ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 09/09/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


المَسْـألة اليَهوديّة

تأليف : كارل ماركس

مقدمة سلامة كيلة

النسخة المعتمدة – هذه الترجمة هي طبعة « ألفريد كوست» باريس 1952.

«المال هو إله إسرائيل المطماع، ويعتقد اليهود أنه لا ينبغي معه لأي إله أن يعيش. إن المال يخفض جميع آله البشر ويجعلهم سلعاً. المتاجرة بالمال، هذا هو الإله الحقيقي لليهود.»

«لقد اتخذت السيادة اليهودية... تعبيراً منطقياً واضحاً وضوحاً مطلقاً في أميركة الشمالية.»

«إذن فنحن نتميز في اليهودية عنصراً مناهضاً للمجتمع... وهذا العنصر توصّل إلى نقطة الأوج في الزمن الحاضر، وهي نقطة لا يستطيع معها إلا الانحلال.»

«ما هو الأساس الدنيوي لليهودية؟ إنه الرغبة العملية، والمنفعة الشخصية. والحق أن العصر الحديث بتحرره من المتاجرة والمال، وبالتالي من اليهودية الواقعية والعملية، سوف يحرر نفسه بنفسه.»

كارل ماركس

----------------

مقدمة بقلم سلامة كيلة

حول أهمية ( المسألة اليهودية )

----------------

طُبع كتاب "حول المسألة اليهودية" لكارل ماركس طبعات عدَّة في الوطن العربي. وتُرجم كذلك ترجمات عديدة (خمسة ترجمات حسب ما أعتقد، صدرت في ستة طبعات)، بعضها سيء حيث أنه يشوّش الأفكار الأساسية في النص، وبالتالي لا يوصل الفكرة الأساسية التي قصدها ماركس. ولهذا، ربما، كان يأخذ الموقف من اليهود انطلاقاً من الفقرات الواضحة التي يوردها، دون التفات إلى المسألة الأساسية التي يناقشها والتي كانت تشير إلى بدء تبلور رؤيته.

لكن ربما كان يُنظر إلى الكتاب من زاوية " المسألة اليهودية " بالتحديد، أي من زاوية موقف ماركس من اليهود. و أعتقد بأن هذه الزاوية هي الأضعف في الكتاب، أو على الأقلّ ليست هي الزاوية الجوهرية فيه. حيث أن الكتاب هو مرافعة من أجل العلمانية والديمقراطية وحقّ المواطنة، وهو الجانب الذي كان مهملاً في إطار الشيوعيين في العقود السابقة، لهذا لم يجرِ الالتفات إليه. كما أن الكتاب هو بداية تلمُّس " مشكلة " الملكية الخاصّة، وبالتالي النظر إلى التحرُّر الإنساني عموماً كتحرُّر من الملكية الخاصّة.

من هذا المنطلق، أعتقد بأن أهمية خاصّة تحكم إعادة طباعته في هذا الوقت. حيث أصبحت مسائل الديمقراطية والعلمانية من القضايا التي تحظى باهتمام شديد، رغم أن كثيراً منه يبدو شكلياً، أو يتبدّى كموضة، وجاء نتيجة " صدمة " انهيار المنظومة الاشتراكية. وربما ذلك هو الذي يجعل لهذا الكتاب قيمة جديدة، لأنه يناقش هذه المسائل بدقّة وعمق. وبالتالي فإن تأسيس مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والمواطنة، الذي هو من مهمات اللحظة الراهنة، يجعل الإطلاع على هذا الكتاب ضرورة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن انهيار النظم الاشتراكية قد قاد إلى التركيز المبالغ فيه على جانب واحد من جوانب أزمة هذه النظم، الذي هو غياب الديمقراطية وسيطرة الشمولية. وأفضى هذا التركيز إلى وضع الماركسية في تناقض مع الديمقراطية. لهذا سيكون ما يقوله ماركس في " المسألة اليهودية " مهماً كذلك في توضيح أصالة موقفه الديمقراطي، وكيف أن هذا الموقف الديمقراطي هو الذي أوصله، حينما نظر إلى الديمقراطية بانسجام، إلى الاشتراكية، التي كانت تبدو في هذا الكتاب كعموميات وُضعت تحت عنوان " التحرُّر الإنساني ". وبالتالي فإن التحقُّق من علاقة الماركسية بالديمقراطية تفترض الإطلاع على الكتاب، على الأقل من أجل بناء موقف منسجم من هذه العلاقة، وعدم تكرار أحكام جاءت تحت وقع الصدمة، ونتيجة معرفة سيئة بالماركسية.

 

لهذا أدعو إلى الالتفات إلى جوهر ما يقوله ماركس في هذا الكتاب، لأنه يقدِّم ما هو مفيد للحوار الدائر الآن، سواء فيما يتعلّق بالعلمانية أو فيما يتعلّق بالديمقراطية. وتجاوز النظرة التي تصبّ في خدمة السياسي المباشر، المتعلّق بالموقف من اليهود، انطلاقاً من أن ماركس يرفض التعامل معهم كقومية، بل يتعامل معهم كمواطنين، يفترض اندماجهم في أممهم علمنة الدولة وتكريس حريّة المعتقد الديني، رغم أن هذا الموقف صحيح ومهمّ. ولاشكّ في أن رفض الرأسماليات الأوروبية لهذه المسألة هو الذي جعلها تُصدِّرها إلى الوطن العربي، عبر فرض تهجير اليهود (الذين هم أوروبيون، أي فرنسيون وألمان وإنجليز ....) إلى فلسطين. وبالتالي لتتحوّل " المسألة اليهودية " من مشكلة أوروبية إلى مشكلة عربية، أي دون أن تُحلّ.

 

وكانت مصالح الرأسمال هي التي فرضت التخلّص من الفقراء ( ومنهم قطاع مهمّ من اليهود ) من جهة، وتحويلهم إلى جنود في جيش الإمبريالية، و لخدمة مشروعها في الوقت نفسه من جهة أخرى.

هذا الوضع أبقى المشكلة اليهودية، وأدمجها بالمشروع الإمبريالي، رغم أن الدول الأوروبية كانت قد أصبحت علمانية منذ بداية القرن العشرين. وبالتالي باتت هذه المشكلة بحاجة إلى حلٍّ علمانيّ على المستوى العالمي، وفي الوطن العربي خصوصاً، بعد أن تشكّلت الدولة الصهيونية على أساس الدين اليهودي (كما حدث لباكستان التي تشكّلت على أساس الإسلام، ولبنان الذي تشكّل ككيان مسيحي، خلال سنوات متقاربة 1946- 1948)، الأمر الذي يعني إلغاء الدولة بصفتها دولة دينية.

 

إذن، لقد حُلّت " المسألة اليهودية " في أوروبا ليس عبر التحرّر السياسي، بل من منظور إمبريالي عبر تصديرها إلى الوطن العربي. وبالتالي فهي لم تُحلّ، على العكس فقد تحوّلت إلى مشكلة عالمية. فبدل إعطاء اليهود حقّ التديّن، جرى تشكيل دولة يهودية ( الدولة اليهودية كما أسماها هيرتزل ). وبدل أن يندمج اليهود في أممهم جرى تشكيلهم في " أمة ". وبالتالي بات التخلّص من علاقة الدين بالسياسة مشكلة عالمية.

 

لكن لا بدّ من أن نشير إلى أن تعبير " المسألة اليهودية " هو نتاج التاريخ الأوروبي، ودور اليهود المالي ( المرابي ) البارز كان جزءاً من هذا التاريخ. المشكلة بالتالي ليست في الدين اليهودي ( الذي هو دين شرقي عربي )، بل في اليهودي الواقعي الذي أصبح دينه هو المال. وهذا هو الدور التجاري/ الربوي الذي مارسه اليهود في مجتمع القرون الوسطى القائم على سيادة الاقتصاد الطبيعي، و غياب السلعة و النقد. رغم أن تحوّلات الرأسمالية كانت تقود إلى إفقار قطاعات هامة من اليهود ككل الفئات الاجتماعية في تلك المجتمعات، و تحكُّم بعض اليهود باقتصاد دول كما يشير ماركس في النص. وهذا الدور التجاري/ الربوي هو الذي أسّس في مرحلة الرأسمالية لنشوء "المسألة اليهودية"، حيث وحسب ما يشير ماركس أصبح المال هو دين الرأسمالية ذاتها.

 

 وبالتالي فإن ماركس كان يناقش مشكلة أوروبية، هي مشكلة الانغلاق اليهودي (الغيتو)، والدور المالي التاريخي رغم أن معظم اليهود كانوا قد أصبحوا فقراء، في الوقت الذي بات بعضهم من كبار رأسماليي أوروبا. لهذا كان يرى أن مبدأ المواطنة هو الذي يجب أن يحكم الرؤية مادام اليهود هم جزء من التكوين القومي في الأمم الأوروبية، بينما يُحلّ الدور المالي في إطار تجاوز الرأسمالية.

هذه مسائل يضيؤها نصّ ماركس، وهي حسّاسة بالنسبة لنا نحن العرب. لكن الأهم في الكتاب هو طريقة معالجة وضع الدين في المجتمع الحديث، وبالتالي مسألة التحرُّر السياسي. وهي المشكلة التي كانت لازالت ساخنة في أوروبا أواسط القرن التاسع عشر، والتي كانت البرجوازية المنتصرة لازالت تماطل في حلّها لأنها تستخدمها. لكن بعكس ما هو شائع، يتبنى ماركس موقفاً علمانياً منسجماً من الدين، ويرفض الموقف الإلحادي، وهو يخالف برونو باور في موقفه من الدين اليهودي حينما يعتبر أن التحرُّر السياسي يفترض تحرُّر اليهودي من يهوديته، ليؤكّد بأن المسألة تتعلّق بتحرُّر الدولة من الدين، أي أن تكفّ عن أن تكون دولة دينية، مع ضمان حريّة المعتقد الديني، انطلاقاً من تأكيد مبدأ المواطنة.

ماركس يرفض أن يكون التخلّي عن الدين هو شرط التحرُّر السياسي، ولا يعتبر أن إلغاء الدور السياسي للدين هو إلغاء للدين ذاته. ويشير إلى أن وجود الدين " المفعم بالحياة والقوّة "، لا يتعارض مع قيام " الدولة الكاملة "، أي " الدولة المدنية "، مؤكّداً على أن التحرُّر السياسي هو تحرُّر الدولة من الدين فقط، حيث يتحرَّر الإنسان سياسياً من الدين عبر إقصائه من الحقل العام إلى الحقل الخاص. وبالتالي فإن اكتمال التحرُّر السياسي لا يلغي التديّن الحقيقي للإنسان، كما أنه لا يهدف إلى إلغائه، لهذا فهو يدع التديّن قائماً، لكن دون امتيازات. الأمر الذي يعني أن تحرُّر الدولة من الدين لا يعني تحرُّر الإنسان من الدين. لهذا فإن التحرُّر السياسي لا يعني تحرُّر الإنسان من الدين بل حصوله على الحريّة الدينية.

 

وماركس يعتبر أن كل ذلك يمثّل " خطوة تقدميّة كبيرة حقاً". وهذه مسألة هامّة في تاريخ الماركسية لأنها تشير إلى تضمُّن الماركسية كل منجزات " العصر البرجوازي ". حيث كان ماركس ينطلق منها للتأسيس لما هو أبعد، لا أن يقفز عنها، أو" يرجمها " بصفتها " بنت زنا ". وكما أشرت فإن عمق فهمه لمسألة التحرُّر السياسي، وكمظهرها الواقعي الذي كان يشير إلى نشوء تمايز جديد هو التمايز الطبقي، وبالتالي اللامساواة، هو الذي جعله يميّز بين التحرُّر السياسي و التحرُّر الإنساني، وأن يعتبر أن هذه الخطوة التقدميّة الكبيرة ليست الشكل الأخير للتحرُّر الإنساني، بل أن " المجتمع البرجوازي " الذي يتشكّل، والذي افترض التحرُّر السياسي، يؤسِّس لانقسام جديد يحتاج إلى حلٍّ يحقّق التحرُّر الإنساني، يفرض التخلّص من الملكية الخاصة. وهو المشروع الذي شرع في بلورته منذئذ ( 1843- 1844 ) و استمرّ به إلى أن صاغ كتابه " رأس المال "، وأسّس الأممية الأولى.

 

إن ماركس هنا يقول أن التحرُّر السياسي، وكل المفاهيم الديمقراطية العلمانية التي أنتجها عصر التنوير، وبدا أن البرجوازية هي حاملها، هي ليست نهاية المطاف رغم أنها تمثّل مستوى في تحرُّر الإنسان هو المستوى السياسي، الذي هو خطوة تقدّمية هائلة، و انتقاله مهمة في التحرُّر الإنساني. لهذا يجب أن نبحث في طبيعة التحرُّر الإنساني ذاته. وهنا يلمس ماركس ما أسماه دين اليهودي الواقعي، الذي هو المال، وهو " الدين" الذي عمّمته الرأسمالية ليصبح مشكلة العالم. وليكون التخلّص منه هو تحقيق للتحرُّر الإنساني. ورغم أن ماركس في هذا النصّ لم يستخدم االتعابير الطبقية، إلا أن هذا النصّ كان، مع مخطوطات 1844 وكتاب الأيديولوجيا الألمانية، المدخل للوصول إلى تصوّره الجديد. لهذا أشرت إلى أن ماركس وصل إلى الاشتراكية عبر وعيه الديمقراطي، وليس على الضد منه.

وإذا كان لينين قد أشار إلى أن مصادر الماركسية هي ثلاث: الفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي الإنجليزي والاشتراكية الفرنسية، فربما يكون قد ظلم ماركس لأنه تجاهل أثر عصر التنوير الأوروبي في تكوين هذا الرجل، وبالتالي موقع مفاهيم الحرّية والديمقراطية والعلمانية في الماركسية ذاتها. فالماركسية لم تأتِ كنفيٍ لكل ذلك، بل جاءت كتعميم لهذه المفاهيم على مستويات المجتمع كافّة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. حيث أن الحق السياسي المتساوي يقود إلى الحق المتساوي في العيش. وهذا الأمر – كما أشرنا – فرض هجوم ماركس على الملكية الخاصة كونها تفرض التمييز، ليس في العيش فقط بل وفي السياسة كذلك. وهنا لا يقود ذلك إلى تجاوز الحقوق السياسية بل يفرض أن يتضمّنها " النظام الجديد ".

 

ورغم أن ماركس يُبدي انتقاداً لـ " حقوق الإنسان " التي جاءت مع الثورة الفرنسية، سنلحظ بأنه ينتقدها انطلاقاً من واقعها آنئذ، حيث تقلّصت إلى حقوق للبرجوازية فقط. يلاحظ ماركس بأنه جرى التمييز بين حقوق الإنسان و حقوق المواطن. فقد عنت الحرّية الحق في فِعْل كل شيء لا يضرّ الآخرين. وأصبح الاستخدام العملي لحق الإنسان في الحرّية يتلخّص في حقّه في الملكية الخاصّة، أي أن يستمتع بثرواته كما يريد دون مراعاة الآخرين، وبالتالي تكريس حق المنفعة الذاتية. و لتتحدّد المساواة في أن يُنظر إلى كل إنسان بصورة متساوية كوحدة قائمة بذاتها. ولهذا تعمّمت الملكية الخاصّة البرجوازية وانتفت حقوق الإنسان السياسية طيلة القرن التاسع عشر تقريباً، وخصوصاً لدى كتابه نصّ " حول المسألة اليهودية ". فقد دُفع المواطن إلى الفقر دون أن يحصل على حقوقه السياسية تلك. وهو الأمر الذي دفع ماركس إلى الربط بين التحرُّر السياسي والتحرُّر الطبقي، لكي تكتمل الحقوق ويتحقّق التحرُّر الإنساني.

 

سنشير إلى أن ظروف أوروبا حينما كتب ماركس نصّ " حول المسألة اليهودية " كانت لازالت لم تكتمل. حيث كانت العلمانية التي جرت الدعوة إليها لازالت مطلباً، في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكل أوروبا، رغم بعض التطوّر الواقعي في هذا المجال، ولقد انتصرت بداية القرن العشرين ( في فرنسا سنة 1905 ). وبالتالي كان النقاش حولها لازال مهماً، وكانت البرجوازية الناشئة ليست منسجمة إلى النهاية مع تطبيقها، الأمر الذي جعل لموقف ماركس والماركسية أهمية لاشكّ فيها في إطار الصراع الواقعي لانتصار العلمنة، وتأكيد مبدأ المواطنة. كما أن التحرُّر السياسي كان لازال حلماً، لأن النظم الرأسمالية كانت لازالت دكتاتورية ( كما في فرنسا )، أو تحصر " الديمقراطية في مَنْ يملك فقط ، أي في البرجوازية ذاتها ( كما في بريطانيا )، أو أنها لازالت إقطاعية (كما في ألمانيا). ولهذا بدت مبادئ حقوق الإنسان التي أعلنتها الثورتان الأميركية والفرنسية، مسوّغاً لتكريس الملكية الخاصّة، حيث أقرّت المساواة القانونية بين المواطنين، وكرّست حق التملّك، دون أن تُقرّ حق الانتخاب وتشكيل الأحزاب وحرّية الصحافة وتداول السلطة.

 

وهذه المسائل كانت في صلب نضالات الاشتراكيين لعقود طويلة. وكتاب " حول المسألة اليهودية " كان من ضمن نضالات ماركس من أجل تكريس العلمانية ومبدأ المواطنة والحريات السياسية. وهذا ما يجب أن نلتفت إليه، لأنه يعيد تأسيس رؤية الماركسية، من زاوية أنها – كما تبلور في الجدل المادي – لم تأتِ لتنفي فقط ، بل أتت لتكمل كذلك. لهذا فإن مبادئ عصر الأنوار هي أحد مصادر تشكُّلها، هي متضمّنة فيها. وهو الأمر الذي يهمّش كل الأفكار التي جرى تداولها منذ انتصار الماركسية السوفييتية حول " دكتاتورية البروليتاريا " التي وردت في نصوص ماركس ثلاث مرّات فقط، وكانت تعني دكتاتورية الأغلبية على الضد من دكتاتورية الأقلية، في عصر سيادة دكتاتورية البرجوازية السافرة. والتي كانت متضمّنة الديمقراطية في إطار الأغلبية. ويهمّش كذلك وضع الديمقراطية الاجتماعية في مواجهة الديمقراطية السياسية، بوصف هذه الأخيرة ديمقراطية برجوازية يجب رجمها.

هذه المفاهيم التي نبتت في مجتمع متخلّف، وأسّست لسلطة بطركية مستبدّة. والتي غطّتها بتعبير لماركس لم يكن ذو أهميّة. وبالتالي ألصقت بالاشتراكية صفة الدكتاتورية، و وصمته بالاستبداد. ولاشكّ في أن وضع روسيا الإقطاعية بداية القرن العشرين كان يسمح بنشوء مثل هذا النظام السياسي، مستنداً على ما بات للدولة من دور اقتصاديّ هائل. لهذا أقول: ابحثوا عن الاستبداد في تكوين روسيا القروسطي، وابحثوا عن أثر ذلك في الماركسية، لا أن تعودوا إلى الماركسية لتفسير صيرورة واقعية. أي لا تعودوا إلى " النظرية " لتفسير ما حدث في الواقع، رغم أن النظرية تحمل جزءاً من العبء لأنها لم تكن قد بلورت صيغة متكاملة حول الدولة و النظام السياسي، و بالتالي احتملت التأويل السلبي.

 

والعودة لقراءة ماركس ضرورية هنا، لأننا معنيّون بإعادة صياغة التصوّر الماركسي، وفيما يتعلّق بالعلمانية والديمقراطية خصوصاً. ورغم أن كتاب " حول المسألة اليهودية " هو من الكتابات الأولى، إلا أنه يشير إلى المفصل الأساس الذي نقل ماركس من " هيغلي يساري" كما كان يُسمّى تيار كامل آنئذ، إلى اشتراكي يطمح إلى إلغاء الملكية الخاصّة و تحقيق الشيوعية. لكنّ هذا المفصل يوضّح الترابط الذي أوجده بين القيم التي أوجدها مفكّرو عصر الأنوار، وبين الماركسية ذاتها. حيث بدا أنها أصبحت جزءاً من التشكيل الماركسي لأنها مثّلت خطوة تقدّمية كبيرة.

 

وماركس في هذا الكتاب يتلمّس كذلك التفسير الطبقي والتحليل المادي، ويقف على عتبة الاشتراكية. وهذا ما جعل النصّ، من جهة، ملتبس في هذا المجال، حيث أنه يتحدّث عن المال، ويشير إلى التحرُّر الإنساني الذي يقوم على إلغاء الملكية الخاصة، ويدعو إلى النشاط الاجتماعي وتجاوز الفرد المنعزل إلى ما هو مجتمعي.

 

الكتاب يُقرأ، ليس ككتاب ماركسي فقط، بل ككتاب يدافع عن العلمانية والديمقراطية، ويؤسِّس لمبدأ المواطنة. ويعرّف ببدايات تشكُّل الماركسية.

----------------

المَسْــألة اليَهُوديـّــة

الأنانية اليهودية

---------

يطالب اليهود الألمان بالتحرر، فبأي تحرّر يطالبون؟ التحرّر بوصفهم مواطنين؟ التحرّر السياسي؟

يحييهم برونو باور(1): في ألمانيا، ليس ثمة إنسان متحرّر سياسياً. ونحن أنفسنا لسنا أحراراً. فكيف نستطيع تحريركم؟ إنكم معشر اليهود، لأنانيوّن حين تطالبون لأنفسكم، بسبب من أنكم يهود، بانعتاق خاص، فعليكم أن تعمِلوا، بوصفكم ألمان، على الانعتاق السياسي لألمانيا، وبوصفكم بشراً، على الانعتاق البشري. والنوع الخاص لاضطهادكم لذلكم، عليكم أن تحسّوه، ليس بوصفه استثناءً عن القاعدة، وإنمّا في الأصحَّ بوصفه تأكيداً لها.

أم تُرى أن اليهود يطالبون بأن يوضعوا على قدم المساواة مع الرعايا المسيحيين؟ فإن كانوا يعترفون بالدولة المسيحية بوصفها قائمة على العدل، فعندئذ يعترفون بنظام الاستعباد الشامل. فلماذا لا يرضيهم  نيرهم الخاص، في حين أن النير العام يرضيهم. وأنى للألماني أن يهتم بتحرّر اليهودي، إذا كان اليهودي لا يهتم بتحرّر الألماني؟

ليس في الدولة المسيحية إلاّ الامتيازات. واليهودي يملك في ذاته امتياز كونه يهودياً. وإن له، من حيث هو يهودي، حقوقاً ليست للمسيحيين. فلماذا يطالب بحقوق لا يملكها، حقوق يتمته بها المسيحيون؟

واليهودي، بمطالبته بالتحرّر من الدولة المسيحية، يطلب بأن تتخلى الدولة المسيحية عن وهمها الديني المُسَبَّق، فهل يتخلى، هو اليهودي، عن وهمه الديني المُسَبَّق؟ إذن فهل يحق له أن يطالب آخر بالتنازل عن دينه؟

الدولة المسيحية لا تستطيع، من حيث جوهرها، أن تُحرّر اليهودي، ويضيف باور: ولكن اليهودي لا يستطيع، من حيث جوهره، أن يتحرّر. وما بقيت الدولة مسيحية، واليهودي يهودياً، فإن كلاهما على الرواء غير قادر على منح التحرّر للآخر، أو لتلقيه.

لا تستطيع الدولة المسيحية أن تقف إزاء اليهود غير موقف الدولة المسيحية. فعليها، استناداً إلى امتيازها، أن تسمح بعزل اليهودي عن سائر الرعايا. ولكن عليها، بعدئذٍ، أن تثقل كاهل هذا اليهودي بالاضطهاد المنيخ على الأوساط الأخرى. ويكون ذلك على نحو أقسى كلما تعارض اليهودي دينياً مع الدين السائد. ولكن اليهودي لا يستطيع من جهته، أن يقف من الدولة إلا موقف اليهودي، يعني موقف الغريب: فهو يعارض القومية الحقيقية بقوميته الوهمية. والقانون الحقيقي بقانونه الخيالي. إنه يظن أن من حقه الانفصال عن سائر البشرية، وهو لا يشارك، مبدئياً، في الحركة التاريخية، إنه يطمح إلى مستقبل ليس بينه وبين المستقبل العام للإنسان، أية سمة مشتركة. وهو يعتبر نفسه بمثابة عضو من الشعب اليهودي ويرى أن الشعب اليهودي هو الشعب المختار. إذن، فبأي حق، أيها اليهود، تطالبون بالتحرّر؟ أبسبب دينكم؟ إنه العدو اللدود لدين الدولة. ألأنكم مواطنون؟ ليس ثمة مواطنون في ألمانيا، أم لأنكم بشر؟ إنكم لستم بشراً، وكذلك أولئك الذين تستنجدون بهم.

 

الديــن والدولــة

طرح باور مسألة التحرّر اليهودي بطريقة جديدة. بعد أن قام بنقد الأوضاع القديمة والحلول القديمة للمسألة. فهو يتساءل: ما هي طبيعة اليهودي المطالب بالتحرّر، وما هي طبيعة الدولة المسيحية التي عليها أن تحرِّره؟ وهو يجيب بنقدٍ للديانة اليهودية. وهو يحلل التعارض الديني بين اليهودية والمسيحية، ويفسّر لنا جوهر الدولة المسيحية، وذلك كله بجرأة، ووضوح، وصفاء ذهن، وعمق، وبلغة تتساوى بالدِّقة والمتانة والقوَّة.

لكن كيف يحلّ باور – إذن – المسألة اليهودية؟ وما هي النتيجة؟ إن طريقة طرح مسألة من المسائل تتضمن حلَّها.

إن نقد المسألة اليهودية هو الجواب عن المسألة اليهودية.

إليك الخلاصة:

يجب أن نحرِّر أنفسنا قبل أن نستطيع تحرير الآخرين:

إن أصلب شكل من أشكال التعارض بين اليهودي والمسيحي هو التعارض الديني. وكيف يُحَلّ التعارض؟ بجعله مستحيلاً. وكيف يُجْعَل التعارض الديني مستحيلاً؟ بإلغاء الدين. ومنذ أن لا يرى اليهودي والمسيحي في الدين الخاص بكل منهما إلا درجات مختلفة من تطور العقل البشري، ويتعرّف على جلدي أفعى سلخهما التاريخ وعلى الإنسان الذي يمثِّل الأفعى التي كانت في هذين الجلدين، فلن يجدا نفسيهما، من بعد، في تعارض ديني، وإنما في علاقة نقدية بحتة، علاقة علمية، بشرية. وعندئذٍ يؤلف العلم وحدتهما. أما التناقضات العلمية فيحلّها العلم نفسه.

وينهض في وجه اليهودي، بصورة خاصة، فقدان التحرّر السياسي بصورة عامة، كما تناهضه مسيحية الدولة البينّة. ولكن للمسألة اليهودية، من وجهة نظر بوير، أهمية عامة مستقلة عن الشروط الألمانية الخاصة. إنها مسألة العلاقات بين الدين والدولة، والتناقض بين الفكرة الدينية المَسَبّقة، والتحرّر السياسي. التحرّر من الدين، هذا هو الشرط الذي يوضع أمام اليهودي الذي يطالب بتحرّره السياسي، وأمام الدولة التي عليها أن تحرّره وتتحرّر هي نفسها على السواء.

يقول المرء، واليهودي نفسه يقول: « حسناً. ولكن اليهودي لا ينبغي أن يُحَرّر لأنه يهودي، وبسبب من أنه يملك مبدأ أخلاقياً متفوقاً، وإنسانياً كونياً، والأصح أن اليهودي سوف يتخذ موضعه وراء المواطن، ويكون مواطناً، على رغم أنه يهودي ويريد أن يظل يهودياً، وعلى الرغم من أنه مواطن ويعيش في شروط إنسانية شاملة: إن طبيعته اليهودية والمحدودة تنتصر دائماً، وفي النهاية، على التزاماته الإنسانية والسياسية. غير أن ثمة فكرة خاطئة راسخة وهي أن طبيعته تتخطاها مبادئ عامة. ولكن لو كان الأمر على هذا النحو، فإنها – أي طبيعة اليهودية – تتخطى، على العكس، جميع الأشياء الأخرى.» « ولا يستطيع اليهودي، في الحياة السياسية، أن يبقى يهودياً، إلا بمعنى سفسطائي، وحسب المظهر، وبالتالي، فإن كان يريد أن يبقى يهودياً لكان المظهر – إذن – هو الجوهري وهو الذي ينتصر وبتعبير آخر فحياة اليهودي في الدولة لن تكون إلا مظهراً أو شذوذاً آنياً عن الجوهر والقاعدة(1).»

ولننظر، من جهة أخرى، كيف يحدد باور مهمة الدولة يقول:

« لقد قدمت لنا فرنسا منذ زمن وجيز(2)، فيما يمس المسألة اليهودية- كما نفعل من ناحية أخرى باستمرار في جميع المسائل السياسية الأخرى – قدّمت لنا مشهد حياة حرة، ولكنها تخرق حريتها في القانون، هكذا يجعل إذن منه مجرد مظهر، على حين أنها من ناحية أخرى، تدحض قانونها الحر من خلال أعمالها.»( Jundenfrage, p 64) (المسألة اليهودية، ص64)

« إن الحرية العامة، في فرنسا، لم تُعْلَن بعد قانوناً، وبالتالي فالمسألة اليهودية لم تُحل أيضاً، ذلك لأن الحرية القانونية التي يتساوى فيها جميع المواطنين – هي في الحياة مقيدة، هذه الحياة التي ماتزال تسيطر عليها الامتيازات الدينية وتقطِّعها، وذلك لأن انعدام حرية الحياة تنعكس في القانون الذي يرغم على تكريس التمييز بين المواطنين، الذين هم أحرار من حيث طبيعتهم، إلى مضطهدين ومُضْطَهدين» (Jundenfrage, p 65) (المسألة اليهودية، ص 65).

إذن فمتى تنحل المسألة اليهودية، بالنسبة إلى فرنسا؟

« فاليهودي مثلاً، يكون قد كف فعلاً عن كونه يهودياً، حين لا منعه قانونه من ممارسة واجباته نحو الدولة ونحو مواطنيه، وحين يحضر يوم السبت جلسات المجلس النيابي ويشارك فيها. وينبغي على كل حال، إلغاء جميع الامتيازات الدينية، وذلك يعني أيضاً، إلغاء كل احتكار تناله كنيسة متميزة، فإذا كان ثمة البعض يعتقدون – أو إذا كانت الأغلبية الساحقة أيضاً تعتقد – بواجبها في تأدية واجبات دينية، فهذه الممارسة يجب أن تمنح لهم، بمثابة شأن خاص تماماً.(Judenfrage,p 65) ( المسألة اليهودية، ص65).

« لن يبقى ثمة من دين، يوم لا يبقى ثمة دين متميّز. جرّد الدين من قوّته بوصفه شيئاً متميزاً، فلن يبقى له بعد من وجود.(Jundenfrage, p 65) (المسألة اليهودية، ص 65).

« لقد رأى السيد مارتان دي نور، في اقتراحه عدم ذكر يوم الأحد في القانون، اقتراحاً يعلن أن المسيحية لم يبق لها وجود، واستجابة لهذا المبدأ نفسه – وهذا الحق هو حق مشروع، (بصورة مطلقة) فإن الإعلان بأن قانون السبت لم يعد ملزماً اليهودي، سيعني إعلان أن وجود اليهودية قد قضي عليه.» (Jundenfrage, p 71)  (المسألة اليهودية، ص 65).

وهكذا يطلب باور أن يتخلى اليهودي عن اليهودية، والإنسان إجمالاً عن الدين، لكي يتحرّر كمواطن، ومن جهة أخرى، وهذه نتيجة منطقة، يعتبر الإلغاء السياسي للدين بمثابة إلغاء لكل دين. إن الدولة التي تفترض الدين مسبقاً ليست بعد دولة واقعية حقيقية. «وبديهي أن الفكرة الدينية تقدم للدولة ضمانات. ولكن لأية دولة؟ لأي نوع من أنواع الدولة؟(Jundenfrage, p 97) (المسألة اليهودية، ص 97).

 

بين اليهودية والمسيحية

وهنا نرى أن باور لا ينظر إلى المسألة اليهودية إلا بشكل أحادي الجانب. فلم يكن كافياً التساؤل: من ينبغي له أن يُحرِّر، ومَنْ الذي يجب أن يُحرَّر؟ فعلى النقد أن يطرح على نفسه سؤالاً ثالثاً: بأي نوع من أنواع التحرّر يتعلق الأمر، وأية شروط تقوم في جوهر التحرّر المطلوب؟ إن نقد التحرّر السياسي لم يكن هو نفسه إلا النقد النهائي للمسألة اليهودية وذوبانها الحقيقي في (مسألة العصر العامة).

وبسبب من أن باور لا يرفع المسألة إلى هذا المستوى، يقع في متناقضات. وهو يضع شروطاً ليست قائمة على أساس من جوهر التحرّر السياسي. وهو يعالج مسائل لا تدخل في القضية التي يبحثها، ويحل قضايا تدع المسألة التي يعالجها غير مسموعة. حين يقول باور عن خصوم التحرّر اليهودي: « إن خطأهم الوحيد هو افتراضهم أن الدولة المسيحية هي وحدها الصحيحة، وبالتالي عدم إخضاعها للنقد نفسه الذي تُخضع له اليهودية.» (المرجع المذكور – ص3).

نرى خطأ باور في هذه الواقعة وهو أنه يخضع « الدولة المسيحية» للنقد، وليس « الدولة في ذاتها» وإنه – أي باور – لا يفحص العلاقة بين التحرّر السياسي والتحرّر البشري، ويضع – إذن – شروطاً لا يمكن تفسيرها. وهو، بسبب افتقاره إلى الحس النقدي، يخلط بين التحرّر السياسي والتحرّر البشري الشامل. فإذا سأل باور اليهود، حل لكم الحق، ووجهة نظركم على ما هي عليه، بالمطالبة بالتحرّر السياسي؟ نطرح السؤال المعاكس: هل لوجهة نظر التحرّر السياسي الحق بمطالبة اليهودي بإلغاء اليهودية، والإنسان بإلغاء كل دين؟

إن المسألة اليهودية تُطرح بصورة تختلف تبعاً للدولة التي يعيش اليهودي في ظلها. ففي ألمانيا، حيث ليس ثمة دولة سياسية، دولة من حيث هي دولة، نرى أن المسألة اليهودية هي مسألة لاهوتية بحتتة. ويجد اليهودي نفسه في تعارض ديني مع الدولة، التي تعلن المسيحية أساساً لها، فهذه الدولة هي دولة لاهوتية مغرقة في لاهوتيتها. ويكون النقد هنا نقدا للاهوت، نقداّ ذا حدِّين، يعني نقد اللاهوت اليهودي. وعلى رغم بقائنا هنا في النقد، فإننا لا نخرج من اللاهوت!.

 

اليهودية والدستور

أما في فرنسا، هذه الدولة الدستورية، فالمسألة اليهودية هي مسألة النظام الدستوري، مسألة نقص التحرّر السياسي، ونظراً لأنه يحتفظ هنا بمظهر دين للدولة، في شكل تافه متناقض، فإنَّ وضع اليهود يحتفظ، إزاء الدولة، بمظهر تعارض ديني لاهوتي.

ولا تفقد المسألة اليهودية مدلولها اللاهوتي وتصبح مسألة علمانية، إلاَّ في دول أميركة الشمالية الحرة، أو على الأقل في بعض هذه الدول، ولا تستطيع أن تنجلي علاقات اليهودي، وبصورة عامة علاقات الرجل الديني بالدولة السياسية وبالتالي علاقات الدين بالدولة، في طابعها الخاص وفي كل صفاتها، إلا في البلاد التي توجد فيها الدولة السياسية في تطورها الكامل. ونقد هذه العلاقة يكف عن أن يكون نقداً لاهوتياً، منذ أن تكفّ الدولة عن أن تقف من الدين موقفاً لاهوتياً، منذ أن تتخذ وجهة النظر السياسية وتتصرف بوصفها دولة بالفعل. ويصبح النقد عندئذٍ هو نقد للدولة السياسية. ومن هذه الناحية، حيث تكفّ المسألة عن كونها لاهوتية، يكفّ نقد باور عن كونه نقداً.

« فليس ثمة في الولايات المتحدة دين للدولة، ولا دين معلن بوصفه دين الأغلبية، ولا تفوّق لدين على آخر. فالدولة مستقلة عن جميع الأديان.» (ماري، أو الرق في الولايات المتحدة، الخ، تأليف ج. دي بومون، باريس 1835، ص214). بل ثمة في أميركة الشمالية ولايات « لا يفرض فيها الدستور العقائد الدينية وممارسة عبادة من العبادات بمثابة شرط للامتيازات السياسية.» (المرجع المذكور- 225) ورغم ذلك « فلا يُعْتَقَدْ في الولايات المتحدة أن رجلاً لا دين له يستطيع أن يكون رجلاً شريفاً (المرجع ذاته- ص224). ومع ذلك فأميركة الشمالية تظل هي لبلاد التدين بصورة خاصة، كما يؤكد كل من بومون، وتوكفيل، والانجليزي هاملتون.

بيد أن دول أميركية الشمالية لا تخدمنا إلا بمثابة مثال. والمسألة هي هذه: ما هي علاقة التحرّر السياسي الكامل بالدين؟ فإذا كنا لا نجد الدين وحسب في بلاد التحرر السياسي المكتمل، وإنما « وجوده المفعم بالحياة والقوة أيضاً»، تكون الحجة قد أقيمت على أن وجود الدين لا يتعارض في شيء مع اكتمال الدولة. ولكن لما كان وجود الدين هو وجود النقص. فإن أصل هذا النقص لا يمكن أن يُبْحَثَ عنه إلا في جوهر الدولة نفسه. ولا يعود الدين بالنسبة لنا أساساً، بل فقط ظاهرة للمحدودية الدنيوية، لهذا السبب نفسر الضيق الديني للمواطنين الأحرار بالضيق الدنيوي. ونحن لا نزعم أبداً أن عليهم إلغاء حدودهم الدينية مند أن يُلْغُوا حواجزهم الدنيوية. فنحن لا نحوّل المسائل الدنيوية إلى مسائل لاهوتية، بل إننا نحوِّل المسائل اللاهوتية إلى مسائل دنيوية. وبعد أن انحلَّ التاريخ زمناً طويلاً من في الوهم، سوف نحل نحن الوهم في ضوء التاريخ.

إن مسألة علاقات التحرّر السياسي بالدين تصبح بالنسبة إلينا مسألة علاقات التحرّر السياسي بالتحرّر البشري. ونحن ننقد الضعف الديني للدولة السياسية، بنقد الدولة السياسية، بصرف النظر عن نواحي ضعفها الدينية، في بنيانها الدنيوي.

ونحن نمنح التناقض بين الدولة ودين معين من الأديان، اليهودية مثلاً، نمنحه عصراً بشرياً، من خلال التناقض بين الدولة وعناصر دنيوية معينة، وبتحويل التناقض بين الدولة والدين بصورة عامة، إلى تناقض بين الدولة  وأسسها بصورة عامة.

إن التحرّر السياسي لليهودية، وللمسيحي، وبتعبير موجز للإنسال الديني، إنما هو تحرير الدولة من اليهودية ومن المسيحية ومن الدين بصورة عامة. والدولة في شكلها الخاص، في النمط الخاص بجوهرها، بوصفها دولة، تتحرّر من الدين بتحرّرها من دين الدولة، يعني بعدم إعرافها بأي دين، وإنما بتأكيدها ذاتها على نحو محض، وبوصفها دولة فقط. إن التحرّر السياسي من الدين ليس هو التحرّر بصورة مطلقة وكليَّة من الدين، ذلك لأن التحرّر السياسي ليس هو النمط المطلق الكلي للتحرّر البشري.

 

التحرر السياسي والتحرر الانساني

إن حد التحرّر السياسي يظهر فوراً في هذا الواقع، وهو أن الدولة تستطيع أن تحرّر نفسها من حاجز دون أي يكون الانسان متحرّر منه فعلاً، وفي أن الدولة تستطيع أن تكون حرَّة دون أن يكون الإنسان فيها حرّاً. وباور نفسه يُقرُّ ضمنياً بهذا الأمر، بربطه التحرّر السياسي بالشرط التالي، إذ يقول: « ثم أنه ينبغي إلغاء كل امتياز ديني، إذن ينبغي كذلك إلغاء الاحتكار الذي تملكه كنيسة متميِّزة، وإذا كان البعض، أو حتى الغالبية الساحقة ما يزالون يعتقدون بواجب ممارسة فروض دينية، فيجب أن يُمْنحوا حق هذه الممارسة بوصفها أمراً خاصاً تماماً».

فالدولة تستطيع أن تكون قد تحررت من الدين، حتى ولو كانت الغالبية العظمى ما تزال متديِّنة، من حيث أنها تكون كذلك في حياتها الخاصة.

ولكن موقف الدولة، والدولة الحُرَّة بخاصة، إزاء الدين ليس إلا موقف الناس الذين يؤلفون الدولة، إزاء الدين. وبالتالي فإن الإنسان يتحرّر بواسطة الدولة، يتحرّر بصورة سياسية من عقّبَة ما، بارتفاعه فوقها، وهو في تناقض مع نفسه، بصورة مُجردة، غير كاملة، جزئية. ومن جهة أخرى، فالإنسان يتحرّر، بتحرِّره سياسياً، وإنما يكون ذلك بوساطة وسيط، وهو في الواقع وسيط ضروري. وأخيراً فالإنسان، حتى حين يعلن نفسه ملحداً، بوساطة الدولة، يعني حين يعلن الدولة دولة ملحدة، فهو يظل دائماً محدوداً من وجهة النظر الدينية، وذلك بالضبط لأنه لا يعترف، بصفته تلك، إلا بوساطة وسيط.

إن الدولة هي الوسيط بين الإنسان وحريته، وكما أن المسيح هو الوسيط الذي يُحمِّلُه الإنسان كل أُلوهيته وجميع حدوده الدينية، فالدولة هي الوسيط الذي يحملْه الإنسان كل إنسانيته، وجميع حدوده البشرية.

ويشترك التحرّر السياسي للإنسان من الدين، مع التحرّر السياسي بشكل عام بكل النقائص والفضائل. فالدولة، بوصفها كذلك، تلغي الملكية الخاصة مثلاً، ويصدر الإنسان قراراً سياسياً بإلغاء الملكية الخاصة منذ أن يقرّر أن حقوق الإنسان في أن يَنْتَخِبَ ويُنْتَخَب لم تَعُد مرتبطة بضرائب يدفعها من يمارس تلك الحقوق، كما قُرِّر ذلك في عدد كبير من ولايات أميركة الشمالية. ويفسِّر هاملتون تفسيراً صحيحاً جداً هذا الحَدث، من وجهة النظر السياسية: «لقد انتصرت الجماهير الساحقة على الملاكين وعلى الثروة المالية». ألا تكون الملكية الفردية قد ألغيت نظرياً حين يكون ذلك الذي لا يملك شيئاً قد أصبح هو المشرّع لذلك الذي يملك؟ إن الضريبة على حقوق الترشيح والانتخاب هي آخر طريقة سياسية من طرائق الاعتراف بالملكية الفردية.

ولكن الإلغاء السياسي للملكية الفردية ليس فقط لا يُلْغي الملكية الفردية، وإنما هو يفترضها أيضاً. إن الدولة تلغي على طريقتها، الفوارق الناشئة عن النسب والمرتبة الاجتماعية والثقافة والعمل الخاص، بِرَسْمها أن النسب والمرتبة الاجتماعية والثقافة والعمل الخاص، هي فوارق غير سياسية وحين تعلن بصرفها النظر عن هذه الفوارق، بأن كل عضو من أعضاء الشعب يتمتع على قدم المساواة بالسيادة الشعبية، وحين تعامل جميع عناصر الحياة الشعبية الحقيقية باتخاذها وجهة نظر الدولة.

ومع ذلك فالدولة تترك الملكية الخاصة والثقافة والعمل الخاص تعمل على طريقتها، يعني من حيث هي ملكية خاصة، وثقافة، وعمل خاص، وقيامها بتغليب طبيعتها الخاصة. وإنها بعيدة عن إلغاء هذه الفوارق الواقعية، بل أنها تعي كونها دولة سياسية، ولا تغلّب كُلّيتها إلا بمعارضة هذه العناصر. إذن فهيغل يحدّد تحديداً صحيحاً بصورة مطلقة العلاقة بين الدولة السياسية والدين، حين يقول: «لكي تستطيع الدولة أن توجد بمثابة واقع واع وأخلاقي للعقل، فعليها أن تتميز عن شكل السلطة والإيمان. ولكن هذا التميُّز لا يظهر إلا بمقدار ما يتوصّل العنصر الألكنسي نفسه إلى الفَصْل. ولم تكتسب الدولة شمولَ الفكر، كما لم تكتسب مبدأ شكلها، ولم تتوصل إلى منحها الوجود، إلا بهذه الصورة وبارتفاعها فوق الكنائس الخاصة »

(Zwite Ausgabe, p 346) (Heqel – Rechtsphilosophie)

هذا صحيح! والدولة لم تتكوّن بوصفها كليّة، إلا على هذا النحو، وبارتفاعها فوق العناصر الخاصة.

إن الدولة السياسية الكاملة هي، تبعاً لجوهرها، حياة النوع والإنسان، بتعارضٍ مع حياته المادية. فجميع الشروط لهذه الحياة الأنانية تستمر في البقاء في المجتمع المدني خارج مجال الدولة، ولكن بمثابة خصائص للمجتمع البورجوازي. وحيث توصلت الدولة إلى ازدهارها الحقيقي، يعيش الإنسان، وليس فقط في الفكر أو في الضمير، وإنما في الواقع، في الحياة، يعيش حياة مزدوجة سماوية وأرضية، حياته في المُتحَّد السياسي حيث يعتبر نفسه بمثابة كائن عام، ووجوده في المجتمع المدني، حيث يعمل بوصفه مجرد رجل من العامة، ويرى في سائر الناس مُجَرَّد وسائل، وينحط هو نفسه إلى دور مجرد وسيلة، ويصبح لعبة للقوى الغريبة. إن الدولة السياسية، هي إزاء المجتمع المدني، على مِثْل روحانية السماء بالنسبة إلى الأرض، وهي تكون حياله في التعارض نفسه، وتنتصر الانتصار نفسه الذي ينتصر الدين فيه على العالم الدنيوي، فهي مرغمة على الاعتراف به، وإعادة إنشائه، وإفساح المجال لكي تخضع هي نفسها له. إن الإنسان في واقعه الأكثر مباشرة، في المجتمع المدني، هو كائن دنيوي، فهناك حيث هو نفسه يعتبر نفسه وحيث يعتبره الآخرون بمثابة فرد واقعي، يكون ظاهرة غير حقيقية.

وفي الدولة، على العكس، حيث تكون للإنسان قيمة بوصفه كائناً بشرياً، فهو عضو خيالي من سيادة خيالية، مُجَرّد من حياته الواقعية والفردية مليء بكُليِّة غير واقعية.

إن التناقض الذي يجد الإنسان نفسه به، من حيث هو يمارس ديناً خاصاً ومواطن في دولة، مع الناس الآخرين من حيث هم أعضاء في الوجود المجتمعي، تعود بأسبابه إلى الانقسام المدني بين الدولة السياسية والمجتمع المدني. فبالنسية إلى الإنسان المنظور إليه بمثابة إنسان بورجوازي « ليست الحياة في الدولة إلا مظهراً استثناءً مؤقتاً يتعارض مع الجوهر والقاعدة ».

والحق أن البورجوازي، تماماً مثل اليهودي، لا يبقى في الحياة السياسية إلا بواسطة السفسطة والمغالطة، تماماً مثلما لا يبقى المواطن فيها إلا بسفسطة يهودية أو بورجوازية. ولكن هذه السفسطة ليست شخصية. إنها سفسطة الدولة السياسية نفسها. إن الفرق بين الإنسان الديني والمواطن إنما هو الفرق بين التاجر والمواطن، بين المُياوم والمواطن، بين الملاك العقاري والمواطن، بين الفرد الحيّ والمواطن. إن التناقض الذي يقوم به الإنسان الديني والإنسان السياسي هو التناقض نفسه الذي يقوم بين البورجوازي والمواطن، والذي يقوم بين عنصر المجتمع البورجوازي وجلد الأسد السياسي الذي يلبسه.

هذا التناقض الدنيوي الذي تنحصر المسألة اليهودية فيه في آخر المطاف، يعني علاقة الدولة السياسية بشروط الواقعية، سواء أكانت هذه الشروط عناصر مادية كالملكية الخاصة، أو عناصر عقلية كالثقافة والدين. هذا التناقض بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. هذا الانشقاق بين الدولة السياسية والمجتمع البورجوازي، أقول: هذه التناقضات الدنيوية يتركها «باور» قائمة، على حين أنه يهاجم صيغتها الدينية. «إن أساس المجتمع البورجوازي، على وجه التدقيق، يعني الحاجة التي تضمن للمجتمع البورجوازي وجوده وتؤمن له ضرورته، هذا الأساس هو الذي يُعرِّض وجود المجتمع البورجوازي لأخطار متواصلة، ويُذكي فيه عنصراً غير موثوق، وينتج هذا الخليط المتواصل والمتغير دوماً، هذا الخليط من الفقر والغنى، والشقاء والازدهار وبكلمة واحدة: التغيُّر. (ص 8).

ونستطيع أن نقارن مجموع الفصل « المجتمع البورجوازي » (ص 8–9)، المبني وفقاً للمبادئ الأساسية لفلسفة الحق عند هيغل. حيث يتم الاعتراف بضرورة المجتمع البورجوازي، كمعارض للدولة السياسية، لكي يتم الاعتراف بضرورة الدولة السياسية.

إن التحرّر السياسي يشكل في الخلاصة تقدماً عظيماً. إنه والحق يُقال، ليس آخر شكل للتحرّر البشري، ولكنه آخر شكل للتحرّر البشري في أُطر النظام الاجتماعي الحالي، ولنتفاهم جيداً: نحن نتحدث هنا عن التحرّر الواقعي، عن التحرّر العملي.

يتحرّر الإنسان سياسياً من الدين، بإخراجه من الحقل العام إلى الحقل الخاص، فالدين لا يبقى هو روح الدولة وحيث يتصرف الإنسان. وإن كان يعمل بصورة خاصة ومحدودة وفي دائرة خاصة ككائن اجتماعي. وبالاشتراك مع أناس آخرين.

وإنما يكون قد أصبح الدين روح المجتمع البورجوازي ومجال الأنانية وروح حرب الجميع ضد الجميع. إنه لم يَبْق جوهر الجماعة، وإنما جوهر التميز. لقد أصبح الدين ما كان في الأصل: إنه يعبِّر عن أن الإنسان هو مفصول عن متّحده، عن ذاته، وعن الناس الآخرين. إنه لم يّعُدْ إلا التأكيد المجرّد للخطأ الخاص، والهوى الشخصي، والاعتباطية، فالتشظي للدين، في أميركة الشمالية مثلاً، يمنحه الشكل الخارجي لقضية خاصة على وجه الدقة، لقد وُضِعَتْ في عداد المنافع الخاصة ونُبِذَتْ من المُتَحد المنظور إليه بوصفه مُتَحداً. ولكن يجب أن لا يتطرق إلينا الوهم في موضوع حد التحرّر السياسي.

إن إنشطار الإنسان إلى إنسان عام وإنسان خاص، وانتقال الدين من الدولة إلى المجتمع البورجوازي، ليسا مرحلة، وإنما هما اكتمال التحرر السياسي الذي لا يلغى، ولا يحاول أن يلغي التدين الواقعي عند الإنسان.

إن تفكك الإنسان إلى يهودي ومواطن، إلى بروتستانتي ومواطن، إلى رجل دين ومواطن، هذا التفكك ليس افتراءً على النظام السياسي ولا محاولة للتملص من التحرّر السياسي، فذلك هو التحرّر السياسي نفسه، والطريقة السياسية للتحرّر من الدين، وبديهي في عهود تؤكد فيها الدولة السياسية بوصفها كذلك، ولادتها العنيفة من المجتمع البورجوازي، وحيث الانعتاق الشخصي البشري يحاول أن يتم في شكل انعتاق شخصي سياسي، أن الدولة تستطيع ويجب عليها أن تمضي إلى حد إلغاء الدين، إلى محقه وإنما فقط كما تستطيع أن تتوصل إلى إلغاء الملكية الخاصة في حدها الأعلى، فتصل إلى المصادرة، إلى الضريبة التصاعدية، إلى إلغاء الحياة، إلى المقصلة. وفي اللحظات التي تعي فيها الدولة ذاتها بصورة خاصة، تحاول الحياة السياسية خنق شروطها الأولية، أي المجتمع البورجوازي وعناصره، لكي تبني نفسها كحياة اجتماعية، حقيقية ومطلقة للإنسان. ولكنها لا تستطيع بلوغ هذه الغاية، إلا عبر التناقض العنيف لشروط وجودها الخاصة، وبإعلانها الثورة، في حالة دائمة، وهكذا فالمأساة السياسية تنتهي بإعادة الدين، والملكية الخاصة، وجميع عناصر المجتمع البورجوازي، تماماً كما تنتهي الحرب بالسلم.

 

الدولة الدينية والدولة الديمقراطية

أجل، ليست الدولة المسماة المسيحية، التي تعترف بالمسيحية أساساً لها وتعترف بها ديناً للدولة، وتتخذ – إذن – موقفاً متميزاً حيال الأديان الأخرى، هي الدولة المسيحية الكاملة، بل هي على الأصح الدولة الملحدة، الدولة الديمقراطية، الدولة التي تضع الدين بين سائر عناصر المجتمع البورجوازي. والدولة التي ما تزال، بعد، لاهوتية، وتجاهر بقانون الإيمان المسيحي، والتي لما تجرؤ على إعلان نفسها دولة، ولم تنجح بعد في شكلها الدنيوي والإنساني، وفي حقيقتها بوصفها دولة، هذا الأساس في التعبير عن الأساس البشري الذي نعتبر أن المسيحية هي التعبير المثالي عنه. إن ما يسمى الدولة المسيحية من حيث هي دين لا تستطيع وإنما الأساس البشري للدين المسيحي هو الذي يستطيع أن يحقق في إبداعات إنسانية حَقَّة.

إن الدولة المسمّاة دولة مسيحيّة هي النفي المسيحي للدولة، ولكنها ليست إطلاقاً التحقيق السياسي للمسيحية. إن الدولة التي ما تزال تمارس المسيحية في شكل دين، لا تمارسها، بعد، في شكل دولة، ذلك لأنها ما تزال تقف من الدين موقفاً دينياً.

وبتعابير أخرى نقول إن دولة كهذه ليست التحقيق الفعلي للأساس الإنساني، ذلك لأنها ما تزال تعود إلى الوهم، بالشكل الخيالي لهذه النواة البشرية. إن الدولة المسمّاة دولة مسيحية هي الدولة غير الكاملة، والدين المسيحي هو في نظره المكمل لنقصها والمكرس له. فالدين يصبح – إذن – بالنسبة إليها، وسيلة ضروريَّة، وهي دولة النفاق. وثمة فرق عظيم بين هذين الواقعين: فأما أن تحسب الدولة الكاملة الدين، بسبب النقيصة المُلاَزِمة لجوهر الدولة العام، في عداد شروطها، وإمّا أن تنادي الدولة الكاملة، بسبب من النقيصة الملازمة لوجودها الخاص، يعني من حيث هي دولة ناقصة، تنادي بالدين أساساً لها. وفي هذه الحالة الأخيرة، يتحوَّل الدين إلى سياسة ناقصة. وفي الحالة الأولى، يظهر في الدين نقص السياسة الكاملة. إن الدولة المسمّاة دولة مسيحية تحتاج إلى الدين المسيحي لتكتمل كدولة، والدولة الديمقراطية، الدولة الحقيقية، ليست في حاجة إلى الدين لاكتمالها السياسي، بل هي تستطيع على العكس، أن تضرب صفحاً عن الدين، ذلك لأنَّ الأساس الإنساني للدين متحقق فيها بصورة دنيوية، إن الدولة المسماة دولة مسيحية تقف على العكس موقفاً سياسياً إزاء الدين، وموقفاً دينياً إزاء السياسة. فإذا كانت تحط من الأشكال السياسية في الظاهر، فإنها تخط كذلك من شأن الدين، بنفس القدر.

ولكي يَفْهم القارئ هذا التعارض فهماً أفضل، سوف نفحص البناء الذي يُقَدِّمه لنا باور عن الدولة المسيحية، وهو بناء توصل إليه نتيجة لدراسته للدولة الجرمانية – المسيحية.

يقول باور: « لقد جرى التذكير منذ زمن قريب جداً، في مناسبات عديدة، ابتغاء الدليل على استحالة وجود الدولة المسيحية أو لعدم وجودها، بتلك الأقوال من الانجيل التي ليس فقط لا تتبعها الدولة المعاصرة، بل لا تستطيع أن تتبعها أيضاً إلا إذا كانت تريد أن تحلّ ذاتها انحلالاً كاملاً ». « ولكم لا تنتهي المسألة بهذه السهولة. فبماذا تطالب هذه الأقوال الانجيلية؟ إنكار الذات غير الطبيعي، والخضوع لسلطة الوحي، والعزوف عن الدولة، والترفع على الحياة الدنيويَّة. بيد أنَّ هذا كله تطالب به الدولة المسيحية وتحققه. لقد تمَثَّلت روح الانجيل وإن كانت لا تعبر عن ذلك بالحروف نفسها التي يستخدمها الانجيل، فهذا ناتج بكل بساطة عن كون الدولة تعبر عن هذه الروح بأشكال سياسية، يعني بأشكال مستعارة حقاً من النظام السياسي لهذا العالم. ولكنها في الانبعاث الديني الذي كان عليها أن تمرّ به اختصرت إلى مظهر وحسب. إنه العزوف عن الدولة الذي يحترم أشكالها، الأشكال السياسية (ص55).

ويواصل باور بعد ذلك عرضه: « إن شعب الدولة المسيحية لم يعُدْ شعباً، حيث لم يعد يملك إرادة خاصة به، ويكمن وجوده الحقيقي في الرئيس الذي يخضع له، ولكن هذا الرئيس، من جهته، هو من حيث أصله، وطبيعته، غريب بما أنه فُرِض على الشعب من قِبَل الله دون أن يكون للشعب بذاته أدنى رأي في الموضوع.

فقوانين هذا الشعب ليست من صنعه الخاص، وإنما هي كلمات موحى بها، ويحتاج الذي أوحى في علاقاته مع الشعب الحقيقي، مع الجماهير، إلى وسطاء مُتَميزين، وهذه الكتلة الجماهيرية تتمايز هي نفسها إلى طائفة من الدوائر تكوِّنها وتُحَدِّدها المصادفة، وهي دوائر تختلف من حيث مصالحها وأهوائها الخاصة، وأحكامها المسبقة الخاصة، والتي تبيح لنفسها، بدلاً من الامتياز، الانفصال بعضها عن بعض، الخ. » (ص 56) ولكن باور يقول هو نفسه: « وإذا توجب على السياسة أن لا تكون غير الدين، فعليها ألا تكون سياسة، تماماً كما أن تنظيف القدور، إذا كان يُعتَبر عملاً دينياً، فبجي أن لا ينظر إليه بمثابة شأن بيتي.» (ص108) بيد أن الدين في الدولة الجرمانية المسيحية، هو « شأن اقتصادي » تماماً كما يكون « الشأن الاقتصادي » ديناً. إن سلطة الدين في الدولة الجرمانية المسيحية هي دين السُلْطة.

إن فصل « روح الانجيل » عن « حرفه » يُشكّل عملاً لا دينياً. إن الدولة التي تُنطِق الانجيل بحروف السياسة، بحروف غير حروف الروح القُدُس، ترتكب خرقاً للقدسيّات، إن لم يكن في نظر الناس فعلى الأقل من وجهة نظرتها الدينية الخاصة، والدولة التي تعلن الانجيل دستوراً لها، والمسيحية ناموساً أسمى، يجب أن نعارضها بأقوال الكتاب المُقدّس. ذلك لأن الكتاب المقدس مقدّس حتى في كلماته. إن هذه الدولة تماماً مثل « القمامات البشرية » التي هي مشيدة عليها، تنضوي في تناقض أليم لا يمكن حله من وجهة نظر الوعي الديني حين يحيلها المرء إلى كلمات الانجيل هذه التي « لا تتلاءم الدولة معها بل لا تستطيع أن تتلاءم إلا إذا أرادت أن تنحلّ إنحلالاً كاملاً».

ولماذا لا تريد أن تنحل إنحلالاً كاملاً؟ إن الدولة المسيحية الرسمية هي أمام ضميرها الخاص، « صيرورة » يستحيل تحقيقها وهي لا تستطيع أن تتحقق من حقيقة وجودها إلا بكذبها على نفسها، لذلك تبقى في نظر نفسها موضعاً للشك، ومسألة إشكالية، لا يمكن الاعتماد عليها. إذن فالنقد يكون محقاً بصورة مطلقة حين يرغم الدولة المرتكزة على الكتاب المقدس، على تشويش ضميرها تشويشاً تاماً، على نحو أنه لا يعرف هو نفسه إن كان وهماً أم واقعاً، ان دناءة غايتها الدنيوية، التي يخدم الدين بمثابة ستار لها، تدخل في منازعة لا تنحل مع نزاهة وعيها الديني، الذي يبدو الدين في نظره غاية العالم. هذه الدولة لا تستطيع أن تنجو من عذابها الداخلي إلا إذا أصبحت عنصراً معاوِناً للكنيسة الكاثوليكية. وإزاء هذه الكنيسة التي تعلن أن السلطة الدنيوية خاضعة لها خضوعاً تاماً، تكون الدولة عاجزة، لا حول للسلطة الدنيوية التي تدعي سيادة الروح الديني.

وما له قيمة في الدولة المسماة دولة دينية ليس هو الإنسان، وإنما هو التخلي عن الجوهر الإنساني. والإنسان الوحيد الذي يُحْسَب له حساب، أي الملك، يختلف نوعياً عن الناس الآخرين وهو، من جهة أخرى، كائن ما يزال دينياً، وهو مرتبط مباشرة بالسماء وبالله. والعلاقات القائمة هنا ما تزال علاقات مؤسسة على الإيمان. فالروح الديني لم يصبح بعد دنيوياً في الواقع.

ولكن الروح الديني لا يستطيع أن يصبح دنيوياً في الواقع، وأي شيء يمكن أن يكون في الواقع إن لم يكن الشكل الذي ليس دنيوياً إطلاقاً، من تطور الذهن البشري؟ إن الروح الديني لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت درجة تطور الذهن البشري، الذي هو التعبير عنها، تظهر وتتجسد في شكلها الدنيوي. وهذا ما يحدث في الدولة الديمقراطية. وما يكوّن أساس هذه الدولة، ليس هو المسيحية، وإنَّما الأساس الإنساني للمسيحية. ويظل الدين هو الوعي المثالي لا الدنيوي لأعضائه، ذلك لأنه الشكل المثالي لدرجة تطوّر بشرية تتحقق فيه.

وأعضاء الدولة السياسيَّة هم دينيّون، بثنائية الحياة الفردية والحياة الاجتماعية، حياة المجتمع البورجوازي والحياة السياسية.وهم دينيون، بمعنى أن الإنسان يعبتر الحياة السياسية القائمة فيها وراء فرديته الخاصة، بمثابة حياته الحقيقية. وهم دينيون، بمعنى أنَّ الذين هو هنا روح المجتمع البورجوازي، والتعبير عما يفصل الإنسان عن الإنسان ويباعد بينهما. إن الديمقراطية السياسية هي مسيحية، بمعنى أن الإنسان، ليس فقط الإنسان الواحد، ولكن كل إنسان، هو فيها كائن مسيطر، كائن أسمى، ولكنه الإنسان غير المثقف وغير الاجتماعي، الإنسان في وجوده العارض، الإنسان كما هو، الإنسان كما أُفْسِد بفعل جميع نواحي التنظيم في مجتمعنا، وفَقَد ذاته، وتخلى عن جوهره، ووُضع تحت سلطة شروط وعناصر غير بشرية. وبكلمة واحدة، الإنسان الذي ليس بعد كائناً بشرياً حقيقياً. إن الصورة الخيالية، الحلم، مُسَلمَّة المسيحية، هو سيادة الإنسان، ولكن سيادة الإنسان من حيث هو كائن مختلف اختلافاً مطلقاً عن الإنسان الواقعي، هذا كله يصبح في الديمقراطية مبدأ دنيوياً، بعد أن كان واقعاً ملموساً، حاضراً.

إن الوعي الديني واللاهوتي يظهر لذاته في الديمقراطية الكاملة، أكثر دينية وأكثر لاهوتية بمقدار ما هو، في الظاهر دون مدلول سياسي، ودون أغراض دنيوية، وبمقدار ما هو شأن من شؤون القلب، عدَّو الدنيا، والتعبير عن طبيعة العقل المحدود، ونتاج الاعتباطية والهوى، وحياة حقيقية في الماوراء. وتتوصل المسيحية هنا إلى التعبير العملي عن مدلولها الديني الشامل، ذلك لأن أكبر مفاهيم العالم اختلافاً تجيء لكي تتجمع في صيغة المسيحية، وخصوصاً لأن المسيحية لا تقتضي ممارسة هذا الدين بالذات، وإنما تقتضي أن يكون للإنسان دين، أيّ دين (انظر بومون). إن الوعي الديني يتلذذ بغنى التناقض الديني والتنوّع الديني.

 

طريق التحرر الجذري

لقد بينَّا – إذن – أن الإنسان عند تحرّره من الدين يُبْقي على الدين، وإن كان هذا لم يَبْقَ ديناً متميزاً. إن التناقض الذي يجد تابع أحد الأديان نفسه فيه، التناقض إزاء صفته مواطناً، ليس إلا جزءاً من التناقض الشامل بين الدولة السياسية والمجتمع البورجوازي. إن اكتمال الدولة المسيحية إنما هو الدولة التي تعرّف نفسها بمثابة دولة، وتضرب صفحاً عن دين أتباعها. إن تحرّر الدولة من الدين ليس هو تحرر الإنسان الواقعي من الدين.

ونحن لا نقول إذن، مع باور لليهود: إنكم لن تستطيعوا الانعتاق سياسياً دون أن تتحرّروا من اليهودية تحرّراً جذرياً. بل نقول لهم: إنما بسبب أنكم لا تستطيعون أن تتحرّروا سياسياً دون أن تنفصلوا انفصالاً كاملاً مطلقاً عن اليهودية، يكون التحرّر السياسي نفسه ليس هو التحرّر الإنساني. فإن كنتم تريدون أن تتحرّروا سياسياً دون أن تحرّروا أنفسكم إنسانياً، فإن النقص والتناقض ليس فيكم وحدكم، وإنما أيضاً في جوهر مقول التحرّر السياسي. فإن كنتم مُشْبَعين بهذه المقولة، فإنكم تشاركون في الوهم العام. فإذا كانت الدولة الانجيلية تتصرّف كدولة مسيحية إزاء اليهود على رغم كونها دولة، فإن اليهودي يكون عاملاً في السياسة إذا كان يطالب بحقوق المواطن على رغم كونه يهودياً.

ولكن حين يستطيع الإنسان، على رغم كونه يهودياً، أن يتحرّر سياسياً وينال حقوق المواطنة هل يستطيع المطالبة بما يسمى حقوق الإنسان؟ يجيب باور عن هذا بالنفي.  فالأمر يتعلق بمعرفة ما إذا كان اليهودي في ذاته، يعني اليهودي الذي يُقِرّ بأنه مرغم بسبب جوهره الحقيقي على أن يعيش أبداً منفصلاً عن الآخرين، صالحاً لتلقي حقوق الإنسان العامة ومنحها لسواه ».

« إن فكرة حقوق الإنسان لم تُكْتَشف بالنسبة إلى العالم المسيحي إلا في القرن الماضي (أي القرن الثامن عشر – س). إنها ليست غريزية في الإنسان. وعلى العكس، فهي لا تُكتَسَب إلا أثناء النضال ضد التقاليد التاريخية التي نشأ عليها الإنسان حتى اليوم. فحقوق الإنسان ليست – إذن – هبة من الطبيعة، ولا نعمة من التاريخ الغابر، وإنما هي ثمن النضال ضد مصادفات النَسَب وضد الامتيازات، التي نقلها التاريخ حتى الآن من جيل إلى جيل. إنها نتائج الثقافة. وإنما يستطيع أن يمتلكها ذلك الذي استحقها واكتسبها وحسب ».

« وهل يستطيع اليهودي أن يمتلكها حقاً؟ إنه ما بقي يهودياً، فالجوهر المحدود الذي يجعل منه يهودياً، سوف يتغلب بالضرورة على الجوهر الإنساني الذي كان ينبغي أن يربطه بوصفه إنساناً بسائر الناس. وهو يعزله عمَّنْ ليس يهودياً. وهو يعلن بهذا الانفصال، أن الجوهر الخاص الذي يجعل منه يهودياً هو جوهره الحقيقي الأسمى الذي ينبغي أن يمحي أمامه جوهر الإنسان ».

«وكذلك المسيحي بوصفه كذلك، لا يستطيع أن يمنح حقوقاً للإنسان.» (ص 19-20)

يرى باور أن على الإنسان التضحية بـ « مبدأ الإيمان » لكي يستطيع أن يتلقى الحقوق العامة للإنسان. فلنفحص لحظةً ما يُسمى حقوق الإنسان، ولنفحص حقوق الإنسان في شكلها الحقيقي، في الشكل الذي نجدها عليه عند مبتكريها، عند الأميركيين الشماليين، والفرنسيين!..

فحقوق الإنسان هذه هي، في شطر منها، حقوق سياسية، حقوق لا يمكن ممارستها إلا إذا كان الإنسان عضواً في مُتَحّد جماعة. المشاركة في الحياة السياسية العامة، في حياة الدولة، هذا هو مضمونها. فهي تندرج في مقولة الحرية السياسية، في مقولة الحقوق الدينية التي كما رأينا، لا تفترض أبداً الإلغاء الوضعي المحتوم للدين، ولا لليهودية. وبالتالي، يبقى علينا فحص القسم الآخر، يعني حقوق الإنسان من حيث اختلافها عن حقوق المواطن.

«لا ينبغي أن يُضْطَهَد أي إنسان بسبب آرائه، حتى ولو كانت دينية.»  إعلان حقوق الإنسان والموطن، 1791، الباب العاشر). وفي الباب الأول من دستور 1791 ضُمنت « حرية كل إنسان في ممارسة العبادة الدينية التي ينتسب إليها » وذلك بوصف هذه الحرية حقاً من حقوق الإنسان.

إن إعلان حقوق الإنسان عام 1793، يُعدد من بين حقوق الإنسان، المادة السابعة، « حرية ممارسة العبادات ». بل ثمة ما هو أكثر من ذلك، فقد قيل في موضوع حق التعبير عن الأفكار والآراء، وحق الاجتماع، وممارسة العبادة: « إن ضرورة تعداد هذه الحقوق تفترض إما وجود الاستبداد، وإما وجود ذكراه القريبة. ( انظر دستور 1795، الباب الثاني عشر، المادة 354).

« لقد تلقى جميع الناس من الطبيعة حقاً غير قابلاً للإلغاء، في عبادة الله الكي القدرة، حسبما توحي إليهم ضمائرهم، ولا يمكن أن يرغم أحد، قانوناً، على اتِّباع أي مذهب ديني أو عبادة ما، أو أن يرغم على إقامتها أو اعتناقهما ضد رغبته، وليس ثمة أية سلطة بشرية، اطلاقاً، تستطيع، في أية حال من الأحوال، أن تتدخل في مسائل الضمير، وتراقب قوى الروح.» ( دستور بنسلفانيا – الباب التاسع – المادة الثالثة).

« وثمة في عداد الحقوق الطبيعية حقوق لا يمكن التخلي عنها، من حيث طبيعتها، ذلك لأنه ليس ثمة شيء يستطيع أن يكون معادلاً لها. ومن بينها حقوق الضمير » (دستور نيوهامشير – المادتان الخامسة والسادسة) (بومون – ص 213 – 214).

وإننا لنجد أثراً ضئيلاً جداً استحالة التوفيق بين الدين وحقوق الإنسان في مفهوم حقوق الإنسان ذاته، حتى إن حق الإنسان في أن يكون متديناً وأن يكون ذلك وفق هواه، وأن يمارس فروض دينه الخاص، محسوبة بصراحة من عداد حقوق الإنسان. فامتياز الإيمان هو حق عام من حقوق الإنسان. ويجري التمييز بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن. من هو هذا الإنسان المتميز عن المواطن؟ إنه ليس إلا عضو المجتمع البورجوازي، ولماذا يُسمى عضو المجتمع البورجوازي « إنساناً »، إنساناً وحسب، ولماذا تسمى حقوقه  حقوق الإنسان؟ بماذا يُفسر هذا الواقع. بالعلاقة بين الدولة السياسية والمجتمع البورجوازي، بجوهر التحرّر السياسي؟

ولنلاحظ، بادئ بدء، واقع أن حقوق الإنسان المتميزة عن حقوق المواطن، ليست إلا حقوق عضو المجتمع البورجوازي، يعني الإنسان الأناني، الإنسان المفصول عن الإنسان وعن المتَّحد. وعبثاً ينادي أكثر الدساتير جذرية، دستور سنة 1793: « المادة الثانية – إن هذه الحقوق (الحقوق الطبيعية، والتي لا يمكن فسخها) هي: المساواة، الحريّة، الأمن، الملكية».

وفيم تقوم الحرية؟ « المادة6 – الحرية هي القدرة التي يملكها الإنسان، القدرة على أن يفعل كل مالا يَضُرُُّ بحقوق الآخرين ». أو أيضاً، حسب وثيقة إعلان حقوق الإنسان الصادرة سنة 1791 « تكمن الحرية في استطاعة الإنسان أن يفعل كل ما لا يضرّ بالآخرين ».

الحرية هي – إذن – الحق في القيام بكل ما يضرّ الآخرين. والحدود التي يستطيع كل إنسان أن يتحرك فيها دون أن يضرَّ الآخرين، مُحَدَّدة بالقانون، كما أن الحد بين حَقْليْن يُعيّنه وَتَد. ويتعلق الأمر بحرية الإنسان المنظور إليه كجوهر فرد منعزل، منطوٍ على ذاته. ولماذا لا يكون اليهودي، حسب رأي باور، قابلاً لتلقّي حقوق الإنسان؟ « إنه ما بقي يهودياً، فالجوهر المحدود الذي يجعل منه يهودياً سوف يَتغَلب حتماً على الجوهر الإنساني الذي كان ينبغي له أن يحقق الارتباط بوصفه إنساناً بينه وبين سائر الناس ». ولكن حق الإنسان في الحرية، لا يرتكز على علاقات الإنسان بالإنسان، وإنما في الأصح على انفصال الإنسان عن الإنسان. إنه الحق في هذا الانفصال، حق الفرد المحدود بذاته.

إن التطبيق العملي لحق الحرِّية إنما هو حق الملكية الفردية. ولكن فيم يقوم هذا الحق الأخير؟

« حق الملكية إنما هو حق كل مواطن في التمتع والتصرُّف وفق مشيئته بأمواله ومداخيله وبثمرة عمله وصناعته ». (دستور 1793 – المادة السادسة عشرة).

فحق الملكية هو – إذن – حق الإنسان في التمتع بثروته والتصرُّف بها وفق مشيئة، دون الاهتمام بسائر الناس، وبصورة مستقلة عن المجتمع. إنه الحق في الأنانية، وهذه الحرية الفردية، مع تطبيقها، هي التي تؤلف أساس المجتمع البورجوازي. وهي تبيّن لكل إنسان في الإنسان الآخر، ليس تحقيق حريته وإنما تقييدها على الأصح. إنها تنادي بادئ بدء بحق الإنسان في « التمتع والتصرّف وفق مشيئته بأمواله ومداخيله وثمرة عمله وصناعته ».

وتبقى سائر حقوق الإنسان، المساواة والأمن.

ليس لكلمة مساواة هنا مدلول سياسي. إنها ليست إلا المساواة في الحرية المُعَرَّفة في سطور سابقة: إن كل إنسان معتبر في آن واحد بمثابة ذرة مرتكزة على ذاتها. إن دستور 1795 يعين مدلول هذه المساواة « المادة الخامسة. إن المساواة تقوم في أن القانون واحد بالنسبة إلى الجميع، سواء حين يحمي أو حين يعاقب ».

والأمن؟ يقول دستور 1793 « المادة الثامنة. يقوم الأمن في الحماية التي يمنحها المجتمع لكل من أعضائه لحفظ حياته وحقوقه ومُلْكياته ».

إن الأمن هو أسمى مبدأ اجتماعي للمجتمع البورجوازي هو مفهوم الشرطة. إن المجتمع بأسره ليس موجوداً إلا لكي يضمن لكلٍ من أعضائه حفظ حياته وحقوقه وملكياته. وإنما بهذا المعنى يُسَمِّي هيغل المجتمع البورجوازي « دولة الحاجة والعقل.»

إن مفهوم الأمن لا يكفي، بعد، لكي يَسْمو المجتمع البورجوازي فوق أنانيته. فالأمن هو، بتعبير أصح، ضمان لأنانيته.

فليس ثمة – إذن – أي حق من حقوق الإنسان يتَخَطى الإنسان الأناني، الإنسان كما هو، عضو المجتمع البورجوازي، يعني فرداً مفصولاً عن المجموع، ومنطوياً على ذاته، ومنشغلاً فقط بمصلحته الشخصية، ومستجيباً لحكمه الفردي الخاص. فالإنسان ليس منظوراً إليه، في هذه الحقوق، بمثابة كائن بشري اجتماعي، بل على العكس تماماً، فإن الحياة البشرية نفسها، أي المجتمع، تظهر بمثابة إطار خارجي عن الفرد، بمثابة تحديد حريته الأولية. والرابطة الوحيدة التي توحد بينهما، إنما هي الضرورة الطبيعية، حاجة المصلحة الخاصة، يعني ضرورة الاحتفاظ بملكيتها وشخصيتها الأنانية.

وقد أصبح من الصعب تفسير كيف أن شعباً من الشعوب، تماماً عند أخذه بالتحرّر، وإسقاط جميع الحواجز بين مختلف أعضاء الشعب، وتأسيس متحد سياسي، ينادي  بأبهة (1791) بحق الإنسان الأناني، المفصول عن مثيله وعن المتحد، بل ويعود إلى هذه المناداة في وقت ليس لإنقاذ الوطن فيه من سبيل إلا بأشد ألوان الإخلاص بطولة، ويكون – إذن – مطلوباً بصورة ملحة بجميع منافع المجتمع البورجوازي، معاقبة الأنانية كجريمة (1793). وتصبح المسألة أكثر غموضاً وإبهاماً حين نلاحظ أن التحرّر السياسي يجعل من المجتمع السياسي، من المجتمع المدني، مجرد وسيلة عليها أن تخدم لحفظ حقوق الإنسان هذه، وأن المواطن يُنَادَى به – إذن – خادماً « للإنسان » الأناني، وأن الدائرة التي يعمل فيها الإنسان بصفته كائناً اجتماعياً، تتدنى إلى ما دون الدائرة التي يعمل فيها الإنسان بصفته كائناً جزئياً، وأخيراً أن الإنسان من حيث هو بورجوازي، وليس الإنسان من حيث هو مواطن، هو المعتبر بمثابة إنسان حقيقي صحيح.

« إن غاية كل تجمع سياسي هو الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يمكن إلغاؤها.. » (إعلان حقوق الإنسان، 1791 – المادة الثانية). « تقام الحكومة لتضمن للإنسان التمتع بحقوقه الطبيعية التي لا يمكن إبطالها » (إعلان– 1793 – المادة الأولى). إذن فالحياة السياسية حتى في عهود حماستها التي ما تزال فتية، والتي تدفعها قوة الظروف إلى حدِّها الأقصى، تعلن أنها ليست إلا مجرد وسيلة، وأن غايتها هي حياة المجتمع البورجوازي. حقاً يتناقض عملها الثوري تناقضاً فاضحاً مع نظريتها. مثلاً، على حين أن الأمن يُعْلَن حقاً من حقوق الإنسان، فإن خرق سرية المراسلة وضع موضع التطبيق. وعلى حين « إن الحرية غير المحدودة للصحافة » هي مضمونة (إعلان – 1793 – المادة 122) بوصفها نتيجة مترتبة على الحق بالحرية الفردية، فإن حرية الصحافة قُضِي عليها قضاءً تاماً، ذلك « لأن حرية الصحافة يجب أن لا يسمح بها حين تمس الحرية العامة ». (روبسبيير الشاب – التاريخ البرلماني للثورة الفرنسية. بقلم «روشيز» و «رو» الجزء الثامن والعشرون، ص 135). وهذا معناه القول: إن الحق بالحرية يكفّ عن أن يكون حقاً منذ أن يدخل في منازعة مع الحياة السياسية، على حين أن الحياة السياسية، من الناحية النظرية، ليست إلا الضمانة لحقوق الإنسان، لحقوق الإنسان الفردي، ويجب إذن أن تُعَلَّق منذ أن تصبح متناقضة مع غايتها التي هي، حقوق الإنسان ولكن التطبيق هو الاستثناء والنظرية هي القاعدة. وحتى حين يراد اعتبار التطبيق الثوري بمثابة الوضع الصحيح للعلاقة، يبقى دائماً من الواجب حل هذه القضية: لماذا انقلبت هذه العلاقة في ذهن المحرّرين السياسيين، رأساً على عقب، حيث الغاية أصبحت تبدو وسيلة والوسيلة غاية؟ إن خداع النظر هذا في وعيهم سوف يبقى دائماً هو المشكلة نفسها، لكن من ناحية نفسية ونظرية.

غير أن حل هذه القضية بسيط.

إن التحرّر السياسي هو في الوقت نفسه انحلال للمجتمع القديم الذي ترتكز عليه الدولة، حيث لم يكن الشعب يلعب أي دور، يعني انحلال سلطة الملك. إن الثورة السياسية إنما هي ثورة المجتمع البورجوازي. ماذا كان طابع المجتمع القديم؟ كلمة واحدة تميزه: الإقطاعية. لقد كان للمجتمع البورجوازي القديم طابع سياسي مباشر، يعني أن عناصر الحياة البورجوازية، كالملكية مثلاً أو الأسرة أو أسلوب العمل، كانت قد ارتقت في ظل الإمارة، أو الطائفة المقفلة، أو الطائفة المهنية، لتصبح عناصر حياة الدولة. لقد كانت تحدِّد، في ظل هذا الشكل. علاقة الفرد الخاص بمجموع الدولة، يعني وضعه السياسي الذي كان به مبعداً ومفصولاً عن عناصر المجتمع الأخرى. والواقع أن هذا التنظيم للحياة الشعبية لم يرفع الملكية إلى مستوى عناصر اجتماعية، بل إنه في الأصح أنجز فصلها عن جسم الدولة وجعل منها مجتمعات خاصة تعيش ضمن المجتمع. ولكن على هذا النحو، من وجهة نظر الإقطاعية على الأقل، ظلت الوظائف الحيوية والشروط الحيوية للمجتمع البورجوازي سياسية، وبتعبير آخر: كانت تفصل الفرد عن جسم الدولة. والعلاقة الخاصة التي كانت موجودة بين طائفة الفرد المهنية وجسم الدولة كانت تحوِّلها إلى علاقة عامة بين الفرد والحياة الشعبية، كما أنها كانت تجعل من نشاطه ووضعه البورجوازيين المعنيين نشاطاً ووضعاً عامَّين وبمثابة نتيجة لهذا التنظيم. فوحدة الدولة، وكذلك وعيها وإرادة وحدتها، والسلطة السياسية العامة، تظهر أيضاً بمثابة شأن خاص بملك مفصول عن الشعب وعن خَدَمه،

إن الثورة السياسية التي قلبت سلطة الملك هذه وجعلت من شؤون الدولة شؤوناً للشعب، وكوَّنت الدولة السياسية كشأن عام، يعني دولة واقعية، حَطمَّت، بالضرورة كل شيء: الطبقات، والطوائف المهنية، والقيِّمين على مصالحها، والامتيازات، تلك التي لم تمثل دلالة واضحة على أن الشعب كان مفصولاً عن وجوده الاجتماعي.

فالثورة السياسية ألغت – إذن – الطابع السياسي للمجتمع البورجوازي. لقد فككت المجتمع البورجوازي إلى عناصره البسيطة، الأفراد من جهة، ومن جهة أخرى العناصر المادية والروحية التي تشكل مضي الحياة والوضع البورجوازي لهؤلاء الأفراد.

لقد أطلقت الروح السياسية من عقالها، إذا صح التعبير، تلك التي كانت مفككة ومجزأة وضائعة في مآزق المجتمع الإقطاعي.

لقد جمَّعت فتاتها الشتيتة وحرّرتها من اختلاطها بالحياة البورجوازية وجعلت منها دائرة المُتحد، دائرة القضية العامة للشعب، التي هي مستلقة نظرياً عن هذه العناصر الخاصة للحياة البورجوازية.

ولم يعد للنشاط المعين، وموقف الحياة المعين، إلا أهمية فردية. ولم تعد تشكل العلاقة العامة بين الفرد والدولة، بل إن الشؤون العامة، المُعْتبرة بوصفها كذلك، تُصْبِح في الأصح، الشؤون العامة لكل فرد، والوظيفة السياسية تصبح وظيفة عامة.

ولكن اكتمال مثالية الدولة كانت في الوقت نفسه اكتمال مادية المجتمع البورجوازي. وكان التخلص من النير السياسي تخلصاً من القيود التي تعرقل الروح الأنانية للمجتمع البورجوازي في نفس الوقت.

لقد كان التحرّر السياسي، في الوقت نفسه، تحرّر المجتمع البورجوازي من السياسة، وحتى من مظهر أن يكون له مضمون ذي صفة عامة.

لقد انحلّ المجتمع الإقطاعي في أساسه، يعني الإنسان، لكن الإنسان كما كان في الواقع، يعني الإنسان الأناني.

بيد أن هذا الإنسان، عضو المجتمع البورجوازي، هو أساس وشرط الدولة السياسية. لقد اعترفت به الدولة، بهذه الصفة، في حقوق الإنسان.

ولكن حرية الإنسان الأناني والاعتراف بهذه الحرية هما في الأصح، الاعتراف بحركة هذه العناصر الفكرية والمادية الجامحة، التي تُشكل مضمونها.

إذن فالإنسان لم يتحرّر من الدين، بل لقد تلقى الحرية الدينية. ولم يجر تحريره من الملكية، بل نال حرية المُلْكِيَّة. إنه لم يتحرّر من أنانية الحرفة والصنعة، بل لقد نال حرية الحرفة والصنعة.

إن إنشاء الدولة السياسية وانحلال المجتمع البورجوازي إلى أفراد مستقلين، تضبط الحقوق علاقاتهم، كما كانت علاقات الطوائف المهنية، و«الجوراندات» Jurandes مضبوطة بالامتيازات، تمَّا بعملٍ واحد. فالإنسان كما هو عضو المجتمع البورجوازي، الإنسان غير السياسي، يبدو بالضرورة بمثابة الإنسان الطبيعي. وتبدو حقوقه كما لو كانت حقوقاً طبيعية، ذلك لأن النشاط الواعي يتركز في العمل السياسي. إن الإنسان الأناني هو النتيجة السلبية، المبينة ببساطة، للمجتمع المنحلّ، وهو موضوع اليقين المباشر، يعني أنع معطى طبيعياً. إن الثورة السياسية تفكّك الحياة البورجوازية إلى عناصرها دون أن تُحدث الثورة في هذه العناصر نفسها أو تتناولها للنقد، فهي – أي الثورة السياسية – ترى المجتمع البورجوازي، وعالم الحاجات، والعمل، والمنافع الخاصة، والحق الخاص، كأساس لوجودها، مثل نسبتها إلى فرضية لا تقتضي الإثبات، إذن، مثل نسبتها إلى أساسها الطبيعي. وأخيراً، فالإنسان، كما هو، عضو المجتمع البورجوازي هو معتبر بمثابة الإنسان بالمعنى الدقيق للكلمة، الإنسان يتعارض مع المواطن، ذلك لأنه الإنسان في وجوده المباشر، المحسوس والفردي. على حين أن الإنسان السياسي ليس إلا الإنسان المجرّد، المصطنع، الإنسان من حيث هو شخص رمزي، معنوي. والإنسان الحقيقي لا يتعرَّف إليه إلا في شكل الفرد الأناني، والإنسان الواقعي في شكل المواطن المجرَّد.

يصف لنا روسو وصفاً رائعاً هذا التجريد للإنسان السياسي فيقول: « إن ذلك الذي يجرؤ على الشروع بوضع الشرائع لشعب من الشعوب، عليه أن يحس بأنه قادر أن يغيّر الطبيعة البشرية، إذا صح التعبير، أن يحوّل كل فرد الذي هو من في ذاته كل كامل إلى جزء من كل أكبر، يتلقى منه هذا الفرد، بمعنى من المعاني، حياته ووجوده، وإحلال وجود جزئي ومعنوي محل الوجودي الجسدي المستقل. وعليه أن ينزع من الإنسان قواه الخاصة ليمنحه قوى غريبة عنه وقوى لا يستطيع استخدامها دون معونة الآخرين. » (العقد الاجتماعي - الكتاب الثاني).

إن كل تحرير ليس إلا إعادة العالم الإنساني، والعلاقات الإنسانية إلى الإنسان ذاته.

الانعتاق السياسي إنما هو تحويل الإنسان، من جهة، إلى عضو من أعضاء المجتمع البورجوازي، أي إلى فرد أناني مستقل، ومن وجهة أخرى، إلى مواطن، إلى شخص معنوي.

ولا يتحقق التحرّر الإنساني إلا حين ينصرف الإنسان عن أن يكون مواطناً مجرداً ويصبح عضواً في المجتمع وحين ينصرف إلى قواه الخاصة بوصفها قوى اجتماعية، وحين يُنظمها فلا تنفصل القوة الاجتماعية في هيئة قوة سياسية، عندها فقط يكون التحرّر الإنساني قد تحقّق.

 

قدرة يهود ومسيحي اليوم على التحرّر

لبرونو باور (الملزمة الحادية والعشرون، ص 56 – 71)

تحت هذه الصيغة يدرس باور علاقات الدينين المسيحي واليهودي، وكذلك علاقتهما بالنقد. وهذه العلاقة الأخيرة هي علاقتهما بـ « قدرتهما في أن يصبحا متحرّرين ».

وهو يتوصل إلى هذه النتيجة: « ليس على المسيحي سوى أن يرتفع درجة، سوى أن يتخطى دينه، لإلغاء الدين بصورة عامة »، ويصبح بالتالي حراً. «أما اليهودي فعلى العكس، فهو مرغم على التخلي ليس فقط عن جوهره اليهودي، وإنما أيضاً عن تطوير دينه نحو الاكتمال، وهو تطوير ظلّ غريباً عنه » (ص71).

فباور يحوِّل هنا – إذن – مسألة التحرّر إلى مسألة دينية بحتة. فالتدقيق اللاهوتي الذي يُتساءل به أيهما أكثر حظاً في الوصول إلى السعادة الأبدية، اليهودي أم المسيحي، يتكرّر هنا في هذا الشكل الأكثر فلسفية: أيهما قادر على التحرّر؟ وبالتالي لم يعد السؤال هو: هل تحرّر اليهودية أو المسيحية الإنسان؟ بل يتساءلون، على العكس: ما الذي يجعل الإنسان أكثر حرية: نفي اليهودية أم نفي المسيحية؟

« إذا كان اليهود يريدون الحرية، فليس عليهم أن يعتنقوا المسيحية وحسب، وإنما عليهم أن يعتنقوا المسيحية المنحلة والدين المنحلّ، يعني الفلسفة، النقد ونتيجته، يعني الإنسانية الحرّة » (ص70).

فالأمر يتعلق دائماً باعتناق شيء من الأشياء، ليس المسيحية بالذات، وإنما المسيحية المنحلة.

يطالب باور اليهود بالانفصال عن جوهر المسيحية، ولكن هذا الطلب لا ينبع – وهذا ما يقوله هو نفسه – من تطور الجوهر اليهودي.

وحين لم يرّ باور في اليهودية، في نهاية المسألة اليهودية، إلا النقد الديني الفظ للمسيحية، ولم ينسب لها – إذن – إلا أهمية دينية بسيطة، كان من المنتظر تماماً أن يحوّل مسألة التحرّر إلى عمل فلسفي لاهوتي.

يعتبر باور الجوهر المثالي المجرد لليهودي، أي دينه، بمثابة جوهره كله. فهو يستنتج إذن بحق: « إن اليهودي لا يقدم للإنسانية شيئاً. حين يصرف النظر عن قانونه الخاص المحدود، ويتخلى عن يهوديته كلها » (ص65).

وتصبح العلاقة بين اليهود والمسيحيين هي – إذن – التالية:

إن الأهمية الوحيدة التي يعرضها تحرير اليهودي بالنسبة إلى المسيحي، إنما هي أهمية نظرية، ذات طابع إنساني عام. إن اليهودي واقع مهين في عين المسيحي الدينية. وما أن تكفّ عين المسيحي عن أن تكون عيناً دينية، حتى يكفّ هذا الواقع عن الإساءة إلهيا. فتحرير اليهودي ليس هو – إذن – في ذاته مهمة تناسب المسيحي ».

« واليهودي إذا كان يريد أن يتحرّر، فعليه، على العكس أن يقوم إلى جانب عمله الشخصي، بعمل المسيحي، بنقد الأناجيل الأربعة، ونقد حياة يسوع الخ..».

« عليهم هم أن يتدبروا أمرهم. إنهم هم الدين يقررن مصيرهم. ولكن التاريخ لا يسمح بأن يُهْزّأ به » (ص71).

نحن نحاول تحطيم الصيغة اللاهوتية. إن المسألة المتعلقة بإمكان تحرير اليهودي تتحول بالنسبة إلينا إلى هذه المسألة الأخرى: ما هو العنصر الاجتماعي الخاص اللازم للإلغاء اليهودي؟ ذلك لأن طاقة تحرير اليهودي الحديث هي علاقة اليهودية بتحرّر العالم اليوم. وهذه العلاقة تنتج بالضرورة وضعية اليهودية الشاذة في العالم الحديث المستَبعد.

 

واقع اليهودية: المتاجرة والمال

ولنفحص اليهودي الواقعي، وليس يهودي السبت، كما يفعل باور، بل اليهودي العادي.

يجب أن لا نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل فلنبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي.

ما هو الأساس الدنيوي لليهودية؟ المصلحة العملية، والمنفعة الشخصية. إذن فالعهد الحاضر بتحرّره من المتاجرة والمال، وبالتالي من اليهودية الواقعية والعملية، إنما يحرّر نفسه أيضاً.

والتنظيم الاجتماعي الذي يلغي الشروط الضرورية للمتاجرة، وبالتالي يلغي إمكانية المتاجرة، سوف يجعل وجود اليهودي مستحيلا. والوعي الديني لليهودي سوف يتلاشى، مثل بخار تافه، في جو المجتمع الحقيقي. ومن جهة أخرى فاليهودي منذ أن يقرّ ببطلان جوهره العملي ويبذل جهده لإلغاء هذا الجوهر، يحاول الخروج مما كان تطوره حتى ذلك الحي، ويعمل للتحرّر البشري العام ويتحوّل نحو أسمى تعبير عملي عن الاغتراب البشري عن الذات.

إذن فنحن نقر بأن ثمة في اليهودية عنصراً عاماً وحالياً مناهضاً للمجتمع. وهو عنصر دُفِعَ، بالتطوّر التاريخي الذي ساهم فيه اليهود، من هذه الوجهة السيئة، مساهمة نشيطة، إلى نقطة الأوج في الزمن الحاضر، إلى ارتفاع لا يستطيع معه إلا الانحلال.

إن التحرير اليهودي في معناه الأخير يقوم في تحرير الإنسانية من اليهودية.

لقد تحرّر اليهودي فعلاً، ولكن على الطريقة اليهودية. « فاليهودي مثلاً، الذي لا يُحْسَب له حساب، في فيينا، هو الذي يقرّر: بقوته المالية مصير المملكة كلها. إن اليهودي الذي قد يكون في أصغر الدول الألمانية، محروماً من الحقوق، هو الذي يقرّر مصير أوروبا ».

« وعلى حين أن الطوائف المهنية والجوراندات تبقى مقفلة في وجه اليهود، أو أنها لا تعطف عليهم، فإن جسارة الصناعة تهزأ بمؤسسات القرون الوسطى » (برونو باور، المسألة اليهودية، ص 14)( B. Bauer. Die Judenfrage, p 14).

وليس هذا حدثاً منعزلاً. فاليهودي تحرّر على الطريقة اليهودية، ليس فقط بأن أصبح سيّد السوق المالية، وإنما لأن المال أصبح، بواسطته، وبفضله، قوة عالمية، والروح العملية اليهودية أصبحت الروم العملية للشعوب المسيحية. لقد تحرّر اليهود بالنسبة نفسها التي أصبح المسيحيون فيها يهوداً.

يروي الكولونيل هاملتون مثلاً أن: « سكان انجلترة الجديدة المتدينين، والأحرار سياسياً، هم صنف من اللاوكون L,aocoon الذي لا يقوم بأدنى جهد للتحرّر من الأفاعي التي تطوقه. إن مأمون هو وثنهم الذي يعبدونه ليس فقط بالشفاه، وإنما بجميع قوى أجسادهم وأرواحهم. إن الأرض ليست في نظرهم سوى بورصة، وهم موقنون بأن لا مصير لهم في الحياة الدنيا هذه سوى أن يصبحوا أغنى من جيرانهم. لقد استولت المتاجرة على جميع أفكارهم، وليس لديهم تسلية أخرى سوى تبديل أمتعتهم. وحين يسافرون يحملون، إذا صحَّ التعبير، أمتعهم الحقيرة أو صندوق المحاسبة، على ظهورهم، ولا يتحدثون إلا عن المنفعة والكسب، فإذا غابت أمتعتهم عنهم لحظة، فليس ذلك إلا ليدسوا أنوفهم في شؤون مزاحميهم ».

وثمة أكثر من هذا! فإن السيادة الفعلية لليهودية على العالم المسيحي قد اتخذت في أميركة الشمالية، هذا التعبير الطبيعي الواضح وضوحاً مطلقاً: إن التبشير بالإنجيل، التبشير الديني، قد أصبح سلعة تجارية، وتاجر الإنجيل المفلس يهتم بالأعمال تماماً مثل الواعظ المثري. إن فلاناً الذي تراه على رأس رهبانية محترمة قد بدأ حياته تاجراً، وحين أخفق في التجارة أصبح كاهناً. وذلك الآخر بدأ حياته في الكهنوت، ولكن منذ أن أصبح يملك مبلغاً معيناً من المال، ترك كرسي الوعظ وانصرف إلى التجارة. إن الوظيفة الكهنوتية هي في نظر عدد كبير من الناس مهنة صناعية حقيقية » (بومون – ص 185 – 186).

فإذا قدَّقنا باور وجدنا أنفسنا إزاء وضعية خادعة: « فاليهودي هو محروم نظرياً من الحقوق السياسية، على حين أنه عملياً يتصرف بقوّة هائلة ويمارس بالجملة تأثيره السياسي المنقوص بالتفصيل » (Judenfrage, p 14 المسألة اليهودية ص14).

إن التناقض القائم بين قوّة اليهودي السياسية الواقعية وحقوقه السياسيَّة إنما هو التناقض القائم بين السياسة وقوة المال. فالسياسة هي نظرياً فوق قوّة المال، ولكنها عملياً قد أصبحت مستعبدة له.

لقد استمرت اليهودية إلى جانب المسيحية ليس فقط لأنها كانت تشكل النقد الديني للمسيحية وكانت تمثّل إلى أصل المسيحية الديني، وإنما أيضاً وبصورة مساوية، لأن الروح العملية اليهودية قد استمرت في المجتمع المسيحي بل وتلقت فيه تطورّها الأسمّى. واليهودي الذي يجد نفسه قائماً بمثابة عضو خاض في المجتمع البورجوازي، ليس سوى الظاهرة الخاصة بيهودية المجتمع البورجوازي.

لقد عاشت اليهودية ليس ضد التاريخ، وإنما من خلال التاريخ. فالمجتمع البورجوازي يولد من أحشائه الخاصة اليهود دون انقطاع.

ما هو أساس الدين اليهودي في ذاته؟ المنفعة العملية، الأنانية. إن توحيد اليهودي هو – إذن – في الواقع تعدد الحاجات العديدة، وهو شرك يجعل من منازل الهوى نفسها غرضاً من أغراض القانون الالهي. العملية، الأنانية، هما أساس المجتمع البورجوازي. ويظهران بوصفهما كذلك في شكله المحض، منذ أن يوّلد المجتمع البورجوازي الدولة السياسية كاملة. وإله الحاجة العملية، والأنانية، هو المال.

المال هو إله إسرائيل المطماع، وأمامه لا ينبغي لأي إله أن يعيش. إن المال يخفض جميع آلهة البشر ويحولها إلى سلعة. المال هو القيمة العامة والمكونة في ذاتها لجميع الأشياء. ولهذا السبب جُرّد العالم بأسره من قيمه الخاصة، عالم البشر وكذلك عالم الطبيعة. إن المال هو جوهر الإنسان المفصول عن الإنسان، وهذا الجوهر الغريب يسيطر عليه ويستبعده. لقد أصبح إله اليهود إلهاً دنيوياً وغدا إله الناس. الصيرفة هذه هي الإله الحقيقي لليهودي. فإلهه ليس إلا الصيرفة الوهمية.

والفكرة التي يكونها الإنسان عن الطبيعة، تحت سيطرة الملكية الخاصة والمال، إنما هي الازدراء الواقعي، والانحطاط الفعلي للطبيعة التي هي قائمة حقاً في الدين اليهودي، ولكنه ليس موجوداً فيه إلا بالخيال.

وإنما بهذا المعنى يعلن توماس مونزر « بأنه أصبح لا يطاق كون كل مخلوق قد تحوّل إلى مُلكية، السمك في الماء، والطير في الهواء، والنبات على الغبراء: إن المخلوق نفسه يجب أن يصبح حرّاً ».

وما يتضمنه الدين اليهودي في شكل مجرَّد ازدراء النظرية والفن والتاريخ والإنسان المعتبر غاية في ذاته، إنما هو واجهة النظر الواقعية الواعية وفضيلة رجل المال. وحتى العلاقات بين الرجل والمرأة تصبح موضوعاً للتجارة! فالمرأة تصبح سلعة يتاجرون بها.

إن قومية اليهودي الوهمية هي قومية التاجر، قومية رجل المال.

إن قانون اليهودي، الذي هو بلا أساس أو علّة، ليس إلا الصورة الكاريكاتورية الدينية للأخلاقية، التي لا أساس لها وللقانون بوجه عام، وللطقوس الشكلية وحسب التي يحيط عالم الأنانية بها.

وهنا أيضاً فالنظام الأسمى للإنسان هو النظام القانوني، العلاقة مع قوانين ليست لها قيمة بالنسبة إليه لأنها قوانين منبثقة عن إرادته هو نفسه، وعن جوهره نفسه، وإنما لأنها سارية المفعول، ولأن كل مخالفة لهذه القوانين تسبّب العقاب.

إن اليعقوبية اليهودية، وهي نفسها اليعقوبية العملية التي يثبت باور وجودها في التلمود، إنما هي العلاقة بين عالم الأنانية بالقوانين التي تسيطر على هذا العالم والتي يستخدم هذا العالم فنه الأساسي للتملص منها ببراعة.

بل ثمة أكثر من ذلك، فهذا العالم لا يستطيع أن يتحرك في إطار هذه القوانين دون أن يلغيها بصورة متواصلة؟

ولم يكن باستطاعة اليهودية أن تنمو نظرياً، ذلك لأن المفهوم الذي تكونه الحاجة العملية عن العالم هو بطبيعته محدود وإن بضع سمات تكفي لاستنفاده.

ولم يكن يستطيع دين الحاجة العملية من حيث جوهره، أن يجد اكتماله في النظرية، وإنما فقط في النشاط العملي، وعلى وجه الضبط بسبب حقيقته، يعني النشاط العملي [ البورجوازي ].

لم تكن اليهودية تستطيع أن تخلق عالماً جديداً، وكل ما كانت تستطيعه هو أن تجتذب إلى منقطة فعلها، جميع المبتدعات الأخرى وجميع المفاهيم الأخرى، ذلك لأن الحاجة العملية، وسببها الأنانية، تظلّ سلبية، ولا تتوسع وفق المشيئة، وإنما تتوسع بواقع أن الشروط الاجتماعية تستمر في التطور.

لا تبلغ اليهودية ذروتها إلا مع اكتمال المجتمع البورجوازي.

ولكن المجتمع البورجوازي لا يبلغ اكتماله إلا في العالم المسيحي. ولم يكن المجتمع البورجوازي يستطيع التوصل إلى الانفصال التام عن مجرى الدولة، وتمزيق جميع الروابط الاجتماعية للإنسان، وإحلال الأنانية والحاجة الأنانية محلها، وتفكيك عالم الناس إلى عالم أفراد مزرّين، بعضهم أعداء لبعض، لم يكن يستطيع المجتمع البورجوازي ذلك كله إلا في ظل المسيحية، التي تستبعد جميع علاقات الإنسان القومية والطبيعية، والأخلاقية، والنظرية.

لقد انبثقت المسيحية من اليهودية، وقد انتهى بها الأمر إلى العودة إلى اليهودية.

كان المسيحي، من حيث التعريف، هو اليهودي الميال إلى المثالية، واليهودي هو بالتالي المسيحي العملي، والمسيحي العملي عاد من جديد فأصبح يهودياً.

ولم تتغلب المسيحية على اليهودية الواقعية، إلا في الظاهر. فقد كانت المسيحية أكثر سمواً وأكثر روحانية من أن تلغي وحشية الحاجة العملية إلا بتصعيدها في ضباب أثيري.

المسيحية هي الفكر السامي لليهودية، واليهودية هي التطبيق العادي للمسيحية، ولكن هذا التطبيق لم يكن يستطيع أن يصبح عاماً إلاّ حين توصلت المسيحية نظرياً على الأقل من حيث هي دين كامل إلى أن تجعل الإنسان غريباً عن نفسه وعن الطبيعة.

وعندئذٍ فقط استطاعت اليهودية التوصل إلى السيطرة العامة، وإبعاد الإنسان والطبيعة إلى خارج ذاتيْهما، وجعلت منهما شيئاً تجارياً خاضعاً للحاجة الأنانية والمتاجرة.

والتخلي عن الجوهر الإنساني إنما هو ممارسة التخلي بصورة فعلية. وكما أن الإنسان لا يستطيع ما دام تحت سيطرة الدين أن يجعل كائنه كائناً ملموساً، إلا  ويجعل منه كائناً خرافياً، غريباً عنه، كذلك فهو لا يستطيع أن يؤكد ذاته، في ظل تأثير الحاجة الأنانية، وأن ينتج أغراضاً عملية إلا بإخضاعه منتوجاته وكذلك نشاطه لسيطرة جوهر غريب، وبأن ينسب إليها مدلول جوهر غريب، هو المال.

في الحياة العملية الكاملة، تصبح أنانية المسيحي الروحانيّة، بصورة محتومة، أنانية اليهودي الماديّة، وتتحوّل الحاجة السماوية إلى حاجة دنيوية، والذاتية إلى أنانية. ونحن لا نفسر صلابة اليهودي بدينه، وإنما في الأصح بالأساس البشري لدينه، وهو الحاجة العملية، الأنانية.

وإنما بسبب أن جوهر اليهودي قد تحقق، وأصبح دنيوياً بصورة عامة، في المجتمع البورجوازي، لم يستطع البورجوازي إقناع اليهودي بخيالية جوهره الديني الذي ليس هو، على وجه التدقيق، إلا المفهوم المثالي للمنفعة العملية. ولا نجد جوهر اليهودي المعاصر – إذن – في التوراة والتلمود وحسب، بل نجده في المجتمع الحالي، وليس هو جوهر مجرّد، بل هو جوهر عملي مطلق، وليس بمثابة حدود اجتماعية لليهودي وإنما بمثابة حدود يهودية للمجتمع.

وحين ينجح المجتمع في إلغاء الجوهر العملي لليهودية، أي المتاجرة وشروطها، عندئذٍ يصبح وجود اليهودي مستحيلاً، ذلك لأن وعيه لم يبق ثمة من حاجة إليه، وذلك لأم الأساس الذاتي لليهودية، أي الحاجة العملية، قد اتخذت شكلاً إنسانياً، وذلك لأن المنازعة بين الوجود الفردي والمحسوس للإنسان ووجوده الاجتماعي قد أُلغيت.

التحرّر الاجتماعي لليهودي، إنما هو تحرير المجتمع من اليهودية.

( كارل ماركس – 1844)

-------------------

(1) بورنو بوير Bruno Bauer: Die Judenfrage Brunschweig 1843

(1) « قدرة يهود ومسيحي اليوم على التحرّر » (الملزمة 21، ص 57)

Die Fahigheit der deutschen Junder und Christen, frei Zu werden, p 57

 (2) مجلس النواب – مناقشات 26 كانون الأول 1840

ـــــــــ

المصدر : أجراس العودة

----------------------

هذا الكتاب وتقديمه يعبر عن رأي كاتبه

 

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ