ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت  21/02/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الإخوان المسلمين في حرب فلسطين

(1)

كامل الشريف

الزهراء للإعلام العربي

بسم الله الرحمن الرحيم

{ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين }

بسم الله الرحمن الرحيم

{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأمثال نضربها للناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين }

مقدمة الطبعة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد المجاهدين وعلى آله وأصحابه والداعين بدعوته إلى يوم الدين وبعد 0

فإن هزيمة العرب والمسلمين أمام اليهود في فلسطين ليست من الحوادث الهينة التي يستوعبها كتاب واحد وإن أسبابها وإن كانت واضحة لمن يسر الله له سبل الحق وأنار بصيرته وبصره مازالت مشكلة يستعصي فهمها على الكثيرين 0

ولست أزعم أنني أوفيت هذا الموضوع حقه لكنني أحمد الله عز وجل أن أتاح لي الفرصة وجعل لي فضل السبق فكان هذا الكتاب هو أول كتاب يتصدى للحرب الفلسطينية ويكشف الكثير من أسرارها ويمزق الحجب عن أخطاء فاحشة أريد لها أن تظل مخبوءة إلى أبد الآبدين 0

ولقد تنبأت في الطبعة الأولى حين توقعت اعتداءات يقوم بها اليهود ولم تمهلني الأيام كثيراً على قرب ما بين الطبعتين حتى سمعنا كثيراً عن الاعتداءات التي راح ضحيتها ألوف من  العباد الآمنين 0

وها نحن أولاء نوالي إرسال هذه النذر ونشير إلى العدوان الأكبر وقد أهل علينا ولفحت وجوهنا ناره ويوشك أن يحل بأوطاننا فيدمر علينا حضارتنا وينغص علينا حاضرنا ومستقبلنا 0

إن خطر الدولة اليهودية الدخيلة يزداد وضوحاً كل يوم ومما يعزينا أن الشعوب العربية والإسلامية أصبحت أكثر اقتناعاً بخطر هذا العدو الماكر وأكثر استعداداً لمكافحته واستئصال شأفته ولم يعد ينقصها إلا توضيح الطريق القويم وإزالة الشبهات التي تخيم على مداخل السبيل المستقيم 0

ماذا أعدت الحكومات العربية ؟

ماذا فعلت الحكومات العربية لمواجهة هذا الخطر المتزايد ؟

إن كل عدوان يقع من جانب اليهود وكل خطوة جريئة نحو تثبيت دعائم الدولة وتوسيع رقعتها نقابلها باحتجاج إلى هيئة الأمم وتكون احتجاجاتنا مرة شديدة اللهجة ومرة خفيفتها حسب عدوان اليهود ومدى خطورة أعمالهم 0

جفف اليهود بحيرة الحولة وسيستفيدون من خصوبة أرضها بدون حق وسيتحكمون في مصير الجيش السوري لو أراد التقدم خطوة واحدة للأمام 0

ونقل اليهود عاصمة دولتهم إلى القدس غير مبالين باحتجاجات الدول العربية ولا قرارات مجلس الأمن ولن يسمح اليهود ببقاء جيش أردني يقاسمهم المدينة المقدسة ويدور حول عاصمتهم بمواقعه في ( بيت لحم )  ( والخليل ) 0

واعتدى اليهود عشرات المرات على مواقع الجيش المصري ومعسكرات اللاجئين في غزة لتدمير قوة المصريين المعنوية وإقناعهم أن السلامة في الصلح مع إسرائيل 0

فماذا فعلنا إزاء هذا الاستهتار الواضح ؟ ملأنا ملفات هيئة الأمم باحتجاجات شديدة اللهجة حتى لم يبق فيها متسع لمزيد !

هذا عبث لا طائل وراءه وهزل جعل منا أمثولة المتندرين وأضحوكة الضاحكين 0

واجبنا نحو الأرض المقدسة :

إن واجبنا كعرب وكمسلمين يدفعنا للعمل على استرداد الأرض المقدسة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وأرض الإسراء والمعراج والتربة التي تحوى بين طياتها جموعاً متلاحقة من شهداء الإسلام وأبطاله 0

وحتى إذا تركنا ناحية الإسلام جانبا كما يريد دعاة الوطنية المحدودة أولئك الذين لا يفكرون في أمر إلا من خلال نظرتهم لمصلحة أوطانهم المجردة إننا نجد هذه الحقيقة مائلة أمام أعيننا وهي أن بقاء إسرائيل خطر يهدد الأقطار المجاورة لها وأن دفاعنا عن فلسطين يعتبر في الوقت نفسه دفاعا عن مصر وسوريا والأردن والحجاز 0

إن مصلحة الإسلام ومصلحة العروبة ومصلحة الوطنية المحدودة تلتقي كلها في مكافحة اليهود والقضاء عليهم وتخليص الإنسانية من شرورهم ومكائدهم 0

هل ينكر إلا مكابر جاحد أن اليهود يسيل لعابهم كلما ذكروا (سيناء ) المصرية ؟ إنهم يعتبرونها بقعة مقدسة ويعملون جاهدين لضمها إلى دولتهم بكل وسيلة فهي الأرض التي تاه فيها أسلافهم أربعين عاما وهي الأرض التي ناجى فيها موسى ربه وشهدت نزول الألواح والوصايا وهي الأرض التي حمتهم من طغيان الفراعنة أيتركونها وهي لا تقل في نظرهم قدسية عن فلسطين إن لم تزد ؟000

هذا إلى جانب أهميتها الاستراتيجية وقيامها كدرع صخري منيع يقف في وجه مصر ويتحكم كقلعة راسخة في البحرين الأبيض والأحمر ويقع بين قارات ثلاث أفريقيا وآسيا ولا يبعد كثيراً عن أوربا

يضاف إلى ذلك كله خصوبة أرضها وامتلاؤها بالمعادن والخامات اللازمة للنهضة الصناعية الإسرائيلية وهل ينكر أحد أن اليهود يعملون منذ الآن لاستخلاص بقية المدينة المقدسة من يد الجيش الأردني وطرد هذا الجيش نهائيا من فلسطين ليتم لهم احتلال البقاع المقدسة وتدمير المسجد الأقصى ليقوم على أنقاضه هيكل سليمان الموعود 0!

وما يقال عن مصر والأردن يقال عن سوريا ولبنان وأطماع اليهود فيهما معروفة غير منكورة فهل هذا الخطر يمكن السكوت عليه ؟ وهل هذا عدو يمكن مجابهته بهذه الوسائل المخزية الهزيلة ؟

الهزيمة الماضية :

يجب أن نتخلص من ظلال الهزيمة الماضية وألا نذكر منها إلا الدروس والعبر وأن ندرك تماما أن هذه الهزيمة لم تقع نتيجة لتفوق اليهود من الناحية العسكرية لقد وقعت لأننا كنا نحمل عواملها معنا من أول يوم بدأنا فيه حربنا مع اليهود فإن فساد نظم الحكم القائمة في العالم العربي وما طبعت عليه من طغيان وغفلة أمات النخوة في الشعوب وقتل فيها معالم الرجولة وخلفها قطعاناً هائمة لا يجمعها هدف ولا توجد بينها غاية وتركها تتخبط في دياجير من الظلمات يستحيل معها معرفة الحقائق ووضوح الأهداف والوسائل الموصلة إليها وكان من نتائج ذلك ضعف الجيوش العربية وانعدام الروح المعنوية فيها وضعف دربتها واستعدادها 0

واختلاف الدول العربية بعضها مع بعض اختلافا نتج عنه اصطدام الخطط ووجود ثغرات نفذ منها العدو المتربص 0

كل هذه المصائب كانت كافية لإيقاع الهزيمة فإذا جاءت بعد ذلك السياسية اليهودية وقوة تأثيرها على الدول الكبرى والمحافل الدولية ثم تفوق اليهود في القيادات العسكرية التي استغلت ما في يدها من قوة محدودة استغلالاً يشهد لها بالبراعة والمقدرة حين ظهر فشل قادتنا العسكرية في استغلال قواتنا الكبيرة استغلالاً سليماً كافياً فكان مثلنا ومثلهم كمثل متوسط الحال الذي يحسن استغلال ثروته ولا يضيع المليم إلا في المكان المناسب ومثل الغنى السفيه الذي يبعثر ماله يمينا وشمالا فلا تظهر عليه آثار النعمة ثم ينتهي به الحال إلى الإفلاس والخراب 0

إذا علمنا ذلك كله وربطنا المقدمات بالنتائج أمكننا أن نعرف أسباب الهزيمة وأن نحدد مواطن الداء العضال 0

إلى العلاج :

إن المحور الذي تدور حوله أنواع الفساد كما تدور أسراب البعوض حول المستنقعات العفنة هو فساد نظم الحكم في العالم العربي وكل محاولة للكفاح والإصلاح قبل تقويم هذا الأساس هي في الحقيقة ضرب من العبث وإضاعة الجهد 0

ونحن لا نريد أن ننافق مع المنافقين أو أن نأخذ مكاننا في صفوف المتملقين ونقول معهم : إن ((الحال عال )) ((وليس في الإمكان أبدع مما كان )) أو نحاول معالجة الأطراف البعيدة دون أن نضع أصابعنا على منابت الداء ومنابع الفساد 0

إن إصلاح نظم الحكم في العالم العربي يجب أن يكون الهدف الأول الذي تتطلع إليه صفوف العاملين فإذا فرغوا من ذلك فما أهون الإصلاح وما أيسر البناء إنه يصبح حينئذ سهلاً ميسوراً 0

إن النتيجة الطبيعية لإصلاح نظم الحكم هي قوة الشعوب وشعورها بالعزة والكرامة وإقبالها على التضحية والواجب وتوجيه جهدها وجهة صحيحة سليمة ومن وراء ذلك كله تكون قوة الجيوش وبناء المانع والأخذ بأسباب القوة والجهاد 0

خطوات لابد منها :

إن هذا الطريق الذي أوضحناه وأشرنا إلى مداخله قد يكون طويلاً وشاقاً ويلزم للشعوب كي تسير فيه وتنتظم على جوانبه كثير من الجهد والوقت وإن كل تأخير في مكافحة اليهود يكون في مصلحتهم دون ريب ويتيح لهم الفرص لمواصلة الإعداد ويدفعهم للتوسع على حساب العرب قبل أن تتغلب حركات الإصلاح في دولهم ويصبح من العسير إحراز كسب جديد 0

وإذن فلابد من وسيلة يكون من شأنها عرقلة الاستعداد اليهودي وتعطيل حركات الإنشاء القائمة في إسرائيل ويكون ذلك كله تمهيدا للغزو الأكبر ولن يتأتى ذلك إلا بوسيلتين تسيران جنبا إلى جنب وهاتان الوسيلتان هما :

1- الحصار الاقتصادي 0

2- حرب العصابات 0

الحصار الاقتصادي :

إن أول ما يهتم به اليهود هو السيطرة على اقتصاديات الشرق العربي وأكثر ما يعنيهم من قيام إسرائيل هو تحويلها إلى مصرف كبير تسيل فيه وإليه أموال اليهود من جميع بقاع العالم ولذلك فإن مقاطعة البضائع اليهودية ومنع التهريب إلى إسرائيل يعتبر وسيلة حاسمة لتدمير خطط اليهود والقضاء على دولتهم 0

إن الجامعة العربية تحاول هذه المحاولة لكن وسائلها الضعيفة لم تأت بالثمرة المرجوة وإن كانت الشعوب العربية بدافع من وطنيتها لم تتبادل التجارة مع إسرائيل حتى الآن بالطرق المباشرة فما لاشك فيه أن بضائع اليهود تدخل أسواقنا عن طريق الشركات الأجنبية الاستغلالية على أنها صناعة إنجليزية أو إيطالية وعن طريق هذه الشركات المنكودة يتم هذا التبادل وذلك شريان الحياة الذي يتدفق من دمائنا ليسيل في جسم هذا العدو المشلول والفضل أولاً وأخيراً لهذه الطائفة من الخواجات والمتمصرين الذين يأتون إلى ديارنا معدمين ثم يستغلون غفلتنا ليصبحوا أثرياء قادرين ثم يصل بهم الحال إلى معاونة خصومنا ونصرة أعدائنا ثم نجد بيننا من الحمقى من يصيحون في بلاهة (أحرار في بلادنا كرماء لضيوفنا)!

حرب العصابات :

حينما ساقتنا القوة الباطشة إلى المعتقلات عقب الحرب الفلسطينية كتبت عدة مذكرات للمسئولين في الجيش المصري ناديت فيها بوجوب تسخير القوة الشعبية الفلسطينية لإرهاق العدو وإرغامه على قتال طويل المدى بواسطة عصابات عربية صغيرة تنتشر في صحارى فلسطين فتدمر الجسور والطرق وتحرق المصانع والمعامل وتغير على المستعمرات الزراعية وتعمل يد التحريق والتدمير في مزروعاتها وآلاتها وتنشر الرعب والفزع في كل مدينة وقرية ومستعمرة وقلت : إن هذه الحالة لن تكلف كثيرا ولكنها كفيلة بتعطيل الجهاز الإنشائي في دولة إسرائيل وإرغام جيشها الكبير الذي تفرغ للتدريب والإعداد على حماية حدودها المترامية وعلى حراسة طرق المواصلات والمستعمرات والمصانع وغيرها من المراكز وفي ذلك ما فيه من إرهاق لميزانية الدولة وإشغال لهذه القوات إلى جانب الخسائر الهائلة التي يمكن أن تقع في الجنود والعتاد 0

وقد كان مما يساعد على نجاح هذه الخطة أن الحرب كانت لا تزال قائمة والشعب الفلسطيني لا يزال يعيش في مناطق من فلسطين المحتلة وليست هناك حدود معترف بها بين إسرائيل والمناطق العربية من فلسطين كما أن الدول العربية كانت تستطيع في ذلك الحين أن تعلن أن الشعب الفلسطيني قد استرد حقه في تحرير وطنه بالوسائل التي يراها بعد فشل التدخل العربي الجماعي في تحقيق هذه النتيجة ولقد كنا نعتقد أن اشتعال الحرب التحريرية من جانب الفلسطينيين قد يغرى العدو بتكرار مهاجمة شبه جزيرة سيناء فقد نصحنا بضرورة تحصين هذه المناطق تحصينا قويا ولقد اقترحنا من أجل تحقيق هذه الغاية بناء مستعمرات زراعية على طول الحدود في المناطق التي يوجد فيها الماء والأراضي الزراعية الصالحة كما دعونا إلى إنشاء قوات للبادية من القبائل العربية وإعدادها لتؤدى دورا فعالا في عرقلة وإحباط أي هجوم متوقع من جانب العدو وناشدنا المسئولين في الحكومة السعدية القائمة أن يشجعوا المصريين على الهجرة إلى سيناء وتعميرها حتى لا تبقى هذه المناطق الحيوية فارغة مما يغرى المستعمر الصهيوني باحتلالها 0

نعم صرخنا من وراء أسوار المعتقلات في مذكرات مكتوبة إلى المسئولين أن استمروا في الحرب وإذا كانت الظروف قد اضطرتكم لإنهاء الحرب النظامية هذه النهاية المؤسفة وخرجت جيوشكم مثخنة بجراح الهزيمة وبها شوق إلى الثأر والانتقام فأشعلوا حرب العصابات وهي كفيلة بتحقيق ما عجزت الجيوش النظامية عن تحقيقه وإن أمامكم كثيراً من الشواهد على نجاح هذه الوسيلة 0

إن العصابات هي التي حررت يوغسلافيا وهي التي حررت فرنسا من الألمان وهي التي دمرت حكومة الصين الوطنية وهي التي حررت إندونيسيا المسلمة وهي التي لا تزال ترج الأرض تحت أقدام الملايو وتوشك أن تفرغ من فرنسا في الهند الصينية 0

إن الوسيلة الوحيدة إرهاق إسرائيل وتدمير قواها واستنزاف ماء حياتها لن تكون إلا بحرب عصابات يقوم بها الشباب الفلسطيني الناقم المغبط الذي يتحرق شوقا لملاقاة أعدائه وتنغيص عيشهم كما نغصوا عليه حياته 0

قلنا هذا الكلام في ذلك الحين ولكن حكومة الإرهاب كانت مشغولة بقتل ((حسن البنا )) والقضاء على فكرة الإسلام وحين مادت الأرض تحت ذلك العهد الأغبر واصلنا الكتابة والنصح ولكن هذا الجهد كله ذهب أدراج الرياح

إني أصبحت مقتنعا أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات وليس هناك مفر من إعلان هذا الرأي ودعوة الجماعات الوطنية الشعبية في مصر وسائر البلاد العربية لتتعاون جميعا في هذا السبيل 0

هذه هي الأسلحة الخطرة التي يمكن توجيهها إلى إسرائيل : الحصار الاقتصادي المنظم وحرب العصابات المنظمة القوية 0

وإني إذ أصدرت هذه الطبعة الثانية من هذا الكتاب أشكر لحضرات القراء الكرام ذلك التشجيع الكبير الذي حبوني به عند صدور الطبعتين الأولى والثانية والذي حملته رسائلهم من مصر وسائر بلاد العروبة مما جعلني أزداد يقينا أن الكثرة الغالبة من شباب هذه الأمة لا تزال تولي قضية العروبة والإسلام في فلسطين ما تستحقه من اهتمام ورعاية .

ومادام هذا الصنف من المؤمنين يؤدى رسالته في بناء الأمة العربية الإسلامية الجديدة فإن عودة الأرض المقدسة إلى أحضان الإسلام باتت وشيكة الوقوع وإن طال المدى وكثرت تكاليف الجهاد وأعباؤه وكل آت قريب {ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا} 0

المؤلف

القاهرة (27 فبراير 1951)0

*     *     *

مقدمة الطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلاة وسلاما على نبينا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :

فإني قد ترددت كثيراً قبل أن أكتب هذه الصفحات عن جهاد الإخوان المسلمين في فلسطين مخافة أن يظن الناس أنى أقصد من وراء ذلك دعاية للإخوان أو تفاخراً بأعمالهم وجهادهم والإخوان بحمد الله أزهد الناس في الدعاية وأشدهم عزوفا عن الضجيج والإعلان ثم إن النتيجة العامة للحرب ليست مما يشجع أحداً على الفخر ببطولته مهما كان شجاعاً أو بجهاده مهما كان مخلصا في هذا الجهاد 0

   والناس من يلق خيرا قائلون له       ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل

وهذه الهزيمة التي منينا بها في فلسطين ليست هزيمة لطائفة دون أخرى ولكنها هزيمة تقع على الأمة العربية والإسلامية كلها ويشترك فيها الصغير والكبير وهذا الجيل والأجيال التي تليه والإخوان يحسون بهذه الهزيمة ويجترون مرارتها ولن يخفف من وقعها على أنفسهم أنهم أخلصوا النية في جهادهم وبذلوا أقصى ما يستطيعون من جهد ليحولوا دون وقوع الكارثة الرهيبة 0

ولقد سردت الوقائع كما شهدتها من غير تزييف ولا مواربة ذلك لأنني أعتقد أن الهزائم هي الوسيلة للنصر وأن الذي لا يهزم لا يعرف كيف ينتصر وليس عيبا أن تهزم الشعوب ولكن العيب كل العيب أن تستنيم هذه الشعوب للهزيمة وتستسيغ الراحة  و الدعة تحت ذكرياتها ونتائجها وكما أن معرفة الداء هي أول مراحل العلاج فإن معرفة الأخطاء هي أول مراحل النجاح ومن هنا حاولت أن أعالج ظروف الحرب الفلسطينية وأسباب الفشل قيها بشيء غير قليل من الصراحة وهو ما سيراه القارئ بارزا في كل جملة من هذه الصفحات فإن ضياع فلسطين وتشريد أهلها وهزيمة العرب والمسلمين فيها كل هذا عندي أهم بكثير من إرضاء حاكم أو قائد أو زعيم ولأني أريد أن أضع الحقائق المجردة على ما فيها من مرارة وقسوة بين يدي الجيل الجديد عساه يتخذ من هزائمنا جسرا يصل به إلى النصر الحاسم ومن أخطائنا وهفواتنا دروسا يستنير بها يوم يبدأ زحفه الميمون لتطهير الأرض المقدسة من أرجاس البشرية ونفايات الشعوب 0

ولعل من حسن الحظ أن تصدر الطبعة الثانية من هذا الكتاب وقد بدأ الشعب يعرف حقيقة جهاد الإخوان وتضحياتهم في حرب فلسطين ويعرف أن الاضطهاد الذي وقع عليهم إنما قصد به إبعادهم عن ميادين الجهاد خدمة للصهيونية والاستعمار كما بدأ الشعب يحس أنه كان مخدوعا حين خضع لتأثير الدعاية التي دبرتها حكومة الطغيان وساهمت فيها الصحافة المغرضة بنصيب وافر والتي حاولت فيها أن تنال من هذا الجهاد البريء لتظهره للناس في صورة مظلمة على أنه بداية لحركة ثورية كبرى أريد بها إضرام حرب أهلية في مصر وإغراق شعبها الآمن في لجة من الدماء 0

فإلى الجيل الجديد من الإخوان المسلمين حيث يتركز الأمل الباسم للإسلام وشعوبه 000 و إلى المهاجرين من أهل فلسطين حيث يهيمون على وجوههم في انتظار ساعة الخلاص 00 أهدى هذه الصفحات راجيا أن تنال القبول والله من وراء القصد وهو نعم النصير 0

المؤلف

القاهرة (18 مايو 1950)0

*    *   *

-1-

فذلكة تاريخية

((إن بريطانيا إذا حكمت أمة مائة عام

فإن سياستها تحكم بعدها مائة عام أخرى ))

فلسطين بلاد عربية منذ أكثر من أربعة عشر قرنا تلك حقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ولكن أبت السياسة الإنجليزية الاستعمارية إلا أن تجعل منها قضية شائكة متشعبة وأن تجعل من شعبها البائس كبش الفداء أمام سلطان اليهود ونفوذهم ولن تجد مشكلة لعب فيها الاستعمار دوراً رئيسياً كهذه المشكلة ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا : إن بريطانيا هي التي خلقتها لتحقيق خطة مرسومة فالمعروف أن اليهود اضطروا في أواخر القرن الماضي من جراء المذابح الهمجية التي وقعت عليهم في عهود الطغيان إلى التفكير في إيجاد وطن قومي يحتمون بجنسيته ويكون ملاذاً لهم إن هبت عليهم العواصف وأصبحوا هدفا لطغيان جديد ولم تكن فلسطين هي هدفهم الأوحد لكنهم اختلفوا في تحديد الأرض التي يلجئون إليها وكانت فلسطين أحد المواطن التي فكروا فيها لما لهم بها من صلات تاريخية ترجع إلى آلاف السنين وكانوا يعلمون حقيقة الصعاب التي تعترضهم في الوصول لهذه الغاية ففلسطين في ذلك الحين كانت جزءا من أملاك الدولة العثمانية فوق ما تحتله من مكانة خاصة في نفوس العرب والمسلمين فحاولوا جس النبض في عاصمة آل عثمان وتوجه زعماؤهم إلى الباب العالي يلتمسون شراء بعض الأراضي واستثمارها غير أن السلطان قابلهم بجفاء وغلظة مما جعلهم ينصرفون عن التفكير في هذا الشأن حتى قامت الحرب العظمى في عام (1914 ) وتغيرت تبعا لنتائجها أوضاع كثيرة في العالم وورثت بريطانيا وحليفاتها تركة ( الرجل المريض ) بمقتضى معاهدة ( سايكس بيكو )  في سنة (1916) وآلت فلسطين إلى بريطانيا فوجدها اليهود فرصة سانحة وقاموا يعاودون السعي فلم يجدوا هذه المرة إعراضا ولا جفاء ولكن وجدوا تأييدا وعطفا شاملا مما أغراهم بمضاعفة الجهود والسير بالفكرة نحو التنفيذ 0

كان هناك شبه اتفاق بين الحلفاء والجماعات اليهودية على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين واستطاعت الفكرة الصهيونية أن تكسب نصرا جديدا حين عمل بعض زعمائها أمام عصبة الأمم وترك للجنة منهم رسم الخطة التي تنتهجها دول الحلفاء لإبراز الفكرة إلى عالم الوجود ومن هنا جاء صك انتداب فلسطين ضربة قاصمة لآمال العرب ومشجعا لليهود على مواصلة الكفاح ويكفي لإبراز الشذوذ الذي كان يرافقه أن نثبت بعض ما جاء في نصوصه الرسمية فقد جاء في البند الثاني من ذلك الصك ما نصه :

((تكون الدولة المنتدبة (أي بريطانيا) مسئولة عن جعل البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي )) وجاء في المادة الخامسة ما نصه :

((يعترف بهيئة يهودية صالحة كهيئة عمومية لتشير وتعاون في إدارة فلسطين في الشئون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك مما يؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين ))0

ونلاحظ أن صك الانتداب قد حوى كل هذه الضمانات لليهود حين كان عددهم في فلسطين لا يكاد يتجاوز (6%) من مجموع عدد السكان ومما يؤكد تدخل الإنجليز ليخرج الصك على هذه الصورة الشاذة أن نصوصه لم تخرج في معناها عن الوعد المشهور الذي وجهه اللورد ((بلفور)) وزير خارجية بريطانيا في 2 نوفمبر سنة 1917) إلى البارون ((روتشيلد)) الزعيم الصهيوني الإنجليزي والذي جاء فيه :

((إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسنبذل جهدنا لتسهيل تحقيق هذه الغلبة على أن يفهم جليا أنه لم يؤت بعمل من شأنه أن يضير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلاد الأخرى))0

وواضح ما في هذا التصريح من تناقض عجيب فإن مجرد التفكير في إقامة وطن قومي لليهود يضر أبلغ الضرر ((بالطوائف غير اليهودية )) وهم أهل البلاد والغالبية العظمى من السكان 0

 

-2-

بريطانيا تغرر بالعرب

((اليوم انتهت الحرب الصليبية)) ... مارشال اللنبى

حاولت بريطانيا تخدير العرب والتقليل من هذا الخطر فأصدرت عدة تصريحات تشير إلى أن الوطن القومي لا يعنى قيام حكومة يهودية وإنما لا يزيد على كونه وطنا روحيا لليهود تماما كالفاتيكان للمسيحيين أو مكة للمسلمين و((لإظهار مواهب اليهود الثقافية وتمكينهم من ممارسة حريتهم الدينية وأكدت في الكتاب الأبيض الذي أصدره المستر (باسفيلد ) وزير المستعمرات البريطانية في عام (1930) ((أنها لا ترمى إلى إنشاء حكومة يهودية لأن كل محاولة لتوسيع الوطن القومي إلى نقطة أبعد من تلك التي وصل إليها تعتبر خرقا للعهود المقطوعة للعرب ))0

بيد أن هذه العهود الزائفة لم تمنع بريطانيا من السير في خطتها المرسومة وأخذت تضع الوسائل إنجاز المهمة التي انتدبت من أجلها في فلسطين فبدأـ بتعيين إدارة إنجليزية أغلب موظفيها من اليهود أو من الإنجليز الذين اشتهروا بعدائهم للعرب فعينت السير (هربرت صموئيل ) اليهودي مندوبا ساميا في فلسطين وعينت ( نورمن بنتويتش ) اليهودي نائبا عاما للحكومة وتركت له سن التشريعات والقوانين التي تسير عليها الإدارة وملأت المناصب الكبرى بالموظفين اليهود ثم فتحت باب الهجرة(المشروعة) على مصراعيه حتى زاد عدد اليهود أضعاف ما كان عليه قبل عهد الانتداب فبينما كان عددهم لا يزيد على خمسين ألف نسمة في عام 1916 وصل الرقم لأكثر من نصف مليون في عام (1940) ورغم هذا العدد الهائل الذي وصل بطريق الهجرة المشروعة فقد أخذوا ينظمون خطة واسعة لتهريب مئات الألوف من اليهود المقيمين في مختلف بلدان أوربا وكان المفروض أن ينتقل إلى فلسطين اليهود البؤساء الذين ضاقت بهم سبل العيش وذاقوا مرارة الحرمان في معتقلات النازية ولكن قلة تافهة من المهاجرين هي التي كان ينطبق عليها وصف المشردين أما الباقون فكانوا من الرجال الأشداء الذين حشدوا لغرض خاص وقد أوضح الجنرال ((مورجان)) رئيس منظمة ((الأونرا)) حقيقة الخبر حين قال : ((إن هؤلاء المهاجرين ليسوا مشردين ولا بؤساء وإنما يحشدون لمهمة سياسية لا تمت للإنسانية والإنقاذ بسبب من الأسباب ))0

وكانت بريطانيا تتعلل أمام العرب بعجزها عن وقف تيار التهريب بينما كانت ناجحة أبلغ النجاح في منع أي عربي من دخول فلسطين متى دعت الضرورة إلى ذلك كما وقفت أمام الإخوان المسلمين مما سيأتي بيانه بعد حين وكانت حركة التهريب وإيواء اللاجئين تحتاج إلى أموال طائلة يعجز عن توفيرها يهود فلسطين بمفردهم فلم تدخر الحكومة البريطانية جهدا في تسهيل السبل أمام وفودهم ليطوفوا أنحاء العالم ويستحثوا إخوانهم من اليهود على بذل التبرعات الضخمة وكان هذا يحدث في بريطانيا نفسها وتتولى الحكومة مهمة نقل هذه الأموال وتسهيل وصولها وصرفها 0

ولقد حاول العرب تقليد اليهود في هذه الحركة وطلبوا السماح لوفودهم بالطواف في بلدان العالم الإسلامي لجمع التبرعات والإعانات وصرفها في استنقاذ الأراضي وتنفيذ مشاريع الإصلاح ولكن السياسية المتقلبة كانت تضع في وجوههم كافة العراقيل وكمثال لذلك يكفي أن نذكر أن وفدا من المؤتمر الإسلامي العالمي الذي انعقد في القدس عام (1933) سافر إلى الهند ليتولى جمع التبرعات من مسلميها ولقى هناك إقبالا عظيما وترحيبا فائقا حتى أن نظام حيدر أباد تبرع بمليون روبية وتبرع مولانا طاهر سيف الدين ((سلطان البهرة)) بحوالي نصف المليون كما تبرع كثير من زعماء المسلمين وقادتهم بمبالغ كبيرة غير أن الحكومة فطنت لخطورة هذه الحركة فأرسلت إلى حاكم الهند العام بلاغا سريا تأمره بوقف هذا النشاط النشاط واتخاذ كل وسيلة لمنع تصدير هذه الأموال بحجة ((أن ذلك مخالف لسياسية حكومة جلالة الملك في فلسطين ))كما جاء في نصوص هذا البلاغ 0

ولم تقف معونة بريطانيا عند حد تسهيل السبل أمام اللاجئين وتمويلهم بل عمدت إلى سن تشريعات وقوانين تكفل انتقال الأرض العربية إلى اليهود عن طريق الضرائب الباهظة التي أثقلت بها كاهل الفلاح العربي وعن طريق تنازلها لليهود عن الأملاك الأميرية ومعظم الأراضي البور حتى بلغ ما وقع في يد اليهود من جراء هذه الخطة حتى عام (1938) أكثر من (22) بالمائة من مجموع الأراضي بينما كانت أملاكها قبل الانتداب لا تزيد عن (3) بالمائة من مجموعها ورأى العرب أن أرضهم توشك أن تنقرض من جراء هذه السياسة الغاشمة فالتمسوا من الحكومة تخفيف ضرائب الأملاك ومراعاة الفارق بين مستوى الفلاح اليهودي والفلاح العربي سواء في ناحية المال أو الإنتاج ووضع قيود تكبل انتقال الأرض بهذه الصورة وبخاصة أن اليهود كانوا يدفعون مبالغ خيالية إذ كان المتر الواحد يصل في بعض المناطق إلى مئات الجنيهات ولكن الحكومة استمرت في طريقها المرسوم مما اضطر الشباب العربي إلى إعلان حركة إرهابية على السماسرة والبائعين وأدى ذلك إلى اغتيال عدد من الخونة 0

وتعددت محاولات كثيرة لاغتيال عدد آخر لكنها فشلت وغادر أكثر السماسرة البلاد العربية المجاورة حيث لا يزالون يعيشون فيها عيشة بذخ وإسراف 0

ولم يكن في وسع الشباب العربي أن يفعل غير هذا إذ لم تكن لديهم كما أسلفت وسائل التنظيم والتمويل ولم يكن إخوانهم في أقطار العروبة جادين في معونتهم رغم المشروعات التي اقترحت والمؤتمرات التي انعقدت وتمخضت كلها عن قرارات كثيرة ((خطيرة)) لم يكن أثر مطلقا إلا في عوالم الحبر والورق غير أن هذا الحركات الإرهابي رغم أنها لم توقف حركة البيع والسمسرة جاءت بالنتائج الوخيمة إذ خلفت وراءها جراحا عميقة وخصومات شديدة بين القبائل التي ينتمي إليها القاتلون والمقتولون وبذلك حقق الاستعمار هدفين من أهدافه فاستمر في نقل الأراضي العربية لليهود وطبق نظريته التقليدية العتيدة (فرق 000 تسد) وهكذا انتقل كثير من الأرض العربية إلى اليهود والتنقل معها التفوق الكامل سواء في التجارة أو في الصناعة ففي الصناعة منحت حكومة الانتداب لليهود كثيراً من المشروعات الهامة كشركة الكهرباء الفلسطينية وشركات استغلال معادن البحر الميت وغيرها أما في التجارة فقد ابتدعت أسلوبا عجيبا في معاملة التجار العرب والتضييق عليهم ففرضت ضرائب باهظة على الوردات حتى تفتح الأسواق أمام الصناعات اليهودية المحلية 0

على أن هذه السياسية المستترة لم تلبث أن وضحت وضوحا سافرا حين أخذت بريطانيا تدرب الشباب اليهودي على القتال وتفتح السبل أمامه لتشكيل الفرق واسترداد الأسلحة ثم تمكنه من الاستيلاء على مخازن السلاح ومواقع الدفاع المنيعة ولم تغادر أرض فلسطين إلا بعد أن اطمأنت إلى تسليح المستعمرات والقرى وتحصينها ثم كشفت القناع نهائيا عن وجهها البغيض حين أسلمت اليهود أمهات المدن والموانئ العربية 0

-3-

العرب يدافعون عن حقوقهم

((إن أهداف الصهيونيين هي إبادة العرب جميعا وإقامة هيكل سليمان محل المسجد الأقصى)) .. دكتور ليدر - رئيس اللجنة الصهيونية

ما كادت الحرب العامة الأولي تضع أوزارها حتى شملت البلاد العربية موجة من اليقظة والنشاط فقامت تطالب بحقوقها وتستنجز دول الحلفاء الوعود التي قطعتها على نفسها للشريف ((حسين)) عاهل الحجاز بمنح البلاد العربية استقلالها وإحياء مجد الوحدة العربية البائدة وكان العرب يظنون أن الطريق ممهدة أمامهم لنيل هذه الحقوق بعد ما أعلن الرئيس ((ولسن))مبادئه الأربعة عشر التي أكد فيها حرية الشعوب وحقها المقرر في تقرير مصيرها غير أن هذه الوعود والعهود لم تلبث أن تلاشت وعلم العرب أ نهم كانوا مخدوعين حين وقفوا في صفوف الحلفاء متأثرين بالدعايات الباطلة والوعود الكاذبة فسرت في البلاد العربية موجة من الحنق لم تلبث أ، تحولت إلى عراك مسلح فنشبت الثورات الدامية في العراق والشام وغيرهما 0

هذا البلاد العربية أما في فلسطين فقد كان الوضع أخطر من هذا بكثير إذ كان على عرب فلسطين أن ينازلوا عدوين كبيرين في ميدان واحد كان عليهم أن ينازلوا العدو البريطاني ممثلا في حكومة الانتداب وأن يحاربوا أهداف الصهيونية ربيبته وصنيعته وبصدور صك الانتداب ومن ورائه وعد ((بلفور)) شعر العرب بخطورة المؤامرة التي تدور حولهم فقاموا يدافعون عن حقوقهم بالقوة بعد أن يئسوا من نزاهة الضمير البريطانية ومن تذكيره بالعهود التي قطعها على نفسه وأصبحت فلسطين منذ ذلك الحين مسرحا لثورات دامية ومعارك عنيفة بين الثوار وقوات الاحتلال ولا تكاد الثورة تبلغ شدتها حتى يصدر الإنجليز وعدا جديدا ويأمروا بتأليف لجنة من رجالهم لدرس الحالة واتخاذ الوسائل التي تكفل حقوق العرب فتقف الثورات وتباشر اللجان أعمالها وتقدم تقاريرها وتكون النهاية وعدا جديدا يضم إلى الوعود التي سبقته بينما تستمر الحكومة في خطتها المرسومة من تقوية اليهود وتثبيت جذورهم حتى كان عام (1936) حين أعلن العرب فيه الإضراب الكبير الذي استمر ستة شهور طوال تعطلت فيها موافق البلاد ومداسها وجابت المظاهرات السلمية أنحاء البلاد مطالبة بوقف الهجرة وإقامة حكومة وطنية وحاول الإنجليز قمع هذه الحركة بالقوة فبدأ احتكاك بين الحكومة والشعب لم يلبث أن تحول إلى ثورة لاهبة واستعصم المجاهدون بالجبال الوعرة ومضوا يغيرون على قوافل الإنجليز ومعسكراتهم وقلقت بريطانيا لهذه الحالة قلقا شديدا فأخذت تبعث بفرق كبيرة من الجيش لتطارد المجاهدين في قمم الجبال وكانت هذه القوات مجهزة بأسلحة حديثة معززة بالطائرات والدبابات وبلغ قوادها إدارة العمليات الحربية ضد الثوار وهما على التوالي الجنرال ((سيرجون ديل )) والجنرال ((سيرارشبالد ويفل ))والأخير هو الذي سطع نجمه في مواجهة الهجمات النازية والفاشية على مصر خلال الحرب العالمية الثانية وارتكب الإنجليز في هذه الفترة من الجرائم الوحشية ما يندى له الجبين فدمروا المنازل وأحرقوا القرى وتركوا المدن نهبا مباحا لجنودهم وأخذوا يسرقون الناس جماعات لأعواد المشانق ويفرضون أقصى العقوبات على من يشتركون في الثورة بطريق مباشر أو غير مباشر حتى إنهم كانوا يحكمون بالإعدام على من توجد في حوزته طلقة ذخيرة فارغة!

كل هذه الأساليب البربرية استعملتها بريطانيا في قهر الشعب الأعزل وصرفه عن حقوقه المشروعة غير أنها رأت أن هذه الأعمال لم تزد النار إلا اشتعال ولم تزد الشعب إلا تمسكا بحقوقه والدفاع عنها فعمدت إلى أسلوب جديد وطالبت ملوك العرب وأمراءهم نداءات للمجاهدين يطلبون فيها إنهاء الثورة ويعدون بالتدخل الحاسم لحفظ حقوق العرب المشروعة في فلسطين وانخدع العرب هذه المرة أيضا فأعلنوا نهاية الثورة وتألفت لجنة مشتركة لبثت في فلسطين فترة طويلة ثم قدمت تقريرها في عام (1937) ولم تكن هذه اللجنة بأحسن حظا من زميلاتها من اللجان السابقة لأن حكومة الانتداب كانت تنصرف حسب خطة مرسومة وتعمل لتحقيق الغرض الذي وجدت من أجله والذي حدده صك الانتداب وهو  قيام دولة يهودية في فلسطين غير أن هذه اللجنة أشارت بتقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين وكانت هذه المرة هي المرة الأولى التي أشير فيها بتقسيم فلسطين ولقد صمم عرب  فلسطين على استنكار هذه المشروع وإحباط تنفيذه وشاركهم في ذلك حكومات العالم العربي وشعوبه غير أن الحكومة البريطانية أبدت ارتياحا لهذا المشروع وأظهر اليهود موافقتهم عليه كخطورة أولى لتحقيق الكبير ولم تلبث الاضطرابات أن عادت للظهور احتجاجا على مشروع التقسيم فاضطرت الحكومة البريطانية إلى التضييق على العرب والقيام بحركة اعتقالات واسعة لقادة الشعب وزعمائه وحاصرت الحرم الشريف الذي يقيم فيه المفتى وعزلته من منصبه كرئيس للمجالس الإسلامي الأعلى وأمام هذا الإرهاب العنيف لم يجد العرب بدا من مقاومة العدوان بمثله فاشتعلت الثورة واشتبك الفريقان مرة أخرى في عراك دام استمر إلى منتصف عام (1939) ثم توقف حين اشتعلت الحرب العالمية الثانية ورأوا تأجيل النظر في القضية حتى نهاية الحرب 0

وبعد نهاية الحرب تجددت المشكلة من جديد وقام العرب يطالبون بريطانيا بإنهاء الانتداب البريطاني وإقامة حكم وطني يحقق للبلاد سيادتها واستقلالها وقام اليهود أيضاً يستنجزون بريطانيا وعودها ويضغطون عليها بمختلف الوسائل ليرغموها على تسليم البضاعة وظهر هذا الضغط بصورة إرهاب عنيف شنته العصابات اليهودية على قوات الاحتلال فاضطرت الحكومة الإنجليزية لإيفاد لجنة إنجليزية أمريكية بالاتفاق مع حكومة الولايات المتحدة لبحث المشكلة ووضع تقرير يتضمن وسيلة علاجها ولقد انتهت هذه اللجنة من سياحتها في عام (1947) وقدمت تقريرها الذي ارتأت فيه تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية وظل هذا المشروع موضوع أخذ ورد حتى عرض على الأمم المتحدة التي أقرته بأغلبية (25) صوتا ضد (13) صوتا مع امتناع (17) عضوا عن الاقتراع ولقد حاول مندوبو العرب منع تنفيذ هذا المشروع بكل الوسائل وحملوا هيئة الأمم المتحدة مسئولية المتاعب التي ستنشأ عن تنفيذ هذا القرار وأعلنوا متضامنين أن حكوماتهم ستمنع تنفيذ هذا المشروع بكل وسيلة وما كاد قرار التقسيم يذاع على العالم في (29) نوفمبر من عام 1947) حتى انفجرت القنبلة إلى ساحة حرب عنيفة ولم يلبث هذا الانفجار أن أحدث تأثيره في العالم العربي فقامت شعوبه وهيئاته تطالب حكوماتها بالتدخل في الصراع القائم حتى تحفظ حقوق العرب في فلسطين 0

-4-

فلسطين بين قوتين

{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } ((قرآن كريم))

نحن الآن في شهر نوفمبر من عام (1947) والعالم كله يرقب باهتمام النتائج التي توشك أ، تتمخض عنها لجان فلسطين في مجلس الأمن والعالم العربي يمسك أنفاسه جزعا على مستقبل شقيقته الصغرى وكان الجميع بعلمون أن قرار التقسيم  الذي يوشك أن يصدر سوف يحيل  الأرض المقدسة مهد الرسالات والسلام إلى بركة من الدماء تتناثر حولها الجثث والأشلاء فاضت الصحف العربية بأنباء الاستعدادات العسكرية التي تجرى في فلسطين لخوض حرب عنيفة يتقرر فيها مصير الجنسين وكان اليهود يستعدون من زمن بعيد تحت ستار من الكتمان ساعدهم عليه امتلاكهم لمناطق برمتها لم يكن عربي يستطيع دخولها وكان زعماؤهم يقتصدون كثيرا في إصدار التصريحات الرنانة تاركين هذه المهمة لزعماء العرب الأماثل الذين كانوا يرسلون التصريحات العنيفة والتهديدات المرة كل من عاصمة حكمه بصورة كان من شأنها تحزب الرأي العالمي ووقوفه في صف اليهود الضعفاء وكانت خدمة عظمى قدمها زعماؤنا الأمجاد من حيث لا يشعرون ولكن رغم هذا التكتم كان من المعروف أ، اليهود يملكون عدة منظمات عسكرية في فلسطين وبعض بلدان أوربا وكانت هذه المنظمات تزيد في مجموعها على الثمانين ألف جندي وقد شكلت على أساس حرب العصابات لتقاوم الهجمات العربية وكان أشهر هذه المنظمات جيش الهاجانا ((حرس المستعمرات )) الذي بدأ تشكيله إبان الحكم العثماني على هيئة نظام الخفراء وظل يكبر وينمو تحت رعاية الإنجليز حتى استطاع أن يكون جيشا منظما  كامل التدريب والإعداد ولقد ساعده على استكمال تدريبه اشتراك بعض وحداته في حروب الصحراء خلال الحرب العالمية الثانية تحت اسم ((الفيلق اليهودي))فاستطاع أن يتدرب تدريبا عسكريا مشروعاً ويشاهد عن كثب تشكيلات الجيوش الكبيرة وتحركاتها وساعدته هذه الظروف كذلك على تهريب كمية كبيرة من العتاد وتخزينها في مقاطعات مجهولة من أرض فلسطين ولقد حاولت بريطانيا أ، تدارى موقفها فقبلت تطوع عدد من الشباب العربي في جيوشهم ولكنها بدلا من أن تشركهم عملياً في الحرب كما صنعت مع اليهود إذا بها تشكل منهم مجموعات من ((الحمالين  الذين يعملون في الخدمات العامة وراء الخطوط ! وكانت كل القوات العسكرية في فلسطين عام (1936) وحدث خلاف بين زعماء هذه الوحدات فنشأت عن ذلك جماعات متطرفة كانت تميل إلى العنف والإرهاب وهي التي عرفت فيما بعد باسم ((أرجون زفائى ليومي )) وجمعية ((اشترون )) الإرهابية وهذه الأخيرة وهي التي قامت بالدور الرئيسي في أعمال الإرهاب التي شنها اليهود على البريطانيين في أواخر حكمهم وهي العمال التي اعترف بها الدكتور (( حاييم وايزمان )) (( رئيس الجمهورية الإسرائيلية )) في كتاب أصدره أخيرا بعنوان (( الخطاء والتجارب )) والذي قال فيه بصراحة : إن مماطلة بريطانيا في تنفيذ وعودها لليهود هي التي أثارت الجماعات اليهودية ودفعتها للقيام بأعمال الإرهاب .

ومن الفرق التي شكلت في مطلع هذه الحرب فرقة (( البالمخ )) الفدائية وقد أنشئت على النمط الروسي وسلحت تسليحا حديثاً يتناسب والدور الرئيسي الذي أعدت له وجلبت لها من الخارج سيارات مصفحة من النوع الذي صلح للسير عبر الأرض الفلسطينية وكانت جميع القرى والمستعمرات اليهودية مقامة على أساس عسكري يناسب الدفاع والهجوم فكانت كلها محاطة بالأسلاك الشائكة وحقول الألغام مليئة بالأسلحة والمعدات .

كانت هذه الاستعدادات تجرى تحت سمع الحكومة البريطانية وبصرها وهي التي كانت تولت تحصين المستعمرات وتسليحها وساعدت اليهود على إقامة مصانع الذخائر والأسلحة الصغيرة كتلك التي أقيمت في ((ناثانيا )) و(( الياجور )) وإلى مثل هذه المصانع كانت تهرب أجزاء السيارات و الدبابات من شتى بقاع العالم فتركت وتخبأ في الأماكن المعدة لهذا الغرض حتى إذا جاء الوقت المعلوم خرجت من مخابئها لتهاجم الجموع الشعبية شبه العزل .

هكذا كان الاستعداد اليهودي يجرى لحرب الإبادة التي عولوا على خوضها أما الجانب الآخر من طرفي الصراع فكان على النقيض تماما رغم الثورات المتلاحمة التي خاضها والتي اظهر فيها من ضروب البطولة ما قل نظيره في التاريخ فالشعب الفلسطيني ظل في (( حالة )) حرب مع الصهيونية وحليفتها بريطانيا منذ صدر (( وعد بلفور ))  وفي الوقت الذي كان يهود العالم كله يؤيدون اليهود في فلسطين تأييدا إيجابيا ويمدونهم بالأسلحة والذخائر والكفاءات العسكرية كان الشعب العربي الفلسطيني يقف في الميدان وحده ينازل دسائس اليهود والاستعمار ولا يجد من أبناء العمومة في الأقطار العربية المجاورة أدنى عون أو مساعدة اللهم إلا تلك المواقف المسرحية لمندوبي العرب في المحافل الدولية !

ولقد ظل هذا النوع من الجهاد هو المسيطر على عقول زعماء العرب ورجالهم حتى بدأ الصراع فعلا ولا يزال هو المسيطر على عقولهم حتى اليوم وبعد أن ظهرت النتيجة الحتمية لذلك الصراع 0

لذلك كله كان من طبيعي أن يبدأ القتال وليس هناك تكافؤ بين القوى المتحاربة ولقد أدرك الشعب الفلسطيني ذلك فقام ينظم نفسه بعد أن سبق السيف العذل فتشكلت في مطلع هذه الحرب عدة منظمات عسكرية أخذت تمارس التدريب على قدر ما تسمح به الحكومة الانتداب فتشكلت منظمة ((النجادة)) وتشكلت بعدها ((الفتوة))التي كان يشرف عليها الحزب العربي الفلسطيني وكانت جوالة ((الإخوان المسلمين )) مشكلة قبل ذلك بوقت قصير ولقد انخرط في صفوف هذه المنظمات ألوف من الشباب غير أن القيود التي فرضها الإنجليز على التسلح والتدريب وقفت حائلا دون إعدادها وتجهيزها فظلت مفككة لا يجمعها نظام ولا تربطها قيادة حتى بدأت المعركة وهذه الفرق لا تزال تدرب أعضاءها على السير في طابور منتظم ! ولم يكن في استطاعة الشعب الفلسطيني  أن يقوم بأي عمل جدي نحو إعداد نفسه فإن القيود التي فرضتها حكومة الانتداب كانت لا تزال تمنع العرب من إحراز الأسلحة فضلا عن الظهور بها والتدريب على استعمالها وإذن فإنه من الظلم البين أ، يلام الشعب الفلسطيني على هذه التقصير المعيب ولكن اللوم كله يتركز في زعماء الجامعة العربية الذين شغلوا ا أنفسهم بمعالجة القضية عن طريق المحادثات والمفاوضات والاعتماد على الوعود البريطانية الكابة دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة العمل الجدي فيقيموا لهم معسكرات في الدول العربية التي تتمتع بشيء من الاستقلال ويتولوا تدريبهم على أيدي الضباط الأكفاء ليكونوا على استعداد للدفاع عن كيانهم إذا جد الجد وطويت أوراق المحادثات وأصبح الحكم للقوة المسلحة 0

ومن الإنصاف للواقع أن نقرر أن زعماء الدول العربية قد فكروا أخيرا في سلوك هذا الطريق فقرروا في اجتماع ((عاليه)) في عام ((1947)) افتتاح معسكر على حدود سوريا وتكليف ا لهيئة العربية باختيار عدد من خيرة الشباب من مختلف الجهات ليتدربوا على أعمال العصابات والاضطلاع بالقيادات الصغيرة حتى إذا أتموا التدريب رجعوا إلى بلادهم ليدربوا غيرهم ويشرفوا على تنظيم حركة المقاومة في مناطقهم هذه الخطة كانت هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذ فلسطين وقد فهمها زعماء العرب بعد فوات الوقت ورغم ذلك فإن الحكومة البريطانية لمتسمح بتنفيذها ووجهت مذكرة إلى الحكومات العربية تستنكر فيها هذا التصرف وتعتبره عملا عدائيا موجها إلى مصالحها في فلسطين فانكمشت دول الجامعة أما هذه المذكرة وماتت الخطة في مهدها وبدأ المعسكر يسرح الشباب الفلسطيني وظلت حركة المقاومة الوطنية تعتمد على جماعات من المحاربين لا تجمعهم خطة ولا قيادة 0 وأرادت الجامعة أن تنظم الحركة في داخل البلاد فعينت الفريق ((طه الهاشمي باشا)) واللواء ((إسماعيل صفوت باشا)) يشاركهما عدد كبير من الضباط العراقيين والسوريين ومنحتهم سلطات واسعة وأموالا كبيرة ووكلت لهم مهمة التنظيم والتدريب ولكنهم لم يقوموا بعمل جدي لإنقاذ الموقف وبدلا من أن يعكفوا على تنظيم الجيش الداخلي في البلاد والتحكم في منابع القوة الدافقة والحماسة العنيفة في الشعب الفلسطيني أخذوا يجمعون عددا من المتطوعين من البلاد العربية وينفقون عليهم الأموال الباهظة ويجرون عليهم الرواتب الضخمة ونسى هؤلاء القادة ((العباقرة)) أن فلسطين لم تكن في ذلك الوقت في حاجة إلى رجل واحد من الخارج بقدر ما كانت محتاجة إلى عقول تنظم القوى الموزعة وتوجهها وجهة سليمة وحتى هذه السرايا التي أتعب القواد أنفسهم في إعدادها والإنفاق عليها لم تأت بالنتائج المطلوبة إذ كانت ضعيفة إلى أبعد الحدود في التدريب فوق أن أفرادها كانت تنقصهم الروح المعنوية العالية إذ كانت غالبيتهم من العمال المتعطلين الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم ووجدوا الجهاد فرصة سانحة للكسب فما كادوا يدخلون البلاد حتى تعددت حوادث السلب والنهب والتهجم على الأغراض والمتاجر 0

اشتد إحساس العرب الفلسطينيين بخطورة الحالة وضعف أملهم كثيرا في الجامعة العربية ولجنتها العسكرية ومضوا يواصلون إعداد أنفسهم بأنفسهم فانهالت وفودهم على البلاد العربية تستجلب الأسلحة والذخائر وتعتمد على الهيئات الشعبية فيجمعها وشرائها وتشكلت قيادات محلية في فلسطين  أخذت تباشر نشاطها في منطق مختلفة وكان أشهر القادة على الإطلاق الشهيد((عبد القادر الحسيني )) قائد منطقة القدس والشهيد ((حسن سلامة)) قائد المنطقة الوسطى ))0

ولقد كان ((عبد القادر)) قائد عصابات ماهرا وحوادث النسف والتدمير التي قام بها في أحياء القدس اليهودية تشهد له رحمه الله بالبراعة والمقدرة في تنظيم الخطط وتنفيذها ولقد بلغ من قوة هذه الحركات ودقتها أن اعتقد الإنجليز واليهود أنها لا يمكن أن تكون عربية إطلاقا وأشاعوا أن القائمين بها ليسوا إلا متطوعين من الألمان واليوغسلاف ممن يشتركون في الحركات وسبق لهم الاشتراك في حروب كبرى وكنا جميعا نعلم أنها حركات عربية صرفة يقوم بها العرب المجاهدون ممن يشرف على تدريبيهم وتنظيمهم ((عبد القادر الحسيني)) وصحبه الأبرار 0

ولازالت أذكر له تلك المعركة التي قادها عند ((كفار عصيون)) على طريق الخليل بيت لحم وكنت يومها في مدينة الخليل وشاهدت كيف استطاع عبد القادر الحسيني أن يحصر قوة يهودية مصفحة وظل يصليها نيرانا حامية بعد أن ضرب حولها حصارا لا فكاك منه حتى اضطرها إلى الاستسلام وكان عبد القادر يتفجر حيوية وحماسة ويعتقد أن هذه الانتصارات المدوية التي أحرزها هو يكاد يكون أعزل من السلاح سوف تشفع له عند أعضاء اللجنة العسكرية فتعطيه شيئا من المال الكثير الذي أخذته من الجامعة وشيئا من السلاح الذي جمع لها من كل بلاد العرب ولكن اللجنة العسكرية لم تشأ أن تسير على قول القائل :

يجود علينا الخيرون بمالهم              ونحن بمال الخيرين نجود

فرفضت  الدفع    ثم قبلت الدفع وماطلت في التنفيذ ثم تمطت ونفذت وكان المبلغ (370) جنيها وتركوا لمقدرته وكفاءته مهمة توزيعها على ثلاثة آلاف جندي كانوا معه أما السلاح فقد نفضوا أيديهم منه وقد يكونون تركوا له شراء السلاح من هذا المبلغ أيضا وتردد 0

((عبد القادر )) على اللجنة في تنقلاتها بين مختلف العواصم حتى يئس منها وقدم تقريرا إلى الجامعة في ( 6 إبريل سنة 1948 ) يحملها فيه مسئولية ضياع فلسطين وكأنه قد شعر أنه أدى واجبه وأنذر إذ استشهد بطلا في معركة القسطل في ((8)) إبريل أي بعد يومين من إرسال تقريره ومضى ((عبد القادر )) البطل إلى ربه يشكو له عدوان اليهود وعدوان اللجنة العسكرية للجامعة العربية !

أما ((حسن سلامة)) فلم يكن أحسن حظا من صاحبه إذ عمل أقصى ما يستطيع للدفاع عن ((يافا))والمنطقة الوسطى وأدار عدة معارك رائعة في منطقة ((تل أبيب )) قبل أن يلاقى حتفه في معركة ((رأس العين)) وبموت هذين القائدين تدهورت المقاومة العربية وفقدت أهم عناصرها وهي القيادة وظلت اللجنة العسكرية وجامعتها العربية تغطان في نوم عميق لا تقطعه إلا أحلام النصر الحاسم والفوز المبين 0

كانت هذه الفوضى ملحوظة في فلسطين خلال تلك الفترة وقد شاهدت آثارها بعيني وقت أن فرغ اليهود من إعداد أنفسهم وأخذوا يسيرون بفكرتهم نحو التنفيذ وكانت قواتهم المنظمة تتحكم فعلا في جبهات القتال وتقضى على حركات المقاومة في المدن والقرى واحدة تلو الأخرى ثم جاءت الجيوش العربية فقضت قضاء تاما على الشعب الفلسطيني ووصفته بالتجسس والخيانة والعمل لصالح الأعداء وكان ذلك بفعل دعايات الإنجليز واليهود 0000 وهكذا أخرج الشعب المكافح من مسرح الحرب وقضى عليه أن يظل بعيدا عن الميدان ويحرم حتى من حق الدفاع عن وجوده وكيانه !!!

يتبع

----------------------

الكتب المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ