان أن يصل إليها ويمد يده
بالسوء لينال منها . لذا
كان الحاكم حاسماً في رده:
ارحلوا عنا ودعونا لشأننا فلسنا
نبتغي عونكم . فمجرد تخيل فكرة
أن بلداً لا وزن له ولا شأن، مثل
فرنسا يشكل تهديداً لأملاك
السلطان العثماني أو لرعاياه
فيلجئهم إلى التماس العون من
بلد آخر حقير الشأن مثل
بريطانيا كان شيئاً لا يعقل،
ولا يمكن تصوره أو تحمله . وهكذا
أخذ أعيان الاسكندرية العزة
فكان جوابهم للبريطانيين
صارماً بالغ الحدة، فمضى
الانجليز في طريقهم ورحلوا لا
يلوون على شيء بعدما سمعوا ما
ساءهم . ولم يعر أحد تلك الحادثة
آنذاك أي اهتمام، وكاد الناس
بعد أقل من شهر أن ينسوا تلك
الواقعة لتستمر الحياة كسابق
عهدها، ولكن إلى حين . أي
غفلة تلك إلا أن
أهل الاسكندرية، كما يروي،
روغان استيقظوا صبيحة الفاتح من
يوليو/تموز ليكتشفوا أن مرفأهم
يغص بالسفن الحربية وأن أسطولاً
عسكرياً قد غزا شواطئهم واحتلها
. ها قد جاء نابليون بونابرت على
رأس جيش عرمرم، قوة غازية هائلة
باغتت البلاد فكانت أول جيش
أوروبي تطأ أقدامه ثرى الشرق
الأوسط منذ الحروب الصليبية . كان
الفرنسيون قوة جبارة قياساً
بالحامية العثمانية، وكانوا
أكثر عدداً وأوفر عدداً وأحسن
تدريباً فلم يستغرقهم الأمر سوى
ساعات للاستيلاء على
الاسكندرية التي عززوا مواقعهم
فيها ليجعلوها رأس حربة يزحفون
منها إلى القاهرة . سيف
لمدفع وعند
تخوم القاهرة خرج المماليك
بالسيوف والحراب لملاقاة الجيش
الفرنسي المدجج بالأسلحة
النارية من بنادق ومدافع . وأحكم
الفرنسيون خطتهم فأحاطوا بقوة
الفرسان المملوكية وأصلوها
وابلاً من نيران أسلحتهم
فأبادوا الشطر الأعظم منها في
غضون ثلاثة أرباع الساعة، حسب
زعم روغان الذي اعتمد في سرده
أسلوب الإبهار ليمهد السبيل
أمام احدى أهم طروحاته وهي أن
الصدمة التي أصابت أهل مصر بعد
احتلال الاسكندرية والقاهرة
بهذه السهولة والسرعة فتحت أعين
أهل المنطقة على الهوة الشاسعة
بين أوضاع الانحطاط والتخلف من
النواحي العسكرية والتنظيمية
والاستراتيجية في المنطقة
العربية الاسلامية الشرق
أوسطية وبين التقدم المحسوس
الذي كان الاوروبيون قد أحرزوه
والعرب في غفلة غارقون في
مستنقع تخلفهم بعد تردي أوضاع
الدولة العثمانية التي كانت
تشكل رغم انحطاطها في العصور
المتأخرة الدرع الواقي أمام
تغول الغرب الذي عششت في عقله
الجمعي الرؤى الصليبية الجامحة
العتيقة التي أفصح عنها في
الربع الأول من القرن العشرين
الجنرال غورو الفرنسي بعد
احتلاله لدمشق حين سارع إلى
ضريح صلاح الدين الأيوبي وقال
كلمته الشهيرة “ها قد عدنا يا
صلاح الدين” . ومن قبله الجنرال
البريطاني اللنبي بعد معركة
القدس واحتلال فلسطين حين قال:
“الآن انتهت الحروب الصليبية”
. جيش
عسكري وآخر ثقافي للتغيير وعلى
مدى السنوات الثلاث التي تلت
سقوط القاهرة بيد الفرنسيين
واستباب الأمر لهم وترسيخ
أقدامهم في مصر صار أهل مصر
وجهاً لوجه أمام عادات
الفرنسيين وتقاليدهم وأساليبهم
في الحياة وتعرفوا عن كثب على
أفكار “التنوير”، كما يقول
روغان، وعلى تقنيات الثورة
الصناعية . وكان نابليون، كما
يرى مؤلف الكتاب يعتزم التأسيس
لحضور فرنسي دائم في مصر بكل ما
في الكلمة من معنى، ولاسيما أنه
كان متشبعاً بفكرة التغيير
الحضاري والثقافي في المنطقة،
الأمر الذي كان يستدعي بالضرورة
إبهار المصريين بأسلوب الحكم
الفرنسي وكسب قلوب أهل البلد
بإظهار الاحترام لقيمهم ومثلهم
من جهة، مع الحرص على تسليط
الضوء على الفجوة التقنية بين
الفرنسيين الذين أتوا إلى مصر
بجيشين، جيش عسكري مدجج بأحدث
الأسلحة وقتها وجيش التغيير
الثقافي المؤلف من سبع وستين
عالماً وخبيراً جلبهم بونابرت
لينهضوا بمهمة مزدوجة:
الاستفاضة في دراسة مصر والتعرف
على أحوالها وسبر أغوار الشعب
المصري والإطلاع على طبائعه من
جهة وإبهار المصريين إلى الحد
الأقصى بغرض التأثير فيهم
ومحاولة تغيير ثقافتهم بعد أن
تكتسحهم دهشة الإعجاب المأخوذ
بكليته بتفوق الحضارة الفرنسية
. وبهذا النشر الليبرالي لأفكار
الثورة الفرنسية كان إحتلال مصر
هو “مهمة التمدين والتأهيل
الحضاري” الفرنسية الأصلية،
كما يرى روغان . ويتطرق المؤلف
في هذا الفصل إلى ذكر المؤرخ عبد
الرحمن الجبرتي “1754
1824” افقيه والمفكر الذي كان
على صلة بعلية القوم، سواء في
المجتمع المصري أو الفرنسي،
والذي كان شاهد عيان على تلك
الحقبة وكتب بإسهاب عن الاحتلال
الفرنسي لمصر وأتى بالتفصيل على
وقائع الاحتكاك الحضاري بين
المصريين والفرنسيين الذين
حرصوا على نشر أفكار الثورة
الفرنسية وإثارة إعجاب
المصريين بتقنيات الامبراطورية
الفرنسية في فنون الصناعة . هوّة
هائلة ويشير
المؤلف إلى الهوة الشاسعة التي
اكتشف المصريون المسلمون الذين
كانوا حتى ذلك الحين يعتبرون
أنفسهم رعايا عثمانيين، أنها
تفصلهم عن فكر الثورة الفرنسية
بعمومياته الغامضة التي رأوا
أنها تتناقض مع جوهر الدين
الاسلامي ومع العادات والقيم
العثمانية . وفي
هذا الفصل، كما في غيره يدس
روغان بخبث شديد سمومه وحقده
المبطن على الإسلام فيقول إن
المصريين كانوا يتنكرون
للفلسفات القائمة على العقل
وأحكامه ويتوجسون من قيم “التنوير”
الغربي التي كان الفرنسيون
يعتبرونها عالمية . وفي هذا
المقاة يتجنى المؤلف على
المصريين فيزعم أنهم لم يتقبلوا
فكرة المساواة بين البشر وأنهم
سواسية أمام الله الخالق . ================= العرب
.. إطلالة تاريخية (3
- 3) 05/12/2009
تأليف:
يوجين روغان ترجمة
وعرض: كمال حسين البيطار ومحمد
فقيري المؤرخ
والكاتب البريطاني يوجين روغان
يروي في هذا الكتاب “العرب
اطلالة تاريخية” حالة
العرب في العصر الحديث بدءاً من
الدولة العثمانية، ثم في عهود
الاستعمار وصولاً الى الحرب
الباردة وحتى الوقت الراهن حيث
تسعى الولايات المتحدة لإقامة
نظام دولي احادي. ويتناول
روجان وهو أستاذ لتاريخ الشرق
الأوسط في جامعة اوكسفورد وواضع
كتاب “حدود الامبراطورية
العثمانية” وضع العرب من اقصى
المغرب حتى الجزيرة العربية،
محاولاً تعريف الهوية العربية،
إضافة الى الصراع العربي - “الإسرائيلي”
وعملية السلام، وجمال
عبدالناصر وصعود القومية
العربية، وقوة النفط
الاقتصادية والسياسية، والصراع
بين الإسلاميين والعلمانيين. لكن
هناك سؤالاً حائراً يعتمل في
النفس ينبغي طرحه وهو: لماذا
يهتم روغان وأمثاله من المؤرخين
أو المستشرقين الغربيين بالعرب
كل هذا الاهتمام، فيجندوا
أنفسهم لكتابة تاريخ العرب. لا شك
أن هناك رسائل بالغة الأهمية
مبثوثة بين السطور، ممزوجة ببعض
الخبث والسم. الكتاب
يقع في 550 صفحة، وصدر مؤخراً عن
دار “بنغوين” للنشر. الدول
الغربية تآمرت على العرب منذ
مطلع القرن الماضي في
الفصل السادس من تاريخه يذكرنا
روغان بأنّ رياح الفكر القومي
هبّت على المناطق العربية من
الامبراطورية العثمانية مع
مستهل القرن العشرين، ويقول
إنّه كان من الصعب جداً على
الشعب العربي في تلك الأصقاع من
الامبراطورية أن يتصوّر مجرّد
تصوّر قيام دولة تقوم على أساس
قومي عربي وتستقل وتنسلخ عن
العثمانيين بعد أن ظلت تحت حكم
امبراطوريتهم قرابة أربعة قرون.
نعم لقد تصوّر البعض بإمكانية
قيام مملكة تتمركز في جزيرة
العرب، في حين حلم آخرون بقيام
دولة في مناطق عربية أخرى مثل
سوريا الكبرى أو العراق. ونظراً
لأنّ هذا الصنف من العرب كانوا
قلة قليلة وقد جاءت أفكارهم
سابقة لعصرها جرى تهميشهم ولم
يحالفهم الحظ في نشر رؤيتهم
وفلسفتهم، خاصة وأنّ هذه الفئات
كانت، حسب المؤلف، تتعرض للقمع
والملاحقة. وأمّا أولئك الذين
فكروا بانتهاج تلك الأساليب
للتطوير على النمط الغربي
واعتزموا متابعة بلورة أحلامهم
السياسية تلك فقد اضطروا أن
يكابدوا محنة النفي بعيداً عن
أوطانهم. ويطنب
روغان ويسهب في الحديث عن
معاناة العرب تحت حكم
العثمانيين ويصور المسألة
وكأنّ الناس في بلاد العرب كانت
تكتوي بنار جحيم حقيقي وأنّها
كانت تحلم بالفردوس المتمثل في
“التنوير” و”التحرير” الغربي
الآتي من أوروبا. ويقول
المؤلف إن الاستياء العربي من
الحكم العثماني تنامى حتى بلغ
أوج السخط بعد ثورة تركيا
الفتاة سنة 1908 وانتشر الشعور
بالغضب انتشاراً واسعاً في تلك
الفترة بعد أن رأى العرب أن
التغييرات التي جاء بها
الإنقلابيون كانت مجرّد
إجراءات قمعية تؤدي إلى مزيد من
القهر للعرب وسلبهم لهويتهم
العربية. ودخلت
الدولة العثمانية الحرب
العالمية الأولى متحالفة مع
ألمانيا في نوفمبر/ تشرين
الثاني سنة ،1914 وكانت حرباً
تمنى الأتراك، حسب روغان، أن لو
كانوا تجنبوها ولم يتورطوا فيها. تقرير
بانرمان وما أن
دخل العثمانيون الحرب الأولى
حتى انصرفت دول الحلفاء “بريطانيا
وفرنسا والامبراطورية الروسية”
إلى تنفيذ مخططها المبيت الرامي
إلى تفكيك الامبراطورية
العثمانية واقتسام تركة “الرجل
المريض”، كما كانوا يطلقون
عليها في عصورها المتأخرة. وفي
هذا الفصل يتوسع روغان في
الكلام على الوعد الذي يعرفه
القاصي والداني ويكاد لا يجهله
أحد، ألا وهو وعد بلفور الذي
قطعته بريطانيا على نفسها
بإقامة وطن قومي لليهود على أرض
فلسطين. وبالطبع
يتغافل المؤلف عن الحدث الأهم
الذي ظلّ طيّ الكتمان لأنّه
يفضح الدور الاستعماري
الأوروبي برمته في إنشاء “إسرائيل”. سبق
الحرب العالمية الأولى انعقاد
مؤتمر خطير كان بمثابة المقدّمة
لهذه الحرب، إذ اتخذت فيه
قرارات على أقصى درجة من
الخطورة وكانت في الحقبة التي
تلت نتائج الحرب العالمية
الأولى. وهذا المؤتمر دعا إليه
حينها رئيس وزراء بريطانيا سنة
1907 هنري كامبل بانرمان، وكان
هذا المؤتمر في الحقيقة إعلان
حرب صليبية على المسلمين، لذا
احيطت وثائقه وأخباره بالسرية
المطلقة، فلا يتطرق إليه
الباحثون اليوم إلا فيما ندر.
وكان هنري كامبل بانرمان قد
شكّل لجنة موسعة شاملة من كبار
العلماء والخبراء وأساتذة
الجامعات المتخصصين في كافة
المجالات، مثل السياسة
والاقتصاد والبترول والزراعة
والصناعة والتاريخ والاجتماع
وعلماء طبائع الشعوب والخبراء
في شؤون الاستعمار، كما ضمت هذه
اللجنة أعلام السياسة في فرنسا
وبلجيكا وهولندا والبرتغال
وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا،
وكان هناك بند يتيم على جدول
أعمال هذه اللجنة التي انبثقت
عن المؤتمر وجرت صياغته على شكل
سؤال: ما هو
الخطر الحقيقي الذي يهدد
الحضارة الأوروبية؟ فكان
الجواب هو: تلك المنطقة الممتدة
من طنجة في المغرب إلى جاكرتا في
اندونيسيا، ولا سيما الدول
المحورية وسط هذه المنطقة. كانت
النتيجة التي خلصت إليها اللجنة
وباختصار هي أنّ أكبر خطر يهدد
الحضارة الأوروبية إنّما هو
الحضارة الإسلامية التي تشكّل
وحدة واحدة عقائدياً وفكرياً
وثقافياً وتاريخياً وبشرياً
وجغرافياً. واستمرت لجان البحث
في هذا المؤتمر تعمل على قدم
وساق طيلة 40 يوماً لتضع خطتها
الاستراتيجية للقضاء على هذا
الخطر في مهده. وكانت
الخطوط العريضة لتوصيات اللجنة
تدعو إلى العمل على تفتيت
الامبراطورية العثمانية
وتدميرها والعمل على تجزئة
أقاليمها والحيلولة بكل السبل
دون وحدتها، وتخريبها فكرياً
وثقافياً واجتماعياً. والأهم من
هذا كلّه: زرع جسم “شعب” غريب
عن المنطقة شرقي قناة السويس
لفصل المشرق الإسلامي عن المغرب
الإسلامي وشماله عن جنوبه.
وحددت اللجنة فلسطين لإحلال هذا
الجسم الغريب لسلخ الشرق المسلم
عن الغرب الإسلامي. التخوّف
من الإسلام لقد
كان هذا التقرير المتسربل
بالسرّية والذي عرف باسم تقرير
بانرمان هو العمدة وحجر الأساس
في استراتيجية أوروبا، ومن ثمّ
استراتيجية الغرب عموماً على
ضفتي الأطلسي وملحقات هذا الحلف
في كافة أرجاء العالم. لقد حدد
الغرب عدوه وشخص ما تخيله من خطر. تبلورت
استراتيجية الغرب تجاه العرب
على وجه الخصوص في مستهل القرن
العشرين وقبل أن ينصرم عقده
الأول. إلاّ
أن الغرب أفلح في اخفاء هذه
الاستراتيجية العدوانية وظل
يظهر تحركاته على أنّها مجرّد
ردود أفعال على ما يقوم به العرب
وما ينتهجونه من سياسات إلى أن
نضجت الظروف إلى حدّ ما فشن حربه
على الإسلام تحت ستار “الحرب
على الإرهاب”. نكبة
فلسطين وعواقبها من لم
يطّلع على تقرير بانرمان الصادر
سنة ،1907 والذي أوصى الدول
الاستعمارية الأوروبية الكبرى،
وعلى رأسها بريطانيا، بإقامة
دولة غريبة في فلسطين تكون في
تناقض صارخ مع محيطها في خواصها
كلها بدءاً بالديانة واللغة
وانتهاءً بالسمات الحضارية
والقيم لفصل المشرق العربي عن
مغربه، من لم يطلع على هذا
التقرير يذهب إلى توهم أنّ مجيء
المستعمر الفرنسي إلى بلاد
الشام واحتلال بريطانيا
لفلسطين والعراق في الربع الأول
من القرن العشرين كان بغرض
ترسيخ أقدام احتلال دائم. إلا أن
كل القرائن تشير إلى حقيقة أنّ
هذا الاحتلال كان يرمي إلى
تهيئة كل الظروف وتمهيد كل
السبل لإقامة مثل هذا الكيان
الذي أجمع الغرب على ضرورة
قيامه لدرء ما شخصوه من خطر
الإسلام الذي أوهمهم خبراؤهم
بأنّه أكبر الأخطار التي تهدد
حضارتهم. وروغان
في كتابه حين يتحدث عن نكبة
فلسطين لا يحاول الربط بين
تجزئة الوطن العربي وتقاسم
الدول الأوروبية لبلدانه بعد
انهيار الدولة العثمانية وبين
الدور الذي لعبته الدول
الاستعمارية الكبرى في تنفيذ
توصيات تقرير رئيس وزراء
بريطانيا هنري كامبل بانرمان. قضية
فلسطين يبدأ
روغان حديثه عن قضية فلسطين من
تاريخ يناير/ كانون الثاني من
عام 1944 عندما أعلن، حسب تعبير
المؤلف، متطرفون يهود الحرب على
بريطانيا. ويحاول الكاتب أن
يوهم بأنّ صراعاً حقيقياً تفجّر
بالفعل بين اليهود في فلسطين
والاحتلال البريطاني متعامياً
عن حقيقة أنّ المهمّة الخفية
للانتداب البريطاني على فلسطين
إنّما كانت في الحقيقة إعداد
المسرح لتنفيذ وعد بلفور الذي
فضحت الثورة البلشفية أمره بعد
قيامها في روسيا. ويرى
المؤلف أنّ نكبة فلسطين كانت
لها آثار مزلزلة على السياسات
العربية في المنطقة. فالدول
العربية الناشئة التي ظهرت بعد
سقوط الخلافة وهزيمة
العثمانيين وانحسارهم لتقع
المنطقة العربية التي أوغلت في
الحلم بقيام مملكة العرب التي
يحكم فيها العرب أنفسهم بأنفسهم
سرعان ما خاب فألها وتبددت
آمالها بعد أن صدمها احتلال
بريطانيا لفلسطين واحتلال
فرنسا للبنان وسوريا. ويتطرّق
روغان إلى مسلسل الإنقلابات في
سوريا ويقول إنّ نكبة فلسطين
أذنت بنهاية النفوذ الأوروبي في
العالم العربي، فالمشكلة
الفلسطينية إنّما صنعت في
أوروبا. صعود
القومية العربية يقول
روغان في كتابه إنّ العالم
العربي دخل حقبة الحرب الباردة
وقد استولت عليه الحمىّ الثورية.
فثمّة سخط تأجج في نفوس العرب
بعدما رأوا من تواطؤ الغرب،
بزعامة أوروبا يومها، ضد
قضاياهم المصيرية وعلى رأسها
قضية فلسطين. ومن هنا نشأت نزعة
مناهضة الامبريالية واستردت
حيويتها منذ بداية حقبة ما بعد
الحرب العالمية الثانية. ويذكر
المؤلف أن الأعمال العدائية ضد
بريطانيا وفرنسا بدأت تظهر في
مصر والأردن والعراق. إلاّ
أن الساسة القوميين الأوائل
سرعان ما انفض الناس عنهم، حسب
المؤلف، بعد أن استاءت الأوساط
الشعبية منهم واعتبرتهم موالين
بشكل أو بآخر للحكم الاستعماري
البريطاني. ولم يكن جيل الضباط
الشبان في الجيوش العربية
الناشئة بمنأى عن هذه التيارات
وعن هذا الحراك في عصر عصفت فيه
حمىّ السياسة وصار يجنح نحو
الثورة وإحداث التغيير ولو
بالقوة. وفي
ذلك العهد غلب على الشعوب شعور
غامر بالوحدة، فلسانهم واحد
وتاريخهم واحد وثقافتهم واحدة
وهي تستمد في معظمها من الماضي
الإسلامي، حسب روغان، وهي ثقافة
شارك المسلمون فيها من ليسوا
بمسلمين. واجتاحت الناس آنذاك
رغبة بإزالة الحدود، وهي حدود
لم تكن شعوب تلك المنطقة تعهدها
في عصر العثمانيين إذ هي حدود
مصطنعة رسمتها القوى
الاستعمارية لتجزئة العرب.
وهكذا نشأ وعي بضرورة تحقيق
الوحدة العربية وإقامة كومنولث
جديد يقوم على الروابط
التاريخية والثقافية المتينة
التي تربط بين العرب وتجعل منهم
أمّة واحدة. ومن
نواح كثيرة كانت مصر، كما يرى
المؤلف هي الجبهة الأمامية لهذه
التطورات. وهنا
في هذا الفصل يشيد روغان
بشخصيات علمانية مصرية يرى فيها
المؤلف رموزاً للنهضة في مصر
بوجه خاص ويسمّي منهم د. نوال
السعداوي التي كانت غريبة على
الفكر القومي في بداية حقبة
الخمسينات من القرن العشرين ثمّ
ما لبثت أن انخرطت فيه لفترة حيث
كان زخم الشعور الشعبي العام
يتوق إلى التغيير. كان
الرئيس جمال عبدالناصر من أبرز
الشخصيات التي نفخت روح القومية
العربية. وفي حقبة الخمسينات
صعد تيار الناصرية المشبع
بالفكر القومي وانتشر انتشار
النار في الهشيم، لا سيّما وقد
ارتبطت هذه النزعة بشخصية مفعمة
بالسحر الذي يشدّ الجماهير، ألا
وهي شخصية عبدالناصر الذي ملأ
دنيا العرب في تلك الحقبة وشغل
الناس. وفي
حقبة الستينات انقسمت البلدان
العربية إلى دول تدور في فلك
الغرب وأخرى تدور في فلك
الاتحاد السوفييتي. وفي
عام 1958 قامت وحدة بين مصر وسوريا
وهلل العرب لقيامها إذ رأوا
فيها تجسيداً لأحلامهم في تلك
المرحلة ونواة لبدء رحلة تحرير
فلسطين. إلاّ
أنّ الأمل سرعان ما تبدد بقيام
الانقلاب في سوريا بفصم عرى
الوحدة وحدث الانفصال سنة 1961. وتوالت
من بعدها خيبات الأمل التي توجت
بهزيمة حزيران/ يونيو 1967. وبلغ
المدّ القومي أوجه سنة 1970 التي
شهدت اندلاع حرب بين النظام
الأردني والفدائيين
الفلسطينيين تمخضت عنه آثار
كارثية بالنسبة للشعب
الفلسطيني عموماً ولجأت بعدها
معظم المنظمات الفلسطينية إلى
لبنان لتبدأ حقبة جديدة تتهاوى
على مدى سنواتها تيارات كانت قد
جعلت القومية العربية مرتكزاً
لها في تصوراتها
واستراتيجياتها. وفي
مرحلة من المراحل جرى تزاوج
مؤقت بين التيارات القومية
والاشتراكية، إلا أنّ
الاشتراكية العربية كان لها
تأثير أكبر ونفوذ أعظم في مصر
وساهمت في انقسام العالم العربي. وشهدت
بداية حقبة الستينات استقلال
الجزائر وهو حدث أنعش النزعة
القومية في العالم العربي، إلا
أن التيار القومي أخذ يتقهقر
رويداً رويدا لا سيّما بعد وفاة
جمال عبدالناصر سنة 1970. قوة
الإسلام يستهل
روغان الفصل الأخير من كتابه
الذي عنون له ب”قوة الإسلام”
بإيراد حادث المنصة ويتحدّث عن
مقتل السادات والظروف التي
أحاطت باغتياله، ويشير إلى
الدلالة في توقيت قتله وهو الذي
أطلقوا عليه في يوم من الأيام
لقب “بطل العبور”. ويروي
المؤلف حكاية الاغتيال بشيء من
التفصيل ويتوقف عند الصرخة التي
أطلقها خالد الإسلامبولي وهو
يوجّه طلقاته القاتلة إلى
السادات ويقول: “لقد قتلت
الفرعون”. كما
يركّز روغان على مقولة الصحافي
المصري الشهير محمد حسنين هيكل
وهو يتحدّث عن جنازة السادات
فيقول: “هذا الرجل الذي تفجّع
الغرب على موته ورثاه وأبّنه
وأسبغ عليه ألقاب البطولة ووصفه
بالحكمة وبُعد النظر، هذا الرجل
لم يجد بين بني وطنه وبني جلدته
هذا القدر من الحداد المفعم
بالحزن”. ويمضي
المؤلف في محطاته في هذا الكتاب
ليوحي لنا بأنّ القوة الثورية
الكامنة في الإسلام بقدر ما
تبدو قوة تحريرية مقاومة لأشكال
الظلم بقدر ما هي قوة تخريبية
تزعزع استقرار البلاد وينمو في
تربتها “الإرهاب”. وفي
هذا الفصل أيضاً يتحدث عن
الجهاد الأفغاني في حقبة
الثمانينات وما تمخض عن هذه
الظاهرة التي كانت تحظى بدعم من
الأنظمة العربية المحافظة من
آثار وما ترتب على هذا من نتائج. وتتسارع
وتيرة عرض الأحداث في الفصل
الرابع عشر من الكتاب ليفضي بنا
روغان إلى مسألة ولادة المقاومة
الإسلامية في جنوب لبنان وظهور
حزب الله. وهنا
عند هذه النقطة يكتشف القارئ
الممحص المتدبّر للكلام مرّة
أخرى مدى ما يتمتع به المؤلف من
خبث وخطورة في تناول القضايا.
يقول روغان: “لم يكن الصراع ضد
“إسرائيل” والولايات المتحدة
بالنسبة للشيعة في لبنان سوى
وسيلة لغاية. فالهدف النهائي
الذي كان حزب الله يضمره، وأفصح
عنه في مناسبات نادرة إنّما كان
إقامة دولة إسلامية في لبنان.
إلاّ أنّ الحزب كان يظهر دائماً
عدم رغبته بفرض مثل هذه الدولة
على لبنان بالقوة. ويقتبس
كلاماً لأحد قادة الحزب يقول
فيه أواسط الثمانينات: “لا نريد
للإسلام أن يحكم في لبنان
بالقوة، إذ إنّ المارونية
السياسية هي التي تحكم في
الآونة الراهنة”. إلاّ
أنّ المؤلف يمضي ليعد بعض
إنجازات المقاومة الإسلامية في
لبنان، والتي كانت باكورتها
اسقاط اتفاقية 17 أيار/ مايو،
وكانت هذه ضربة موجعة ل”إسرائيل”. ويقول
روغان إنّ الصراع في لبنان أثبت
أنّه كان هزيمة كبرى منيت بها
الولايات المتحدة في مناخات
الحرب الباردة وأجوائها حين
احتد التنافس بينها وبين
الاتحاد السوفييتي. غير
أنّه، حسب المؤلف، لم تتح
للسوفتيين فرصة الفرح بما
أحرزوه في لبنان والشرق الأوسط
من انتصارات على الصعيد السياسي
والدبلوماسي، إذ لم تأت سنة 1979
حتى كان السوفييت قد احتلوا
أفغانستان ليخوضوا هناك صراعاً
امتد لعقد من الزمان وأنهكهم
وجرّهم في نهاية المطاف إلى
هزيمة منكرة على أيدي المقاتلين
الأفغان الذين آزرهم المقاتلون
العرب، الذين تدفقوا على
أفغانستان وساهموا بشكل كبير في
دحر الاحتلال السوفييتي. ويتطرّق
روغان إلى ذكر د. عبدالله عزام
الذي كان أحد أبرز القادة العرب
في القتال الأفغاني ضد السوفييت
والذي أثّر إلى حد بعيد في الفكر
الجهادي عن طريق ما ألفه من كتب
وما كان يلقيه من محاضرات. الخاتمة أراد
مؤلف الكتاب يوجين روغان أن
يوحي في خاتمة تاريخه عن العرب
بأن تاريخ البشرية إنما بدأ
بهجمات الحادي عشر من سبتمبر/
أيلول من عام ،2001 وهي أحداث يقف
عندها الكتاب ملياً، كما صنع في
المقدمة حين ركز على اغتيال
رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري
ثم انثنى ليتخذ من اغتيال
الصحافي الكاتب والمؤرخ سمير
القصير منبراً تسلل إليه لتمرير
مقولاته، وفي هذا كله دلالته
بالطبع. يخرج
المؤلف ضربة 11 سبتمبر/ أيلول عن
سياقها التاريخي لوهلة
متناسياً سجل المظالم الحافل،
ومتجاهلاً عن عمد تاريخاً
زاخراً بجرائم الغرب عموماً
والولايات المتحدة على وجه
الخصوص بحق الوطن العربي الذي
يضن عليه حتى بهذا الاسم. وفي
الخاتمة أيضاً يتجلى بين السطور
أحد الهموم الكبار التي تسكن
وجدان المؤلف، ألا وهو صرف همّة
العرب عن سكة المقاومة بتزهيدهم
بثمار رفع السلاح في وجه العدو
الغاشم والتقليل من شأن
المقاومة التي جعلت جيش الحرب “الإسرائيلي”
ينسحب بليل من جنوب لبنان
تاركاً عملاءه فيما كان يسمى
جيش لبنان الجنوبي لمصيرهم. ويغمز
روغان من قناة المقاومة سواء في
فلسطين أو لبنان فيقول في خاتمة
كتابه: “بالنسبة للأحزاب
الإسلامية، درّت عليهم مقاومة
“اسرائيل” منافع سياسية. وفي
الحقيقة تيقنت حركة حماس في
فلسطين وحزب الله في لبنان
أنهما طالما واصلا بإصرار تسديد
ضربات للدولة اليهودية، فإنهم
سيضمنون بهذا النهج قطعاً فوزهم
بأوسع دعم سياسي شعبي، لذا
تراهم يتشبثون بهذا لأنهم لمسوا
ما تمخض عن هذه المقاومة من
فوائد ومكاسب. وهم مؤمنون أيضاً
بما يقومون به من عمل، وترسخت
لديهم القناعة بأن القتال ضد “إسرائيل”
لتحرير أرض الإسلام إنما هو
فريضة دينية. وفي صيف سنة 2006
صعدت حماس وصعّد حزب الله
الهجمات ضد “اسرائيل”، فماذا
كانت النتيجة؟ عواقب كارثية
موغلة في مأساويتها، سواء
بالنسبة لقطاع غزة، أو بالنسبة
للبنان. ومن ثم
انبرى روغان بصورة مبطنة للدفاع
عن “إسرائيل” حين أخذ يسرد
الأحداث التي قادت الى شن “إسرائيل”
الحرب، فوصف ما قام به حزب الله
بأنه توغل في الأراضي “الاسرائيلية”
وهجوم لم يسبقه اي استفزاز من
قبل “اسرائيل” واختراق للحدود
الدولية. ثم راح المؤلف يقارن
بين خسائر اليهود وخسائر حماس،
حيث تجاوز عدد شهداء غزة 1500 شهيد
من بينهم أكثر من 500 طفل، في حين
أعلن “الاسرائيليون” عن مقتل 11
“اسرائيلياً” فقط قبل وقف
اطلاق النار. وأما
النتائج بالنسبة للبنان فركز
روغان على حملة القصف الجوي “الاسرائيلي”
المتواصل التي استمرت 34 يوماً
ودمرت أو كادت كل البنى التحتية
في لبنان وسوّت بالأرض أحياء
كاملة وشردت قرابة مليون مدني
لبناني من قراهم ومنازلهم.
وتغافل روغان بالطبع عن القتال
الشرس الذي تميز به حزب الله في
الحرب البرية التي أعقبت
الغارات الجوية على لبنان. إلا أن
المؤلف أورد في المقابل طرفاً
من الانتهاكات “الاسرائيلية”
في الحرب على غزة والتعديات
الكبرى التي اتسمت بها الهجمة “الاسرائيلية”
على قطاع غزة واستهداف مقرات
ومواقع لوكالات الأمم المتحدة
والانتهاكات والفظائع التي
ارتكبت في تلك الحرب. ومن ثم
انتقل روغان بالمشهد في خاتمة
كتابه الى التطورات التي طرأت
على المسرح السياسي الأمريكي
ورحيل جورج بوش عن البيت الأبيض
ومجيء باراك أوباما. وفي
حديثه عن الرئيس أوباما حاول
المؤلف إشاعة شيء من الأمل
بوقوفه عند الخطاب المشحون
بإشارات إيجابية الذي ألقاه
أوباما في جامعة القاهرة في
يونيو/ حزيران سنة 2009 واقتبس منه
روغان قوله: “أتيت الى هنا
التمس بداية جديدة للعلاقات بين
الولايات المتحدة والمسلمين في
جميع أنحاء العالم، بداية
لعلاقة تقوم على المصالح
المشتركة والاحترام المتبادل”.
ومن ثم خاطب أوباما الجمهور
الذي كان ينصت إليه باهتمام
شديد فقال لهم: “ينبغي أن نبذل
جهداً متواصلاً ليستمع بعضنا
الى بعض، وليتعلم بعضنا من بعض
ويحترم بعضنا بعضاً ونسعى
للوصول إلى أرضية مشتركة. وفي
نهاية المطاف يسدي روغان
النصيحة للعرب فيقول: “إذا ما
أرادت الشعوب العربية أن تحظى
وتتمتع بحقوق الإنسان وأن تنشأ
عندها حكومات رشيدة تخضع لمبدأ
المساءلة وأن تنعم بالأمن
والنمو الاقتصادي الذي يوفر لها
الانتعاش والازدهار فينبغي
عليها الأخذ بزمام المبادرة
بأنفسها. لقد أثبت لنا التاريخ
حقيقة أن هناك حدوداً للإصلاح
الذي يأتي عن طريق التدخل
الأجنبي لقد
حدث هذا في العهود الاستعمارية
وفي حقبة ما بعد الحرب الباردة،
فالديمقراطية لا يمكن أن تفرض
قسراً من دون أن يقتل الرسول
الرسالة ------------------ هذا
الكتاب يعبر عن رأي كاتبه
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |