ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
القواعد
القرآنية القاعدة
الثانية والأربعون: (وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُم) د.عمر
بن عبد الله المقبل الحمد
لله، وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن
عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين
لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما
بعد: فسلام
الله عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها القراء الكرام، وحياكم
الله في هذا المرفأ الجديد من
مرافئ هذا الشاطئ الإيماني الذي
يستمد روحه من كتاب الله؛
لنتذاكر شيئاً من معاني قاعدة
قرآنية محكمة، وثيقة الصلة
بواقع الناس، إذ لا ينفك أحدٌ
عنها، لكثرة تلبسهم بها، فكان
التذكير بها وبما دلّت عليه
أمراً مهماً، إنها القاعدة
القرآنية التي دل عليها قول
الله تعالى: {وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُم}[المائدة: 89]. وهذه
القاعدة القرآنية المحكمة جاءت
ضمن سياق الحديث عن كفارة
اليمين في سورة المائدة، قال
تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89]. ومعنى
هذه القاعدة التي نحن بصدد
الحديث عنها {وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُم}: هو حفظها عن
ثلاثة أمور: الأمر
الأول: حفظها عن الحلف بالله
كاذباً. والأمر
الثاني: حفظها عن كثرة الحلف
والأيمان. والأمر
الثالث: حفظها عن الحنث فيها إذا
حلف الإنسان، اللهم إلا إذا كان
الحنث خيراً، فتمام الحفظ: أن
يفعل الخير، ولا يكون يمينه
سبباً في ترك ذلك الخير الذي حلف
على تركه(1)، وبيان هذه الأمور
فيما يلي: أما حفظ
الأيمان عن الحلف الكاذب: فإن هذا
من أكبر الكبائر، وتلك هي
اليمين الغموس - التي تغمس
صاحبها في الإثم - يقول النبي
صلى الله عليه وسلم - كما في
البخاري - من حديث عبدالله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنهما
قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله ما الكبائر؟! قال: "الإشراك
بالله"، قال: ثم ماذا؟ قال:
"ثم عقوق الوالدين"، قال ثم
ماذا؟ قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين
الغموس"، قلت: وما اليمين
الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال
امرئ مسلم هو فيها كاذب"(2). وقد
بوّب البخاري: على هذا الحديث
فقال: باب اليمين الغموس، {وَلا
تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ
دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ
قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا
وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا
صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} [النحل:94]؛ دَخَلاً:
مكراً وخيانة. قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ومناسبة
ذكر هذه الآية لليمين الغموس:
ورود الوعيد على من حلف كاذباً
متعمداً"(3). وإنك
لتعجب - مع وضوح هذا الأمر بحفظ
اليمين، والتحذير من اليمين
الكاذبة - أن يتجرأ بعض الناس
على الأيمان الكاذبة، من أجل
لعاعة من الدنيا، أو من أجل دفع
مضرة عن نفسه بسبب كذبه أو
تحايله! ألم
يعلم هؤلاء أن عذاب الدنيا أهون
من عذاب الآخرة؟! ألم
يسمع هؤلاء حديث النبي صلى الله
عليه وسلم الذي يرتجف له القلب:
"من حلف على يمين صبْر يقتطع
بها مال امرئٍ مسلمٍ - هو فيها
فاجر - لقي الله وهو عليه غضبان"(4)
ويمين الصبر - كما قال العلماء -:
هي التي يحبس الحالف نفسه
عليها، وتسمى هذه اليمين الغموس(5). أما
الأمر الثاني - الذي يشمله اسم
الحفظ - في هذه القاعدة القرآنية
المحكمة: {وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُم}: فهو
الإقلال من الحلف، وقد ذم الله
تعالى من أكثر الحلف بقوله: {وَلاَ
تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ
مَّهِينٍ} [القلم: 10] وقال في هذه
القاعدة التي نحن بصدد الحديث
عنها: {وَاحْفَظُواْ
أَيْمَانَكُمْ}. والعرب
كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال
من الحلف، كما قال كُثَيّر: قليل
الألايا حافظ ليمينه *** وإن سبقت
منه الألية برت والحكمة
في الأمر بتقليل الأيمان: 1 - أن من
حلف في كلِّ قليل وكثير بالله،
انطلق لسانه بذلك ولا يبقى
لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن
إقدامه على اليمين الكاذبة،
فيختل ما هو الغرض الأصلي في
اليمين. 2 - كلما
كان الإنسان أكثر تعظيماً لله
تعالى كان أكمل في العبودية،
ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر
الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن
يستشهد به في غرض من الأغراض
الدنيوية(6). 3 - أنه
يقلل ثقة الإنسان بنفسه، وثقة
الناس به، فهو يشعر بأنه لا يصدق
فيحلف، ولهذا وصفه الله تعالى
بالمهين(7). لذا
ينبغي للآباء والأمهات
والمربين أن ينتبهوا لهذا الخلل
الذي يقع فيه بعض الناس، وأن
يربوا من تحت أيديهم على تعظيم
الله عز وجل، ومن صور ذلك: نهيهم
عن كثرة الأيمان بلا حاجة. والملاحظ:
أنه لو فُتّش في أكبر أسباب فشو
هذه الظاهرة لوجِدَ أنه من قبل
الأبوين والمربين، وهذا يفضي
إلى عدم تعظيم اسم الله
واحترامه وهيبته. ومن
اللطائف أن النبي صلى الله عليه
وسلم الذي امتدت دعوته ثلاثة
وعشرين عاماً، لم يحفظ عنه أنه
حلف إلا في بضع وثمانين موضعاً! فماذا
سيكون جواب بعض الناس الذين لو
أحصيت أيمانهم في سنة واحدة
لوجدتها بالعشرات، ولغير حاجة
ملحّة، فرحم الله عبداً حفظ
يمينه، ووقّر ربه، وعظم اسمه،
ولم يحلف إلا عند الحاجة! أيها
الإخوة الكرام: وثالث
المعاني التي يشملها اسم الحفظ
الذي أمرت به هذه القاعدة
القرآنية المحكمة: {وَاحْفَظُواْ
أَيْمَانَكُمْ}: حفظها
عن الحنث فيها إذا حلف الإنسان،
فإن الواجب على المؤمن إذا حلف
على شيء من أمور الخير أو من
المباحات أن يتقي الله ويبر
بيمينه؛ لأن هذا من تعظيم
المحلوف به وتوقيره - وهو الله
عز وجل -. ويستثنى
من ذلك: إذا كان الحنث ومخالفة
اليمين خيراً من الاستمرار فيه،
فتمام الحفظ: أن يفعل الخير، وأن
لا تكون يمينه سبباً في ترك ذلك
الخير الذي حلف على تركه. ومعنى
الحنث هنا: مخالفة المحلوف عليه. ومثال
ذلك: أن يحلف على أن لا يأكل
النوع الفلاني من الطعام، أو لا
يدخل البيت الفلاني، فإن الأفضل
هنا أن لا يستمر في يمينه، خاصة
إن ترجحت المصلحة في الحنث، وفي
صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: أعتم رجل عند النبي صلى
الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله،
فوجد الصبية قد ناموا، فأتاه
أهله بطعامه، فحلف لا يأكل من
أجل صبيته، ثم بدا له، فأكل فأتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكر ذلك له، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من حلف على
يمين فرأى غيرها خيرا منها
فليأتها وليكفر عن يمينه"(8). وفي
الصحيحين من حديث أبي موسى رضي
الله عنه، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إني -
والله - إن شاء الله لا أحلف على
يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا
أتيت الذي هو خير، وتحللتها"(9)،
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. والمقصود
- أيها القراء الكرام - أن نتأمل
هذه القاعدة القرآنية جيداً: {وَاحْفَظُواْ
أَيْمَانَكُمْ} بأن نحفظها عن
الحلف بالله كاذباً، وأن نحفظها
عن كثرة الحلف والأيمان من غير
حاجة، وأن نحفظها عن الحنث فيها
إلا إذا كان الحنث خيراً من
المضي فيها. وكلُّ
ما مضى - أيها الإخوة - يجعلنا
ندرك أن الشرع الحكيم أولى
موضوع الأيمان أهمية بالغة،
وبيّن أحكامها تمام البيان، من
أجل أن يعرف المسلم حدود هذه
العبادة، وأحكامها، وما يجب وما
يحرم وما يستحب، وأن ذلك كلّه
إنما شرع ووضح تعظيماً لله جل
وعلا، وليحفظ العبد يمينه من
العبث بها، أو التقليل من
شأنها، رزقنا الله وإياكم معرفة
حدود ما أنزل الله على رسوله،
وتعظيمها على الوجه الذي يحبه
ويرضاه، وأن يمنحنا الفقه في
دينه، والبصيرة فيه، إنه ولي
ذلك والقادر عليه، وإلى لقاء
قادم بإذن الله تعالى، والحمد
لله رب العالمين. _______________ (1) ينظر:
تفسير الطبري (10/562)، وتفسير
القرطبي (6/285)، وتفسير السعدي:
(242). (2) صحيح
البخاري (6522). (3) فتح
الباري: (11/556). (4) مسلم
(220). (5) ينظر:
شرح النووي على مسلم (2/160). (6) ينظر:
تفسير الرازي (6/65). (7) ينظر:
تفسير المنار (2 / 291). (8) مسلم
(1650). (9)
البخاري (6342)، ومسلم (1649). -------------------- هذا
الكتاب يعبر عن رأي كاتبه
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |