ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الإخوان
المسلمين في حرب فلسطين (5) كامل
الشريف الزهراء
للإعلام العربي -13- دخول
الجيش المصري إلى فلسطين (( ما
ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن
يضعها يحكم الله بينه وبين عدوه))
محمد رسول الله توغل الجيش
المصري في أرض فلسطين غير مبال
بخطر شديد يجثم على ميمنته
ويتمثل في عدد هائل من
المستعمرات المحصنة التي أعدت
بإتقان لتقوم بدورها في الوقت
المناسب 0 وكانت
الخطة العربية العامة تقضى بأن
يحتل هذا الجيش قطاعا هائلا
يمتد من قرية (رفح) على الحدود
المصرية إلى قرية (يبنا) على
مسيرة عشرين ميلا من تل أبيب حيث
تكون الجيوش العربية الأخرى
الزاحفة قد احتلت نقطا مماثلة
قريبة منها ثم تتجمع هذه القوات
وتتصل مكونة حلقة فولاذية حول
عاصمة العدو لتفصلها عن بقية
المناطق 0 وكان
واضعو الحطة يعتقدون أن احتلال
العاصمة سينهي هذه الحرب ويضطر
العصابات اليهودية المسلحة
إلى الاستسلام ولقد
فات هؤلاء أن المستعمرات
اليهودية قد وزعت في فلسطين
توزيعا عسكريا -تحت إشراف
الإنجليز يضمن لليهود
الاستمرار في القتال مدة طويلة
وأن كل مستعمرة من هذه
المستعمرات كانت تحتوى على
أعداد كبيرة من الجند ومقادير
هائلة من السلاح والعتاد ويمكن
لهذه القوات أن تتجمع وتكون
جيشا لجبا وتستمر في المقاومة
حتى تتدخل الدول الكبرى وتضيع
على العرب ثمرة انتصارهم 0 على أن
هذه الخطة لم يقدر لها النجاح
لما انطوت عليه من جهل بالغ يقوى
العدو وأساليبه في المقاومة
فضلا عن عدم التعاون الذي لم
نلمس أي أثر في تنفيذها بين
الجيوش العربية التي كان مفروضا
أن تعمل تحت قيادة موحدة ولكن ما
كادت المعركة تدخل دورها الحاسم
حتى أصبح كل جيش يقاتل على حدة
في المنطقة التي اختص بها ولقد
زادت هذه الحقيقة وآثارها وضوحا
حين اشتد الضغط على جبهة الجيش
المصري في الجنوب وظلت الجيوش
العربية الأخرى تنعم بالهدوء
والراحة خلال الهدنة 0 لم
تحاول المستعمرات اليهودية إذن
أن تعترض طريق الجيش المصري حسب
الخطة اليهودية العامة بل أظهرت
كل معاني الضعف والاستسلام وكان
بعضها يرفع الأعلام البيضاء على
قمم الأبراج الشاهقة حتى يمضى
الجيش في تنفيذ خطته 0 ولقد
حاول الجيش المصري دخول بعض
المستعمرات القريبة من
مواصلاته وتركه اليهود يقترب
منها ثم أخذوا يطلقون النار على
وحداته من أبعاد قريبة فحاول
الجيش اقتحامها بالقوة وكانت
أول محاولة له أن هاجم مستعمرة (نيريم
) الدنجور على الحدود المصرية في
(16) مايو ودكها بالمدفعية ثم
حاول اقتحامها بمشاته ولكنه وجد
فيها مقاومة عنيفة اضطرته لصرف
النظر عن محاولته ومواصلة الزحف
مكتفيا بمحاصرتها 0 وتكررت
المحاولة على كثير من
المستعمرات ولكن هذه المحاولات
ذهبت عبثا رغم كثرة الخسائر
التي تكبدها الجيش ولا أستطيع
أن أمر على ذكرى هذه المعارك دون
أن أشير إلى الروح المعنوية
العالية التي كان يتمتع بها
أفراد هذا الجيش هذه الروح التي
دفعتهم لملاقاة الموت بصدور
عارية والتقدم صوب الأبراج
المحصنة دون أدنى وقاية يحتمون
بها إلا إيمانهم بالله وثقتهم
في نصره وتأييده 0 ولقد
أثبتت هذه الروح القوية وجودها
وآتت ثمارها يوم أصر الجيش على
اقتحام مستعمرة دير سنيد
المحصنة في يوم (19) مايو وقاوم
العدو مقاومة عنيفة غير أنه
اضطر إلى إجلائها أمام ضغط
هؤلاء الجنود البواسل وشدة
بأسهم تاركا خلفه عشرات من
القتلى وكميات وفيرة من المؤن
والعتاد مما سيرد تفصيله بعد
قليل ثم واصل تقدمه شمالا وأخذ
يهاجم (كفار ديروم) و(بيرون
إسحاق) و(كوكبة) و(نجيا) وغيرها
وقد نجح في اقتحام (نيتسانيم)
بعد معركة دامية أظهر الجنود
المصريون فيها من ضروب البسالة
ما يجعلهم في طليعة المقاتلين
الممتازين غير أن هذه الروح
العالية لم تلبث أن ضعفت بعد
تدخل السياسة وفرض الهدنة
الأولى والثانية وما صحب هاتين
الهدنتين من انسحابات وهزائم 0 ومما
يجدر بي ذكره في هذا الموضع أن
الجنود المصريين على الرغم من
هذا الروح العالية وما أظهروه
في بداية الحرب من شجاعة وثبات
كان واضحا ما عليه حالته من نقص
في التدريب والمقدرة وبخاصة
فيما يتعلق (بالأعمال الليلة)
حين كانت هذه الناحية متوفرة
تماما في قوات العدو ولا لأطن
إلا أن حضرات الضباط ممن
اشتركوا في الحملة يوافقونني
على هذه الملاحظة إذ كان العدو
يقوم بأغلب معاركه في الليالي
المظلمة وبصورة تنبئ عن مقدرة
فائقة ومستوى عال في التدريب . كان
مقررا للجيش المصري كما ذكرت أن
يواصل تقدمه إلى ( يبنا ) حسب
الخطة العربية العامة ما كادت
طلائعه تتجاوز ( أسدود ) وتقترب
من الهدف حتى تجمعت القوات
اليهودية من منطقة ( رحبوت )
وهاجمته هجوما عنيفا غير أن
الجيش أفلح في صد هذا الهجوم
وتكبيد العدو خسائر فادحة ولكن
اليهود بهجومهم هذا حققوا نتيجة
واحدة هي ( تثبيت ) الجيش المصري
في أسدود وكانت هذه هي نقطة
التحول في الحرب ه هي نقطة
التحول في الحرب ذ لزم الجيش
نظرة القيادة العامة للموقف
وأخذت تنحو منحى جديدا فبدل أن
تبذل مستعمرات النقب عن بقية
أجزاء فلسطين فزحفت القوات
المصرية شرقا واتصلت بقوات
المتطوعين تكون إطارا وهميا
منطقة معادية تموج بعشرات
المستعمرات وعشرات الألوف من
الجنود . والآن
أريد أن أتساءل ما الذي كان يحدث
لم تجمع اليهود على حدود مصر
الشرقية وحاولوا الاشتباك مع
الجيش المصري عند دخوله لمنعه
من التوغل في أراضى فلسطين ؟
لاشك أن القيادة المصرية كانت
ستراجع موقفها وتحجم عن المضي
في تنفيذ خطتها قبل أن تظهر هذه
((الجيوب)) الخطرة التي يتجمع
فيها العدو 0 ولكن
اليهود لم يفعلوا ذلك لا ضعفا
منهم كما يقول البعض ولكنهم
وضعوا خطتهم الدفاعية على أساس (بعثرة)
الجيش المصري وإعطائه الفرص
ليحتل مساحات شاسعة مع علمهم
أنه لا يملك القوة العددية
الكافية ليسيطر على هذه المناطق
الواسعة سيطرة صحيحة وعندئذ
تقوم المستعمرات بدورها
المرسوم فتهاجم قواته ويصبح من
الميسور القضاء عليه 0 ولقد
كان الإنسان منا يعجب كثيرا وهو
يمر على بعض المراكز الهامة
التي يحتلها الجيش فلا يجد إلا
قوات ضئيلة مبعثرة هنا وهناك لا
يمكنها الوقوف أمام أي هجوم
لأكثر من دقائق معدودة 0 وكان
هذا هو الوضع الطبيعي لجيش قليل
العدد اضطرته ظروفه إلى حماية
مناطق شاسعة يعجز عن حمايتها
أضعاف أضعافه وليست هذه الخطة
التي اتبعها اليهود من تفكيرهم
ووضعهم ولكنها خطة قديمة
استعملت أكثر من مرة: استعملها
الروس أمام نابليون حينما تركوه
يحتل المناطق الشاسعة من
الأراضي الروسية قبل أن يقوموا
بالهجمات المضادة على جيشه
واستعملها الروس مرة أخرى حين
عبرت الجيوش الألمانية الأراضي
الروسية في يونية عام (1941) عندما
تركت المناطق الشاسعة ليحتلها
النازيون فتتبعثر بذلك جيوشهم
ويصبح من الميسور القضاء عليها
وإيقاع الهزائم بها كما حدث بعد
ذلك 0 وقد
تعجب حين تعلم أن كثيرا من ضباط
أركان الحرب في الجيش
الإسرائيلي كانوا ضباطا في
الجيش الروسي خلال الحرب
الروسية الألمانية وكانت هذه
الخطط دروسا مستفادة نفذت بصورة
مصغرة في فلسطين ونجحت نجاحا
منقطع النظير 0 ولست
أدرى كيف غابت هذه المعاني عن
أذهان القادة العسكريين في
الجيوش العربية ولا يزال سر
هذه الخطة قائما يتذبذب بين (اللواء
المواوى) القائد الأول
للحملة والساسة المصريين
الذين كانوا يحركون القتال من
القاهرة والذين كان أكبر همهم
كسب الرأي العام وانتزاع تصفيقه
للجيش الباسل الذي احتل ثلث
فلسطين في مدة لا تتجاوز عشرين
يوما ببركة وزارة السعديين وحسن
سياستهم!! على أن
أنصار (المواوى) يقولون : إن
الرجل لم يغب عن ذهنه ما في هذه
الخطة من خطر ولكنه كرجل عسكري
كان ينفذ ما يؤمر به مضطرا
ويواصل الزحف كلما صدرت إليه
الأوامر ولكن أنصاره يعودون
فيقولون : إن الواجب كان يقضى
عليه باعتزال القيادة ومغادرة
الميدان وعدم المجازفة بسمعته
العسكرية كقائد وسمعة الجيش
بتعريضه للهزيمة المنكرة من
جراء خطة مرتجلة 0 ولسوف
تظل هذه النقطة الخطيرة التي
ترتب عليها ما حل بالجيش وما حدث
في فلسطين سراً مغلقا حتى يأتي
يوم يستطيع فيه (المواوى) أن
يواجه أمته وأن يحدد مسئولية
الكوارث التي تعرض لها جيشنا في
فلسطين والتي كادت تودي به لولا
لطف الله وعنايته 0 ولقد
أوضحت في كلامي عن جهود
المتطوعين في الدفاع عن بيت لحم
كيف رأت القيادة العامة أن تجمع
كتائبهم في بيت لحم والخليل
وحين تمت هذه الخطوة لم يبق مع
القوات الرئيسية المصرية سوى
قوات الإخوان الحرة التي كان
يقودها مؤرخ هذه الصفحات والتي
نفرد الأبواب التالية لمتابعة
أعمالها والوقوف على مدى
تأثيرها في سير العمليات التي
دارت في هذه الجبهة 0 كانت
مهمة الإخوان في ذلك الوقت
تتخلص في إرباك مستعمرات النقب
وشغلها في الدفاع عن نفسها أمام
هجماتهم المتكررة حتى لا تفكر
في الانقضاض على مؤخرة الجيش
وهو مشغول بمعاركه الأمامية في
مناطق أسدود والمجدل والفالوجا
فمرت بالإخوان في ذلك الوقت
فترة من أنشط الفترات وبلغت
المعارك بينهم وبين اليهود
عنفوان شدتها ولم يكن يمر يوم
واحد حتى تنشب الاشتباكات
الدامية في مناطق مخالفة من
الصحراء والإخوان في كل ذلك غير
مقيدين مطلقا بما جد من أساليب
الخداع والتثبيط كقرارات
الهدنة ووقف القتال بل لا أكون
مبالغا إذا قلت : إن الإخوان
كانوا يعملون في فترات الهدنة
أكثر مما يعملون في أوقات
القتال حتى وقع منهم في ذلك
الحين كثير من الجرحى وعدد من
الشهداء 0 ولم تكن
جهود الإخوان مقصورة على مهاجمة
القوافل ومحاصرة المستعمرات بل
كانوا يشتركون مع الجيش المصري
في عملياته الهجومية ولأضرب
مثلا على ذلك بمعركة ((بيرون
إسحق)) إذ قرر الجيش اقتحامها
ووضع خطة محكمة لذلك 0 وكان كل
ما تخشاه قيادة الجيش أن تتدخل
المستعمرات الجنوبية في
المعركة فطلبت إلى البكباشى ((عبد
الجواد طبالة)) أركان حرب
المنطقة في ذلك الحين أن يقوم
الإخوان بقطع الطرق التي تصل
هذه المنطقة ومنع اليهود من
دخول المعركة من هذه الطرق
فعهدت إلى الأخوين ((نجيب جويفل))
و((محمد على سليم)) إلى القيام
بهذه المهمة فخرجا بفصائلها
ورابطا على نقاط متقاربة على
الطريق وحين بدأت المعركة واشتد
الضغط على حامية ((بيرون إسحق))
بعثت تطلب المزيد من القوات
واستجابت لها القيادة اليهودية
وما هي إلا برهة يسيرة حتى امتلأ
الطريق بالمصفحات القادمة من
مستعمرات النقب الجنوبية ونشبت
معركة شديدة بين الإخوان وهذا
العدد الهائل من المصفحات وحاول
اليهود التخلص من هذا الحصار
والوصول إلى ميدان المعركة ولكن
قوة النيران الموجهة إليهم من
الأسلحة الأوتوماتيكية ومدافع
الهاون ((البيات)) وحقول الألغام
التي بثت في طريقهم أقنعتهم بأن
طريق العودة هي أسلم طريق
فبدءوا يتراجعون تاركين حامية ((بيرون
إسحق)) تعانى وحدها شدة المعركة
وتستغيث بقيادتها ولا مغيث!! ولست
أنسى يوم هاجم اليهود أحد مضارب
العرب الآمنة وأضرموا فيها
النار بعد أن قتلوا كثيرا من
رجالها وجاء الأحياء منهم يشكون
إلينا إذ كان سبب المذبحة التي
أوقعها اليهود بهم أنهم
يتعاونون مع الإخوان ((المجرمين))
على خد تعبيرهم! ولقد
كنا مضطرين لمجابهة هذا العدوان
بمثله حتى يأمن البدو على
أنفسهم ويظلوا على ولائهم لنا
فقررنا إيقاع مذبحة مشابهة
باليهود وتسلك قوة من الإخوان
في جوف الليل إلى إحدى المناطق
الداخلية متوغلة في أرض يعتبرها
اليهود حرمهم الخاص وهناك على
طريق السيارات بثوا حقلا كبيرا
من الألغام وانفلتوا في أحد
الوديان المجاورة ينتظرون مقدم
((الصيد)) وجاءت قافلة كبيرة عند
الفجر فلم تكد تمس الألغام حتى
انفجرت وتطايرت أجزاء السيارات
في الفضاء وظل الإخوان في
مكمنهم حتى انجلى دخان الألغام
وقام من نجا من اليهود فأخذوا
يطلقون عليهم النار حتى مات من
مات وفر من استطاع الفرار ثم
جمعوا القتلى وكدسوهم كومة
واحدة بعد أن أخذوا ما وجدوه من
سلاح وعتاد ولم ينس الإخوان أن
يتركوا منشورا كتب فيه أن
الحادث بمثابة رد لما ارتكبته
العصابات الصهيونية ضد العرب
الآمنين 0 ولقد
سمع القائد العام بهذه العملية
الجريئة فأبدى رغبته في رؤية
بعض الأسلحة التي غنمها الإخوان
وأعجب كثيرا بما شاهده منها
وبخاصة أحد مدافع ((المورتر))
المصنوعة حديثا في بلجيكا وكانت
هذه واحدة من عشرات المعارك
التي قام بها الإخوان وسببت
ارتباكا عنيفا لليهود وأكسبت
الإخوان خبرة لا تجارى في وسائل
حرب العصابات الحديثة 0 ومع
انشغال الإخوان المسلمين
بالأعمال الفدائية على طول
الجبهة الجنوبية كما أسلفنا فإن
قيادة الجيش كانت تستدعيهم في
كثير من الأحيان للاشتراك في
الأعمال الهجومية على
المستعمرات أو في مرات كثيرة
كان وجودهم على ساحة المعركة هو
العامل الحاسم بين النصر
والهزيمة كما سيتضح لنا في
الفصول القادمة ولنضرب مثلا على
هذا النوع من العمليات التعرضية
في الهجوم الذي وقع على مستعمرة
دير سنيد((ياد مردخاى)) في (19 مايو
1948) وهي إحدى المستعمرات
اليهودية القليلة التي سقطت بيد
الجيش المصري وهي تستحق بسبب
ذلك شيئا من التفصيل 0 كانت
مستعمرة ((ياد مردخاى))شأن
المستعمرات اليهودية الأخرى
تحتل نقطة حاكمة بالنسبة
للمناطق العربية المجاورة لها
غير أن هذه المستعمرات كانت
تقوم على الطريق الساحلي
الرئيسي للجيش في قطاع غزة
المجدل ولم يكن بالإمكان
تجاهلها أو الاكتفاء بحصارها
كما حدث بالنسبة ((لكفار ديروم))
أو((نيريم) وغيرها من مستعمرات
النقب 0 كانت
أول تجربة شخصية لي مع ((ياد
مردخاى)) أن أحمد عبد العزيز طلب
إلى في منتصف إبريل أن أصحب قوة
من المتطوعين الليبيين
والسودانيين لتحتل موقع ((عراق
المنشية)) في الشمال نظرا لأننا
كنا أسبق منه في المنطقة وأدرى
بأوضاعها وظروفها وكانت تلك
القوة تتحرك في سيارات ((أتوبيس))
عادية مما يعرضها لأخطار كبيرة
فيما لو علم العدو بتحركها وفكر
في إقامة كمين لها وقد أخذت إحدى
مصفحاتنا لتكون في مقدمة طابور
((الأتوبيسات)) بينما ركبت مع ((محمود
عبده) في سيارة الجيب القديمة
التي أخذناها من اليهود في
مناسبة سابقة وكان أكثر ما
يخيفني هو المرور بهذه القوة
المكشوفة من مستعمرة ((ياد
مردخاى)) التي تقوم علي جانبي
الطريق الرئيسي وترتفع أبراجها
ومواقعها المحصنة علي قمم
التلال المشرفة 0 كانت الشمس
تميل للغروب حين وصلنا إلى آخر
منخفض يشرف علي المستعمرة وهناك
أوقفت الركب واندفعت وحدي
بسيارة الجيب للاستكشاف وهناك
وجدت عدداًً كبيراً من اليهود
خارج المستعمرة يعملون في
المزارع المجاورة وكانت فهذه
فرصتنا الذهبية للمرور دون
اشتباك كانت الخطة ببساطة أن
تقترب مصفحتنا الوحيدة لتقف وسط
اليهود العزل وتصوب رشاشاها
عليهم بينما تواصل بقية
السيارات المرور كان عنصر
المغامرة في هذه اللعبة وهو أن
اليهود لن يجرءوا علي إطلاق
النار علي سياراتنا مخافة أن
نحصد رجالهم في الحقول
فيتركوننا نمر بسلام ولا أدرى
كيف كان يفكر قائد المستعمرة
أمام هذه المفاجأة وهنا انتهي
لمثل ما انتهينا إليه من
استنتاج ؟ ولكن المهم أن طلقة
واحدة لم تطلق من المستعمرة علي
قوتنا وحين أنهينا مهمتنا في (
عراق المنشية ) في منتصف الليل
وقفلنا راجعين بمصفحتنا
وسياراتنا الجيب أخذت المخاوف
تعود علي رأسي أعنف مما كانت إذا
كيف سنعبر هذا الطريق المخيف
مرة أخرى ولن ينفعنا تكرار نفس
اللعبة كما أن من المرجح أن
اليهود قد دخلوا الآن إلى
حصونهم المسلحة وسيكون في
مقدرتهم أن يحصدونا حصدا دون أن
نتمكن من رؤيتهم فضلا عن
مقاومتهم في هذا الظلام الكثيف
وبينما كنت أفكر علي هذا النحو
وسائق السيارة الجيب ينطلق
بأقصى سرعته في اتجاه المستعمرة
وأنوار مصفحتنا تتبعنا كظلنا من
قريب برزت من الظلام أشباح
تستوقفنا وتصيح بانفعال ظاهر
وحين وقفنا عرفنا فيهم بعض
أصدقائنا البدو من سكان المناطق
المجاورة للمستعمرة . قال
أحدهم وقد حياني باسمي (( يبدو أن
اليهود يدركون أنكم عائدون
الليلة وذلك فقد وضعوا ألغاماً
علي الطريق قوة صغيرة من رجالهم
تقف الآن بين الأشجار في
انتظاركم )) وحين أخذنا نتدبر
أمرنا قال آخر (( أنى أعرف طريقا
رمليا يدور حول المستعمرة
وينتهي بكم إلى آخرهم من جهة
الجنوب وهو ليس ممهداً ولكن لا
بأس من تجربته فإن الغوص في
الرمال احسن من الموت المحقق
علي كل حال )) ولم يكن لدينا خيار
في الموقف فقررنا أن نأخذ
الطريق الرملي الطويل . كان
الطريق وعرا مليئا بالحفر
والصخور وكان دليلنا البدوي
يسبر علي مهل أمامنا ليجنبنا
النزول في المنحدرات الوعرة
ونحن نسير خلفه بدون ضوء ولقد
اكتشفت أن طريقنا الجديد يقترب
جدا من مستعمرة يهودية أخرى حتى
لكاد لامس أسلاكها وكان عنصر
المغامرة هذه المرة أن
المستعمرة الأخرى ربما تكون
نائمة ولا تنتظر قدوم أحد وهناك
احتمال معقول أننا سنمر بسلام 0 لقد
استغرقنا ساعات قبل أن نكمل
الدائرة الواسعة ونرى أضواء ((ياد
مردخاى)) تظهر
أمامنا من الجهة الجنوبية مرة
أخرى وشعرت بزهو الانتصار بعد
هذه المغامرة الخطرة وفجأة وجدت
نفسي وسط شبكة من النيران
المتقاطعة تتخللها انفجارات
قنابل المدافع المضادة
للمصفحات وفي لمح البصر أدركت
الحقيقة المخيفة وصحت علي غير
إرادة :((لقد وقعنا في كمين)) وفي
اللحظات التالية برزت أمامنا
ثلاث مصفحات يهودية كأنها قطع
من الظلام المحيط بنا ولا يجد
ملامحها سوى خيوط النار
المنبعثة من فوهات المدافع وفي
نفس الوقت أخذت مصفحاتنا تطلق
مدافع ((البازوكا)) ورشاشات
الفيكرز علي الوحوش المتقدمة من
الجانبين ولكن وضح أننا نخوض
معركة خاسرة وأن النجاة منها
بأرواحنا هي قمة الانتصار يتخبط
في دمه ولم أره بعد ذلك حتى الآن
وبقيت و((محمود عبده )) في المقعد
الخلفي بضع لحظات وخيوط الرصاص
المتناثرة من حولنا في الهواء
ولقد حاولت أن أقود السارة
وأواصل التقدم ولكنها لم تتحرك
إلا خطوات قليلة حن أحترق ((الموتور))
دفعة من الرصاص فتوقفت تماما عن
الحركة 0 وعندما
قفزت وزميلي إلى الأرض وأخذنا
نزحف علي بطوننا تحت وابل من
الرصاص الطائش كانت مصفحتنا لا
تزال مشتبكة مع المصفحات
المعادية وحين ابتعدنا بضع
ياردات عن مكان السيارة الجب
المحيطة شعرنا أننا أصبحنا في
مأمن لأن نيران العدو لم تعد
مسددة علينا وأصبح بإمكاننا أن
نسير بصورة عادة ونحن نستتر
بالأشجار الكثيرة المتناثرة في
تلك المنطقة وحين شعرنا أكثر
بالأمن بدأنا نقلق علي إخواننا
الآخرين والمصفحة ولكنني كنت
أحس باطمئنان داخلي لأن هؤلاء
الرجال قد وقعوا مرارا في كمائن
يهودية ربما أشد إحكاما من هذا
الكمين ومع ذلك فقد أسعفتهم
الشجاعة والمران من الخروج منها
وقد أصاب حدسي مرة أخرى حين
التقينا معهم في الصباح التالي
عند مدخل قرية ((دير سنيد))
العربية وكانوا جميعا في أحسن
حال فيما عدا سائق السيارة
الجيب الذي سقط في اللحظات
الأولي للمعركة 0 لقد
أبلغنا تجربتنا تلك مع ((ياد
مردخاى)) إلى أحمد عبد العزيز
وأبلغناه عن خطر تلك المستعمرة
وما تمثله من تهديد لأي تحركات
علي خط -غزة المجدل وطلبنا إليه
أن يكتب للقيادة العامة للجيش
لتضع هذا الأمر في تقديراتها
للموقف 0 لقد كان
علي الجيش المصري أن يواجه ما
واجهناه قبل شهور حين دخل
فلسطين في (15 مايو 1948) وحين
اجتازت كتائبه مدينة غزة في
زحفها شمالا إلى أسدود كان
عليها أن تصطدم هذه المرة
اصطداما حاسما مع المستعمرة
ولقد قدر لوحدة من رجالنا ولي
شخصيا أن نشترك في هذه المعركة
الهامة 0 الواقع
أن العمليات ضد ((ياد مردخاى))
بدأت يوم (16) مايو حين طلبت منا
القيادة كالمعتاد أن نقطع
مواصلات المستعمرة لنمنع وصول
النجدات من المستعمرات
المجاورة ونحكم علي قوة
الهاجاناه المحدودة أن تواجه
ثقل الجيش المصري وحدها وفي نفس
الوقت تحركت مدافع المدان لتحتل
مواقع قريبة من المستعمرة غير
أن الهجوم الفعلي لم يبدأ إلا
عصر يوم (19) حين أخذت المدفعية
تركز نيرانها علي موقع المراقبة
الأمامي القائم جنوب المستعمرة
حتى دمرت أجزاؤه البارزة علي
سطح الأرض تدميرا تاما ثم حاولت
المشاة اقتحامه ولكنهم فوجئوا
بنيران شديدة من الرشاشات مما
اضطرهم إلى تأجيل الهجوم الحاسم
0 وفي
صباح اليوم التالي واصلت
المدفعية ضرب المستعمرة بما
فيها الموقع المذكور وفي المرة
نجح جنود الجيش في اقتحام
الموقع بعد معركة ضارية استخدمت
فيها القنابل اليدوية والسلاح
الأبيض وأظهر جنود الجيش ضروبا
من الفدائية والاستبسال 0 كانت
قوة الإخوان المسلمين الصغيرة
تقوم بحصار طرق المواصلات كما
أسلفنا خلال الأيام الأربعة
التي شهدت معركة ((ياد مردخاى))
ولقد كانت هناك محاولات جريئة
من جانب العدو لتعزيز وحدة
الهاجاناه في المستعمرة
وإمدادها بالمؤن والذخائر غير
أن هذه المحاولات قد صدت بنجاح
إلا أن وحدها مصفحة من عشرين
قطعة هاجمتنا من صوب مستعمرة ((جيفا
رّام)) في ليلة (24) وبعد معركة
ضاربة بالرشاشات ومدافع ((البازوكا))
نجح جزء صغير منها في دخول
المستعمرة أما بقية السيارات
فقد ردت علي أعقابها ولاشك أن
صمود الإخوان ونجاحهم في عزل
المستعمرة قد ساعد مساعدة فعالة
علي سقوطها بعد بضعة أيام وحين
كانت معركة الطرق تدور بيننا
وبين العدو كان الجيش يحاول
اختراق المستعمرة الرئيسية دون
جدوى ذلك أن تحصينات المستعمرة
وخنادق الاتصال كانت مقامة
بعناية مكنت رجال الهاجاناه (رغم
قلة عددهم في تلك المرحلة علي
المعركة) من الصمود أمام
محاولات الاقتحام المتكررة 0 كانت ((ياد
مردخاى)) غرضنا رئيسيا للجيش
وكان لابد من احتلالها وتدميرها
أو الحكم علي الحملة المصرية
كلها بالفشل ولما يمض علي
بدايتها أسبوع واحد وكانت الروح
المعنوية للجنود والضباط لا
تزال عالية لم تؤثر فيها
العوامل التي ظهرت بعد ذلك علي
الميدان والحقيقة أن هذه
المعركة أظهرت معدن الجندي
المصري الصبور إذا أتيحت له
القيادة الصالحة والمعدات
الكافية وحين اشتدت مقاومة
العدو طلب منا أن نجلب فصيلة من
رجالنا لتساهم في عملية
الاقتحام النهائي للمستعمرة
وفعلا اشتركنا في هذا الدور
الحاسم بفصيلة وثلاث مصفحات كنا
غنمناها من اليهود في معارك
النقب 0 غير أن
الدور الأهم دون شك كان هو
نجاحنا في منع وصول النجدات
اليهودية للمستعمرة وربما لو
أخفقنا فيه وأتيح للعدو أن يقيم
جسرا بين المستعمرة المهاجمة
ومجموعة المستعمرات المجاورة
لتغيرت حتما نتيجة المعركة 0 سقطت
مستعمرة ((ياد مردخاى)) في يد
الجيش المصري وكان لسقوطها دوى
عظيم كما كان له أثر سيئ في نفوس
الإسرائيليين وبسقوطها أصبح
الطريق مفتوحا أمام الجيش
المصري ليواصل زحفه شمالا ومع
أن نتيجة هذه المعركة كانت
انتصارا بارزا للجيش كما كانت
مسرحا لبطولات فردية نادرة إلا
أنها أثبتت للقيادة العامة أيضا
أن مهاجمة المستعمرات ليست رحلة
مسلية واعتقد أن هذه التجربة
ساعدت علي وجود الاتجاه الذي
برز فيما بعد لعدم مهاجمة
المستعمرات اليهودية والاكتفاء
باحتلال جوانب الطريق الرئيسي
والدفاع عنه حتى لم يعد للجيش أي
هدف إستراتيجي يسعى لتحقيقه
وكان هذا الاتجاه هو المناخ
الذي أدى للهزيمة النهائية في
الحرب الفلسطينية 0 كان
دخول الجيش المصري إلى فلسطين
بالنسبة إلينا حدثا هاما أثر
علي كل أوضاعنا ولقد مر بك في
فصول سابقة أن وحدات الإخوان
المسلمين في الجبهة الجنوبية قد
دخلت إلى فلسطين بعد إعلان قرار
التقسيم مباشرة وظلت تعمل وحدها
في الميدان قبل دخول الجيش
النظامي بخمسة شهور علي الأقل
وقد ظلت تعمل حرة حتى بعد دخوله
إلى أن طلبت القيادة العامة
للجيش قيام تنسيق وتعاون بينها
وبين المتطوعين ولقد تطور هذا
التنسيق فيما بعد حتى أصبح نوعا
من التبعية للجيش ولم نجد غضاضة
في ذلك مادام الهدف هو العمل
لإنقاذ فلسطين غير أن محاولات
متكررة وقعت فيما بعد لإذابة
هذه الوحدات وصهرها في الجيش
صهرا تاما وكنا نعلم أن وراءها
توجيها سياسيا من حكومة
النقراشى يدفعه تخوفها من
الإخوان وخشيتها من نمو قوتهم
العسكرية في فلسطين ومع أنني
وافقت تماما علي فكرة التنسيق
والتبعية لتحقيق وحدة القيادة
في الميدان ولضمان نجاح
العمليات العسكرية ضد العدو إلا
أنني رفضت عملية الإذابة
وقاومتها بعناد شديد وقد تكلفت
في ذلك كثيرا من العناء 0 لقد كان
رفضنا الاندماج الكلي في الجيش
المصري موضوعا يستحق التسجيل
والتوضيح ذلك أن بعض العناصر
السياسية في القاهرة اتخذته
دليلا علي أن الإخوان كانوا
يرمون إلى بناء قوة عسكرية
مستقلة تعمل علي الإطاحة بنظام
الحكم المصري ولكن دوافعنا كانت
في الواقع لا علاقة لها
بالسياسة وإنما تمليها
اجتهادات خاصة تتعلق بالمهمة
التي كنا نعمل لها وهي قهر
الصهيونية في فلسطين فما هي هذه
الدوافع والأسباب؟ كانت
تربية شباب الإخوان المسلمين
تقوم علي أساس المساواة
والتكافل والحرية ولم تكن هناك
أية ميزات بين المسئولين علي
اختلاف رتبهم وبين الأفراد إلا
ميزة السمع والطاعة في
العمل والواجبات وكانت العلاقة
بين الضباط والجنود علاقة أخوة
ليس فيها شئ من الرسميات ولم نكن
نسمع أن هناك تفاوتا في اللباس
أو المأكل أ, المسكن بين أعلي
رتبة وأصغر رتبة وكانت هذه
الأوضاع يمليها المفهوم
الإسلامي للجندية والجهاد كما
تمليها ظروف هؤلاء الأفراد
وثقافتهم وأوضاعهم الاجتماعية
فمثلا قد نجد جنديا عاديا يحمل
شهادة جامعية عالية بينما قائد
فصيلته أو سريته عامل بسيط أو
فلاح ذو ثقافة متوسطة ولكنه
اجتاز تدريبا خاصا أو قضى في
الميدان مدة طويلة أظهر خلالها
شجاعة فائقة أو دراية واسعة في
القيادة حتى يمكن القول : إن
قائد الفصيلة أو الجماعة كان
أشجع أفرادها علي الإطلاق
وأكثرهم خبرة في القتال ومكانه
دائما هو المقدمة عند الاشتباك
مع العدو 0 أعتقد
أن هذه التربية الحرة القائمة
علي الكرامة والمساواة كانت من
بين الأسباب التي تدفعهم
لتحدى الموت والصمود عند
اللقاء علي أن هذه الأوضاع التي
تحكم علاقات الإخوان المسلمين
كانت عكس الأوضاع في الجيش
المصري تماما حيث تسيطر العقلية
العسكرية الصارمة وحيث يقوم
الخوف بين الجندي وقائده مقام
الحب والاحترام وحيث تقوم فجوة
بين الرتب تشمل المأكل والملبس
والمسكن من هنا وجدنا أن إذابة
الإخوان في الجيش ستعنى هدم
النظام الذي يقوم عليه كياننا
الجهادى وبالتأكيد محو الملامح
والخصال التي تنتج عنها خصال
الفدائية والتضحية والتسابق
علي الشهادة فهل يمكن أن ألام
لإصراري علي ضمان الحرية
الداخلية لوحدات الإخوان
المسلمين في نطاق الإطار العام
للجيش المصري وتحت قيادته
الموحدة ؟ 0 الواقع
أن قيادة الجيش أقرت هذا المبدأ
بعد تردد شديد ومشاجرات متعددة
بيني وبين ضابط اتصال الجيش ((البكباشى
زكريا العادلي إمام)) وهي
مشاجرات كانت كثيرا ما تنقلنا
إلى مكتب القائد العام للتأنيب
أو المصالحة 0 كان
دخول الجيش المصري في فلسطين
نقطة تحول بالنسبة لوحدات
الإخوان المسلمين وأصبح علينا
منذ الآن أن نحاول ملاءمة
نشاطنا مع خطط الجيش وسياسته
العامة كما أصبح علينا أن نشترك
في عملياته الهجومية والدفاعية
وكان يطلب منا علي الأغلب أن
تقوم بالأعمال التعرضية الخطرة
وأحيانا لتحقيق الأهداف التي
تعجز عنها الوحدات النظامية كما
سيتضح في الفصول المقبلة0 يتبع ---------------------- الكتب
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |