ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
قراءة
في كتاب "العمق
الإستراتيجي"
لا
يمكن أن يلخّص هذا الكتاب الغني
في أسطر، أو في قراءة مهما كانت
ذكية، إلا أن الحاجة إلى تقديمه
للقراء، لتكون لهم نظرة ولو
قاصرة عنه لكنها تفتح شهيتهم في
الإطلاع عليه، جعلتنا ننشر
قراءتين له، كل منهما تنظر إليه
من زاوية مختلفة. أصدر
مركز الجزيرة للدراسات ترجمة
كتاب العمق الإستراتيجي، لوزير
الخارجية التركي الدكتور أحمد
داوود أوغلو، وهو كتاب فريد في
طرحه، يستعرض سياسة تركيا
السابقة، ويبين انجازاتها
وإخفاقاتها، ويستطلع السياق
الحالي وكيف يمكن لتركيا أن
تستفيد من فرصه وتتفادى حفره. ولا
يمكن أن يلخّص هذا الكتاب الغني
في أسطر، أو في قراءة مهما كانت
ذكية، إلا أن الحاجة إلى تقديمه
للقراء، لتكون لهم نظرة ولو
قاصرة عنه لكنها تفتح شهيتهم في
الإطلاع عليه، جعلتنا ننشر
قراءتين له، كل منهما تنظر إليه
من زاوية مختلفة. الصادق
الفقيه* تشهد
الجمهورية التركية تغيّرات
جوهرية، وتطورات إيجابية
ملموسة، ذات أبعاد مهمة على
الصعيدين الداخلي والخارجي،
خاصة منذ وصول حزب "العدالة
والتنمية" إلى الحكم في العام
2002. وتتضح هذه التغيرات
والتطورات في ملامح الصور
العامة للمجتمع والدولة. ويبدو
ذلك جليا في رسوخ التوافق
الاجتماعي بين الطوائف
والمجموعات العرقية المختلفة،
والزيادة الكبيرة في معدلات
التنمية الاقتصادية، وترتيبات
الاستقرار السياسي، التي كان
لها الأثر المهم في تحديد ملامح
السياسات الخارجية،
فكسبت بها أنقرة مواقع جديدة
مكنتها من لعب أدوار فعالة في
المحافل الإقليمية والدولية. إن
السبب في تراجع تركيا خلال
الحقبة الماضية يعود إلى سياسة
القطيعة، التي سعت لفصل ماضي
تركيا العثمانية وعمقها
الإستراتيجي عن حاضر الجمهورية
الكمالية ومحيطها الإقليمي،
والتي عمقت أيضاً الانقسام بين
"التيارات العلمانية" و"الجماعات
الإسلامية"، وغلبت الأمن على
الحرية، وأحدثت أزمة هوية طاحنة
في أوساط النخب التركية.
ويُرْجِع بعض المراقبين الفضل
في صعود التركي الجديد لجملة من
التحولات الثقافية والسياسية
والاجتماعية المهمة. ولعدد من
النظريات المحفزة
للتغيير، التي
صاغها الدكتور أحمد داود
أوغلو، عندما كان أستاذا
للعلاقات الدولية بالجامعات
التركية، خاصة نظرية "العمق
الإستراتيجي"، والتي أودعها
في سِفْر ضخم، وعبر عنها بكلمات
موجزة، عند توليه حقيبة وزارة
الخارجية، بعد أن كان مستشارا
لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان،
فقال: "إن تركيا لديها الآن
رؤية سياسة خارجية قوية نحو
الشرق الأوسط والبلقان ومنطقة
القوقاز. سنسعى لدور إقليمي
أكبر، ولم نعد بلد رد فعل". وقد
حشد لهذه الكلمات المقتضبة
تفاصيل وافية في كتابه "العمق
الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها
في السياسة الدولية". ورغم أن
مصطلح العمق
الإستراتيجي مأخوذ من الآداب
العسكرية، إلا أن أوغلو ربط
معنى هذا "العمق" بإخراج
تركيا من بلد "طرف" أو
"هامش"، يقتصر دورها في
كونها عضوا في محاور وعداوات،
إلى بلد "مركز" يناغم بين
مختلف علاقاته الخارجية
المتعددة، وفي الوقت نفسه إلى
بلد ذي دور فاعل ومبادر في كل
القضايا الإقليمية والدولية. وبفضل
هذا الفهم الإستراتيجي الناضج،
طوت تركيا الكثير من صفحات
الماضي، فأنهت حالة العداء مع
أرمينيا، وفكت الجمود مع سوريا،
وأرخت حبل التشدد مع الأكراد في
الداخل، وأحدثت نقلة نوعية في
علاقاتها مع جيرانها في المنطقة
العربية، وفي منطقة القوقاز،
وانطلقت بثقة عالية نحو العالم
الإسلامي، وأصبحت لاعباً
مؤثراً في الشرق والغرب. وهكذا،
أصبحت تركيا حاضرة في كل
الأزمات والملفات العالقة في
العالم العربي، وفي مقدمتها
القضية الفلسطينية، وعنيت
باكرا بالوضع في العراق، وتدخلت
إيجاباً في الأزمة بين بغداد
ودمشق، ونجحت في عقد اتفاق
للتعاون الإستراتيجي مع دول
منطقة الخليج. ينطلق
الدكتور أوغلو من ثوابت
"الرؤية الحضارية" التي
يؤكد من خلالها على نظريتين
لديه؛ يقول في الأولى إن
"الثقة بالذات الحضارية"
مصدر قوة إضافية للدولة في
علاقاتها الخارجية، وخاصة إذا
اقترنت بتجاوز عقدة النقص،
وبالتغلب على الشعور بالدونية
تجاه الطرف الآخر. ومفاد
الثانية هو أنه كي تكون ناجحاً
في إدارة العلاقات الدولية
يتعين عليك مراعاة
"التوازن" الدقيق بين قوة
الأمر الواقع، وقوة الحق
الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة
بمواجهة قوة الأمر الواقع دون
استعداد كاف، كما لا يجوز
التفريط في قوة الحق الثابت
الأصيل، وأنه يمكن إنجاز الكثير
في المسافة القائمة بين "قوة
الأمر الواقع"، و"قوة الحق
الأصيل" في ضوء موازين القوى
التي تتحرك باستمرار ولا تعرف
السكون أو الجمود. معمارية
"العميق الاستراتيجي" اجتهد
الدكتور أحمد داود أوغلو، في
جعل عرض الإستراتيجية التركية
واضحاً قدر المستطاع، يسهل فهمه
على جميع السياسيين في المؤسسة
التركية الحاكمة، كما حاول أن
يبسِّطه لطلابه في العلوم
السياسية والعلاقات الدولية،
ثم لجميع القراء المهتمين
بالشأن العام. والكتاب
تجاوزت صفحات طبعته العربية الـ
(600)، مقسمة إلى ثلاثة أبواب
رئيسية تعرض لنظرية العمق
الاستراتيجي، والتطبيقات
المطروحة لها على الحالة
التركية، مع مقدمة للطبعة
العربية بقلم المؤلف، وتقديم،
وتمهيد، وخاتمة، ثم ملحق حول ما
بعد "العمق الإستراتيجي"
يقرر بشكل قاطع أن تركيا دولة
مركز. ونجمل
في لمحات أهم المحاور التي
عالجها أغلو في الأقسام الثلاثة
من كتابه، الذي صدرت طبعته
التركية الأولى عام 2001، وبلغت
عدد طبعاته حتى شهرنا الحالي 46
طبعة، منها أربعة عشر طبعة خلال
هذا العام. فالباب
الأول، الذي جاء بعنوان
"الإطار المفاهيمي
والتاريخي"، يشتمل ثلاثة
فصول تناولت مقاييس القوة
والتخطيط الإستراتيجي، وشرحا
لمعادلة القوة وعناصرها
الثابتة والمتغيرة، والعنصر
البشري وتأثيره البالغ في صنع
الإستراتيجية، وإعادة تحليل
لعناصر القوة التركية، وبيانا
لأوجه قصور النظرية
الإستراتيجية التركية والنتائج
المترتبة عليها، وعرضاً للإرث
التاريخي والبنية التحتية
للثقافة السياسية
التركية، وتطوراتها بعد انتهاء
الحرب الباردة. وحمل
الباب الثاني عنوان "الإطار
النظري: الإستراتيجية المرحلية
والسياسات المرتبطة بالمناطق
الجغرافية "، وضم أربعة فصول
لشرح نظرية العمق الاستراتيجي
وعناصرها، مع التركيز على العمق
الاستراتيجي التركي في المناطق
ذات الارتباطات الجغرافية به.
لذا، تم استعراض النظريات
الجيوسياسية والإستراتيجيات
العالمية في فترة ما بعد الحرب
الباردة، وأهمية استيعاب
العامل المكاني، والمحددات
الجغرافية في ملء ساحات الفراغ
الجيوسياسي، وتحليل الضرورات
التاريخية، وعناصر
الاستراتيجيات البرية والبحرية
بالنسبة لتركيا فيما يتعلق
بالمناطق البرية القريبة، مثل
البلقان، والشرق الأوسط،
والقوقاز، والأحواض البحرية
القريبة، مثل البحر الأسود،
وشرق المتوسط، والخليج، وبحر
قزوين، والمناطق القارّية
القريبة، مثل أوروبا، وشمال
أفريقيا، وجنوب آسيا، ووسط و
شرق آسيا. وتناول أيضا العناصر
الأساسية المحددة لعمق تركيا
الآسيوي، والإفريقي. ومَثَّلَ
الباب الثالث القسم الأكبر من
الكتاب، واشتمل على الوسائل
الإستراتيجية والسياسات
الإقليمية، التي رأى الدكتور
أوغلو أنها ستحقق لتركيا
مكانتها المرموقة في الساحة
الدولية. ويضم هذا الباب خمسة
فصول. عالج الأول منها
الارتباطات الإستراتيجية
لتركيا وأدوات سياستها
الخارجية، وعنيت بالمحور
الأطلسي في إطار المهمة الجديدة
لحلف شمال الأطلسي، ومنظمات
الأمن والتعاون الأوروبي،
والمؤتمر الإسلامي، وما تمثله
من خط للتأثير الجيوسياسي
والجيوثقافي بين إفريقيا
وآسيا، ومنظمة التعاون
الاقتصادي، التي تمثل العمق
الآسيوي، ومنظمة التعاون
الاقتصادي لحوض البحر الأسود،
والتي تضم مناطق آسيا الوسطى
والبحر الأسود، إضافة إلى
مجموعة الدول النامية
الثمانية، والعلاقات الآسيوية
الأفريقية، ومجموعة العشرين. وبحثت
بقية فصول الباب الثالث قضايا
التحول الإستراتيجي في
البلقان، والشرق الأوسط،
باعتباره مفتاح التوازنات
الاقتصادية السياسية
والإستراتيجية، وآسيا الوسطى
في ظل توازن القوى الأورو-
آسيوية، والاتحاد الأوروبي،
مصحوباً بتحليل لعلاقة متعددة
الأبعاد والمستويات، بما فيها
علاقات تركيا مع الإتحاد
الأوروبي في سياق
التحولات التاريخية. المخاض
الإستراتيجي: تركيا في عالم
جديد لقد
كانت تركيا نزاعة باستمرار إلى
دور القيادة، ولها من الكسب
التاريخي ما يطمئنها على
مقدرتها، إلا أن عملية التحديث
الغربي، التي انتهجها
الكماليون في العهد الجمهوري،
لم تتمكن من سد الفجوة بين ما
كان ممكناً من الناحية
السياسية، ووفقا لما تنبأت به
شعارات ثورة أتاتورك، وبين ما
كان مطلوباً لقيام تركيا
بأدوارها القيادية التاريخية.
ويبدو أن القادة الجدد من حزب
العدالة والتنمية، المحصورين
بين إلحاح الممكن والضروري،
تعلموا ببساطة كيف يستطيعون أن
يوفقوا بين
الممكن والمطلوب في الدور
التركي، وأن يضيفوا لعمليات
التحديث المتسارعة والمشهودة
أبعادا حضارية؛ تاريخية
وجغرافية وتأصيلية، تتجه إلى
الالتزام بخيار العمق
الإستراتيجي لتركيا، دون أن
تفرط في الإمساك بمتعلقات
المصالح القائمة مع مختلف
الأطراف، أو التحالفات التي
جعلت تركيا عضوا رئيسيا، كما هو
الحال مع منظمة حلف شمال
الأطلسي (الناتو). فقد
كانت تركيا، كما وصفها أوغلو،
إحدى أهم ركائز حلف الناتو خلال
فترة الحرب الباردة، باعتبارها
إحدى دولتين في الحلف تمكنتا من
احتواء الشيوعية، وكانت، هي
والنرويج، موضع ثقة الغرب
قاطبة. حيث كان هذا الولاء
للغرب، ذو الطابع العسكري، يتسق
مع تطلعات النخب الحاكمة في
الحقبة الكمالية، الذين حولوا
تركيا إلى حارس أمين للمنطقة
الجنوبية الشرقية لأوروبا من
خطر التمدد الشيوعي الأحمر. وعندما
تحررت تركيا من مواجهات الصراع
الجغرافي السياسي للحرب
الباردة بين الشرق والغرب، بدأت
في إثبات وجودها، حسب رؤية
أوغلو، من خلال "جغرافيا
العولمة"، حيث ما عاد من
الممكن اعتبار تركيا طرفا قصياً
في إستراتيجية الغرب، وإنما
بوصفها دولة في المركز، لها
عمقها الإستراتيجي، وفقاً
لتعريفات نظرية "قلب
العالم"، أو القلب الأرضي في
حقل العلاقات الدولية، إذ أن
هناك علاقة وثيقة بين الموقع
الجغرافي للدولة وبين مستقبل
قوتها ودورها السياسي. ويبدو أن
هذا الوضع تحول
بفعل التغييرات العميقة، التي
طالت الخارطة السياسية
الدولية، إلى ميزة ايجابية
وفريدة، دفعت وستدفع تركيا للعب
دور أهم، إقليمي ودولي، مستقبلا
. عقيدة
أوغلو: مكانة تركيا أقل من
إمكانياتها "القادة
الجدد من حزب العدالة والتنمية،
المحصورون بين إلحاح الممكن
والضروري، تعلموا ببساطة كيف
يستطيعون أن يوفقوا بين الممكن
والمطلوب في الدور التركي"
للدكتور أوغلو ثلاث نظريات
أساسية تعبر عن رؤيته للعلاقات
الدولية تعبيراً أصيلاً عن
إدراكه لذاته
الحضارية/الإسلامية، بحسب
مصطلحاته هو في كتاباته. أولها،
نظرية التحول الحضاري.
وثانيتها، نظرية العثمانية
الجديدة. والثالثة، نظرية العمق
الإستراتيجي. وفي
هذا الإطار، يؤكد أوغلو على
ضرورة أن تعنى تركيا، أولا وقبل
أي شيء، بتطوير وجهة نظرها على
نحو يجعلها قادرة على التحسس
المستمر لنبض العالم العربي
والإسلامي، وتلمس إيقاع التغير
الاجتماعي، والثقافي، والسياسي
الذي يجري داخل مجتمعاته؛ وذلك
باعتبار هذه الخطوة مرحلة إعداد
أولي للدبلوماسية التركية. ويخلص
من قراءته المتقصية للتاريخ
العثماني على مدى أكثر من أربعة
قرون، ولتاريخ الجمهورية
الكمالية خلال العقود الثمانية
الماضية من القرن العشرين، إلى
أن تركيا تصرفت بأقل من
مكانتها، وبأدنى من
إمكانياتها، في سياساتها
الإقليمية والعالمية. المنظّر
والوزير:حصاد ايجابي إن أهم
خلاصة يمكن الخروج بها بعد
مطالعة هذا السفر القيّم هو أنه
أحد الكتب التي ستغير مجرى
التاريخ، بالنسبة لتركيا،
وجوارها القريب، وربما العالم.
ومثلما قال الدكتور طارق عبد
الجليل، الذي أسهم في ترجمة
الكتاب إلى العربية، في قراءته
للكتاب المنشورة على موقع أخبار
العالم، فإن " "العمق
الإستراتيجي" ليس كتاباً
أكاديمياً، أو مؤلفا فكريا
فحسب؛ بل أيضا هو نظرية جديدة
تُضاف إلى علوم السياسة
المعاصرة. إذ هو خلاصة بحث طويل
ودراسات متعمقة في عوامل النهضة
والريادة لكل مجتمع ودولة تمتلك
مقومات نهضتها وتعيها، مع ميزة
تفضيلية لهذا الكتاب تتمثل في
تجاوزه للأطر النظرية المجردة،
وصياغته لرؤية إستراتيجية
تطبيقية شاملة لما يمكن أن تكون
عليه مكانة تركيا في الساحة
الدولية". تجسدت
هذه النظرية، الموصوفة في
تضاعيف كتاب
"العمق الاستراتيجي"، في
واقع حي ملموس في السياسة
التركية، يمكن أن يعاينها كل
متابع لتطورات الأحداث، داخل
تركيا وخارجها، خاصة وأنه قد
أُتيح لصاحب النظرية العمل على
تطبيقها بنفسه، وذلك بتوليه
منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء
عام 2003، وانتهاء بتعيينه وزيرا
للخارجية التركية العام الماضي
2009، إذ لم يتوان مطلقاً في
التعبير الصريح عن مقاصدها. ويمكن
لكل مراقب تسجيل النتائج
الإيجابية في السياسة التركية،
الصاعدة تدريجاً نحو الإدماج
والاندماج مع مكوناتها
الحضارية والجغرافية. وما
الانفتاح التركي على الدول
العربية سوى تتويج لمجهودات
مضنية على هذا الصعيد، قامت على
رباط الدين، وتداخل الثقافة،
وحقائق التاريخ، وواقع
الجغرافيا، وما ينبثق عنها
جميعاً من معادلات الاقتصاد
والسياسة. ________________ *باحث
سوداني في القضايا الدولية -------------------- هذا
الكتاب يعبر عن رأي كاتبه
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |