ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت  28/02/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الإخوان المسلمين في حرب فلسطين

(2)

كامل الشريف

الزهراء للإعلام العربي

-5-

الإخوان وقضية فلسطين

((إن كل أرض يقال فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله  هي جزء من وطننا له حرمته وقداسته والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره)) حسن البنا

لم يكن اهتمام الإخوان بقضية فلسطين وليد الحوادث الأخيرة التي أعقبت قرار التقسيم ولكنه سبق ذلك التاريخ بزمن طويل فالإخوان ((كهيئة إسلامية عالمية)) كانت تضع في برنامجها مهمة الدفاع عن القضايا الإسلامية في مختلف أنحاء المعمورة وكانت دورهم دائما موئلا للمجاهدين الأحرار من مختلف بلاد العروبة ومواطن الإسلام وكان لفلسطين دائما المقام الأوفى من عنايتهم واهتمامهم فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وهي تحتل مكانا وسطا في البلاد العربية وضياعها يعزل العالم الإسلامي بضعه عن بعض ولو نجح اليهود في احتلالها  لأصبحت دائما مباءة خطرة لعناصر الشر وبركانا زاخرا بالنار يزعزع أمن البلاد العربية وسلامها 0

وحين وضحت نيات السياسة البريطانية في فلسطين أخذ الإخوان يعقدون المؤتمرات تباعا ويبينون للشعوب والحكومات حقيقة هذا الخطر الذي يهدد كيانهم ومستقبلهم حتى نجحوا في إشراك العالم الإسلامي كله في هذه القضية وباتت قضية المسلمين والعرب لا قضية أهل فلسطين وحدهم وحين قامت القلاقل في فلسطين أخذوا يمدون المجاهدين بما يقع في أيديهم من مال وسلاح حتى كانت ثورة (1936) حين نجح عدد من شبابهم في التسلل إليها والاشتراك مع الثوار في جهادهم وبخاصة في مناطق الشمال حيث عملوا مع المجاهد العربي الكبير ((الشيخ عز الدين القسام)) وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية أخذ الإخوان يعملون للقضية عملا إيجابيا فأرسلوا وفودا من دعاتهم وشبابهم يؤلبون العرب ويستحثونهم للكفاح ويتولى نفر منهم تدريب الشباب الفلسطيني تدريبا سريا ولقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد حتى أصبحت شعبهم ودورهم هي مراكز القيادة وساحات التدريب ولا يزال أهل فلسطين يحمدون للداعية الإسلامي ((سعيد رمضان)) مواقفه الكريمة وأثره البالغ في توجيه الشباب العربي وجهة خالصة ويذكرون بالفخار والإكبار جهود الأساتذة ((عبد الرحمن الساعاتي ؛ وعبد المعز عبد الستار ؛ وعبد العزيز أحمد )) وغيرهم من كرام الدعاة والمدربين وما كان لهم من حسن التوجيه وطيب الأثر 0

ولقد أدرك اليهود ما ينطوي عليه هذا التدخل من خطر شديد على أهدافها وخططهم فقاموا ينشرون المقالات الطوال في صحف أوربا وأمريكا ويفعمونها بالتهم الخطيرة عن الإخوان المسلمين وحقيقة خطرهم على الولايات المتحدة وبريطانيا وكانوا يحاولون بذلك استعداء الحكومة الأمريكية لتقوم بعمل حاسم وسريع وتستأصل هذا الخطر الإسلامي الذي يهدد مصالحها بالزوال وليس أدل على ذلك من مقال كتبته فتاة صهيونية تدعى ((روث كاريف )) ونشرته لها جريدة ((الصنداى ميرور )) في مطلع عام (1948) ونقلته جريدة ((المصري )) لقرائها في حينه ونحن ننقل بدورنا أهم ما جاء به من التهم ليرى القارئ مدى النجاح الذي أحرزته الدعاية اليهودية حين أقنعت حكومات أوروبا بخطورة حركة الإخوان ودفعتها لمحاربتها بشده قالت الكاتبة في مقالها :

((إن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة وأن الإسلام هو خير الأديان جميعا وأفضل قانون نحيا عليه الأرض كلها ))0

ثم استطردت تصف خطورة حركة الإخوان إلى أن قالت :

(( والآن وقد أصبح الإخوان المسلمون ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط وأصبحوا يطلبون من كل مسلم ألا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة فقد حان الوقت للشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه وأي رجال يتسترون وراء هذا الاسم الرومانتيكي الجذاب  اسم ((الإخوان المسلمين ))0

وقالت - وهذا هو بيت القصيد -:

((إن اليهود في فلسطين الآن هم أعنف خصوم الإخوان المسلمين ولذلك كان اليهود الهدف الأساسي لعدوان الإخوان وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط ويعدون الآن العدة للاعتداء الدموي على اليهود في عدن والبحرين وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية وطالبوا علنا بانسحاب الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة ))0

وبعد هجوم عنيف على سماحة المفتى الأكبر وعلى فضيلة الإمام الشهيد ختمت مقالها قائلة :

((وإذا كان المدافعون عن فلسطين -أي اليهود يطالبون الآن مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لتنفيذ مشروع التقسيم الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة فإنهم لا يطالبون بذلك لأن الدولة اليهودية في حاجة إلى الدفاع عن نفسها ولكنهم يريدون إرسال هذه القوة الدولية إلى فلسطين لتواجه رجال الإخوان المسلمين وجها لوجه وبذلك يدرك العالم كله الخطر الحقيقي الذي تمثله هذه الحركة ))

(( وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي إذ واجهتها حركة فاشية نازية فقد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية تمتد من شمالي أفريقيا إلى الباكستان ومن تركيا إلى المحيط الهندي ))0

ولم يكن هذا المقال هو الأول من نوعه إذ دأبت الصحف على نشر مقالات مطواة من هذا النوع ولم يضيع الإخوان جهدهم في مناقشة هذه الأقوال إذ كانوا يعدون العدة لمناقشتها عمليا حين تلتحم الأسلحة ويبدأ دورها الرهيب فمضوا في خطتهم واستمرت وفودهم ودعاتهم يؤدون دورهم الجليل حتى تشكلت المنظمات العسكرية 0

وحين تشكلت المنظمات العسكرية العربية وأخذت تمارس تدريبها قام خلاف بين قواد ((النجادة)) و((الفتوة)) وفطن الإخوان للخطر الكبير الذي ينطوي عليه هذا الخلاف فقاموا بمحاولات كثيرة للتوفيق بين وجهات النظر المتعارضة انتهت باختيار المجاهد الكبير ((الصاغ محمود لبيب )) وكيل الإخوان المسلمين حينئذ للشئون العسكرية منظما لهذه التشكيلات فقبل هذا العمل الجليل وسافر إلى فلسطين وأخذ يباشر تنفيذ برنامجه الحافل الذي أعده لتدريبها وتنظيمها ولكن لم تمض إلا فترة وجيزة حتى فطنت حكومة الانتداب إلى هذه المحاولة وفهمت أن الدعوة الإسلامية تريد أ، تزاحم لتحتل مكان القيادة في النضال المنتظر ومعنى ذلك بوضوح أن تنقلب خطط الإنجليز رأسا على عقب وتفشل سياستهم في فلسطين فقاموا بمطاردة دعاة الإخوان وشبابهم وأمر ((الصاغ محمود لبيب )) بمغادرة البلاد ولقد قدر لكاتب هذه الصفحات أن يشهد بنفسه ناحية من نواحي الإرهاق التي عاناها الإخوان في فلسطين خلال تلك الفترة القاسية 0

هذا في فلسطين أما في مصر فقد كان دور الإخوان رئيسيا في تيسير الأمور على النحو الذي سارت عليه ويحذر بنا قبل أن نتكلم عن دور هم العسكري خلال الحرب أن نبين أثرهم البالغ في تهيئة الأمة لقبول فكرة الحرب إذ المعروف أن الجيش المصري لم يشترك   في الحرب الفلسطينية إلا استجابة لرغبة الشعب وتمشيا مع إدارته تلك الإدارة التي ظهرت بوضوح في المظاهرات الكبرى التي قادها الإخوان وعمت  أنحاء البلاد مطالبة الحكومة بالتدخل الحاسم للقضاء على الدولة الصهيونية الوليدة قبل أن تستقر أقدامها ويصلب  عودها وكان إجماع الشعب على هذا الرأي إعلانا لروح جديدة أخذت تسرى في  أوصاله بعد أن مزقه الاستعمار ونجح في قتل روح الجهاد في نفوس أبنائه وعلمه زعماؤه نوعا سقيما من الجهاد لا يتجاوز إلقاء خطب (عصماء) أو السير في مظاهرة عاتية تحطم واجهات المتاجر وتقلب عربات الترام وتصل إلى أقصاها من العنف والقوة حين تقذف وجوه رجال البوليس بالحجارة !

وكانت هذه الروح وليدة كفاح مرير دام عشرين عاما وثمرة جهاد متواصل لعوامل الضعف والانحلال لتحويل الشعب عن هذا الطريق الخاطئ وتهيئته تهيئة صحيحة لتحمل أعباء الجهاد المنتج والإقبال على تضحياته وتكاليفه ولقد وضحت هذه النتيجة بأجلى مظاهرها حين أصر الشعب كله على ضرورة العمل الإيجابي السريع لإنقاذ فلسطين والوقوف أمام أطماع الصهيونية ولو أدى ذلك إلى تدخل الجيش للمساهمة في القضاء على الدولة الآثمة ولقد ساعد الإخوان في تحقيق هدفهم هذا كثرة شعبهم التي امتدت في مدن القطر وقراه واجتمع فيها خلاصة شباب مصر المؤمن وكثرة خطبائهم ودعاتهم الذين كانوا يجوبون المدن والقرى داعين الناس إلى الجهاد الديني لإنقاذ الأرض المباركة من خصوم الإسلام الألداء فقامت في البلاد ثورة  إسلامية عنيفة كان من ثمارها تلك الحشود الهائلة من شباب مصر التي كانت تتوجه لمراكز الدعوة وكلها شوق إلى القتال وتحرق للجهاد والاستشهاد ولن يستطيع مكابر أ، ينكر على الإخوان جهادهم في هذا السبيل أو يقلل من أهمية هذا الدور التمهيدي للحرب الذي قاموا به فنجحوا في تعبئة القوى الشعبية وتوجيهها وجهة صالحة ونجحوا في حمل الأمة على قبول فكرة الحرب بل والمطالبة بها في إصرار وعناد ووقوف الشعب كله بعد ذلك يؤيد جيشه المحارب ويتحمل في سبيل ذلك الكثير من الضغط والتضييق في حريته وأرزاقه 0 وأود أن أبين أن هذه النتيجة ليست بالأمر الهين الميسور إذ تقدم الدول المحاربة وساستها كثيراً من الجهد والمال في سبيل إقناع شعوبهم بالحرب وتهيئتهم لخوض صعابها والوقوف أمام مصائبها وويلاتها ويحدثنا التاريخ القريب كيف قام (هتلر) ليقنع الأمة الألمانية أن الحرب هي الوسيلة الوحيدة لألمانيا لتخليصها مما نزل بها من ظلم صارخ وما فرض عليها من قيود قاسية أملتها معاهدة (فرساي) وظل يؤجج نيران هذه الأحقاد فترة طويلة من الزمن وينفق في سبيل ذلك ملايين الجنيهات حتى أصبح كل فرد في ألمانيا يؤمن بالحرب وينادى بالاستعداد لها ولم تكن هذه الأموال والجهود لتنفق عبثا إذ ثبت أ، هذه العقيدة هي التي جعلت ألمانيا تقدم على محاربة دول العالم جميعها وتتقبل الهزائم بعزيمة وجلد وتظل تحارب بشجاعة رغم تفوق خصومها وانهيار حلفائها حتى آخر شبر من ((الأرض العزيزة )) كما كانوا يسمونها 0

ولأهمية هذه الناحية في الحروب يجعل العدو أقصى تحطيم روح المقاومة في الشعب حتى ينقلب على كحكومته ويرغمها على الخروج من مسرح القتال وعدم المضي فيه كما في حدث في روسيا في إيطاليا في ختام الحرب العالمية الثانية حين ثار الشعب على حكومته بفعل الهزائم المتوالية واستغلال دعايات الحلفاء لها - كانت النتيجة تسليم إيطاليا واغتيال زعيمها والمحرك الأول لتلك الحرب ولعا هذا ما كان يرمى إليه اليهود من غاراتهم على القاهرة خلال الحرب الفلسطينية ولعلهم كانوا يأملون إضعاف روح المقاومة في الأمة نتيجة الغارات وما تحدثه من هدم وتدمير فتؤثر السلامة والابتعاد عن مسرح القتال 0

غير أن تربية الإخوان وتعاليمهم لم تضع هباء إذ ظل الشعب حتى آخر مراحل القتال وما صاحبها من هزائم وانسحابات يتمتع بروح معنوية عالية بل  رأيناه يعمد إلى القوة ليرغم الحكومة الضعيفة على عدم قبول الهدنة والتقيد بقرارات مجلس الأمن ومواصلة القتال في عنف وشدة ولا تزال هذه الروح تتألق في صفوفه حتى اليوم هذه الروح التي نأمل أن تواتيها الظروف مرة أخرى لتواصل الجهاد من جديد حتى تقوض أركان الدولة الباغية وتعيد لفلسطين المباركة عروبتها وإسلامها 0

وبعد أن علمنا أثر هيئة الإخوان في تهيئة الشعب للحرب وبعد أن علمنا أهمية هذه النتيجة في الجولة الماضية وما يتبعها من جولات نستطيع أن نحكم على عظم الدور الذي لعبه الإخوان في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ الأمة الإسلامية 0

والإخوان بعد ذلك لم يكونوا مبتكرين ولا مجددين حين أولوا هذه الناحية كل عنايتهم لأن الإسلام قد أولاها عظيم اهتمامه حين جاء ليثبت هذه المعاني في نفوس المسلمين ويوضح لهم الطريق الذي تسلكه الأمم الحية إن أرادت أن ترد حقا مغتصبا أو تذود عن حياضها بحد السيف وصدق الله العظيم { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس } { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما} 0

-6-

العقبات في طريق الإخوان

{قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً } قرآن كريم

لم تكن بريطانيا تجهل خطورة حركة الإخوان كدعوة إسلامية وأثرها على مصالح الاستعمار في مختلف بلاد الإسلام ولقد راع الإنجليز وزاد في مخاوفهم ما رأوه من إقبال الشباب على الجماعة وانتظامهم في سلكها حتى تجاوز عددهم مئات الألوف وتجاوزت فكرتهم حدود مصر إلى غيرها من مختلف بلاد العروبة ومواطن الإسلام حيث مناطق النفوذ البريطاني وحيث (( الأرض الطيبة )) التي حسبت بريطانيا أنها وقعت تحت يدها إلى قيام الساعة 0

رأى الإنجليز ذلك ورأوا معه أن هذه الجماعة تنحو منحى جديدا في التنظيم والتكوين فهي تعتمد على تربية الشباب وتركيزهم لا على استغلالهم في تهريج حزبي رخيص وهي تجمع الشباب حول فكرة الإسلام ومبادئه القوية القويمة لا حول أشخاص كل بضاعتهم أنهم يحسنون التغرير بالجماهير البائسة وتسخيرها لخدمة أغراضهم ومصالحهم رأى الإنجليز هذا فأيقنوا أنهم أمام الخطر الذي يهدد مصالحهم بالزوال 0

ورأيت الأحزاب أن سامرها قد انقضت سوقه وخلت إلا من بعض الوصوليين الذين المأجور الذي يقتات من صناعة المظاهرات والهتافات بحياة الزعامات الخاوية ولا يعلم له غاية يجاهد من أجلها ولا هدفا يعمل في سبيل تحقيقه 0

رأت الأحزاب الرجعية ذلك فلم تتفق على أمر طول حياتها بقدر ما اتفقت على محاربة الإخوان ومكافحة دعوتهم واشتدت المعركة بين عوامل الهدم وعوامل البناء المعركة الأزلية بين قوى الخير وقوى الشر وهنا أيضا التقى الاستعمار والحزبية التقوا على محاربة فكرة الإسلام وإطفاء نور دعوته حتى يعم الظلام من جديد وفي الظلام يستطيع الاستعمار أ، ينهب قوة الشعب ويسلبه عصارة حياته وفي الظلام يستطيع الزعماء الحزبيون أن يضللوا الشعب ويبقوا فوق عروش القيادة وحشود الشعب البائس تحملهم على أكتافها كما يحمل الغزاة الفاتحون !

وحين أزهرت سياسة الإنجليز في فلسطين وأشرقت على الإثمار والنضوج انتفضت البلاد الإسلامية في ثورة عنيفة منابعها دور الإخوان ومراكزها ولما وضحت الحرب وأصبحت حقيقة لا مفر منها قام الإخوان يفتحون المعسكرات ويدعون شبابهم لحمل السلاح ويمدون المجاهدين العرب بكميات وفيرة من العتاد ورأى الإنجليز ما في هذه الحركات من خطر يصيب سياستهم في الصميم فعولوا على إبعادهم عن الحرب ومنعهم من دخولها بكل وسيلة لقد رأينا ما كان من أمر ((الصاغ محمود لبيب )) وغيره من دعاة الإخوان وشبابهم وكيف طاردتهم سلطات الاحتلال وأرغمتهم على مغادرة البلاد ثم أحاطت الحدود بحراسة شديدة دقيقة لتمنع أيا منهم من دخول البلاد مرة أخرى 0

ولقد حاولت بنفسي دخول البلاد في نوفمبر (1947) فوجدت صعوبة كبيرة وأرغمت على العودة أكثر من مرة حتى اضطررت إلى قطع مسافة طويلة سيرا على الأقدام وطللت أنتقل بحذر حتى استقر بي المقام في مدينة (يافا) وكانت الحركات العسكرية قد بدأت تتسع وتزيد حدتها 0

وأذكر أنني بعد وصولي بأيام كنت أقود دورية من دوريات الاستكشاف والمعارك على أشدها في الشمال وكان الوقت ليلا ووجهتنا ضاحية من الضواحي المحطة ((بتل أبيب )) وفجأة رأينا السيارات الإنجليزية المدرعة تلاحقنا وتحيط بنا ثم ترغمنا على التسليم ولم نكن نملك وسائل المقاومة أما هذه القوة المسلحة فسلمنا ونزل الجنود الإنجليز يفتشون ملابسنا ويصادرون ما معنا من سلاح وذخيرة ثم يقتادوننا في آخر الأمر لأقرب مركز من مراكز الجيش وهناك بدأ استجواب  الأسرى البائسين 0

قال الضابط الإنجليزي : ((أنتم يا معشر الإخوان تحاولون إثارة القلاقل في فلسطين لا  تدعون فرصة تمر حتى تنتهزوها للوصول إلى هذه الغاية ولقد قمنا وراءكم الليلة بناء على معلومات حصل عليها أحد عيوننا المكلفين بمراقبتكم وتقصى أخباركم ))0

ثم أخذ يوجه إلى الأسئلة وقد علم أنني مصري الجنسية من ((البطاقة)) التي وجدوها معي وكنت أجيبه بشده أغاظته فأمر جنوده فدفعوا بي إلى إحدى الحجرات المظلمة وهو يهدد ويتوعد وظللت ساعات في تلك الحجرة الكريهة ثم فتح الباب أحد الحراس واقتادني إلى الخارج فوجدت إخواننا وقد شحنوا في السيارات المدرعة تمهيدا لنقلنا جميعا إلى مركز رئاسة الجيش في المنطقة 0

وخشيت سوء العقاب وكان أقلها إلقائي في السجن دون سؤال أو تسليمي لليهود كما حدث بل أيام حين اعتقلت السلطات الإنجليزية أعرابيا يحوم حول إحدى المستعمرات وسلمته لليهود لمحاكمته في تل أبيب وحوكم فعلا أمام محكمة يهودية وبرأته المحكمة وأطلقت سراحه في شوارع المدينة ! ولكنه لم يعد إلى أهله إذ أغرى اليهود بقتله في  إحدى حدائق البرتقال 0

كنت أفكر في هذا المصير والسيارات تنقلنا إلى هدف مجهول ولاحظت أن السيارة تمر بإحدى الحدائق الكثيفة فقذفت بنفسي منها وانتقلت إلى داخل ا النارية تلاحقني ولكنى نجوت وظل الإنجليز فترة طويلة يبحثون عنى دون جدوى إذ كنت قد اختفيت في الريف حتى تهدأ العاصفة 0

أما إخواننا الآخرون فقد حوكموا وسجنوا وأما الأسلحة فقد صودرت وذهبت هذه الواقعة مثر لطغيان الإنجليز  ومدى تآمرهم مع   الغزاة المعتدين 0

ولم تكن هذه الخطط لتصرف الإخوان عن مواصلة الجهد إذا أخذت مراكزهم وشعبهم في فلسطين تنظم حركة المقاومة على قدر ما تسمح به مواردها المحدودة وأخذ شباب الإخوان في مصر يتسللون فرادى للاشتراك مع العرب في حرب العصابات التي قامت على أشدها في ذلك الحين ومما يجدر ذكره في هذا المجال أن اليهود كانوا يعتبرون الإخوان ((مجرمي حرب )) وعلى ذلك فلا يجوز معاملتهم كأسرى بل كانوا يقتلونهم ويشوهون أجسامهم ولقد رأيت بعيني اليهود يمسكون بالمجاهد الكريم ((مختار منصور)) من إخوان القاهرة في إحدى المعارك التي دارت حول مدينة (يافا) ويقذفون به إلى إحدى مصفحاتهم ولم أعرف مصيره حتى التقى بي بعض العرب ممن اشتركوا في المعركة وكان نصيبهم الأسر فقالوا لي : إن اليهود استلوه من بينهم وأطلقوا  عليه النار وقد عرفوه من (البطاقة) التي يحملها ومن لحيته الخفيفة التي كانت تستدير حول وجهه وأعود إلى موقف بريطانيا من الإخوان فأقول : إن هذه الحالة كانت تجرى على الإخوان وغيرهم من المجاهدين بحجة المحافظة على فلسطين وأمنها وقت أن كان البحر يقذف الألوف من المهاجرين ممن تم تدريبهم وإعدادهم في بلدان أوروبا وأمريكا ويحرس سفنهم الأسطول البريطاني المغوار!

ظلت هذه الحالة قائمة على أشدها فالإنجليز يطاردون المجاهدين العرب ويحرمون عليهم القيام بالغارات على المستعمرات وتشترك مدرعاتهم في حماية القوافل اليهودية وتتعاون معهم فعلا في كثير من المعارك ولقد شاهدت بعيني خلال شهر ديسمبر عام (1947) عددا كبيرا من الضباط الإنجليز يدربون فتيانا وفتيات (الهاجاناه) على أعمال العصابات في (وادي اللطرون) على مقربة من القدس وأخيرا يختم الإنجليز احتلالهم البغيض بتسليم اليهود أمهات المدن والموانئ العربية كما حدث ليافا وحيفا وعكا وغيرها من المدن والموانئ 0

جاء شهر مايو من عام (1948) وكان بداية تحول كبير في مجرى الحوادث إذ أنهي فيه الإنجليز انتدابهم وختموا آخر صفحة لسياستهم في فلسطين وغادروها غير مأسوف عليهم ودخلت الجيوش العربية من الشرق والغرب والجنوب لتعبد الأمن إلى نصابه 0

وظن الإخوان أن عهد التضييق والإرهاب قد انتهي بانسحاب الإنجليز وأنهم يستطيعون الآن إدخال قواتهم دون خوف أو وجل وأن الوقت قد آن ليفي مرشدهم العظيم بوعده فيدخل إلى فلسطين عشرة آلاف مجاهد كدفعة أولى كما سبق له أن قرر في برقيته المشهورة التي بعث بها إلى زعماء الدول العربية في اجتماعهم ((بعالية))0

ظن الإخوان ذلك ولكن جاءت الحوادث لتخلف ظنهم وتقنعهم أن سياسة الإنجليز باقية وإن انسحبت جنودهم من الميدان وأنهم لا يزالون يحركون سياسة الحرب من وراء ستار 0

طلب الإخوان إلى حكومة النقراشى السماح بإدخال فوج من مجاهديهم ليرابط في الجزء الشمالي من صحراء النقب فرفضت الحكومة هذا الطلب وأصرت على عدم السماح لهم بذلك مما اضطر بعضهم إلى طلب السماح لهم بالقيام في رحلة علمية إلى ((سيناء)) فوافقت حكومة النقراشى بعد إلحاح شديد وحضرت تلك المجموعات إلى سيناء وتسللت منها إلى فلسطين سراً حيث لحقت بها دفعات أخرى تسللت بطرق مختلفة

وكانت حيلة دخلوا بها إلى فلسطين وبدخول هذا الفوج في فبراير عام (1948) بدأ القتال الفعلي في صحراء النقب فأخذ يهاجم المستعمرات اليهودية بعناد وصلابة رغم قلة عدده وضعف أسلحته وتجمع حوله المجاهدون من أهل فلسطين وبدأت حرب عصابات منظمة كانت تبشر بنجاح رائع ومر شهران وعلمت الحكومة فطلبت إلى المركز العام سحب قواته من النقب وكان طبيعيا أن يرفض الإخوان فلم تجد الحكومة بداً من قطع الإمدادات والتموين ومراقبة الحدود بشده لتضمن عدم وصول

شىء منها للمجاهدين حتى تضطرهم للعودة الى مصر ورأي المجاهدون أنفسهم خلال قتالهم الرائع يعيشون أياما طوالا على التمر والماء وعلى الخبز اليسير الذى يشترونه من نقود قليلة يرسلها أهلوهم بين حين وآخر ولكن أين تذهب هذه الشدائد فى نفوس هيأها الله لحمل رسالته والجهاد فى سبيله ؟ ألم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يربطون على بطونهم الأحجار إذا أعوزتهم المئونة واشتد بهم الجوع ؟ تلك هى المثل العليا التى وضعها الإخوان أمام أعينهم وعاهدوا أنفسهم على الوصول إليها إذن فلتضرب حكومة النقراشى رأسها فى الصخر ولتقطع التموين والإمداد ولتمنع الهواء إن استطاعت فإن ذلك لن يغير من الموقف شيئا وسيظل المجاهدون فى ميدانهم حتى ينتصر الحق وتعلو كلمة الله 0

بقي المجاهدون في ميدانهم يعملون ووجدوا من إخوانهم العرب كل معونة ورعاية حتى دخل الجيش المصري البلاد وأخذ يهاجم المستعمرات اليهودية في النقب واشترك الإخوان ف معظم العمليات الحربية التي قام بها كان طبيعيا أن ينقص بفعل المعارك الطاحنة وما سقط منهم فيها من الجرحى والشهداء 0

وحتى في تلك الأوقات الحرجة لم تحاول الحكومة أن تراجع موقفها وأن تسمح للإخوان بدخول الميدان لتعويض هذه الخسائر الكبيرة في الأفراد بل شددت رقابتها أكثر من ذي قبل وكان الإخوان في مصر يعلمون حقيقة الموقف حائلا دون التنفيذ مما اضطر كثيرا منهم إلى المجيء سيرا على الأقدام ولازلت أذكر ذلك اليوم الذي حضرت فيه جماعة من الإخوان قوامها خمسة عشر شابا لم تكن تزيد أعمارهم على السادسة عشرة وكانوا كلهم طلابا في المدارس الثانوية وسألتهم عن سبب مجيئهم فقالوا : إنهم يرغبون في تأدية فريضة الجهاد بعد أن نجحوا في امتحاناتهم لهذا العام ثم أخذوا يقصون على أبناء رحلتهم الشاقة وكيف غافلوا رجال البوليس وقفزوا إلى عربات البضائع في قطارات السكك الحديدية وكيف ساروا مسافات شاسعة ف صحراء سيناء الموحشة بمعونة دليل من البدو وكنت أستمع إليهم وقد بلغت الدهشة منى كل مبلغ والأسئلة تتوارد على ذهني يلاحق بعضها بعضا أهكذا تفعل تربية الإسلام في نفوس الشبيبة  ؟ وما الذي دفع هؤلاء الفتية الأحداث وجلهم من الطبقة المترفة إلى تجشم هذه الصعاب وركوب هذا المركب الصعب ؟ أليس في مصر ألوف مؤلفة من أمثال هذا الشباب يقضون أوقاتهم بين المسارح ودور اللهو ؟ وكان الجواب حاضرا : إنها العقيدة التي تسيطر على النقراشى فتملؤها قوة وعزما إنه الإسلام الخالد قد عمل عمله في هذه القلوب الفتية الغضة وسيرها حسب مشيئته ووفق إرادته 0

وتذكرت ذلك الطفل اليافع الذي صحب رسول الله في إحدى غزواته وقائل بشده حتى استشهد بطلا فأكرمه رسول الله ودفنه بيديه الشريفتين حتى تمنى أحد كبار الصحابة وهو عبد الله بن مسعود أن لو كان مكانه ونال ما ناله من إكرام رسول الله وإعزازه وتذكرت تلك الحملة الصليبية من الأطفال الذين جرفتهم العقيدة فغادروا أحضان أمهاتهم بليل وركبوا المخاطر والصعاب حتى لقوا حتفهم في آخر الشوط في الديار المقدسة وكانوا طعاما لحيتان البحر وأسماكه تذكرت ذلك وتمنيت يومها أن أعيش حتى رأى هذا الجيل المسلم وقد أمسك بعجلة القيادة في أمته ومضى يوجهها نحو الخير والعظمة على أساس من هدى الإسلام ونوره 0

وأفقت من تأملاتي على صوت أحدهم وهو يسأل عن موعد التدريب ولما يجف عرقه بعد الرحلة الشاقة التي قاساها فأجبته بما طمأنه وبعثت بهم إلى ((عنبر الراحة )) لينالوا قسطا من الراحة والغذاء قبل البت في مصيرهم 0

وأسلمت نفسي إلى تأملات عميقة وأنا أردد قول الله تعالى :

{إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى }0

-7-

يتخطون العقبات

(( لقد أمنا وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ))             ((سعد بن معاذ))

عز على الحكومة السعدية أن يستمر الإخوان في جهادهم فأرادت أ، تكيد لهم من طريق آخر فأمرت بوليسها أن يمنع المجاهدين الذين يغادرون الميدان لزيارتهم أهلهم في إجازات قصيرة حتى ينقص عددهم وينتهي أمرهم وفطنا إلى الحيلة عد مده فألغينا الإجازات وقررنا نسيان الأهل والولد حتى نضيع على الحكومة فرصتها ونستمر في جهادنا في هذا الجو المعتم كان الإخوان يقتلون اليهود في فلسطين ومن حق القارئ أن يتساءل بعد ذلك عن سبب هذه السياسة المتعنتة التي وقفتها الحكومة النقراشى تجاه الإخوان ف فلسطين فنقل : إنها سياسة رسمها الاستعمار وترك لهذه الحكومة مهمة تنفيذها حتى لا يظهر على مسرح ظهورا سافرا ولقد قال لي أحد كبار المسئولين في الميدان وقد حمل إلى أمر تسريح الإخوان من عرب فلسطين الذين ضممناهم إلينا في الميدان 0

((إن الحكومة تنظر بعين الريبة إلى حركات الإخوان وتخشى أن يؤلفوا جيشا في فلسطين يكون بعد ذلك خطراً كبيراً على سلامة الدولة ولست أدرى أي دولة تلك التي تهمهم سلامتها ؟ حقا 00 لقد كان الإخوان خطرا كبيرا على دولة إسرائيل ولقد فهم المستعمر أين يكمن الخطر الحقيقي على دولته الوليدة فأوحى إلى رجاله وأشار إليهم فكانوا عند حسن ظنه كالعهد بهم وقاموا بسرعة مجنونة يلبون نداءه ويجيبون رجاءه وانتهي الصراع بالمذبحة التي لا تزال عالقة بالأذهان حتى الآن والتي عرفت باسم قضايا الإرهاب وقضايا الأوكار وغير ذلك من المسميات ولو أنصفوا التاريخ والواقع لأسموها: ((مذبحة الإسلام في وادي النيل ))0

نحج الإخوان المسلمون في التسلل عبر الحدود رغم الخطط التي فرضها الاستعمار وأذنابه ولم تمض أسابيع ليلة على بداية الصدام حتى حمل الإخوان لواء الجهاد الشعبي ونجحوا في لإدخال عدد كبير من خبرة شبابهم من مصر وسوريا وشرق الأردن 0

ففي الوقت الذي كانت فيه القوة الأولى ترابط في النقب وتفتتح أولى معارك الجنوب في ((كفار ديروم)) في (14 إبريل ستة 1948) كانت القوة الثانية بقيادة اليوزباشى (محمود عبده) تنتقل إلى معسكر ((قطنة))بسوريا لتستكمل تدريبها ثم ترابط فترة في النقب وتشترك مع زميلتها الأولى وأخبرا تصحب الشهيد ((أحمد عبد العزيز)) في جولته الموفقة قبل أ، يستقر في جنوب القدس ويكون من نصيب هذه القوة أ، يوكل لها مهمة الدفاع عن مرتفعات ((صور باهر)) الحصينة وهناك تلحق بها قوة كبيرة من الإخوان المسلمين في شرق الأردن بقيادة المجاهد ((عبد اللطيف أبو قورة رئيس الإخوان في عمان وتندمج القوتان في فرقة واحدة متحدة القيادة ليكون لها الفضل بعد ذلك في المحافظة على تلك المرتفعات وعرقلة الخطط اليهودية التي كانت ترمى إلى احتلالها لتتحكم في القوات المصرية المتطوعة المرابطة في مناطق ((الخليل وبيت لحم ))0

ولم يكن الإخوان في سوريا بأقل نصيبا من غيرهم إذ أدخلا قوة من رجالهم يقودها الأستاذ ((مصطفي السباعي)) رئيس الإخوان في دمشق عملت بهمة ونشاط في مناطق ((المثلث ))والقدس)) وساهمت فعالة في الدفاع عن هذه المناطق الحيوية وكانت القوات غير النظامية التي شكلتها شعب الإخوان في فلسطين تعمل منذ بداية الحركة في المناطق الشمالية والوسطى تحت القيادات العربية المحلية وتقم بغارات ناجحة على مستعمرات اليهود وطرق مواصلاتهم رغم الضعف الشديد الذي كانت تعانيه سواء في التسليح أو التدريب 0

ولقد اضطر الإخوان إزاء القيود التي فرضتها الحكومة إلى تقديم شبابهم للعمل تحت قيادة الجامعة العربية فتشكلت منهم ثلاث كتائب أتمت تدريبها في معسكر ((الهاكستب)) ثم تسللت إلى فلسطين قبيل زوال الانتداب البريطاني وكان يقود الكتيبة الأولى الشهيد ‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎  (( أحمد عبد العزيز )) الذي قام بنشاط ملحوظ في مهاجمة مراكز اليهود في النقب قبل أن يتخذ موقفا دفاعيا عن مناطق جنوبي القدس وكانت الكتيبة الثانية لمتطوعى الجامعة العربية بقيادة البكباشى ((عبد الجواد طبالة)) ترافق الجيش المصري وتشترك معه في الدفاع عن منطقة غزة وتتولى حصار بعض المستمرات وتقوم بحراسة بعض النقط الهامة في خطوط المواصلات ثم تستقر بعد ذلك مع زميلتها في ((بيت لحم)) عقب استشهاد المرحوم ((أحمد عبد العزيز))0

وتتجمع هذه القوات في تلك المنطقة وتنجح في المحافظة عليها وتسليمها للجي العربي الأردني بعد حصار شاق طويل وهجمات عنيفة من العدو أظهرت في صدها الكير من ضروب البطولة 0

وهذه القوات المتطوعة وإن كانت خليطا من الإخوان وغيرهم من الشباب المصري الحر ممن لا يكفر سعيهم ولا ينكر جهادهم إلا أ، الكثرة الساحقة من الإخوان فيها قد طبعتها بطابع الدعوة الخاص وبهذا الطابع عرفها أهل تلك المناطق حتى إن الحكومة السعدية حينما أرادت اعتقال مجاهدي الإخوان في بيت لحم وصور باهر عقب إعلان الهدنة وفك الحصار لم يستطع التمييز بين الإخوان وغيرهم فاعتقلت مجموعة ضخمة منهم وأودعتهم المعتقل العسكري في ((رفح))على حدود مصر الشرقية 0

وهكذا ورغم تلك القيود القاسية التي فرضها الاستعمار وحافظ عليها أذنابه من بعده فقد اشترك الإخوان في الحرب بأعداد كبيرة كانوا يتحملون الإنفاق على معظمها ويتكبد مركزهم العام ألوف الجنيهات في شراء الأسلحة  والمعدات 0

ولا أظنني في حاجة لأؤكد للقارئ أنني لا أسجل للإخوان فخرا ولا منة ومعاذ الله أن نمن على أمتنا مهما قدمنا لها من جهد وتضحيات وكل شئ نقدمه نعتبره صغيراً تافهاً بالنسبة لما نريده لها من عز وإسعاد ولست أـهم أحدا دون وجه حق ولكنني أعتقد أن من حق الأمة علينا أن نوضح لها الحقيقة المجردة لتستطيع أن تفرق بين الخصوم والأصدقاء والمخلصين والأدعياء 0

وإن لي من وراء هذا السرد وهذه المقارنة غرضين : أولهما تبيان حقيقة المزاعم التي شغلت بها الأقلام المغرضة والصحافة الموبوءة فترة من الزمن لطمس هذه الحقائق والتقليل من أهمية هذه التضحيات خدمة للمستعمر وإرضاء لشهوات حزبية جامحة فكان أن سمع الرأي العام بتلك النغمة المرذولة عن التدريب السري في فلسطين والاستعداد لحركة ثورية عند الرجوع لأرض الوطن 0

ولسنا في حاجة بعد الذي ذكرنا التدليل على كذب هذا الادعاء إذ لو كان الإخوان يرجون من وراء جهادهم تلك الأغراض التي ذكرها دعاة السوء لما أقدموا على الحرب واندفعوا فيها هذا الاندفاع ولوقفوا موقف المتفرج ولا لامهم أحد من الناس ولكانت الحجة لهم لا عليهم والإنجليز وحلفاؤهم يمنعونهم من دخول الحزب بكل وسيلة ولكنهم اندفعوا لقتال اليهود بشدة وعنف ولسوف يظل ذلك مفخرة لهم كلما ذكرت الجولة الأولى من حرب فلسطين ولو ترك الإخوان على سجيتهم دون أ، توضع أمامهم كل هذه العراقيل لرأى دعاة السوء كيف أغرقوا أرض فلسطين بسيول من قواتهم زكتائبهم ولتغيرت نتيجة الحرب لامحالة 0

هذا غرض والغرض الثاني الذي نرمى إليه من سرد هذه الوقائع هو أننا نؤمن إيمانا راسخا بأن حربنا مع اليهود لم تنته بعد ولم تكن الجولة الأولى منها إلا مقدمة لحرب طويلة المدى فإسرائيل خطر كبير على كيان الوطن العربي لا يقلل من خطورته ما ينشره دعاة التردد والهزيمة من وجوب الإسراع بعقد الصلح معها حتى تنتهي حالة التوتر ونحني رءوسنا أمام الأمر الواقع 0

واليهود إن لم نكرس جهودنا لقتل دولتهم الباغية فهم يعملون جاهدين لتقويض أركان دولنا وإقامة إمبراطورية يهودية تمتد من النيل إلى الفرات 0

وإذاً فمن واجبنا أن نضع نصب أعيننا دروس الماضي وأخطاءه وأن نجعل من الجولة الأولى مزرعة ((للتجارب العسكرية)) تماما كما كانت الحرب الأهلية التي قامت في أسبانيا ستة (1937) والتي كانت (مزرعة) استنبتت فيها بذور الحرب العالمية الثانية وكانت فرصة طيبة اغتنمتها الدول الكبرى فجربت فيها خططها وأسلحتها أو كهذه الحرب التي نشبت في أواخر العام (1950) في كريا والتي نعتبرها تجربة غيرة لحرب عالمية ثالثة فكل دولة من الدول التي تجرب فيها آخر ما وصلت إليه من خطط القتال وأساليب الفتك والتدمير  ومزرعتنا هذه زرعت فيها بذور مختلفة فمنها الذي مات لساعته ولم يبد له أثر ومنها الذي أينع ثم هاج فرأيناه مصفرا ومنها الذي أينع وترعرع حتى آتى أكله بإذن ربه والويل كل الويل  لنا إن لم نستفد من هذه التجارب التي كلفتنا الكثير من الدم والمال ولن يختلف اثنان في قيمة التربية الإسلامية وأثرها في تكوين المحارب الناجح 0

لعل هذه هي خلاصة النتائج التي وصلنا إليها حيث راجعنا كشف الحساب عند نهاية الحملة وحين أنعمنا النظر في مزرعة تجاربنا فوجدنا أن بذرة الإسلام هي وحدها التي نمت وترعرعت وخرجت من الحرب أقوى ما تكون حبا للقتال حين مات غيرها ولم يستطع الثبات أمام ضغط الحوادث وصدق الله العظيم :{ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين } 0

-8-

جاسوسية وجواسيس

{ يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}

لم يعرف التاريخ شعبا كافح في سبيل حريته مثلما كافح الشعب العربي الفلسطيني ولم يشهد التاريخ نوعا من أنواع التنكيل والإرهاب أشد وأقسى مما صبته بريطانيا على هذا الشعب الباسل لتصرفه عن حقوقه وأهدافه وإن الثورات المتتابعة التي شهدتها فلسطين منذ ابتليت بالاستعمار البريطاني لتعطى صورة صادقة لنفسية هذا الشعب ومدى إيمانه بحقوقه وتمسكه بها إيمانا تغلغل في نفوس جميع أفراده ومختلف طبقاته وتساوى فيه البدوي والحضري ولقد بينت طرفا من جهاد هذا الشعب في صفحات سابقه غير أن أحدنا لن يمل حين يستطرد في نشر هذه الصفحات المجيدة التي سطرها المجاهدون بدمائهم وهم يكافحون أكبر قوتين في الأرض قوة المال وقوة السلاح قوة بريطانيا العظمة بجيوشها الجرارة وقوة الصهيونية بذهبها ونفوذها 0

ولا ينتظر القارئ منى أن أحدثه عن الأسماء اللامعة التي سمع بها القريب والبعيد وتناقلتها الصحف والمجلات ولكنى أغوص به إلى أعماق هذا الشعب ليرى مدى تغلغل روح الجهاد والتضحية في طوائفه وطبقاته 0

فهذا سائق سيارة بسيط يطلب إليه الإنجليز أن يقود سيارة تحمل عدداً من جنودهم إلى القدس حيث يساهمون في الفضاء على إضرابات وقعت حولها ولم يكن في وسعه أن يرفض فاستجاب لهم وقد بيت في نفسه نية القضاء علهم فودع أهله ومضى بهم في طريق القدس وعلى تلك القمم الشاهقة المطلة على ((باب الواد)) انحراف بسيارته إلى منحدر سحيق فاستقرت في القاع بحمولتها أشلاء ممزقة وصعدت روحه إلى بارئها بعد أن أدى واجبه 000

وهذا الطفل ريفي في التاسعة من عمره تمر به إحدى الدوريات الإنجليزية فيعز عليه أن يتركها تمر في أمان فيتناول بندقية أبيه ويترصد لهم في إحدى الحدائق ويصوب إليهم بندقيته ويلحظه أحد الجنود فيصيبه برصاصة ثم يفتشونه فإذا البندقية خالية من الذخيرة وإذا الطفل مصاب في ساقه فاستولى العجب على قائد القوة وبلغ منه التأثر مبلغه ولم يتملك أعصابه فمال على الطفل يقبله ثم يحمله في سيارته لأحد المستشفيات 000

ولقد حدثني أحد الإخوان ممن اشتركوا في اضطرابات عام (1936) أن الصحف اليهودية أخذت تجأر بالشكوى المرة من عصابات ((خطرة)) تغير على اليهود في شركة  البوتاس على البحر الميت وقال لي : إن تلك العصابات الخطرة لم تكن في الواقع إلا أعرابيا واحدا يدعى ((سليمان بن خميس))من عربان ((السعيديين)) في وادي ((عربة)) لم تكن لديه إلا بندقية من نوع فرنسي قديم وما لا يزيد على عشرين طلقة من الخراطيش الفارغة وكان يملؤها بيديه من البارود والرصاص ثم يكمن بجانب منبع للمياه يدعى ((العين البيضاء)) كان اليهود  يأخذون منه ما يحتاجون من مياه الشرب ويظل في مكمنه حتى إذا اقترب منه ((الصيد)) أطلق ما معه من رصاصات حتى إذا أصاب من أصاب منهم رجع مطمئنا إلى خيمته حيث يعاود تعبئة ((الخراطيش)) من جديد استعداداً لمعاودة الصيد وهكذا إلى أن ظفر اليهود به فأصابوا منه مقتلا ولكنه أبى أن يستسلم وظل يركض بعيدا عن المكان مخافة أن يظفر اليهود بجثته حتى سقط قريبا من قومه واستشهد تاركا وراءه زوجتين وأطفالا وسكتت حينذاك الصحف اليهودية عن الشكوى من تلك العصابات ((الخطرة))0

أمثلة كثيرة جدا لا يمكن حصرها في هذه الصفحات ولكنك ترى من هذه الأمثلة مدى تعمق روح الجهاد وتغلغله في نفوس طبقات الشعب فهذا سائق سيارة في مدينة وذلك طفل في قرية وذلك أعرابي في البادية لم تربط بينهم قيادة مشتركة ولا نظام موحد إلا رابطة الدين والوطن تلك هي منابع القوة التي فشل زعماء العرب في تسخيرها والتحكم فيها وتلك هي الروح التي كان يخشاها الاستعمار ويشفق على دولته أن يحاربها أمثال هؤلاء بعد أن يداخلهم شئ من التنظيم والتدريب ولقد أوضحت كيف وقفت بريطانيا أمام تدريب الشعب الفلسطيني واعتبرت ذلك عملا عدائيا موجها لمصالحها في فلسطين 0

والعجيب أن الخطة التي رسمها المستعمر لإبعاد الشعب الفلسطيني عن مسرح القتال ومعالجة قضيته بنفسه هي الخطة التي سارت عليها الجيوش العربية المنقذة فلم تكد تدخل فلسطين حتى بادرت بحل المنظمات العسكرية ونزعت السلاح تدريجيا من المجاهدين 0

وكانت هذه هي إحدى الأخطاء الكبرى التي عجلت بنهاية الحرب وختمتها على صورتها المفجعة ولست أجد في التاريخ جيشا قام ليحارب عدوا في بلد من البلدان  إلا وبذل جهده للتقرب من أهل البلاد وكسب تأييدهم وضمان معونتهم 0

ففي الحرب العالمية الثانية أخذ عملاء الحلفاء في أوروبا ينظمون رجال المقاومة السرية في مناطق الاحتلال النازية ويمدونهم بالمال والعتاد ليتعاونوا مع الحلفاء وكان تمهيدا لغزو أوربا حتى أن قيادة الحلفاء لم تأمر بالنزول إلى الساحل الفرنسي إلا بعد أن وثقت من تأييد العناصر الوطنية وأعطتها الإشارة لتبدأ أعمال التخريب من مؤخرة الجيوش النازية 0

وإذا كانت هذه الأمور لم تغب عن الجيوش النازية فلست أدرى كيف غابت عن الجيوش الحليفة التي جاءت بدافع قومي لتشترك مع أهل فلسطين في إنقاذ وطنهم وليس من شك في أن الطرق كانت ممهدة أمام الجيوش العربية للإفادة من قوى الشعب الكامنة وتسخيرها للهدف المشترك لو أخلصت النية وتنصلت مؤقتا من خيوط السياسة البريطانية فالشعب العربي كان في حرب مريرة مع اليهود حتى دخول الجيوش العربية وكان ينتظر دخولها بفارغ الصبر ويعلق عليها أكبر الآمال 0

وإذن فلقد كان من واجب الحكومات العربية أن تشرع فوراً في تكوين جيش عربي قوى يقوم بدوره في تحرير بلاده ولكن ما أن دخلت الجيوش العربية وبدأت عملها حتى تعددت تهم التجسس والخيانة وترتب على ذلك شعور بعدم الثقة أخذ يتزايد يوما بعد يوما حتى انقلب إلى هوة سحيقة استحال معها التعاون بين أهل البلاد والجيوش المنقذة التي جاءت لنجدتهم والذود عن كيانهم 0

وأشهد أن الدعاية اليهودية قد أدت دورها ونجحت أبلغ النجاح حين أخذت أبواقها تذيع في كل مكان أشعب فلسطين راض عن بقاء اليهود وليس ثمة خلاف بيننا وبينهم وأنه يعارض فكرة الحرب واستغلت هذه الدعاية بعض حوادث الخيانة الفردية التي لن تخلو منها أمة من الأمم لتبرزها للناس في صورة مكبرة على أنها حركة اجتماعية عامة وساعد على تثبيت هذا المعنى وإلباسه ثوب الحقيقة تلك الحملات الصحفية التي تطوعت بها الصحف المصرية ولم تحاول أن تتحرى المصلحة والحقائق في نشرها بل قدمتها للناس غذاء فكريا مسموما على أنه سبق صحفي منقطع النظير!

ولعل القراء الكرام لا يزالون يذكرون تلك الصور والمقالات التي كانت تنشرها مجلات ((دار الهلال)) ((وأخبار اليوم)) عن الجواسيس العرب وكيف أن الحراس المصريين اليقظين ((كذا )) قد قبضوا على أعراب داخل الخطوط المصرية فوجدوهم ((مختومين) بختم الهجاناه وكيف أن الجيش المصري وجد أعرابا مقتولين ضمن قتلى اليهود في    إحدى المعارك هذه      الأبناء المختلفة وأشباهها كان لها أكبر الأثر في إبهام الجنود المصريين أنهم يحاربون في أرض معادية ويساعدون أقواما خونة باعوا أرضهم ثم امتشقوا الحسام دفاعا عن الصهيونية 0

وإلى جانب ما في هذه  الأنباء من تجن على الحقائق فإنها كانت سلاحا خطرا أثر تأثيراً بعيدا في قتل الروح المعنوية في الجنود المصريين فالجندي المصري كان يشعر أنه يقاتل دفاعا عن إخوانه المسلمين من العرب فعلى أي أساس يقاتل إذا أدخل في روعة أنه يدافع عن خونة يشتركون مع العدو في مقاتلته؟

ليت شعري هل فهمت هذه  الصحف عظم الضرر الذي سببته حين أقدمت على نشر ما نشرته ؟ أم أنها تعلم الحقيقة وتنشر غيرها لغرض نجهله والواقع أن الجنود المصريين كانوا معذورين حين آمنوا بهذا الوهم واعتبروه حقيقة واقعة ومضوا يعاملون العرب على أنهم جواسيس يتوجسون منهم خيفة وهم يقرئون كل يوم في الصحف المحترمة مثل هذه الأنباء المثيرة!!!

هذا الوهم الخاطئ دفع الجنود إلى اتهام كل بدوي بالتجسس ويكفي لإلصاق التهمة أن يوجد ((وشم قديم)) أو ((كي)) بالنار وقلما تجد في أجسام البدو  من يخلو من الوشم وهو وسيلة الزينة أو وهو الوسيلة الوحيدة للعلاج ! فإن وجدت هاتان العلامتان فهو جاسوس خطر (مختوم ) وقبل أن تدخل التهمة في دور التحقيق يكون صاحبنا هذا نال نصيبه من الضرب بالأيدي والركل بالأقدام 0

ويكفي للتدليل على هذه الأخطاء وأثرها أن نذكر قصة واحدة شاهدناها بأعيننا وسمعناها بآذاننا وهي أيضا على سبيل المثال 0

حينما كان الجيش المصري الباسل يخوض غمار المعارك العنيفة في منطقة ((بئر السبع)) كان هناك أعرابي يدعي (0(أبن عقيل)) وكان هذا الأعرابي واسع الحيلة عظيم الشجاعة خبيرا بمسالك الصحراء  ودروبها مما حدا بقائد منطقة ((عسلوج)) في ذلك الوقت اليوزباشى ((عبد المنعم عبد الرءوف)) أن يستغله في وضع الألغام على طريق اليهود فأدى الرجل دوره ببراعة وإخلاص يستحقان التقدير والإعجاب ثم نقل هذا اليوزباشى بفرقته وحل محله آخرون واستمر هذا البدوي يؤدى دوره الجليل حتى بدأت المأساة التي كادت تودى به 0

ذلك أنه عثر على عدد من الألغام الضخمة التي وضعها اليهود على طريق الجيش المصري ولما كان الرجل قد اكتسب خبرة في الألغام لاشتغاله بها وقتا طويلا فقد نجح في نزعها من الطريق وحملها في كيس على كتفه ومضى فخورا بعمله ليوصلها إلى قيادة الجيش في المنطقة ورآه الجنود من الحراس يحمل ألغاما على ظهره فقبضوا عليه وأخذوا يتصايحون : جاسوس 000 جاسوس وانهالوا عليه ضربا دون سؤال أو جواب والرجل يحاول إقناعهم دون جدوى ثم تحسسوا بدنه فإذا هو (مختوم) بعدة أختام ترمز إلى عدد الأمراض التي أصيب بها في حياته!!

والعجيب وهذا موضع العجب كله أ، تؤمن القيادة المحلية بأنه جاسوس وتشكل له محاكمة عسكرية لتحاكمه بتهمة الخيانة العظمى ولم يكن المجلس العسكري في حاجة إلى مزيد من الأدلة فأصدر حكمه بإعدامه وكان المفروض أ، تستمر هذه المهزلة إلى نهايتها لولا أن تدخل قدر الله في آخر لحظة إذ تقدم أحد أعيان البدو وكان يعلم القصة كلها باسترحام إلى الجهات المسئولة يرجو ‘عادة النظر في قضية هذا المجاهد البائس 0

وأعيدت المحاكمة وتشكل له مجلس عسكري جديد وطلب الأعرابي في هذه المرة شهادة اليوزباشى( عبد المنعم عبد الرءوف ) الذي جاء ليؤدى شهادة الحق وليبين تعدد الخدمات التي أداها الرجل ومن بينها إنقاذ أحمد سالم باشا ورتل من السيارات العسكرية معه وكانوا على وشك أن يطئوا لغما هائلا وضعه اليهود في طريقهم وكان صاحبنا يراقب ذلك من مكمن قريب وحاول نزعها فلم يستطيع فظل يحرسها وقتا طويلا ليمنع أي أحد من الاقتراب إليها 0

وأمام هذه الحجج الدامغة لم يجد المجلس العسكري بداً من تبرئته مع منحة مالية وهبها له المجلس من جيبه الخاص ولولا الظروف وحدها لنفذ حكم الإعدام في هذا المسكين ولأزهقت روح بريئة ظلما وعدوانا وأزهقت معه سمعة وكرامة شعب مجاهد كريم ولذهبت هذه القصة أيضا مثلا جديدا يضاف إلى غيره للتدليل على جاسوسية العرب وخيانتهم العظمى!!

وهكذا وقعت الجيوش العربية في الخطأ بسهولة وبدل أن تقوم بخطة مضادة تعيد بها للشعب ثقته بنفسه وبأصدقائه وتضمه إلى صفها إذا بها تضخم الخطر وتحذر جنود وحداتها من التعامل مع العرب والاطمئنان إليهم 0

ومن هنا خرجت تلك النغمة المرذولة عن التجسس والخيانة بدأت خافتة محدودة ثم انقلبت إلى ضجيج هائل طغى على صوت الحرب نفسها وضاعت في غمارها معالم جهاد رائع وتضحيات فذة قام بها الشعب الفلسطيني طيلة ثلاثين عاما واختفت من الوجود تلك الصفحة المشرقة من جهاد عرب فلسطين للصفحة التي مر بك طرف منها وخطتها ماء الشهداء الأبطال من أمثال : ((عز الدين القسام ؛ وعبد القادر الحسيني؛ وحسن سلامة )) وزملائهم من زهرات الشباب الكريم لتحل محلها صفحة سوداء قاتمة يتخللها الخزى والعار ويمليها الجهل وسوء التصرف وتكون النتيجة الحتمية لهذا أن يحكم على الشعب الفلسطيني بالابتعاد عن مسرح القتال والجلوس في مقاعد المتفرجين حتى تنتهي مسرحية الحرب لتفيق الأمة المجاهدة فتجد نفسها مجموعات ممزقة من اللاجئين المشردين 0

ولقد أصبحت جاسوسية العرب وخيانتهم سببا كافيا يقدمه الضباط الصغار لتعليل الهزائم التي يمنون بها أو لتعليل العمليات الجريئة التي يقوم بها اليهود لا تمر معركة من المعارك حتى تسمع هذه الجملة من الجنود العائدين يقولونها بلهجة الواثقين يا عم إذا كان العرب بيحاربونا مع اليهود)) ثم يمضون في حبك القصص الخيالية مؤكدين أن العرب كانوا يهاجمون مؤخرتهم ويطلقون عليهم الرصاص من حدائق البرتقال 0

وأعجب ما في الأمر أن هذه الأبناء المختلفة كانت تلاقى آذانا مصغية في القيادات العليا وتقبلها عقول المسئولين على أنها حقيقة واقعة لا تقبل الشك والتأويل 0

ولقد استغلت هذه الحركة استغلالا سيئا في كثير من النواحي وأصبحت تهمة الجاسوسية سيفا مصلتا على أعناق الناس تكفي لاستعماله شهادة جندي مغرض أو مدني موتور لينزل على الرقاب في غير تردد ولا شفقة ولا عجب في ذلك فكانت الخواطر مبلبلة والأذهان مهيأة لقبول التهمة وتصديقها ولو وقعت على أرسخ الناس قدما في الجهاد وأشدهم تفانيا فيه 0

ولقد كان الإخوان يقعون في هذه الأخطاء تحت تأثير الدعايات اليهودية والأساليب التي خلقها اليهود لبذر بذور العداء بين أهل البلاد وإخوانهم من المجاهدين 0

وواضح أن عرب فلسطين قد ابتهجوا بدخول الإخوان وارتاحوا إليهم وسارعوا للانضمام في صفوفهم حتى أصبح عدد أهل البلاد المتطوعين مع الإخوان أكثر بكثير من عدد الإخوان أنفسهم ولم يسر اليهود بهذه الحركة فعملوا منذ اليوم الأول على بذر البذور الفتنة بين الإخوان وأهل البلاد وسلكوا كل سبيل لتقويض المعارك لإيهام الإخوان أن عرب فلسطين يقاتلون مع اليهود 0

ولقد حدثني أحد الإخوان الذين اشتركوا في معارك اللد أن هذه الطريقة بالذات اتبعت ضد الجيش الأردني فخرج الناس يقولون إن الجيش الأردني يقاتل جنبا إلى جنب مع اليهود!!!

ولم يكف اليهود عن محاولتهم فالتمسوا طرقا كثيرة وكلما فشلت طريقة لجئوا إلى شيطانهم يلتمسون عنده غيرها حتى أعيتهم الحيل وفشلوا ذريعا في فصم عرى محبة جمعها الإسلام وباركتها يد الله 0

أذكر ذلك اليوم الذي جاءني فيه أحد الأعراب من أصدقاء الإخوان ليقول لي : إن شيخ العرب ((فلان)) جاءه وحمله رسالة إلينا مؤداها أن ((م)) وهو شخصية عربية كبيرة تحتل مركزا مدنيا هاما في المنطقة جاسوس لليهود وأنه أي ((م)) متصل بقيادة القوات الإسرائيلية في الجنوب وأنه يبلغهم الأخبار أولا بأول نظير وعود قطعها اليهود له بتعيينه حاكما عسكريا للمنطقة في حالة استيلائهم عليها 0

وقال الأعرابي الصديق نقلا عن ((فلان)) : إن هناك اتصالا سوف يتم بعد يومين في مكان نحدد بين قائد إحدى المستعمرات وبين الشخصية الكبيرة 0

ولقد كان الخبر مثيرا للغاية لأنه يتعلق بشخصية لها خطرها في المنطقة ولقد ذهبنا في الموعد المحدد لاستجلاء الأمر وإلقاء القبض على الشخصية أثناء تفاوضها مع اليهود غير أننا لم نجد شيئا ولم تمض إلا أيام قلائل بعد هذه المحادثة حتى انكشف السر وظهر الخبئ إذ اختفي ((فلان)) مصدر الرواية وصاحبها وعلمت أنه في إحدى المستعمرات وأن الرواية كلها مختلفة لا أساس لها وليست إلا مناورة مدبرة أريد بها إشعال الفتنة بيننا وبين أهالي البلاد 0

هذه الوسائل وأشباهها مما لا يتسع المجال لسرده هي التي نجحت بعد ذلك في توسيع شقة الجفاء بين أهل البلاد والجيوش النظامية ووصلت بالعلاقات بين الحلفاء إلى تلك الحالة المؤسفة من الريبة وعدم الثقة والتي ترتب عليها ما ذكرته من استحالة التعاون بين الشعب الفلسطيني وحلفائه من جيوش العرب 0

ولقد صارحني أحد قواد المستعمرات اليهودية في النقب وكنا نتفاوض معهم خلال الهدنة الأولى بشأن نقل بعض الجثث فقال لي في مجال الحديث حول الحرب : (لقد نجحنا في إخراج الشعب الفلسطيني من المعركة وهو الذي مارس قتالنا خلال أعوام طوال أما أنتم أيها الغرباء فلن نأبه لكم ولن يصعب علينا إلقاؤكم في البحر متى جاء الوقت المناسب ) وقد كان !000

يتبع

----------------------

الكتب المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ