ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الإخوان
المسلمين في حرب فلسطين (3) كامل
الشريف الزهراء
للإعلام العربي -
9- الإخوان
في النقب معركة كفار دريروم
الأولى ((
كان الإخوان ينزعون ألغام
اليهود وينسفونهم بها في صحراء
النقب )) ((المواوى
في شهادته)) كثيرا
ما يضع الإنسان لنفسه خطة
يرتضيها ويسير عليها ويعتقد
صوابها ثم تأتى الحوادث بعد ذلك
فتصرفه عن خطته فلا يملك إلا أن
يسير في اتجاه آخر وكثيرا ما
يكون الاتجاه الذي يسلكه على
الرغم منه صحيحا حتى إذا اطمأن
إلى صحته ووثق من صوابه نظر إلى
خطته التي خطها لنفسه وهنا لك
تبدو له عيوبها ويقف على كثير من
مساوئها 0 لم يكن
الإخوان يعلمون عن المستعمرات
اليهودية وتحصيناتها أكثر مما
عرفته إدارة المخابرات في
الجيوش العربية النظامية فلقد
هونت هذه المخابرات من شأن
التحصينات اليهودية وقللت من
أهميتها حتى لقد قدرت إحداها
مدة أقصاها (72) ساعة ليفرغ جيشها
من احتلال فلسطين كلها 0 وحتى
سمعنا أحد المسئولين العسكريين
في جيش عربي كبير يقول للوحدات
العسكرية الزاحفة أنها ذاهبة في
((نزهة عسكرية)) إلى ((تل أبيب)) لا
أكثر وحتى يقطع على الضباط
دهشتهم قال لهم : إن الناس في
قريته حين يقيمون الأفراح
والليالي الملاح يطلقون الرصاص
في الهواء دليلا لفرحهم وعلامة
لابتهاجهم وإن الأسلحة التي
معكم تكفي جدا لهذه المهمة
الهينة اللينة 0 قال هذا
الكبير المسئول هذا الكلام أو
معناه لوحدات جيشه الزاحف بينما
كان كبير مسئول في دولة عربية
أخرى يقول لمراسلي الصحافة وهو
يهم بإصدار الأوامر لجيشه ببدء
الزحف : إن دخول الجيوش العربية
كلها لم يكن في الواقع إلا
لتقصير أمد الحرب وإنهائها
بسرعة ولما سأله الصحفيون عن
مدى قدرة اليهود العسكرية
وإلقائها في قاع البحر في مدة لا
تتجاوز أسبوعا واحدا 0 لاشك في
أن العبارات التي فاه بها
العسكريون المسئولون عند بداية
الحرب والحوادث التي جاءت بعد
ذلك تدل على درجة مهارة
المخابرات الحربية في الجيوش
العربية وعلى مدى صحة المعلومات
التي لديها عن نشاط الصهيونيين
ومدى استعدادهم 0 ولو وقف
الأمر عند حد هذه التصريحات
الكلامية لقلنا: إنها من باب
التشجيع ورفع الروح المعنوية
لدى المحاربين ولكن الخطط
العسكرية والطرق التي نفذت بها
والتدابير والأسلحة التي
جابهنا بها العدو كلها تدل
دلالة واضحة على استهتار بالغ
بالعدو وجهل مطبق بخططه وقوته
وتدل أيضا على أن جيوشنا دخلت
الحرب على أنها ((نزهة عسكرية))
فعلا وأن الأسلحة والذخائر لم
تكن في الواقع إلا بالقدر الذي
يكفي لإقامة الأفراح والليالي
الملاح! كان
الإخوان في الفترة الأولى من
الحرب يجهلون المستعمرات
اليهودية وطرق تحصينها فظنوا أن
في مقدورهم مهاجمتها واحتلالها
رغم ما كانوا يعانونه من نقص في
الأسلحة والمعدات ولقد تمت
المحاولة الأولى في الساعة
الثانية من صباح (14) إبريل سنة
(1948) وكان الغرض منها احتلال
مستعمرات ((كفار ديروم)) المحصنة
وهذه المستعمرة وإن كانت صغيرة
الحجم إلا أنها كانت مقامة في
وضع بالغ الأهمية لقربها من
الحدود المصرية ولوقوعها على
طريق المواصلات الرئيسي الذي
يربط مصر بفلسطين وكان في
استطاعة حراسها أن يراقبوا خلف
أبراجهم المسلحة دون أن يتعرضوا
لشيء من الأذى لذلك كله اهتمت
القيادة اليهودية بهذه
المستعمرة وبالغت في تحصينها
وإقامة الأبراج الشاهقة حولها
وإحاطتها بحقول كثيفة من
الألغام والموانع السلكية
الشائكة ثم زودتها بعدد كبير من
نخبة رجال(( الهاجاناه)) وفرقة ((البالماخ))
الفدائية 0 هذا وصف
موجز لهذا ((الجيب)) اليهودي
الخطر الذي حاول الإخوان تطهيره
واحتلاله ثم تلقوا على يديه
درسا قاسيا وكانت هذه المعركة
هي نقطة التحول التي غيرت خطتهم
وصرفتهم عن معاودة الهجوم على
المستعمرات دون أن يملكوا
المعدات اللازمة لهذا النوع من
القتال 0 هاجم
الإخوان المستعمرة في وقت مبكر
من صبيحة اليوم ونجحوا في
المرور خلال حقول الألغام عبر
ممرات أعدوها طوال الأسبوع الذي
سبق المعركة واجتازوا عوائق
الأسلاك الشائكة كل هذه تم بدقة
وسرعة دون أن ينتبه حراس
المستعمرة لما يجرى حولهم ولم
يفيقوا إلا على صوت انفجار هائل
أطاح بأحد مراكز الحراسة ثم
بدأت المعركة داخل الخنادق وعلى
الأبراج و((الدشم))0 وأبدى
الإخوان في هذه المرحلة من ضروب
البطولة والفدائية ما لا يمكن
حصره وتصويره واستطاع اليهود أن
يسدوا الثغرات التي أحدثها
المجاهدون في دفاعات المستعمرة
ثم حاصروا القوة الصغيرة التي
نجحت في التسلل إلى أوكارهم
ومضوا يحصدونها ببنادقهم
ورشاشاتهم 0 وهكذا
فشلت المحاولة الأولى ومضى
الإخوان يحملون شهداءهم
وجرحاهم وكان عددهم يربو على
العشرين وانتهت المعركة على هذه
الصورة المؤسفة ولكنها ظلت مثلا
فريدا للبطولة والتضحية 0 وظل
الإخوان طوال فترة الحرب
يتذاكرون المثل العليا التي
سجلها المجاهدون فيها والتي
أعادت للأذهان صورا حية من جهاد
الصدر الأول فهذا أحدهم وهو
المجاهد (( محمد سلطان)) من
مجاهدي الشرقية يزحف على بطنه
حاملا لغما هائلا وهدفه أحد
مراكز الحراسة في المستعمرة
ينتبه إليه الحراس وهو على قيد
خطوات من هدفه فيطلقون عليه
رصاصات تصيبه في ذراعه وتعجزه
عن المضي في زحفه ولكنه يتحامل
على نفسه ويزحف بصعوبة والدماء
تنزف من جراحه والرصاص يتناثر
من حوله ويظل يجاهد بعناد حتى
يقترب من هدفه فيشعل اللغم
فينفجر ويدمر الحراسة ويقضى على
البطل الفذ ويمضى ليلاقى ربه
شهيدا 0 وهذا
المجاهد ((عبد الرحمن عبد الخالق))
يقود إحدى جماعات الاقتحام في
المعركة ويستمر في قتاله الرائع
رغم أوامر الانسحاب التي صدرت
إليه فيقول : كيف ننسحب وإخواننا
في داخل المستعمرة ؟ ثم يذكر من
معه بقول الله تعال :{ يأيها
الذين آمنوا إذا لقيتم الذين
كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار }
ويظل يقاتل بشدة حتى تصيبه
رصاصة قاتلة في رأسه لتضع اسمه
في عداد الشهداء الخالدين 0 وهذا
مجاهد آخر هو ((عمر عبد الرءوف))
تصيبه رصاصه في صدره فتبدو على
وجهه ابتسامة مشرقة ويهتف بمن
حوله ((أترون ما أرى)) ؟ ثم يأخذ
نفسا طويلا ويقول هذه هي الجنة 00
إنني أراها 000 وأشم رائحتها)) ثم
يلفظ أنفاسه الطاهرة ليمضى إلى
جنة ربه الموعودة 0 ولكل
شهيد من شهداء هذه المعركة قصة
في البطولة لا يزال إخوانهم
الأحياء يرددونها بمزيد من
الإعجاب والتقدير 0 انتهت
هذه المعركة وخرج الإخوان منها
بنتيجة واحدة فهموها وظلوا
يعملون على أساسها طوال الفترة
التي قضوها في فلسطين فهموا أن
مهاجمة المستعمرات اليهودية
بهذا النقص الواضح في الأسلحة
والمعدات هو انتحار محقق وفهموا
كذلك أنهم لم ينجحوا إلا في حرب
عصابات ينزلون فيها الضربات على
خصومهم خارج هذه المستعمرات دون
التعرض لحصونهم واستحكاماتهم 0 ولقد
قلت للإخوان عقب هذه المعركة
مباشرة :((إن اليهود أقوياء في
هذه الحصون والأبراج فلن
نهاجمهم فيها بعد اليوم ولكننا
سنغير على قوافلهم ونضطرهم
لقتالنا في الأرض المكشوفة ))
وعلى هذه الطريقة بدأ الإخوان
يظمون أنفسهم في عصابات صغيرة
ترابط على طريق المواصلات
وتهاجم شبكات المياه ومراكز
التموين حتى اضطر اليهود إلى
إخراج كثير من قواتهم لحراسة
المواصلات والقوافل فاستطاع
الإخوان بذلك أن يوقعوا بهم
ضربات حاسمة سريعة وأن يغنموا
منهم كميات وفيرة من العتاد
والسلاح 0 لقد قدر
لي أن أشهد (( معركة كفار ديروم))
وأن أتولى قيادتها بعد أن جرح
قائد السرية ((يوسف طلعت)) وتقرر
إخلاؤه من الميدان وقد حتمت على
المسئولية أن أبقى وراء تل صغير
مجاور لأسلاك المستعمرة حتى
أطمئن على انسحاب آخر جندي من
قوتنا الصغيرة وحين بدأت أغادر
مخابئ الأمن زحفا إلى خطوطنا
تعرضت لضرب مركز بالرشاشات
اليهودية التي كانت مسلطة من
الأبراج الشاهقة ولما كانت
الأرض التي أزحف عليها منبسطة
تماما فإن عدم إصابتي تدخل في
باب المعجزات والخوارق ولازلت
أذكر حتى هذه اللحظة التي أسطر
فيها هذه المذكرات مئات الطلقات
النارية التي كانت تئز حولي
كطنين ذباب متوحش وتصطدم
بالصخور والأتربة حول رأسي
لدرجة أيقنت معها أنني لا يمكن
أن أفلت من القتل فقررت أن أبقى
حيث أنا متظاهرا بالموت وفعلا
أسلمت أمري لله وسمحت لأعضائي
أن تمسك عن الحركة تماما ويبدو
أن هذه
الحيلة قد جازت على جنود العدو
فكفوا عن تركيز الضرب على شخصي
وكان مما ساعد على ذلك أن بعض
جثث الشهداء كانت مطروحة بجانبي
وليس هناك ما يدل على أن حالتي
تختلف عن حالاتهم ولقد بقيت على
هذه الحالة ساعات طوالا حتى
جاءت السيارة البريطانية
المصفحة وكانوا لا يزالون في
هذا الجزء من فلسطين ليفرقوا
بين المتحاربين فواصلت الزحف
إلى محطة دير البلح العربية
لأشهد دفن رفاق السلاح الذين
سقطوا صباح اليوم المشئوم 0 ولقد
حاولنا بعد أسابيع
قلائل أن نقدم تجربتنا مع ((كفارديروم))
إلى البكباشى أحمد عبد العزيز
حين أراد أن يجرب حطة معها ولم
يكن لديه من الأسلحة والمعدات
ما يصلح لهذه المهمة ولكنه رفض
وجهة نظرنا وأمر سراياه بالهجوم
عليها وفق خطة وضعها بنفسه
وكانت تلك هي المرة الثانية
التي حاول فيها الإخوان
المسلمون اقتحام ((كفارديروم))
دون نجاح وسيرد بيان ذلك في موضع
قادم 0 إن
تجربتنا مع ((كفار ديروم )) يمكن
أن تكون مثالا لمحاولات أخرى
قامت بها قوات عربية ضد
المستعمرات اليهودية المنتشرة
في فلسطين ومن المهم أ، نذكر ذلك
إلى أسباب عديدة أهمها هو تحصين
المستعمرات بالأسلاك الشائكة
والألغام الأرضية والأبراج
التي تتيح للمدافعين مجال
الرؤية والرماية على مسافات
طويلة وكذلك وجود نظام دفاعي
قوى يسمح باستمرار المقاومة حتى
بافتراض أن المهاجمين نجحوا في
اختراق العوائق واحتلال أجزاء
من المستعمرة كما حدث بالنسبة
لتجربتنا مع كفارديروم يضاف إلى
ذلك أيضا أن هذه المستعمرات
تعتبر وحدة دفاعية كاملة بمعنى
أن الخطة الإسرائيلية العامة قد
وضعت نظاما للتموين والإمدادات
يسمح لها أن تصمد لوقت طويل في
فترات الحصار والعزل ولابد لي
أن أعترف أن التدريب العالي
لوحدات المستعمرات اليهودية
وقدرتهم على الصمود في الظروف
الصعبة هو عنصر هام في جعل هذا
النظام الدفاعي نظاما صالحا
وعمليا 0 ويدفعني
لهذا يقين شخصي تكون من التجربة
والمراس بأن نظام المستعمرات
اليهودية كقلاع محصنة في حالة
الدفاع وكمناطق تجمع في حالات
الهجوم سيظل عقبة لأول مرة في
الحروب الحديثة فيما أعلم فأن
العسكريين العرب مطالبون
بالتفكير فيه لاختيار الأسلحة
والتكتيكات الملائمة ولست هنا
في مقام الإفاضة في هذا الموضوع
ولكنني أريد أن أبرز هذا التحدي
الذي صادفنا في الجولة الأولى
ولم نكن نعلم به من قبل لعلنا
نجد له الجواب الملائم فيما
ينتظرنا من جولات 0 قلنا :
إن تجربتنا مع كفار ديروم قد
انتهت بنا إلى أننا لظروف
تدريبنا وعددنا وأسلحتنا لم
نستطع أن نهاجم المستعمرات
المحصنة وإن خطتنا المقبلة
ستتضح في أكثر من مكان من هذه
المذكرات ونوجز هذه الخطة فيما
يلي: أولا-
استدراج سكان المستعمرات للأرض
المكشوفة وإرغامهم على القتال
فيها 0 وثانيا-
فرض الحصار على المستعمرات
وإرهاقها بأعمال الإزعاج
والقناصة ولقد سلكنا لتحقيق
هذين الهدفين سبلا شتى منها قطع
طرق المواصلات ولإقامة الكمائن
ونسف أنابيب المياه وضرب
المشاريع والمنشآت المنعزلة
وكان طبيعيا أن ينظم العدو
غارات على مراكزنا المتقدمة في
النقب وكانت هي الفرصة التي
نريدها ونهدف إليها ومع هذه
الحركات أصبح النقب الجنوبي في
مثلث واسع قاعدته تمتد من غزة
إلى رفح ورأسه عند بئر السبع
ميدانا لمعارك مستمرة ليلا
ونهارا وكنا سعداء بهذه ((الحرب
الخاصة)) التي كانت كثيرا ما
تبدو كأنها معزولة عن الحرب
الواسعة وقليلا ما تتقيد بما
طرأ عليها من قيود والتزامات
كقرارات الهدنة ووقف إطلاق
النار 0 أما عن
مستعمرة كفارديروم فقد
ألزمناها بحصار محكم وإزعاج
مستمر طيلة بضعة شهور ولست أشك
في أن سكانها تعرضوا لأنواع شتى
من الضيق والآلام ولكنهم صمدوا
بشجاعة حتى اضطروا لإخلاء
المستعمرة في منتصف يوليو عام
(1948) وكان ذلك نجاحا بارزا
لخطتنا التي تقوم على الحصار من
ناحية والاستدراج للأرض
المكشوفة من ناحية أخرى وقد
شجعنا نجاح الحصار على
كفارديروم إلى فرض حصار مماثل
على مستعمرات أخرى مثل ((نيريم))
و(( بيرون إسحاق)) أو ((المشبة))
كما يسميها البدو ولقد حاول
العدو في مناسبات عديدة اختراق
الحصار بواسطة القوافل المصفحة
ولكن النظام الذي وضعناه
للإنذار المبكر عن طريق حلفائنا
من البدو كان يمنحنا وقتا كافيا
للاستعداد وتحضير الكمائن وبث
الألغام على طرق المواصلات وفي
مرات كثيرة كانت قوافل العدو
تقع في هذه الكمائن وتكون
سياراتها وأسلحتها وشحنات
تموينها غنائم ثمينة كنا في
أكثر الأحيان نقدمها هدية
لأصدقائنا البدو ولاشك أن هذه
المعارك العديدة قد ساعدتنا على
تطوير أساليبنا وابتكار وسائل
جديدة حسب الظروف وحين أيقن
العدو أن لا أمل له في اختراق
الحصار على المستعمرات التي
نحاصرها ولاسيما كفارديروم لجأ
إلى إنزال الإمدادات بالمظلات
ولكن نيراننا الأرضية وضيق
مساحة المستعمرة كانت تجعل
عملية الإنزال غير محكمة وهكذا
كانت الصناديق تنزل على رجالنا
وعلى العشائر البدوية المجاورة
وكأنها موائد مباركة من السماء!!
ولكن هذا الحصار لم يؤت نتائجه
المرجوة في احتلال تلك
المستعمرات فيما عدا كفار ديروم
لأن أكثرها لم تكن معزولة تماما
عن المنطقة اليهودية كما أن
الجيش المصري لم يلبث أن تصدع
تحت الهجوم اليهودي الشامل مما
جعل استمرار الحصار للمستعمرات
أمرا غير عملي وغير مجد 0 -10- الإخوان
يقومون بحرب العصابات ((الله
أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا
بساحة قوم فساء صباح المنذرين))
محمد رسول الله قد يظن
البعض أن حروب العصابات أو
الحروب غير النظامية بصفة عامة
هي أعمال فوضوية لا هدف لها ولا
نتيجة من ورائها وأو قبل أن أبين
الدور الذي قام به الإخوان حين
اشتغالهم بهذا النوع من القتال
أن أوضح بإيجاز ما هي حرب
العصابات ومدى تأثيرها على
النتائج العامة للحروب 0 فالواقع
أن هذا النوع من القتال لا يمكن
أن يقوم به إلا رجال يؤمنون
إيمانا عميقا بعدالة الفكرة
التي يحاربون من أجلها ولضمان
النتائج الحاسمة يجب أن يكون
هؤلاء الأفراد على مستوى رفيع
من التدريب والذكاء ذلك لأنهم
يتعرضون في قتالهم لكثير من
المأزق الخطرة ولأن مهمتهم
الأساسية هي محاربة العدو في
أرض تحتلها قواته ليثيروا الرعب
والفوضى في مؤخرته ويقوموا
بهجمات خاطفة على طرق مواصلاته
ويدمروا ما تقع عليه أعينهم من
أسلحة ومعدات 0 ويمكن
تلخيص النتائج التي تطلب من
رجال العصابات على الوجه الآتي: أولا:
إنزال الخسائر بالعدو دون
الاشتباك معه في معارك مباشرة 0 ثانيا:
إرغام العدو على تشتيت قواته
وتخصيص جزء كبير منها لمطاردة
هذه العصابات ومكافحتها 0 ثالثا:
إرغامه على حراسة منشآته وطرق
مواصلاته حراسة قوية وفي هذا ما
يبعثر قوته ويجعله في قلق دائم 0 رابعا:
إثارة العناصر الوطنية ضد قواته
والتعاون معها وتسخيرها لتسقط
الأنباء والتحركات ومعرفة
الأهداف العامة كمراكز التموين
ومناطق الحشد 0 تلك هي
خلاصة الواجبات التي تناط برجال
العصابات وسنرى بعد قليل مدى
النجاح الذي أحرزه الإخوان في
خططهم الجديدة على ضوء هذه
المعلومات 0 وإن
الباحث في التاريخ ليجد أن
كثيرا من الحروب لم تحسمها
الجيوش المنظمة إلا بمعونة
العصابات وقد عرف التاريخ
الإسلامي هذا النوع من القتال
في ((السرايا)) التي كان يبعثها
الرسول صلى الله عليه وسلم
لتجوب أنحاء الجزيرة لقطع تجارة
العدو وإثارة الرعب في قلوب
القبائل الموالية له وفي الحرب
العالمية الأولى نجحت العصابات
العربية التي قادها أنجال
الشريف توزيع قواتها بين جبهات
واسعة حتى دخلت جيوش الحلفاء
بقيادة ((اللنبى )) وأنزلت بها
الهزيمة النهائية 0 وفي
الحرب العالمية الثانية تحطم
كثير من الجيوش الأوروبية تحت
ضربات الجيش النازي ولجأ قادة
الدول المحتلة وزعماء الحركات
التحريرية بها إلى حروب
العصابات يزعجون بها قوات
الاحتلال الألمانية ويغيرون
على مراكز حشدها ويقتلون ضباطها
وأفرادها حتى اضطرت القيادة
العليا الألمانية إلى التخلي عن
كثير من المناطق حيث احتلها
رجال العصابات - والاحتفاظ
بالمراكز الهامة وظلت هذه
العصابات تعمل بنشاط حتى أصبحت
شوكة حادة تهدد ظهر الجيوش
الغازية وكانت سببا مباشرا
للهزائم التي لحقت بالنازيين
تحول ميدان القتال إلى القارة
الأوروبية وهكذا نجحت العصابات
في تحرير بلادها وطرد الغاصبين
من أرضها وكانت خير معوان لجيوش
الخلفاء المنظمة التي قامت
بعمليات التحرير في أوروبا بعد
ذلك ولقد
استخدم اليهود هذا النوع من
التكتيكات وأدخلوا في حسابهم
دخول الجيوش النظامية فشكلوا
قواتهم على أساس حروب العصابات
وأخذا يغيرون على مراكز الجيوش
العربية ويوقعون بها الضربات
دون أن يثبتوا أمامها في معركة
مباشرة 0 ولما
لعبت السياسة الاستعمارية
دورها في فلسطين وتوقفت الجيوش
العربية بمقتضى قرارات الهدنة
ووقف القتال أخذ اليهود يقاتلون
كجيش منظم يرمى لكسب الأرض
والدفاع عنها بجانب ما تقوم به
العصابات الإرهابية من معونة
صادقة للقوات النظامية وبخاصة
المعونة خلال الهدنة وتكون
الحجة دائما أنها عصابات غير
نظامية لا سلطان لحكومة إسرائيل
عليها وقد رأينا كيف
استطاعت هذه الحكومة أن تتنصل
من اغتيال (( الكونت برنادوت))
وسيط هيئة الأمم بينما ألقت
الوزر كله على عصابات إرهابية
متمردة! ولا شك
أن حربنا في فلسطين كانت تحتاج
إلى هذا النوع من التشكيلات
لتعمل جنبا إلى جنبا مع القوات
النظامية وكان المفروض أن يقوم
الشعب الفلسطيني بهذا النوع من
القتال لولا عوامل الشك وعدم
الثقة المتبادلة التي بذرها
العدو وجنت الجيوش العربية
نتائجها 0 وحين
دخلت القوات غير النظامية التي
شكلتها الجامعة العربية باسم ((جيش
الإنقاذ)) وتركت مهمة قيادتها
للقائد العربي ((فوزي القاوقجى ))
كان من الواجب أن تقوم بهذه
المهمة الخطيرة فتتعقب
العصابات الصهيونية وتغير على
مراكز الجيش الإسرائيلي بينما
تحتل الجيوش النظامية المدن
والمراكز الهامة
وتكون عصاباتنا في هذه الحالة
كعصابات اليهود غير
مقيدة بقرارات الهدنة ووقف
القتال 0 وما
يقال عن قوات القاوقجى يقال عن
جيش التحرير والجهاد المقدس 0 وأفواج
المناضلين العرب رأوا القوة ((الخفيفة))
التي تولى قيادتها الشهيد أحمد
عبد العزيز ولكن هذه القوات
كلها خلصت بين عملها الأساسي
الذي كان يمكن أن تنجح فيه ومضت
تدافع عن
القوى العربية وتشغل نفسها
بالهجوم على المستعمرات
المحصنة دون جدوى 0 أما
القاوقجى فقد استدرجه اليهود
إلى أن ظهروا بقوته وأنزلوا به
الضربة القاصمة عند ((مشمار
هاعيميك)) وبذلك انتهي أمره
وتبعثرت قواته وأما الشهيد أحمد
عبد العزيز فقد حاول مهاجمة
المستعمرات حتى استقر أخيرا في
جبال الخليل وتحولت قوته إلى
قوة نظامية تدافع عن منظمة
محدودة 0 وأود أن
أصل إلى غايتي من وراء هذا البحث
بأن أناقش رأيا يقول به البعض
وهو أن دخول الجيوش العربية
لفلسطين كان بداية الكارثة التي
أحاطت بها
وأن فلسطين لم تكن في حاجة إلا
إلى عابات تعمل بحرية ولا تتقيد
بقرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم
والواقع أن
هذا الرأي لم يظهر إلا
عقب الهزائم التي منيت بها
الجيوش العربية التي ثبت أن من
بعض أسبابها خضوع هذه الجيوش
لقرارات مجلس الأمن بوقف إطلاق
النار وبخاصة في هدنة الأسابيع
الأربعة حيث تمكن
اليهود من جلب الكثير من
الأسلحة ومعدات الحرب التي لم
يكن لها وجود لديهم قبل هذا
التاريخ 0 والرد
على هذا
الرأي ((أن العصابات لا يمكن أن
تقاتل عصابات مثلها وتنتصر
عليها )) وأن العصابات لا يمكن أن
تحسم الحرب بمفردها ولكنها ولا
تزال دائما سلاحا
خطرا لو سارت في ركاب جيش
منظم وأحس تدريب أفرادها
وقيادتهم فيحتل الجيش المنظم
المدن والمراكز ويتولى الدفاع
عنها بينما تقوم العصابات
المدربة بتحطيم قوى العدو
ومهاجمة وحداته وطرق مواصلاته 0 وإذن
فلم يكن هناك
مفر من دخول الجيوش العربية
لتحقيق الهدف الذي حاربنا من
أجله ولكن الخطأ أولا وآخرا في
عدم استعداد هذه الجيوش
استعدادا يكفل لها أداء مهمتها
والخطأ بعد ذلك خطأ الزعماء
السياسيين الذين لم يدخلوا في
حسابهم هذه الهيئات الدولية
ومدى خضوعهم لها أما دخول
الجيوش نفسها فلا غبار عليه ولا
مفر منه ولا يمكن أن تحسم الحرب
بدونه لا في الماضي ولا في
المستقبل إذا أردنا حقا أن
نعاود الكرة لتحرير الأرض
المقدسة 0 وقد
قلنا : إن الدرس الذي استخلصه
الإخوان من معركة ((ديروم))
الأولى أن يشرعوا في تنظيم حرب
عصابات تشمل صحراء النقب كلها
ولقد باشروا تنفيذ هذه الخطة
ومضوا يخرجون في عصابات قوية
تدمر شبكات المياه وتنصب ((الكمائن
)) على طرق المواصلات حتى
استطاعوا تدمير عدد كبير من
المصفحات والسارات 0 ولقد
حدث مرة
أن قامت قوة منهم بقيادة
المجاهد ((حسن عبد الغنى))
بتدمير شبكات المياه بين
مستعمرتي ((بيرى))و((أتكوما))وأباحت
أنابيب المياه لأعراب المنطقة
ينتزعونها من الأرض تحت حراستهم
حتى نزعت من الأنابيب مساحات
شاسعة ثم رابطت في المنطقة
لتمنع العدو من إصلاحها وصبر
اليهود يومين عسى أ، تنصرف
لشأنها ولكن القوة العنيدة ظلت
تواصل تدمير الأنابيب ونزعها
والتعرض للمصفحات والقوافل
التي تحاول إصلاحها فلم
تجد القيادة الإسرائيلية
بدأ من الدخول في معركة مباشرة
فجمعت عدداً كبيرا من المصفحات
من جميع المستعمرات وأحاطت
القوة الصغيرة من جميع الجهات
وأخذت تقترب منها على أمل أن
تظهر بها وثبت الإخوان ثباتا
عجبا وأوقعوا في اليهود عدداً
من القتلى قبل أن يبعثوا في طلب
النجدات من معسكراتهم
0 وجاءت
مصفحات الإخوان
وأقامت حول مصفحات العدو الذي
سقط في يده حين رأى نفسه محصورا
بين نارين فاضطر إلى طلب نجدات
أخرى من المستعمرات القريبة
وامتلأ ميدان المعركة بقوات
كبيرة من الجانبين واشتد القتال
بين الفريقين شدة لم يسبق لها
مثيل حتى
يئس العدو من زحزحة الإخوان عن
موقفهم فأخذ يطلق سحبا من
الدخان ليسير انسحابه وما كادت
أطباق الدخان تنجاب عن ميدان
المعركة حتى سارع الإخوان
يجمعون غنائمهم من السلاح
ويعودون لتدمير الأنابيب من
جديد 0 وأيقن
اليهود أنه لا قبل لهم بمواجهة
هذه القوات المتفانية في حرب
شريفة وحاولوا تسميم آبار
يستعملها الإخوان في منطقة ((خزاعة))
حيث كان
المجاهد ((نجيب جويفل)) يرابط بها
بسريته 0 ولكن
عين الله المبصرة ويقظة الإخوان
مكنتهم من اكتشاف الجريمة قبل
وقوعها وذلك
أنهم لمحوا رجلين يرتديان
الملابس العربية ويتظاهران
باستجلاء الماء وكان منظرهما
يدعو إلى الريبة فاقترب منهما
الجندي الحارس وأمرهما بالوقوف
فلاذا بالفرار فتعقبهما الجندي
الحارس وعدد من إخوانه حتى
أدركوهما ولم يبق بينهما إلا
خطوات وأمروهما بالتسليم
مهددين إياهما بإطلاق النار
فرفعا أيديهما بالتسليم وحين
اقترب الإخوان منهما انبطحا على
الأرض في سرعة وقذفا على
المهاجمين عددا من القنابل
اليدوية وأسرع الإخوان بملاصقة
الأرض ثم أطلقوا عليهما النار
فأردوهما قتيلين0 وبلغت
النقمة من الإخوان من هذا الغدر
أن حملوا الجثتين إلى مستعمرة ((نيريم))
وهناك على مقربة من العدو نحوا
الجثتين بالبترول وأشعلوا
فيهما النار على مرأى جيد من
المستعمرة 0 وجن
جنود اليهود وأخذوا يلوحون
بأيديهم في غضب وانفعال وحين جن
الليل هاجموا مواقع الإخوان في
((خزاعة)) انتقاما لهذا الحادث
ولم يتمكنوا من زحزحة الإخوان
أو لإبادتهم وإن كانوا قد نجحوا
في قتل أحد المجاهدين الأبرار
وذلكم هو المجاهد الشهيد ((عيسى
إسماعيل)) من إخوان الشرقية
الكرام 0 وهكذا
نجحت الخطة الجديدة ولم يعد
الإخوان في حاجة إلى معاودة
الهجوم على المستعمرات المحصنة
والتعرض لنيرانها وحصونها ذلك
لأن اليهود قد أضطروا إزاء
هجمات الإخوان الموفقة على
قوافلهم وطرق مواصلاتهم إلى
تعيين دوريات ميكانيكية وقوات
كبيرة من المشاة لحراسة تلك
الطرق والمنشآت وحمايتها أمام
تلك الهجمات ولم يكن الإخوان
ليضيعوا الفرصة الثمينة فأخذوا
يغيرون على هذه القوات المبعثرة
في الصحراء ويرغمونها على
القتال إرغاما حتى تحولت تلك
المنطقة إلى ساحة حرب قوية ولم
يكن يمر في تلك الفترة دون أن
تنشب معركة عنيفة تنتهي حتما
بقتل عدد من جنود الأعداء
وتدمير عدد آخر من مركباتهم
ومدرعاتهم 0 ولقد
حاولت القيادة اليهودية أكثر من
مرة القضاء على هذه العصابات
وتطهير المنطقة منها فكانت ترسل
عدداً كبيراً من قواتها وكان
هذا أقصى ما يريده الإخوان
فيستدرجونهم إلى المناطق
الوعرة ويحاصرونهم في الشعاب
والوديان 0 وإذا
نظرنا إلى هذه الفترة نجد أن
الإخوان قد وصلوا إلى نتيجتين
لم يكونوا يستطيعون الوصول
إليهما بدون هذه الأعمال
العصابية فالنتيجة الأولى هي
خروج اليهود من مستعمراتهم
وحصونهم لمقاومة عصابات خفيفة
محصنة في بطون الشعاب والوديان
والنتيجة الثانية أن الإخوان
استطاعوا الحصول على كثير من
الغنائم والمعدات التي لم
يكونوا يملكونها كالمصفحات
الضخمة والأسلحة الرشاشة
البعيدة المرمى هذا عدا أنواع
مختلفة وكميات كبيرة من الذخائر
والقنابل 0 وكان
الواجب يحتم علينا منذ شرعنا في
تنظيم حرب العصابات أن نتعاون
مع أعراب المنطقة غير أن
الشائعات التي كانت الدعاية
اليهودية ترددها عن خيانة البدو
ومدى تعاونهم مع العدو قد وقف
سداً منيعا دون ذلك التعاون
المنشود ولم نكن نستطيع العمل
في هذه المناطق دون أن نتبين مدى
صحة هذه الشائعات ودن أن نحيل
بدو هذه المنطقة إلى قوة
متعاونة معنا على الهدف والغاية
ولقد قمنا بمحاولات كبيرة إزاء
هذه المشكلة أثبتها في البحث
كأساس لما جنيناه من نتائج 0 بعثنا
عدداً من دوريات الاستكشاف
وذهبت بصحبة الإخوان المسئولين
أكثر من مرة فخيل إلينا أن هناك
شبه تعاون فعلا بين اليهود وبدو
تلك المناطق فهذه المصفحات
اليهودية تنتقل بين المستعمرات
بحرية وأمان وتمر على خطوات من
مضارب البدو وخيامهم دون أن
يتعرضوا لها بشيء من الأذى ولم
تمض إلا أيام حتى فهمنا السبب
فبطل العجب وعلمنا أن الخطأ يقع
علينا لا على هؤلاء البدو 0 كان
اليهود يسترضونهم بشتى السبل
ويحيطونهم بكثير من صنوف
الرعاية والإغراء فهذه أنابيب
المياه تصل إلى خيام البدو
والماء عند البدو ضرورة عزيزة
المنال يسير من أجله ساعات
طويلة على جمله ليحصل عليه فإذا
كان اليهود يمدونه به حتى خيمته
فذلك جميل ما بعده جميل وها هم
أولاء قوات المستعمرات
اليهودية يضيفون البدو في
خيامهم ويسامرونهم ويأكلون
عندهم ((العيش والملح))
ويشاركونهم الأعياد والأفراح 0 ولا
أنكر أن بعض القبائل الأخرى
كانت في حالة
حرب مع اليهود من اليوم
الأول لهذه الحركات ولكن هذا لا
يمنع من تصحيح هذه الأوضاع
الفاسدة فبدوي واحد ممالئ
لليهود يحدث ثغرة عميقة في خطط
الدفاع ويكون أخطر من كتيبة
معادية تقاتلنا وجها لوجه 0 لابد أن
تصحيح هذه الأوضاع ليعلم البدوي
حقيقة هؤلاء الأصدقاء الألداء
ولقد جربت البدو بنفسي فوصلت
إلى نتيجة آمنت بها إيمانا
عميقا تلك هي أن البدوي لا ينقصه
الإيمان بقضيته والتعلق بوطنه
ولكنه في هذه مضطر لسلوك هذا
المسلك فليس لديه السلاح الذي
يواجه به قوى اليهود الموزعة في
كل قطعة من وطنه وهو في حالة من
الفقر لا تسمح له بشراء الأسلحة
وقد كانت تساوى مالا كبيرا في
ذلك الحين ولا توجد على مقربة
منه قوات عربية منظمة تستطيع أن
تدفع عنه العدوان وتحمى أولاده
وغنمه من هجمات العدو الغادرة 0 وإذن
فليس الذنب ذنبه ولكن الجرم يقع
على تلك الفئة التي وضعتها
الظروف في موضع القيادة من هذه
الحرب والذنب بعد ذلك يتركز في
الزعامة الشعبية التي لم تكن
تكلف نفسها مشقة التجول بين
هؤلاء الأعراب وتنظيم حركة
المقاومة في مناطقهم وتلقينهم
ما يجب عمله إزاء هذه الحالة 0 فعلى
الذين يتهمون البدو بالخيانة أ،
يتهموا أنفسهم بالتقصير
والتضليل وإذا قارنا بين جهل
البدوي المطبق وبين علمهم
ومسئولياتهم وعظم التبعة
المعلقة في أعناقهم أمكننا أن
نحدد التهمة وأن نضع الأمور في
نصابها الصحيح 0 أما
الذي صنعناه نحن لتصحيح هذه
الوضع وإثارة أعراب المنطقة فقد
كان من البساطة والسهولة بحيث
لا يحتاج إلى كثير من التفكير
والتدبير ذلك أننا أوعزنا إلى
بعض شباب الإخوان أ، يتسللوا في
ظلمة الليل ويبثوا الألغام على
الطرق اليهودية القريبة من
مضارب البدو دون أن يفطن أحد إلى
وجودهم ففعلوا وانفجرت الألغام
في إحدى القوافل اليهودية ولم
يكن العدو في حاجة إلى التفكير
ليعلم أ، هؤلاء البدو هم
واضعوها أو على الأقل مشتركون
في وضعها فأخذوا يطلقون عليهم
النار بلا حساب وكانت قوة من
الإخوان مستعدة على مقربة من
هذه المنطقة فأغارت على مؤخرة
اليهود وكان طبيعيا أن ينحاز
العرب إلى عرب مثلهم وأخذوا
يشاركوننا في قتال اليهود حتى
أرغموهم على دخول المستعمرات 0 وهكذا
نجحت الخطة وتحولت هذه القبائل
من ذلك الحين إلى قوة معادية
لليهود وعرف الإخوان كيف
يستغلون ذلك فجندوا عددا كبيرا
من شباب القبائل وأخذوا
يدربونهم على استعمال السلاح
حتى إذا أتموا تعليمهم وكلوا
إليهم الأعمال الخطرة والبدوي
بطبيعته مقاتل قوى البأس فوق ما
يتمتع به من مزايا تجعله بارعا
في الإخفاء والتمويه ولقد أظهر
هؤلاء الأعراب بعد ذلك إيمانا
قويا وتفانيا في العمل وكان لهم
أبعد الأثر في نجاح العمليات
الخطرة التي اضطلع بها الإخوان
بعد ذلك 0 ولقد
أصبحت هذه القبائل لا تكلفنا
إلا شيئا يسيرا من الذخيرة
وأفرادا من الإخوان يوجهونهم
وينظمون حركاتهم ولقد تداول على
قيادتهم عدد من خيرة شباب
الإخوان ممن أبلوا بلاء حسنا
وأظهروا كثيرا من الشجاعة
والمقدرة أذكر منهم المجاهدين :(
نجيب جويفل) و(حسن عبد الغنى) و(على
صديق) وغيرهم ممن تركوا آثارا
باقية وذكريات طيبة ولا يزال
رجال القبائل حتى اليوم يمتدحون
سيرتهم ويمجدون ذكراهم 0 وحين
تشعبت أعمال الإخوان واتسعت
الجبهات التي يحاربون فيها
وزادت القيود التي فرضتها
الحكومة لمنع دخول المجاهدين من
مصر اضطررنا لتشكيل مجموعات
منظمة من رجال القبائل وفتحنا
باب التطوع فانهالت جموع كبيرة
من شبابهم وفعلا تشكلت منهم عدة
(سرايا) وتركنا مهمة تدريبها
وإعدادها للأخ ( نصر الدين جاد)
الذي بذل جهدا مشكورا في
تنظيمها حتى صاغ منها قوة
مقاتلة استطاعت أن تثبت وجودها
وأن تشترك في معارك الإخوان
الكبرى ويكون لها أثر كبير في
نتائجها العامة 0 ولم
نترك هذه القبائل لمصيرها بعد
أن وصلنا لأقصى ما نريد من نتائج
في هذه المنطقة فأقمنا في
منطقتهم موقع( حصينا)للغاية
واخترنا لإقامته تلاً مرتفعاً
يشرف على مساحات كبيرة من الأرض
وأحطناه بالأسلاك والألغام 0 وزودناه
بالأسلحة والعتاد وكان ضباط
الإخوان يتداولون قيادته بنظام
ويشرفون منه على تنظيم دوريات
مسلحة تخرج بمعونة البدو وتتعرض
لقوافل التموين اليهودية
وتضطرها للدخول في معركة معها
تنتهي حتما بتدمير أغلب وحداتها
وقتل كثير ممن فيها وتكررت هذه
العمليات حتى روع اليهود وصمموا
على محو هذا الموقع وتدميره
فهاجموه بمصفحاتهم أكثر من مرة
غير أنهم لم يفلحوا في اقتحامه
كما كانوا يقدرون 0 ومما
يدل على مدى اهتمامهم به
وإصرارهم على احتلاله ذلك
الهجوم الذي شنوه صبيحة يوم (19|7)
وحشدوا له قوات كبيرة من جميع
المستعمرات القريبة ومهدوا
لهجومهم بضرب شديد من مدفعيتهم
ثم تقدموا تحت حماية المصفحات
واستطاع الإخوان أن يحيطوا بهم
وسط التلال المتناثرة على مقربة
من خربة ((أبو معيلق)) ويوقعوا
بهم هزيمة فادحة الخسائر
ويرغموهم على التقهقر بعد تدمير
عدد من المصفحات نظير شهيد واحد
خسره الإخوان هو المجاهد (سيد
حجازي) وعدد من الجرحى منهم قائد
الموقع في تلك الفترة المجاهد ((محمد
الفلاحجى)) من إخوان الدقهلية 0 لقد كان
هذا الموقع بمثابة صورة بدائية
لمستعمرة محصنة وكان الهدف منه
كما أسلفنا هو تثبيت القبائل
البدوية في أماكن سكناها حتى لا
تهاجر تحت عامل الخوف فتصبح
المنطقة كلها تابعة لليهود دون
قتال ولقد كنت شديد الاهتمام
بقضية إبقاء العرب في النقب
اعتقادا منى أن جلاءهم عن
أرضيهم وفرارهم يعنى تسليمها
للعدو ويعنى أن تمتد رقعة
المستعمرات ويصبح بإمكان
الوحدات الإسرائيلية فيها أن
تنتقل بحرية وأمان وأن تتجمع
قواها لتساهم في المعارك
الرئيسية ضد الجيش النظامي ومن
المؤسف حقا أن القيادة المصرية
لم تشاركني هذا الاهتمام بمصير
القبائل العربية في النقب ولم
توافق على منحى الأسلحة
والأموال اللازمة للتوسع في هذا
البرنامج ولكنني كنت مقتنعا
لدرجة أنني غامرت بأفراد قلائل
من الإخوان أرسلتهم ليعيشوا مع
البدو في مضاربهم ليدربوهم على
استخدام الأسلحة والألغام
والمتفجرات واعتبرنا كل قبيلة
بمثابة موقع جديد لنا حتى أصبح
لدينا عشرات المواقع باسم
القبائل العديدة القاطنة في
الصحراء وكانت هذه المواقع
ترتبط مع قيادتنا في ((البريج))
بأجهزة اللاسلكي وخطوط
التليفون كما كانت دورياتنا
المصفحة تجوب الصحراء في نظام
دوري في الليل والنهار لتوصيل
الإمدادات والتموين ولتحريك
الوحدات البدوية لضرب الأغراض
التي نحددها لها وقد كنت أجد
دائما سعادة لا تعادلها سعادة
حين أخرج مع هذه الدوريات
لزيارة أصدقائي المشايخ
والوجهاء ولأسمر معهم على
فناجين القهوة ((السادة)) وربما
نتناول الثريد ولحم الضأن الذي
ينهبه رجالهم يوميا من المزارع
اليهودية المجاورة 0 ولقد
حاولت مرارا متعددة أن أغرى
قيادة الجيش المصري باحتضان هذه
الفكرة ولكن النظريات
التقليدية للحرب كانت تقف حجر
عثرة أمام التفاهم على هذه
القضية كانت وحدات الجيش المصري
(مربوطة) على جانبي الطريق
الساحلي من رفح حتى أسدود في
شريط نحيل لا يتجاوز في أوسع
نقاطه عشرة أميال أما الأرض
المواجهة لهذا الشريط وهي في
الواقع فلسطيني كلها فكانت
بالنسبة لهم أرضا معادية وقد
ساعدت هذه النظرة الضيقة لأن
تصبح كذلك لأن جميع العرب
القاطنين فيها قد اضطروا
لإجلائها تحت الإرهاب اليهودي
وهكذا أصبح الجيش المصري يواجه
مساحة شاسعة يملكها العدو
الإسرائيلي ولا يبدو الشريط
الساحلي أمامها
إلا كخط بالقلم الرفيع على
صفحة الإسرائيلية من طور الدفاع
إلى طور الهجوم والتقت
المستعمرات اليهودية في جيش
واحد يندفع كالحراب المشرعة إلى
الجيش المسمر على الشريط
الساحلي الضيق يقطعه ويطويه حتى
يلقى به أخيرا أوصالا ممزقة
أمام الحدود 0 لقد
حاولنا كما أسلفت أن نقنع الجيش
بخطتنا لتثبيت السكان العرب في
النقب دون جدوى ولقد وضح لي الآن
أننا والجيش كنا ننتمي إلى
عالمين منفصلين أحدهما يقرأ كتب
الحرب ويطبقها حرفيا والآخر
يفهم الحرب ببساطة على أنها
البحث عن العدو لقتله حيث يكون
أحدهما يعتبر أرض فلسطين هي ذلك
الشريط الساحلي الضيق الذي تقف
على جانبيه قواته دون حركة
والآخر يعرفها أرضا واسعة تقع
بين البحر المتوسط وخليج العقبة
وكلها ميدان حرب مع العدو
المعتدى أحدهما ينتظر اليهود أن
يهاجموه ليدافع عن نفسه على قدر
الاستطاعة والآخر يؤمن بالهجوم
المستمر وبدون توقف وهو خلاف
قديم ظهر في حروب كثيرة بين
العقلية المتزمتة التي تريد أن
تخضع الظروف للنظريات الجامدة
والعقلية الحرة التي تريد أن
تبتكر من النظريات ما يتلاءم مع
الظروف الخاصة المتجددة وكان
طبيعيا أن تنتهي المحاورة
بانتصار صاحب الرتبة الأكبر
والنفوذ الأقوى وكانت النتيجة
أنني لم أتمكن من تنفيذ خطتي إلا
في حدود إمكاناتنا المتواضعة
وكم في نفسي وملأها ألما أنها
إمكانات لم تسمح لنا بحماية
أصدقائنا البدو طويلا وتركناهم
بعد أشهر من الزمالة الشريفة
يواجهون تصفية الحساب مع اليهود
وحدهم فيقتلون منهم كيف يشاءون
ويشردون الباقين مع نسائهم
وأطفالهم أما نحن فلم يختلف
مصيرنا عن مصيرهم كثيرا لأننا
كنا بعد نهاية الحرب وراء أسلاك
المعتقلات! ويذكرني
هذا الذي تم بيننا وبين قبائل
البادية في مناطق النقب بقصة
أخرى تدل على أن اليهود قد
استخدموا هذا الأسلوب من توثيق
علاقاتهم بالعرب لخدمة أهدافهم
الخبيثة 0 أذكر
أنني كنت أقوم بزيارة لمدينة
نابلس في أحد أيام شهر فبراير
سنة (1948) وكانت الزيارة للسلام
على القائد العربي (فوزي
القاوقجى) لدى دخوله فلسطين
وكنا وفدا كبيرا من إخوان يافا 0 وكان
الطريق الذي نسلكه يشطر مستعمرة
(بيت شيمن) إلى قسمين فما راعني
إلا الجنود اليهود يقفون عند
مدخل المستعمرة ويشيرون
لسيارتنا بالمرور بعد أن
يشيروا بأيدهم محيين وذهلت
لهذه الظاهرة فملت على أحد
الركاب من أهالي مدينة اللد
وسألته عن السر في ذلك وكيف أن
اليهود لم يطلقوا علينا النار
في الوقت الذي تدور فيه المعارك
بشدة في جميع أنحاء فلسطين 0 فقال لي
: ((إن اليهود قد اتصلوا بنا
وقالوا إن يهود اللد وعرب اللد
أصدقاء ولا يهمهم ما يجرى في
المناطق الأخرى))0 وانخدع
العرب فترة قصيرة من الزمن حتى
قامت جماعة معارضة كان قوامها
الشباب الكريم من أهالي المدينة
فاشتركت منطقتهم في القتال
وقامت بنصيب كبير فيه
ودارت الأيام دورتها وكانت
تلك المستعمرة هي المركز الذي
حشدت فيه القوات اليهودية
وهاجمت منه المدينة من الخلف
وأرغمت أهلها على الهجرة
والفرار بحياتهم موقعة بهم أشنع
ما عرفته الحرب من وحشية وإجرام
0 ولعل
القارئ قد فهم الغرض الذي كان
يرمى إليه اليهود من وراء هذه
الأساليب الماكرة من تشكيك
العرب في قضيتهم وإضعاف
المقاومة في بعض المناطق حتى
يتفرغوا لكبحها في المناطق
الأخرى ولاشك أنها أساليب تدل
على ما امتاز به اليهود من المكر
والخداع 0 تلك هي
القصة التي ذكرتها وأنا بصدد
معالجة ذلك الإشكال الماثل الذي
تعرض لي في صحراء النقب والذي
تغلبنا عليه بتلك الخطة المضادة
التي قمنا بها والتي فاتت غيرنا
من القوات العسكرية المنظمة حين
تركت هؤلاء البدو لشأنهم ولم
تفكر في الإفادة منهم حتى
أصبحوا سلاحا مغلولا ألقته
الجيوش العربية وحمله اليهود
واحتفظوا به وقد ينجحون في
استعماله لو واتتهم الظروف 0 -11- مع أحمد
عبد العزيز في حولته {
يأيها الذين ءامنوا قاتلوا
الذين يلونكم من الكفار وليجدوا
فيكم غلظة واعلموا أن الله مع
المتقين} أوضحنا
في صفحات سابقة كيف وقفت
الحكومة في طريق الإخوان
ومنعتهم من إدخال أفواج من
شبابهم كما كان مقررا من قبل 0 وكان
يمكن للإخوان أن يريحوا أنفسهم
من عناء الجهاد وويلات القتال
وأن يكتفوا بالتصفيق والتظاهر
كما زعامات مقدسة وأحزاب مرموقة
0 ولكن
الإخوان لم يفعلوا شيئا من هذا
بل نراهم يتلمسون كافة السبل
والحيل ويعملون جاهدين لتذيل
هذه العقبات وفتح الأبواب
المغلقة أمام الجموع الوافدة من
شبابهم المؤمن الذين تدفقوا من
الأقاليم والعواصم حتى اكتظ بهم
المركز العام وضاقت بهم شعب ((القاهرة))
وبدأت اتصالات كثيرة ومؤتمرات
متعددة انتهت إلى تكوين فرق من
المتطوعين يقودها ضباط من الجيش
وتتولى الجامعة العربية
تدريبها والإنفاق عليها 0 وكان
طبيعيا أن يرحب الإخوان بالفكرة
فهم لا يريدون إلا إنقاذ فلسطين
وانتزاعها من عصابة الشر وكانوا
يعلمون أيضا أنه لا توجد أخرى في
مصر يمكنها أن تساهم في هذه
الحركة بنصب كبير وإذن فالإخوان
هم الذين سيجاهدون مهما اختلفت
الأسماء وتغيرت المظاهر 0 وبدأت
حركة التطوع عن طريق المركز
العام وكان يشرف على تنظيمها
المجاهد الكبير المرجوم (الصاغ
محمود لبيب ) وكيل الإخوان
المسلمين وقائد وحداتهم
العسكرية ونجح بمعونة بعض
الشخصيات المجاهدة وعلى رأسهم
معالي (صالح حرب باشا وسعادة
اللواء ((عبد الواحد سبل بك)في
إقامة معسكر للتدريب في (هاكستب)
تتولى الجامعة العربية إمداده
وتنظيمه ويشرف على برنامج
التدريب فيه جندي ممتاز هو
البكباشى (حسين مصطفي) من رجال
الجيش العامل 0 ولقد
أخذ الناس بهذه الحركة العنيفة
والإقبال الشديد على التطوع
وعجبوا كثيرا لهذا الشباب الذي
يقدم نفسه للموت عن طواعية
واختيار وعهدهم بالشباب من
أمثال هؤلاء ينفرون من الجندية
حتى أنهم يقطعون أصابعهم كيلا
يصلحوا للانخراط فيها وكان آباء
المتطوعين وأمهاتهم أشد الناس
إشفاقا على فلذات أكبادهم أن
تلاقى الحتف برصاص اليهود 0 وشهد
معسكر (الهاكستب) في أول تكوينه
معارك عنيفة بين عواطف الأبوة
الحنون وعناد الشباب المؤمن
المتشبث بمبادئه ومثله العليا
فهذا شاب من الإسكندرية هو الأخ
المجاهد (عبد المنعم سعيد) يجرفه
هذا التيار العاتي ويصمم على
خوض غمار الحرب دفاعا عن
الإسلام وكرامته فيتفق مع نفر
من إخوانه ويغادرون الإسكندرية
خفية ويبذلون محاولات متعددة
حتى تسجل أسماؤهم في كشوف
المتطوعين ويقبلون على التدريب
في شغف ولذة ويبحث أهلوهم عنهم
طويلا ويبعثون في طلبهم ويشهد
معسكر (الهاكستب) حوارا عجيبا
بين بطلنا الصغير (عبد المنعم )
وعمه الذي جاء في طلبه فعمه
يحاول إقناعه بالعودة ويذكره
بمستقبله وحاجة أهله إلى سعيه
وكده والفتى بجيب بحدة وتبرم : ((
لا أريد العودة دعوني أؤد بعض ما
على من دين للإسلام )) ويتدخل
قائد المعسكر في الأمر ويحاول
إقناع الفتى باتباع نصائح عمه
ويحتد الفتى مرة أخرى ثم يصبح : ((لا
0 لا 00 لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق))0 أجل 00
أجل 0000 هكذا فهم الإخوان حقيقة
دورهم في فلسطين 0 جهادا خالصا
في سبيل الله لا سعيا وراء
الشهرة ولا طلبا للمغنم التافه
ولكن سعيا وراء عزة الإسلام
فإما نالوها وإما سقطوا شهداء
دونها 0 يئس
العم من ابن أخيه وأشفق القائد
على نفس الفتى المؤمن فلم يرغمه
على الخروج وظل بطلنا ينعم في
معسكره ويمنى نفسه باليوم
السعيد حين يقف أمام أعداء الله
وجها لوجه ومضى العم مشدوها مما
رأى مقتنعا أن شيئا جديدا قد طرأ
على شباب اليوم وأن هذا الجيل قد
بدأ يتجه اتجاها لا عهد للناس به
0 وليس
أعجب من هذا إلا أخ من إخوان
القاهرة هو المجاهد (محمد
العيسوى) وقد نجح أبوه بما له من
مركز ونفوذ في إبعاده عن
المعسكر بعد أن أخذ من القائد
وعدا بعدم قبوله من جديد وعز على
البطل أن تنهار آماله وتتحطم
على صخور هذه التقاليد البالية
ففكرة وقدر ثم هداه تفكيره إلى
وسيلة ناجحة فأخذ يهرب من أهله
كل يوم ويأتي إلى المعسكر حيث
يظل الساعات الطوال خارج
الأسلاك يراقب حركات التدريب
ويحاول تقليدها حتى إذا انتهي
اليوم أخذ من زملائه ما يكتبونه
من محاضرات عسكرية ورجع إلى
بيته حيث يستذكرها بشغف وعناية 0 وحين
تحركت الكتيبة الأولى إلى
العريش بعد نهاية تدريبها ركب
نفس القطار الذي سافرت به بعد أن
اشترى على حسابه بعض الملابس
العسكرية وفوجئ أفراد الكتيبة
وقائدها حين رأوه ينزل إلى
المحطة وظل أهله يوالون السعي
لإرجاعه ولكن قائد الكتيبة ولما
يمض على وصوله إلى فلسطين سوى
يومين اثنين 0 أمثلة
كثيرة لا يحيط بها الحصر ولكن ما
ذكرناه يصلح دليلا واضحا على
مدى ما وصل إليه الإخوان من نجاح
رائع وهم يحشدون هذا الشباب
ويربونه في مدرسة الإسلام
الخالدة 0 بدأت
الكتيبة تدريبها وبدأ الإخوان
شغفا شديدا بالتدريب وأقبلوا
على المحاضرات الحربية يوسعون
بها مداركهم ويزدادون إلماما
بوسائل الحرب الحديثة واستعمال
الأسلحة المختلفة وكانوا
مشوقين إلى السفر متعجلين
لتطبيق ما تعلموه عمليا في
أرواح اليهود حتى كان يوم (25
إبريل ستة 1948) إذ صدرت الأوامر
بإرسال هذه الكتيبة إلى الميدان
وكان قائدهم حتى ذلك الحين
البكباشى (زكريا الوردانى) وقد
كان المنظر مؤثرا حين حضرت
عائلات المجاهدين لوداعهم
وأقبلت جماهير غفيرة من الشعب
لتطالع الصفحة الجديدة التي
نشرت لتسجل قصصا رائعة من
البطولة يكتبها هذا الشباب
المؤمن بجهده وعرقه ودمه 0 ألا ليت
هذه الجماهير طالعت ختام هذه
الصفحة وقدر لها أن تستقبل
أبطالها حين عودتهم لترى كي
تنخسف قيم البطولة في مصر 0 ليت هذه
الجماهير شهدت بعد ذلك كيف عاد
هؤلاء الأبطال بعد أن تركوا
أحباءهم تحت ثرى فلسطين وفيهم
من ترك عضوا من أعضاء جسمه
عربونا للعودة القريبة ولكن
الحكومة تكفلت باستقبالهم
ورصدت قوات من بوليسها لتكون في
انتظارهم لا لتقف لتحيتهم ولا
لتصطف على الجانبين لتعظيمهم
ولكن لتحرسهم الساعات الطوال
داخل سجون الأقسام سارت
الكتيبة فر رعاية الله ونزلت
إلى العريش وأخذت تعد عدتها
لدخول فلسطين وما هي إلا أيام
قلائل حتى لحق بها القائد
الجديد بصحبة عدد من الضباط
البواسل الذين عز عليهم
الانتظار فآثروا اللحاق بقوات
المتطوعين 0 وكان
القائد الجديد ضابطا من الفرسان
برتبة (البكباشى) غير معروف من
جنوده إذ لم يكن له ما يميزه عن
غيره من زملائه الكثيرين وإن
كان الضابط قد وصفوه لجنوده
بإكبار وإعجاب ذاكرين له دروسه
ومحاضراته القيمة في كلية أركان
الحرب وبطولاته الرائعة التي
سجلها في ميدان الفروسية 0 ولم يكن
هذا القائد الجديد سوى البكباشى
(أحمد عبد العزيز) الذي لمع اسمه
بعد ذلك في الحرب ودأبت الصحف
العربية على تتبع أنبائه
وتحركاته وأولته من العناية
والاهتمام ما لم تول أحداً من
قادة الجيوش العربية ممن
يفوقونه في المركز وبعد الصيت 0 ((نحن
إذا أردنا أن نؤرخ لهذه الكتيبة
المجاهدة نجد أنفسنا مضطرين
لتحليل شخصية قائدها لأن القائد
هو عصب القوة وعقلها المفكر ومن
خلال شخصيته وميوله نستطيع أن
نحكم على أعمال القوة ووسائلها
في العمل ولن تجد هذه الحقيقة
واضحة بأجلى صورها أكثر من
وضوحها في هذه الكتيبة المغامرة
ومدى انطباعها بشخصية قائدها
وميوله 0 خصلتان
هما الأساس ارتكزت عليه شخصية
أحمد عبد العزيز : أولاهما
: جرأة خارقة وولع شديد
بالمغامرة 0 ثانيتهما:
اعتزاز بشخصيته واعتداد
بمقدرته وكفايته 0 جرأة
غامرة وولع بالمخاطر وصل به إلى
حد التهور وكثيرا ما كان يعرض
نفسه لأخطار شديدة حتى أشفق
عليه ضباطه فلم يكن يجيبهم إلا
بكلمة واحدة (لن يصيبنا إلا ما
كتب الله لنا) واعتزاز بشخصيته
وكفايته كان كثيرا ما يصل به إلى
حد الغرور 0 وهاتان
الخصلتان هما اللتان دفعتاه
للزج بكتيبته في أخطار شديدة
والقيام بالأعمال الخارقة التي
ظلت الصحف تتداولها طوال فترة
الحرب وهاتان الخصلتان أيضا هما
اللتان دفعتاه لأخطاء جسيمة
عصفت بالكثيرين من رجاله وأثرت
تأثيرا بعيدا في النتيجة العامة
للحرب 0 تلك هي
أهم العناصر التي تكونت منها
شخصية هذا الرجل فلنحتفظ بهذا
الميزان في أيدينا ونحن نتابع
السير وراء حين قام بهجماته على
مراكز اليهود في النقب وحين وقف
بشدة ليدافع عن المدن
الفلسطينية التي تقع جنوبي
القدس 0 بدأ
أحمد عبد العزيز يعد قواته
لدخول فلسطين وكانت قوات
الاحتلال البريطاني لا تزال بها
فقام بعدة دوريات استكشف فيها
مناطق النقب الشمالية وصحبه في
الدورية الأولى الشيخ محمد
فرغلى رئيس الإخوان في فلسطين
والشيخ فريح المصدر شيخ عشائر
النصيرات الضاربة في صحراء
النقب وكبير معاونيه البكباشى (زكريا
الوردانى)0 وبعد
عدة ومشاورات قرر الدخول إلى
منطقة (غزة) ومهاجمة المستعمرات
الواقعة فيها فأصدر أوامره في(5)
مايو للتحرك ولكي يتفادى الصدام
مع قوات الاحتلال الإنجليزية
المقيمة على طريق الرئيسي في (رفح)
استعمل طريقا غريبا فسار
بسيارته على شريط السكة
الحديدية وهناك قابله الأهلون
مقابلة وتقدم أعيان المنطقة
إليه طالبين أن يعمل على تجنيد
أبنائهم وتنظيمهم ضمن قواته
فوعدهم خيرا 0 ولم تطل
إقامته في (خان يونس) فبدأ
عملياته بأن أرسل قوة صغيرة من
الإخوان تهاجم قافلة يهودية
فاشتبكت معها في (13)مايو
وأرغمتها على الفرار وفي هذه
المعركة سقط الشهيد المبرور ((
فتحي الخولى )) الشاب الذي أشرنا
إليه في أول هذا الباب . كانت
خطة احمد عبد العزيز ترمى إلى
مهاجمة المستعمرات اليهودية
وكان يريد أن يسلك الخاطئ الذي
سارت فيه قوات الإخوان الحرة من
قبل ولقد اتصل به الأستاذ (( محمد
فرغلى )) وبين له خطورة هذا
الإجراء متخذا من كارثة الإخوان
في ((كفار ديروم ))مثلا لما يقول
لكن هذه النصائح لم تجد سبيلها
في نفس احمد عبد العزيز وعز عليه
أن يتراجع في أمر أبرمه فصمم على
مهاجمتها وقدر له أن يتلقى على
يدها درسا قاسيا دفع ثمنه
الفادح من خيرة شباب الإخوان
وزهرة رجالهم . اتجه
تفكير احمد عبد العزيز إلى
مهاجمة مستعمرة (كفار ديروم )
أول المستعمرات وأقربها إلى طرق
المواصلات فبدأ في (10) مايو
بإرسال دورياته لتحصل على
معلومات تكون أساسا لخطته حتى
إذا تم له ما أراد نظم الخطة
وكانت كلها تدور على أ، مدفعيته
الضخمة ستدك الأبراج والحصون
ولن يجد مشاته أحداً في قلب
المستعمرة لأن حماتها سيكونون
جميعا تحت الأنقاض !!000 وكانت
خطته بإيجاز تقضى بأن تبدأ
المدفعية في دك الحصون في
الساعة الثانية صباحا لمدة عشر
دقائق يبدأ الفدائيون بعدها في
نسف حقول الألغام ومواقع
الأسلاك الشائكة ثم تهاجم
المشاة المستعمرة من ثلاث جهات
لتتم تطهيرها واحتلالها 0 وأترك
وصف هذه المعركة للأخ المجاهد (أحمد
لبيب الترجمان) أحد قواد
الإخوان في الميدان وقائد
جماعات الاقتحام في هذه المعركة
0 قال
الأخ ((لبيب)) : إن أول الأخطاء
التي تورطنا فيها كان تأخير
الهجوم عن موعده المقرر فبدل أن
تبدأ المدفعية ضربها في الساعة
الثانية بدأت في الساعة الرابعة
والنصف حين وضح النهار وأصبح في
مقدور العدو مراقبة المهاجمين
وحصدهم بالبنادق والرشاشات 0 أما
لماذا تأخرت ضرب المدفعية فكان
العذر أقبح من الذنب ذلك أن
الضابط المختص لم يسجل الأغراض
التي تقرر ضربها بالنهار ليسهل
عليه ضربها بالليل مما اضطره
إلى تأخير الضرب حتى بسفر
النهار وتتضح الأغراض وانطلقت
المدافع بعشرات القنابل
واستمرت الأبراج لا تتزعزع
وحينئذ وضح أمامنا أن الخطة
فاشلة وأن الهجوم لو استمر
فسيتحول لكارثة مروعة وحاولنا
تأجيل الهجوم ليوم آخر أو تحوير
الخطة بحيث تتلاءم والأوضاع
الجديدة ولكن الأوامر صدرت
بمواصلة الزحف واحتلال
المستعمرة وأطبقت المدفعية
الكبيرة أفواهها وانطلقت مدافع
(الهاون) تلف المستعمرة بسحابة
من الدخان 0 وبدأ
المجاهدون يزحفون إلى أغراضهم
والعدو الماكر يغرى بالتقدم حتى
أصبحنا على الأسلاك والمستعمرة
لا تزال هادئة ساكنة وفجأة
تشققت الأرض عن عيون كثيرة
وانسابت سيول دافقة من النيران
وتساقط المجاهدون حتى امتلأت
الساحة بالجرحى والشهداء 0 وكان
مقررا أن يدمر الفدائيون
الأسلاك الشائكة بألغام (البنجالور)
غير أن حملتها أصيبوا جميعا
ورأينا أنفسنا في وضع حرج
ونيران العدو لا تزال تشق
طريقها في الجموع العارية وفجأة
تقدم شاب أسمر طويل وصاح في
إخوانه ليتراجعوا إلى الوراء
وتراجعت الجموع قليلا للوراء
فقذف الشاب بنفسه على الأسلاك
الشائكة المشحونة بالألغام
فانفجرت وتطايرت الأسلاك
الشائكة وتطاير جسده معها ممزقة
وفتحت السماء أبوابها لتستقبل
ضيفا جديدة كان أهل الدنيا
يعرفونه باسم (عمر عثمان بلال) 0 وقضى
على البطل الجريء ولكن بعد أن
حقق المعجزة وفتح لإخوانه ممراً
في الأسلاك وفرشه لهم بدمه
الطاهر وتدفقت الجموع إلى
المستعمرة وأخذت تحتمي من نيران
العدو بحفر القنابل وخنادق
المواصلات ورأى العدو ذلك فجن
جنونه وأخذ يركز الضرب على هذه
الثغرة وانطلقت مدافعه
ورشاشاته تقيم أمامها سداً
كثيفا من النار والبارود
فارتكبت الجموع مرة أخرى ووجدها
العدو فرصة سانحة فشدد النكير
وفجأة وصلت المهزلة إلى آخر
مراحلها إذ انطلقت مدفعيتنا من
الخلف وبدل أن تصب نيرانها على
اليهود المختبئين في المستعمرة
أصابت المجاهدين الزاحفين
حولها وتسبب هذا الخطأ الشنيع
في قتل عدد كبير وكان طبيعيا أن
يحل الذعر وتنهار الروح
المعنوية وتتوقف المعركة عند
هذه النهاية الدامية وتفتح
الجنة أبوابها لتستقبل سبعين
ضيفا جديدا من خيرة شباب مصر
وتستعد مستشفيات (غزة) و(القاهرة)
لتستقبل خمسين جريحا من جرحى
هذه المعركة 0 وكان
ممن جرح فيها اليوزباشى البطل ((معروف
الحضري)) فحمله الإخوان من داخل
المستعمرة حيث رحل للعلاج في
القاهرة وقبل أن يتماثل للشفاء
عاد ليواصل جهاده ويلعب دورا
هاما على مسرح الحرب 0 ولا
أنتهي من الحديث عن هذه المعركة
بالذات دون أن أسجل خطأ فاحشا
وقع فيه المسئولون عنها ذلك
أنهم تركوا الشهداء والجرحى حول
المستعمرة دون أ، يعملوا على
نقلهم مما أثر تأثيرا بعيدا في
نفوس المجاهدين ولكي أصور فداحة
هذا الخطأ يكفي أن أقول أن جثث
الشهداء الأبرار ظلت ملقاة حول
المستعمرة أكثر من شهر حتى
استطاع كاتب هذه السطور بمعونة
نفر من إخوانهم نقلهم حين أعلنت
الهدنة في (18 يونيو)0 انتهت
معركة (كفارديروم) على هذه
الصورة ولم يكن أحمد عبد العزيز
من شهودها إذ كان يتلقى أنباءها
أولا بأول من مقر قيادته في (خان
يونس) وحين تلقى هذا النبأ جزع
جزعا شديدا وألم لفقد هذا العدد
الضخم من خيرة رجاله دون أن يحقق
أدنى نتيجة فصمم على أن يوقع
باليهود درسا مرا وأعاد لقوته
روحها المعنوية التي كادت
تتلاشى بعد هزيمتها في (كفار
ديروم)0 ضرب
المجاهدون حصارا محكما حول
المستعمرة وفي اليوم التالي
للمعركة حاول العدو تحطيم هذا
الحصار وإدخال قافلة كبيرة
محملة بالجنود والعتاد وكانت هي
الفرصة التي ينتظرها أحمد عبد
العزيز ويسيل لها لعابه فنظم
لها (كمينا) محكما وحشد مدافعه
على سفوح التلال المشرفة على
الطريق وحين دخلت في الدائرة
التي رسمها أمر اليوزباشى (حسن
فهمي) قائد مدفعيته
فانطلقت المدافع من أبعاد قريبة
وحاول اليهود الدفاع عن أنفسهم
بادئ الأمر ولكنهم وجدوا
بأنفسهم محصورين داخل حلقة
فولاذية فاختاروا أهون الضررين
وقذفوا بأنفسهم من المصفحات
وحاولوا النجاة بأرواحهم
والفرار إلى مستعمرة (كفارديروم)
0 وكانت
هذه خطوة محسوبا حسابها في
الخطة إذ كان الأخ المجاهد (على
صديق) يقود فصيلة من المشاة
مختبئة بعناية وراء التلال
القريبة فلم يكد اليهود ينزلون
من المصفحات ويتحركون تجاه
المستعمرة حتى انطلقت الرشاشات
من كل صوب فحصدتهم حصدا ولم ينج
منهم أحد 0 وحاول
حماة المستعمرة نجدة إخوانهم
وتركهم الإخوان يغادرون
الأسلاك الشائكة ويبتعدون عنها
ثم بدءوا
يطلقون عليهم النار من ((أوكار))
معدة بعناية حتى سقط منهم عدد
كبير وتراجع الباقون إلى
المستعمرة وسكتت المدفعية
وأطبقت الرشاشات أفواهها
الملتهبة وأخذ المجاهدون يحصون
ما غنموه فإذا هم أمام خمس عشرة
مصفحة ضخمة مشحونة بأحدث طراز
من الأسلحة والذخائر ومواد
التموين ولأول مرة تعلو وجوههم
ابتسامات الفرح بعد هزيمة الأمس
حين فتحوا إحدى المصفحات
فوجدوها مليئة بالدجاج والطيور
من مختلف الأنواع والأحجام 0 وكان
نصرا رائعا رد لهذه الكتيبة
المجاهدة اعتبارها وعوض لها
خسارتها وبعد هذه المعركة تغير
الموقف واقتنع أحمد عبد العزيز
بالنظرة الأولى وهي أن مهاجمة
المستعمرات دون أن يكون معه عدد
من الدبابات الثقيلة إن هو إلا
ضرب من الانتحار فأخذ يستخدم (تكتيكات)
العصابات ويضرب المستعمرات
بمدفعيته دون أن يهاجمها ويعترض
طريق القوافل المصفحة ويبيدها
عن آخرها حتى أزعج اليهود
إزعاجا شديدا وحرم عليهم التجول
في صحراء النقب وكان مقدرا لهذه
الحركة أن تحرز نجاحا رائعا
لولا ماجد على الموقف الحربي من
أحداث وتطورات 0 ولقد
أشرت إلى قيامي بنقل جثث شهداء
الإخوان في كفارديروم وهذه
القصة لا تخلو من الطرافة على
الرغم من كآبة المناسبة وجو
الحرب المقبض في ذلك الحين ففي
صبيحة يوم (18) يونيو ظهر أحد جنود
((الهاجاناه) من كفارديروم وهو
يحمل راية بيضاء وتقدم نحو
مواقع المراقبة التابعة لنا وقد
أبلغني قائد المواقع بأمره
لاسلكيا وطلب الإذن باستقالة
لمعرفة ما لديه فأذنت له وحين
وصل أبلغ رجالنا أنه يحمل رسالة
شفوية من قائد المستعمرة مفادها
: أنه يرغب في الدخول معنا فيبحث
لإجلاء جثث الإخوان من حول
المستعمرة مقابل ((شروط معينة ))
وأن قائده مستعد لمقابلة أي
مسئول منا سواء في منطقتنا أو في
منطقته لبحث هذا الموضوع
الإنساني ولما بلغني الخبر
وافقت على الفور على مقابلة
قائد المستعمرة وعرضت أن يكون
اللقاء عند مستعمرته إذا لم يكن
لديهم مانع وتركت لقائد موقعنا
أن يحدد مع الرسول بقية
التفاصيل التي تتعلق بالوقت
والمكان ولم تكن لديهم أي شروط
للقاء سوى ألا نحمل معنا أية
أسلحة غير الأسلحة الشخصية التي
لا تتعدى المسدسات 0 والواقع
أنني لم أدرك حقيقة المخاطرة
التي انطوى عليها ذهابنا
للمستعمرة دون أسلحة إلا بعد أن
انتهي هذا الاجتماع الطريف ربما
لأنني كنت مشوقا لرؤية هذا
الحصن القاتل من قريب وربما
للتعرف على غريمنا في الجهة
المقابلة في جو عادى بعد أن ظل
اتصالنا به بواسطة القنابل
والرشاشات على أن
أهم ما في الموضوع كان في
الحقيقة نقل جثث إخواننا
الأعزاء ودفنهم دفنا لائقا بعد
مرور أسابيع على استشهادهم
وفعلا توجهت في الموعد المحدد
ومعي أربعة من ضباطنا أحدهم
يحسن اللغة
الألمانية بعد أن علمنا أن
قائد المستعمرة من أصل ألماني
والواقع أننا لم نحتج إلى
الترجمة حيث إننا وجدنا أكثر
رجال الوفد اليهودي يحسنون
اللغة العربية ومع أننا احترمنا
وعدنا بعدم أخذ أسلحة معنا سوى
المسدسات فإننا لم ننس أن نحرك
بطارية مدافع هاون(108) مم وعددا
من المصفحات إلى أماكن قريبة
على سبيل الاحتياط فيما إذا
تحرك الغدر اليهودي التقليدي
ووجدنا أنفسنا مضطرين للدفاع عن
حياتنا 0 كان أول
سؤال طرحه الضابط اليهودي هو عن
مصير بعض الجنود اليهود الذين
وقعوا بين أيدينا خلال
الاشتباكات السابقة مع القوافل
المصفحة وكان جوابي أنه لا يوجد
لدينا أسرى وإنما وجدنا فعلا
بعض القتلى في داخل السيارات أو
على أرض المعركة وأننا قد
نقلناهم ودفناهم بصورة عادية
وهنا زعم اليهود أننا قد
أخذناهم أحياء ثم قتلناهم وكاد
هذا الاتهام الوقح وردى المنيع
عليه أن ينهي البحث لولا أنه
تصنع الهدوء وعرض أن نضع على
القبور اليهودية ((نجمة داود))
وهو شعار إسرائيل ولكنني رفضت
هذا الطلب وعرضت أن نضع عليهم
علامات مميزة حتى يمكن التعرف
عليهم ونقلهم في نهاية الحرب
فوافق على هذا العرض وكان مطلبه
الثاني هو السماح لقافلة تموين
بالوصول إلى المستعمرة كانوا لا
يقلون عنا حرصا على نقل الجثث من
أرض المعركة مخافة أن تسبب لهم
الأمراض فوافقوا على مطلبنا على
أن ننقلهم دفعة واحدة في وقت
معين وعلى أن يكون الأفراد
الذين ستوكل إليهم هذه المهمة
غير مسلحين وفي بعض اللحظات
أدرك اليهودي أنني أكثر النظر
في المستعمرة وما يحيط بها من
أسلاك وأبراج وكأنه أدرك ما
يدور في خاطري فلفت انتباهي
بأدب قائلا(( ألا تعتقد أن،
المنظر في الجهة العكسية أجمل
وأفسح))وخلال الحديث قدم لي قائد
المستعمرة أحد مرافقيه الضابط
وهو من أصل روسي واسمه((آصف ))قائلا
: إن هذا الضابط هو الذي حاول قبل
بضعة أيام اختراق الحصار على
رأس فصيلة من الهاجاناه ولكن
نيران رشاشاتنا ردته فاشلا فقلت
إن وجوده معنا الآن يدل على أنه
محظوظ فعلا ونصحته بألا يحاول
اللعب بالنار مرة أخرى !!! ,اذكر
أن الحديث بعد ذلك تحول إلى
مبارزة كلامية وتهديدات مبطنة
ومحاولات مستترة لكسر
المعنويات وإثارة المخاوف وفي
ختام الجلسة قال له أحد الإخوان
مازحا : (( إنكم يهود حقا فلم
تقدموا لنا شايا ولا قهوة ولو
جئتم عندنا لأكرمناكم)) فرد
اليهودي قائلا: ((إنكم تحاصروننا
منذ بضعة شهور فمن أين لنا
القهوة والشاي؟ ثم إن مدافعكم
أمس دمرت مطبخ المستعمرة وأتلفت
الموقد الوحيد لدينا)) وكان
تعليقي على هذه المحاورة
المازحة أن هذه الأخبار هي عندي
أهم من القهوة والشاي!! وفي
العودة كفار ديروم انتابني شعور
غريب وأنا أعبر نفس الأرض التي
عبرتها قبل شهور
زحفا على البطن والرصاص يلفح
وجهي كأنه صفير الأبالسة!
والواقع أننا لم نحاول العودة
إلى (كفار ديروم) حربا وإنما
عدنا إليها في منتصف يوليو بعد
أن أفلحت خطة الحصار في إنهاك
قوتها واقتنعت القيادة
الإسرائيلية بسحب وحدة
الهاجاناه من هناك 0 وفي
اليوم التالي أرسلنا بضع سيارات
لنقل جثث الشهداء بعد أن أعددنا
لها مدافن في (مقبرة الإخوان
المسلمين القائمة على أحد
التلال المشرفة على قرية دير
البلح) وتم الدفن فعلا في حفل
رسمي حضره وجهاء البلدة والقرى
المجاورة 0 بعد هذه
الحوادث بدأت القوة المصرية
النظامية تزحف على فلسطين
بقيادة اللواء ((أحمد محمد على
المواوى)) واحتلت في زحفها
السريع كثيرا من المدن الساحلية
ثم توقفت في (غزة) لتنسق
عملياتها المقبلة وكان مفروضا
أن يبدأ التنسيق بتوحيد القيادة
في الجبهة المصرية ويبدأ
التعاون الفعلي بين قوات الجيش
وقوات المتطوعين وكان من رأى ((المواوى))
أن يخضع أحمد عبد العزيز لقيادة
الجيش العامة تنسيقا للعمل
وتوحيدا للجهد وكان يريد أن
يجعل من كتيبته (قوة ضاربة)
ترافق الجيش في عملياته 0 غير أن
أحمد عبد العزيز رفض هذه الفكرة
وأصر على أن يستقل بالعمل بحجة
أنه يقود جماعات من المتطوعين
لا يلتزمون بالأوضاع العسكرية
التي يلتزم بها الجيش النظامي
وأخيرا رأى (المواوى) حسما
للنزاع أن يتولى أحمد عبد
العزيز قيادة منطقة (بئر السبع)
على ألا يتجاوزها شمالا فيدافع
بذلك عن مفتاح فلسطين الشرقي
ويوزع قوات العدو بين جبهتين
واسعتين ويحمى ميمنة الجيش
المصري من خطر الالتفاف 0 وقبل
أحمد عبد العزيز هذا الرأي فجمع
قواته واخترق بهم صحراء النقب
ماراً بمستعمرة (العمارة) حيث
ضربها بمدفعيته في (17 مايو) ودخل
بئر السبع حيث قابله السكان
مقابلة رائعة ولم يكد يسافر بها
حتى بدأ أولى حركاته بضرب
مستعمرة(بيت إيشل) الحصينة ثم
شرع في توزيع قوته على هذه
المنطقة فأرسل جزءا بقيادة
البكباشى((زكريا الوردانى))
ليحتل (العوجة)و(العسلوج)
العربيتين وأبقى جزءا آخر
بقيادة اليوزباشى (محمد عبده)
ليتولى الدفاع عن مدينة (بئر
السبع) ومنطقتها 0 أما هو
فقد اتخذ قيادته في المدينة
وأخذ يرسم الخطط لمهاجمة اليهود
في كل مكان من الصحراء وبدا أن
الخلاف قد انتهي عند هذا الحد
وحل محله التعاون والانسجام
لولا أن جاء وفد من مدينة (الخليل
)في (19) مايو وقابل أحمد عبد
العزيز والتمس منه إرسال جزء من
قواته للاشتراك مع الجيش
الأردني في الدفاع عن الخليل
وبيت لحم وهنا نجد أحمد عبد
العزيز يوافق على توزيع قوته
ويقرر الزحف إلى الخليل غير
عابئ بالتعليمات التي اتفق
عليها مع القائد العام وغير
عابئ بما قد تجره هذه الخطوة من
مشاكل سياسية إذ إن هذه المناطق
كانت تدخل ضمن الجبهة الأردنية
حسب الخطة العربية العامة 0 وفي يوم
(20) مايو زحف أحمد عبد العزيز إلى
الخليل على رأس قوة صغيرة تاركا
مهمة الدفاع عن مدينة (بئر السبع)
ومنطقتها لليوزباشى (محمود عبده)
وفصائل الإخوان المسلمين التي
تعمل تحت قيادته ولندع أحمد عبد
العزيز يواصل زحفه إلى الخليل
ولنقف نحن قليلا مع حماة بئر
السبع حيث نشهد طرفا من أعمالهم
الرائعة 0 قرر
اليوزباشى ((محمود عبده )) محاصرة
المستعمرة وإنهاك قوى العدو
بالغارات المتواصلة على
مواصلاته ومراكزه وأخذ يبعث
بالدوريات المسلحة لتجوب
الصحراء وتعترض طرق القوافل
وترغمها على الفرار تاركة خلفها
الكثير من الأسلحة ومعدات الحرب
0 ولقد
حاول اليهود في (7) مايو توصيل
بعض المؤن إلى مستعمراتهم
المحصورة وكان الطريق نسف هذا
الجسر حين مرور القافلة فوقه
وفعلا قامت قوة من بئر السبع
بقيادة المجاهد (على صديق )) وبثت
الألغام تحت الجسر 000000 واختبأت
داخل الشعاب والمنحنيات
القريبة ولم يطل بها الانتظار
إذ تقدمت قافلة العدو وهي جاهلة
تماما ما ينتظرها 0 فما إن
توسطت الجسر حتى انفجرت الألغام
الهائلة وتطايرت أجزاء الجسر في
الهواء وانقلبت مصفحات العدو في
الوادي السحيق وانتهز الإخوان
الفرصة فقاموا يقتلون كل من
تظهر رأسه تحت الردم 0 وأسفرت
المعركة عن قتل عدد من جنود
الأعداء وأسر عدد آخر من
المصفحات أطلق الإخوان على
أكبرها اسم قائدها (محمود عبده)
وكما أرهب محمود عبده (الضابط)
اليهود بخططه وكمائنه فقد أرهبت
محمود عبده (المصفحة) اليهود بعد
ذلك حين كانت تشترك عمليا في
جميع الدوريات الناجحة! أما
أحمد عبد العزيز والإخوان الذين
معه فما كادوا يدخلون مدينة (الخليل
) حتى استقبلهم السكان في
مظاهرات حماسية واجتمع الناس
بهم في مسجد (الخليل) إبراهيم
حيث وقف الأعيان ورءوس القبائل
يرحبون بمقدمهم ويبدون سرورهم
البالغ لدخول هذا النوع المؤمن
من المجاهدين إلى ديارهم وما
كاد الجمع ينفض حتى ركب أحمد عبد
العزيز في دورية إلى مدينة بيت
لحم 0 ولقد
بدأ النزاع بين الأردنيين
والمتطوعين في اليوم الأول إذ
كانت قوة من الجيش الأردني تحتل
المدينة وتتخذ من مركز البوليس
فيها قيادة لقوات الاحتلال
وكانت هذه القوة ترفع علمها على
سارية المركز وأراد المتطوعون
أن يرفعوا علمهم فمنعهم
الأردنيون بحجة أن هذه المدينة
إلى معسكرين هذا يشايع المصريين
وذاك يشايع الأردنيين ووجدتها
عناصر الفتن فرصا سانحة لبذر
بذور الجفاء واستغلها الجنرال ((كلوب))
أسوأ استغلال فأخذ يوغر صدور
المسئولين في حكومة شرقي الأردن
ويتخذ من هذا الموقف دليلا على
نوايا مصر إزاء جارتها العربية 0 قرر
أحمد عبد العزيز تخفيف القوات
التي تركها في (العوجة) و(العسلوج)
و(بئر السبع) وسحب معظمها إلى
الخليل وبيت لحم حيث أخذ ينظم
خطط الدفاع عن المدينتين متخذا
مقر قيادته في فندق (وندسور) في
أحد أحياء مدينة (بيت لحم)
الساحرة 0 يتبع ---------------------- الكتب
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |