ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
غزة...أرض
العزة (4ـ
5ـ 6) الجزء
الرابع.....مع رجالاتها د.إبراهيم
حمّامي كانت عقارب الساعة
تقترب من الواحدة والنصف بعد
ظهر يوم الخميس، دخلنا مخيم
الشاطيء، عدة شوارع ثم استدارنا
نحو اليمين،واذ نحن أمام منزل
السيد اسماعيل هنية، كان خارج
المنزل وأمام بابه، بدا شامخاً
بجسمه الضخم الرياضي، ابتسامته
المعتادة ارتسمت على وجهه، وما
أن غادرنا السيارة حتى اقترب
وصافح الحضور بكل تواضع وأخلاق،
عانقته وهمست في أذنه "أُحبك
في الله يا ابو العبد"
هكذا قلتها دون كلفة، ربما
افتقرت للياقة حينها، لكن كان
هذا شعوري، هكذا دون تكلف من
القلب للقلب، فأجاب مبتسماً "أحَبّك
من أحببتني فيه"، دخلنا
المنزل دون تفتيش أو حراسة، دون
أسئلة واستفزازات تعوّد عليها
زائرو القيادات. منزل متواضع
بسيط وسط مخيم الشاطيء للاجئين،
دخلنا قاعة الجلوس، جلت فيها
بناظري، عدت بذاكرتي لقاعات
دخلتها لمسؤولين آخرين، قاعة
متوسطة الحجم، هي أصغر من قاعات
باقي البيوت التي دخلتها حتى
الآن، أثاث متواضع جدا، جدران
مطلية بشكل عادي، نظرت أمامي
وابتسمت، على الجدار المقابل
لمكان جلوسي كانت الرطوبة قد
تركت أثرها عليه فأثرت على
طلائه، يا الله هو بيت مثل
بيوتنا، بل ربما أكثر تواضعاً،
لكن مع بساطته، جعلني أشعر عظمة
ساكنيه والافتخار بهم. عظمة من
أبى أن يتنكر لأهله وجيرانه
ليسكن القصور أو يشتري أغلى
البيوت في أفخم المناطق، ووالله
لو فعل ما انتقص ذلك منه فهو
يستحق أكثر. جاءت القهوة والتمر،
عزم علينا السيد هنية بنفسه،
قلت "تفضل يا عيب الشوم"
أجاب بأدب "معلش اعفيني"،
تذكرت أن اليوم الخميس فسألت
"صايم"، أومأ برأسه مع
ابتسامة بالايجاب، أخلاق
القادة وتواضع الفقهاء. كانت آثار التعب
بادية على وجهه، وكعادتي
الفضولية سألت عن السبب حتى لا
نزيده ارهاقاً، قال من كانوا
برفقته أطالوا السهر
بالأمس،وهو يستقبل الأفراد
والوفود ممن دخلوا غزة بعد فتح
الحدود، لم يرفض لقاء أي كان
مهما علا أو صغر شأنه، استقبل
الجميع دون استثناء، ولم يأوي
لفراشه إلا قبل الفجر بقليل،
لكنه ها هو يستقبل زواره من
جديد، لا يرد طلب أحد. دار الحوار حول أمور
كثيرة، منها الأداء الاعلامي
للحكومة، وأبديت رأيي بنقاط
تحتاج للمراجعة. وضعنا السيد
هنية في صورة المستجدات، سأل
واستفسر عن أبناء شعبه في
الشتات وخاصة في أوروبا. يتابع
كل الفعاليات والنشاطات حول
العالم، عالم بدقائق الأمور،
هكذا يجب أن يكون القادة، مرة
أخرى ابتسمت وأنا أتذكر ذاك "الزعيم"
وهو يخطىء في اسم بلدة فلسطينية
وعلى الهواء!. كان الأصل أن نجلس
عشر دقائق ثم نغادر، لكن الحديث
الممتع امتد، وأصر "أبو العبد"
أن نبقى، وزاد إصراراً أن
نتناول طعام الغذاء عنده وفي
منزله، لم أنس أنه صائم ولم ينس
أصول وكرم الضيافة، اعتذرنا
بأدب وبعد حوالي نصف الساعة
استأذنا بالمغادرة. وقف السيد هنية وأشار
لشخص في الغرفة فتناول مصحفاً
كريماً (مصحف المسجد الأقصى) في
صندوق خشبي جميل، وأهداني إياه،
ووضع شالاً فلسطينياً حول عنقي،
اغرورقت عيناي بالدموع، لم
أتوقع ذلك، ومن أكون ليغمرني
بلطفه وأدبه وتواضعه؟.عانقته
بحرارة وتمنيت أن يجمعنا الله
سبحانه وتعالى في القدس المحررة
بإذن الله، خرجنا ولساني يلهج
له بالدعاء أن يحميه المولى من
الشرور وأن يسدد خطاه ومسعاه. كنت وما زلت أرفض
تأليه الأشخاص والأفراد أو
مدحهم، ولكني أجد نفسي مضطراً
أن أصف بكل أمانة وصدق ما رأيته
واحسست به، غير متملق أو متصنع،
فحق الناس أن نصفهم بما فيهم، لا
أن نصنع صفاتهم لتناسبنا. كان السيد اسماعيل
هنية رجلاً من زمان آخر غير
زماننا، هادىء يتكلم بصوت
منخفض، يستمع باهتمام، عيون
تبرق وآذان تصغي وتركيز مذهل،
يشرح ويسترسل دون كلل، يتقبل
الرأي دون حرج، صدره رحب
وابتسامته لا تفارقه، حباه الله
بحسن الخُلق والخَلق، صفات عرفت
بعدها لماذا تلتف حوله القلوب
في كل بقاع الأرض. كان رجلاً وجدت فيه
هدوء أبو بكر، وقوة عمر، وحلم
عثمان، وحكمة علي، وتواضع عمر
بن عبد العزيز، رضي الله عنهم
جميعاً وأرضاهم، تشعر معه أنك
تعرفه منذ سنوات، لا حواجز ولا
تكلف، تواضعه يرفعه، وأدبه
يعظمه، وأخلاقه تفرض نفسها على
كل الحضور، مهما قلت لن أستوفيه
حقه، لكني وبكل صدق أقول أنه من
زمن آخر، زمن الخلفاء والعظماء،
لقاؤه لن أنساه، رضي الله عنه
وأرضاه. بعد مغادرة منزل
السيد اسماعيل هنية، قمت بزيارة
قصيرة لعائلة أحد الأصدقاء في
غزة لأحمل لهم التحية والسلام
وأطمئن على أحوالهم، لم أجلس
لكن العم أصر أن يشرح لي أوضاعهم
ومعاناتهم، هكذا نواجه انقطاع
الكهرباء، وبهذه الطريقة ندفيء
المنزل، هنا حدث كذا، وهناك كان
كذا، كان الله في عونهما، فهو
وزوجته يعيشان وحدهما في ظروف
صعبة، لهما رب العالمين. أخذنا طريق البحر
لنعود أدراجنا إلى خان يونس،
كان البحر هائجاً، ومنظر الموج
ذكرني بالنشيد "غزة ع مواج
البحر بتردد الزغاريد"، صورة
جميلة وشعور أجمل، الطريق ليس
بأفضل حال من طريق صلاح الدين.
مررنا على منطقة الشيخ عجلين
ومسجدها الشهير، شاطىء البحر
كان الصيف الماضي يعج
بالمصطافين، آثار بيوت القش ما
زالت هناك، لكن أيضاً كانت هناك
أكوام من مخلفات البناء القيت
دون رقيب أو حسيب. أبطأت السيارة وقال
أحدهم هنا أمسكوا بسميح
المدهون، في هذا المكان، أثناء
محاولة فراره، وهنا أطلق النار
على أحد أفراد الشرطة فسقط كآخر
ضحية من ضحاياه، قبل أن ينال
الجزاء العادل. من خلال دير البلح
عدنا لطريق صلاح الدين، ووصلنا
خان يونس، هناك كان لقاء ضم أكثر
من 30 شخص، جاءوا ليسألوا
ويتعارفوا، جلسة ممتعة امتدت
لساعات، ووجوه طيبة مرحبة، ثم
كان الاتصال الذي هزني!. اقترب أحد الجلوس
وقال هناك من يريد أن يكلمك، من
هو؟ أجاب أسير من سجن نفحة، بكل
سرور، عرّف بنفسه وقال سمعنا
أنك في غزة فأصر زملائي في السجن
أن يوجهوا لك هذه الرسالة، وبدأ
بالقراءة، كلمات من أبطال شعبنا
أسرانا البواسل جعلتني أرتجف،
وتعثرت الكلمات، وعجزت عن الرد،
هم يرحبون بي من سجنهم، هم من
يضحون بسنين عمرهم وجدوا الوقت
ليؤكدوا على أخلاقهم وضيافتهم؟
كيف لا فهذه بلادهم وأرضهم ومن
أجلها يضحون، هم سادتنا وتيجان
رؤوسنا. لم أعرف بما أرد، للمرة
الألف غلبني الدمع. أضاف الأسير
البطل هل تسمح لي بأن أرسل لك
قصيدة كتبتها لأمي؟، ما هذا
الأدب؟ هو يستأذنني؟ والله لو
أمرني لأطعت، هذه قصيدته أضعها
ليقرأها العالم، فرّج الله
كربهم وفك أسرهم، آمين يا رب
العالمين.
في المساء وبعد تناول
العشاء، خرجت لأتجول في المدينة
لأراها ليلاً، اختلف الأمر في
الليل عنه في النهار، رأيت
المسلحين ينتشرون هنا وهناك، ما
الأمر وأنا من ظننت أنه لا وجود
لمظاهر مسلحة! على رسلك لا
تستعجل الأمر، هؤلاء هم
المرابطون الذين يدافعون عن
ثغور غزة في وجه الاحتلال
واجتياحاته وممارساته
الاجرامية، هؤلاء أبطال غزة،
هؤلاء من يروون بدمائهم أرضنا
الطاهرة كل ليلة. توقفت
السيارة، واتجهت نحوهم، وجدتهم
شباباً في ريعان العمر يدب فيهم
النشاط، متحفزون مقبلون،
حييتهم وصافحتهم، لم يكن لديهم
وقت للوقوف فمهمتهم لا تنتظر،
واختفوا تحت جنح الظلام. أديت فريضة الصلاة،
راجعت شريط اليوم، كان حافلاً
مليئاً، هذه هي رجالات غزة قادة
ومرابطون وأسرى، تفاني من أجل
الوطن، هنيئاً لهم وبهم. قررت
المغادرة في الصباح، فأخبار
المعبر غير مطمئنة، واحتمالات
إغلاقه تزداد. حدثت مضيفي بذلك،
رفض وبشدة، غداً تصلي الجمعة
هنا وبعدها نرى ما يكون، قلت له لم أكن أنوي
المبيت ولا لليلة وهذه ليلتي
الثانية، لم أستطع إقناعه. إذن
على بركة الله، اتفقنا، وآوينا
للفراش، في انتظار يوم الغد. --------------------------- غزة...أرض
العزة الجزء
الخامس..... بين أهلها يوم جديد في ربوع
غزة، الجمعة 01/02/2008، الجمعة
الأولى في فلسطين، سأظل أصف
وأقول الأول والأولى، لن يكون
هناك أخيرة وآخر أبداً، الأول
والأولى سيتبعها ثانية وثالثة
وعاشرة وألف، لا نهاية لعشق
الوطن طالما بقي نفس، بل حتى
حينها أدعو وأتمنى أن يضمني ثرى
أرض فلسطين المباركة. الماء الساخن جاهز،
ما قاله مضيفي مع الفجر، في غياب
الكهرباء يكون التسخين يدوياً،
وكأيام الطفولة كان غسل الجمعة
ب "الكيلة"، الجمعة عيد
أسبوعي للمسلمين، وعندي كانت
هذه الجمعة عيداً خاصاً. بعد الافطار
المعتاد، عادت الكهرباء، بسرعة
لنستغل الوقت، اسمحوا لي أن
اقرأ ما وصلني من رسائل بريدية،
كانت كثيرة منها العام ومنها
الخاص، فيها أخبار وأسرار،
لكنها تبقي وسيلة الاتصال مع
الأهل والاحباب. وصلت مجموعة من
الأطباء من مدينة خان يونس
للسلام والتحية، وبعد حوار "طبي"
وآخر سياسي، انطلقنا جميعاً إلى
مسجد الإمام الشافعي في مدينة
غزة. خطبة الجمعة كانت عن
الأوضاع والمستجدات، أصغي
الجميع مستمعاً، لكن أيضاً كان
بصري يجول في كل زاوية بالمسجد،
هو كغيره من المساجد، وفي الوقت
نفسه، ليس كغيره من المساجد. كنت
اقرأ الوجوه واتصفحها، أنظر
للجدران والأعمدة، انها صلاة في
غزة، اللهم ارزقنا صلاة في
المسجد الأقصى المحرر. المصلون من حولي هم
من أبناء هذا الشعب الصابر
المصابر، هم صناع التاريخ،
مشاعري لا أسيطر عليها، احساس
بالنشوة ونفس عميق عميق، الصلاة
اليوم في غزة، وبدأ الامام
بالدعاء، والألسن تلهج آمين،
يارب، آمين، دموع تنهمر من جديد
في هذا الجو الايماني، وقلب
يمتلىء بروحانية المكان وخشوع
المصلين ودعائهم، اللهم انصرنا
على أعدائنا، اللهم حرر أقصانا
وقدسنا وسائر بلادنا، آمين يا
رب العالمين. بعد الصلاة وقف أحد
المصلين أمامي ينظر متفحصاً،
غاب وعاد، ثم سأل " مش حضرتك
الدكتور ابراهيم"، قلت
مبتسماً "نعم أخي"، عندها
صافحني بحرارة ثم عانقني، وقال
أنه سعيد أن يراني في غزة، وأصر
أن أصحبه للغذاء في منزله الذي
بدأ بوصفه وقربه من المسجد.
اعتذرت بلطف لارتباطي بمواعيد
أخرى رغم أني كنت أتمنى تلبية
الدعوة الكريمة الصادقة، مثال
آخر على روعة وكرم وأخلاق شعبنا
رغم ظروفه الصعبة. بصعوبة شديدة شقت
السيارة طريقها من أمام المسجد،
ازدحام شديد، سوق لكل شيء،
والكل ينادي ويسوق لبضائعه.من
أين تلك البضائع؟، يأتي الجواب
من مصر، ضاعت معالم الطريق
وتداخل الناس مع السيارات مع
"الكارات". فوضى لكنها غير
مزعجة، الكل يسعى لرزقه. وبعد
الحاح منا، "لو سمحت يا عم
ترجع الكارة لورا شوي"، "
لو ممكن بعد إذنك تزيح هالصندوق"،
وهكذا حتى مرت السيارة. جولة أخرى في شوارع
غزة الرئيسية، شارع عمر المختار
الشهير، شارع الثلاثين، شارع
الوحدة، المساجد الرئيسية،
الساحات، المعالم الرئيسية،
مستشفى الشفاء، المسجد العمري،
الجندي المجهول، وكل ما سمعت
عنه من قبل، ودائماً لكل زاوية
حكاية. لحظات حزينة الآن، هنا
سقط د. عبد العزيز الرنتيسي
شهيداً، وهذه المقبرة التي دفن
فيها، وفيها أيضاً الشيخ ياسين
وغيرهم من شهداء شعبنا، الفاتحة
على أرواحهم جميعاً. الطريق مغلق، مهرجان
كبير، اليوم ذكرى اغتيال الامام
أبو أنس المنسي داخل مسجد
الهداية على يد تيار الغدر
والفتنة، وفي ذكراه نتذكر أيام
العربدة والفلتان والفوضى،
ونحمد المولى عز وجل أن تخلص
قطاع غزة من قطّاع الطرق، وأن
ساد الهدوء والأمن والأمان، رغم
محاولات زعزعته من قبل فلول
وبقايا الماضي البائد إلى غير
رجعة بإذن الله. كانت محطتنا التالية
المنتدى الطبي الفلسطيني في
غزة، استقبلتنا جموع من الأطباء
والصيادلة والممرضيين،إضافة
لممثلين عن النقابات المهنية
الأخرى، يرأسهم السيد د. باسم
نعيم وزير الصحة، وهناك وفود من
دول أخرى، لم نكن وحدنا من تشرف
بدخول غزة، شخصيات من ألمانيا
وتركيا ومصر، ممثلون لمؤسسات
خيرية واغاثية، اتحاد الأطباء
العرب، جو مهني حميمي، تجمعنا
حول مأدبة غذاء، و"التحلاية"
كانت كنافة غزاوية، وهي تختلف
عن اختها "النابلسية"،
لذيذة خاصة مع الجماعة وتناولها
من "الصدر" مباشرة. شاركت بعدها في مقر
المنتدى بندوة طبية حول
احتياجات قطاع غزة ونواقصه من
الأدوية والكفاءات والمعدات
وغيرها، شاركت بصفتي المهنية
كطبيب وأيضاً كنائب لرئيس تجمع
الأطباء الفلسطينيين في
أوروبا، استمعت لعرض مفصل عن
الأوضاع الصحية، وتبادلت مع
الزملاء الأطباء الأفكار
والمقترحات وامكانيات
المساعدة، خاصة من قبل الأطباء
في أوروبا. مع نهاية الندوة
وسلامات الوداع، وصلت أنباء
المعبر، ربما هي ساعات قبل
الاغلاق من جديد، علي اتخاذ
القرار، لكن يبدو أن أجواء غزة
بدأت تنتقل إلي، لم يكن القرار
صعباً. بالأمس كنت أفكر
بالمغادرة، الليلة لن أغادر،
البقاء لأطول فترة ممكنة كان
الهدف، لاستمتع بكل لحظة في غزة..أرض
العزة. من المنتدى الطبي
توجهنا إلى حي الشجاعية حيث
منزل أم الشهداء، أم نضال
فرحات، وصلنا ووجدناها في
استقبالنا بابتسامة وادعة ووجه
مرحب، كلمات جميلة رحبت بها
بالزوار، أيضاً لا كهرباء، لكنه
منزل لا يحتاج للكهرباء، فهو
مضيء بأهله وسكانه، ورغم أنهم
أضاءوا الشموع، إلا أني ويشهد
الله كنت أرى وجه أم نضال هو
المشع المنير أكثر من كل الشموع.
وجه مضيء تغشاه السكينة
والطمأنينة، نظرت اليها، إلى
أمنا أم نضال، ما أعظمك من امرأة
تفوقت على الكثير من الرجال.
شعرت حينها أننا نظلمها بوصفها
بخنساء فلسطين، مصيبة الخنساء
في أخوتها كانت فادحة، لكن أم
نضال تضحيتها وصبرها أكبر
وأعظم، إنهم فلذات أكبادها
قدمتهم لهذا الوطن الغالي راضية
مرضية بإذن الله. قدمت لنا القهوة،
والحقيقة أنني لا أشرب القهوة،
وكانت أول مرة أتناولها فيها في
المجلس التشريعي ثم في منزل
السيد هنية، ولا يمكن أن أرد أم
نضال، لكن القهوة كانت بطعم
خاص، وسبحان الله استمتعت بها،
خاصة أنها كانت مصحوبة بتحيات
ودعوات أم الشهداء، أم نضال هي
أيضاً من زمن آخر غير زماننا،
سيدة لا تصفها الكلمات، ولا
تستوفيها حقها. وقفنا استعداداً
للمغادرة، عاتبتنا أم نضال
لاستعجالنا، أرادت أن تعد
الطعام، لكن الوقت داهمنا ولا
نريد أن نثقل عليها. نظرت اليها
مرة أخرى، وقفت أمامها، قلت "أنت
والدتنا جميعاً اسمحي لي"،
قبلت رأسها، لم أعد أراها،
دموعي ملأت عيوني، ثم سمعت
ابنها يقول ممازحاً " وين
أبوي يشوف اللي عم يصير"، وسط
ابتسامات الجميع. في فناء المنزل قالت
أم نضال "تعال أوريك وين
استشهد عماد عقل"، هنا سقط
تحت شجرة كانت تزين فناء
المنزل، رغم مصيبتها إلا أنها
مدرسة في الصبر والجلد، تشرح
بغصة ممزوجة بالفخر، عظيمة أنت
يا أم نضال. من هناك عدت إلى غزة،
عند مستشفى القدس، للقاء أقرباء
لي هناك، ترجلت من السيارة
ووقفت انتظر وصولهم. فجأة توقفت
سيارة فيها عائلة، نزل السائق
وتوجه نحوي. خيراً إن شاء الله،
عرّف بنفسه وقال أنه عرفني
وأراد أن يرحب بي في غزة، وطبعاً
دعوة وتشديد على الزيارة في
المنزل القريب، ما أكرم أهل
غزة، وما أطيب خلقهم. عند منزل الأقرباء
وصل زميل لهم وجار، عتاب حار
لعدم اقامتي عندهم، اعتذرت
وشرحت الظروف، لم أطل الجلوس،
تحادثنا في مستجدات الأوضاع،
كانت له ملاحظات على ما يجري، هو
ابن فتح منذ عشرات السنين، لكنه
ممن قطعت رواتبهم، ساءه أن يساق
أبناء فتح للتحقيق في مراكز
كثيرة حسب رأيه، وساءه أن يٌجبر
الناس على إنزال رايات فتح
الصفراء، وساءه أن لا يؤخذ برأي
أبناء فتح في إدارة شؤون
القطاع، هو عتاب صادق شاركه فيه
زميله وجاره، وصراحة نحتاج لها
جميعاً، وقلب مفتوح يتسع للجميع.
حان وقت المغادرة، الزيارة كانت
قصيرة لكني وعدت أن تكون إقامتي
المرة القادمة عنده لنتحدث أكثر
ونمضي وقتاً معاً. إلى مخيم البريج كانت
وجهتنا، ولقاء مع بعض أهالي
المخيم، المخيم مدخله وشوارعه
تذكرك بمخيمات لبنان وسوريا.
سبحان الله الهم الفلسطيني
واحد، والمعاناة نفسها داخل
الوطن وخارجه، الوجوه نفسها
كتاب مفتوح على مرّ سنين الشتات.
اللهفة والمحبة ذاتها،
الابتسامات لا تفارق الوجوه حتى
وان كانت متعبة، أجواء مرحة
ترافق اللقاءات.نقاش وحوار
وتبادل للآراء، واختتم اللقاء
بلفتة طيبة كريمة قدم فيها
الحضور مجسماً لمسجد قبة
الصخرة، وخشبية على شكل خارطة
فلسطين كهدية وذكرى منهم، جزاهم
الله كل خير. ما أن غادرنا متوجهين
إلى رفح حتى رن جرس الهاتف، توفي
والد أحد الأخوة، كان قد طلب مني
زيارة والده، لكنه نقل للمستشفى
وتوفي هناك قبل أن يتحقق ذلك،
رحمه الله وغفر له ولنا. من البريج إلى رفح
ولقاء آخر مع أهالي رفح، وعلى
وليمة "رفحاوية" تجمعنا
حتى ساعة متأخرة من الليل، حديث
ذو شجون لا يخرج عن ذات السياق،
الهم الفلسطيني والشأن المحلي.
تأخر الوقت، ودعت الجميع وسط
مطالب بوعد بالعودة، وهل يحتاج
ذلك لوعد، في أقرب فرصة ان شاء
الله. إلى العائلة التي
استقبلتني عدت، ازعجتهم بعد
منتصف الليل، لكن كان لابد من
الرجوع وشكرهم وتوديعهم، بت
ليلتي عندهم، كانت ليلة هي
الأخرى غير عادية. غصة الفراق
أليمة، وكم وددت أن أبقى أكثر،
لكنها ظروف العمل والأسرة
والحياة، التزامات وواجبات علي
الايفاء بها. جسدي سيغادر أما
روحي فقد سكنت هناك للأبد،
سأعود حتماً. سأعود إلى القدس
ومدينتي يافا، سأزور كل شبر من
فلسطيننا الحبيبة. أجريت بعض المكالمات
في جوف الليل، جهزت أغراضي
للسفر، استلقيت وأعدت شريط
الايام الماضية، هو يقين ليس
حلماً، كان كذلك ولكنه تحقق.غفوت
ويشغل فكري كل ما مضى، وأفكر
بالغد والمعبر ورحلة العودة،
سهّل يا رب ويسّر. كان الصباح الباكر،
افطار سريع ووداع لأهل الدار،
وانطلاق إلى بوابة صلاح الدين،
ليبدأ الفصل الأخير من هذه
الرحلة التي لا تنتهي، وليكون
الجزء القادم الأخير، كم أكره
هذه الكلمة – الأخير- ، وليكمل
توثيق هذه التجربة الشخصية. ------------------------------- غزة...أرض
العزة الجزء
السادس..... منها بدأت رحلة العودة،
عودة عكسية الى خارج الأرض التي
نعشق، عودة قسرية تحكمها ظروف
الشتات، عودة بالجسد والبدن لا
بالروح والوجدان، عودة لا يعلم
إلا الله من تكون عودة منها،
تذكرت هنا ما يمنع، المعبر،
اتفاقية المعبر المخزية التي
وٌقعت عام 2005، ما ينقص غزة
لتتحرر هو معبر على العالم
الخارجي، بإذنه تعالى سيكون ذلك
بعيداً عن الاحتلال وأذنابه. ما زالت بوابة صلاح
الدين على حالها، الناس يدخلون
ويخرجون، لكن بأعداد أقل، كما
كان الدخول عبرها كان كذلك
الخروج، من فوق السور الحديدي
المائل مررت، شتان بين لحظة
الدخول وهذه اللحظة، بين لحظة
معانقة الأرض ولحظات فراقها،
لكنه فراق لن يدوم طال الزمن أو
قصر، فراق مؤقت سنعود بعده إلى
وطننا وديارنا. رفح على الجانب
المصري مقفلة محالها، بلا
سيارات، هكذا هي التعليمات
الجديدة، سبحان الله قبل أيام
كانت عامرة زاهرة رغم العواصف
والأمطار، اليوم مقفلة مقفرة
كئيبة، كشعوري تماماً وأنا أترك
غزة، تطابقت الأجواء والأحاسيس
بين المكان والانسان، نظرت خلفي
عبر بوابة صلاح الدين، نظرت في
أفق الوطن، أحسست بغصة في حلقي،
ومرارة في نفسي، لم اشبع منك يا
وطن، لم أقض فيك إلا لحظات
قصيرة، لكنها بعودة ان شاء
الله، الى اللقاء يا غزة، إلى
اللقاء يا فلسطين. كان عليّ أن أمشي
مسافة 3 كيلومترات داخل رفح
المصرية للوصول إلى أول سيارة،
وصلت إلى حيث سمح للسيارات
بالوصول، كانت هناك سيارة وحيدة
دون ركّاب، "سلام يا اسطى،
عالعريش؟"، رد "مصريين بس"،
قلت له لا عليك أحمل جوازاً
أجنبياً، لم يعجبه واسترسل في
شرح الأوامر الصارمة، "مش
عايز يتخرب بيتي، دول حيسحبو
الرخص والعربية"، بعد
تأكيدات وتطمينات ووعود بتحمل
المسؤولية ان أوقفونا، وبعد أن
دفعت أجرة السيارة كاملة
مقدماً، وبعد جهد جهيد، قبل
ووافق. انطلق السائق نحو
أطراف رفح، وبدأ بالشرح،
الحاجزين الأولين هما الأسوأ
والأصعب والأشد تعقيداً،
عليهما أنزل أغلب الناس اليوم،
"ربنا يستر" قالها بقلق،
قلت له "اتكل على الله"،
الحاجز الأول كان قد أوقف عدداً
من السيارات والركاب أمامنا،
لكنه أشار لنا بالمرور دون توقف
أو سؤال، الحمد لله، يبدو أن
مسلسل التساهيل لم ينته بعد،
بعده بمئات الأمتار حاجز آخر،
السائق قلق من جديد "ده
أوحشهم"، اقتربنا من الحاجز،
أنزلت شباك السيارة حيث كان يقف
المدقق على جهة اليمين، كلمة
واحدة نطقت بها "سلام"،
أشار بيده "تفضل"، هكذا
مررنا على أسوأ الحواجز دون
سؤال، مازحت السائق "ايه يا
عم هما دول أصعب اتنين"، أقسم
لي بأغلظ الايمان أنها تحدث
لأول مرة، وأنه يتعرض للسؤال
والتدقيق حتى عندما يكون
بمفرده، الحمد لله على نعمته،
انفرجت أسارير السائق وأكد أن
"الباقي سهل"، وهكذا كان
حتى وصولنا لمدينة العريش رغم
كثرة الحواجز ونقاط التفتيش. في الطريق شاهدنا
العشرات من سيارات الأمن
المركزي الخضراء تتجه نحو
الحدود استعداداً فيما يبدو
لاغلاقها، وما هي إلا ساعات بعد
خروجي بالفعل أغلق المعبر
تماماً، وبقي هناك من بقي، منهم
من خرج لاحقاً لوضعه الخاص
كالوفد البرلماني البحريني،
ومنهم من يحاول الخروج – أو
الدخول- حتى هذه اللحظة. في العريش اتصلت
بزوجتي مطمئناً، وكذلك اتصلت
بصديق مصري أصر أن أذهب إليه حيث
هو في محافظة أخرى خارج
القاهرة، قبلت ذلك بسرور،
واستقليت حافلة النقل العام من
العريش إلى حيث يعيش، عندها
ولأسباب لا اعرفها لم يعد هاتفي
النقال يرسل أو يستقبل، لا
تغطية، هكذا انقطعت عن العالم! كانت الحافلة مليئة
بالركاب، توقفت مراراً
وتكراراً، "البطايق لو سمحتو"،
فحص وتدقيق عند كل نقطة،
الفلسطيني ممنوع من المرور،
خاصة عند كوبري السلام فوق قناة
السويس، النقطة عند الكوبري
تحولت إلى ما يشبه نقطة حدودية،
جيش وشرطة وجمارك وتفتيش وتدقيق
في الأوراق، ساعات وساعات مرت
في الطريق. قبل ان اصل حيث وجهتي
كانت سيدة من العريش تستعد
لمغادرة الحافلة، سألها السائق
"ايه يا حجة العريش فضيت؟"،
فبدأت بانزال اللعنات على
الفلسطينيين الذين لم يبقوا لهم
شيء حتى الأغنام، أغاظتني وهممت
بالرد عليها، لم أفعل فقد سبقني
ركاب الحافلة جميعهم، هبوا فيها
مستنكرين "ايه يا ست هما خدوا
الحاجات من غير ما يدفعو تمنها؟
ولا سرقوها يعني؟ مش انتو زدتو
الطاق 60 وبرضو دفعو تمنها؟
الكلام ده ما يصحش"، ومن هذه
التعليقات التي أكدت لي أن
الشعب المصري بكل طبقاته يعي
تماماً ما حدث ولم يتأثر
بالحملات الاعلامية الظالمة ضد
اخوته من أبناء الشعب الفلسطيني. أخيراً وصلت للبلدة،
ولحسن الحظ كان صديقي في
الانتظار، لم يكن هناك مجال
للاتصال به بعد أن تعطلت شبكة
التغطية، سلامات وتحيات توجهنا
بعدها لمنزله، كانت لديهم
مناسبة الليلة الماضية، زواج
أحد أفراد العائلة، أجواء سعيدة
في ذلك المنزل الكريم. بادرني بسؤال ان كنت
أرغب في المشي في "الغيط"،
"يا ريت"، الغيط كان خلف
المنزل تماماً، مزروعات وجداول
مياه، عالم آخر، الكل يعرف الكل
وباسمه، هذا ما نفتقده في
الغربة، كنت أرى "الجاموسة"
لأول مرة، طبعاً شاهدتها على
التلفاز، لكن أين في غير مصر
يمكن مشاهدتها مباشرة؟ الأمر قد
يبدو مضحكاً، لكنها أمانة النقل
والسرد وحقيقة الموقف، عدنا
للمنزل، موعدنا كان مع وجبة
أسماك لم أتذوق مثلها في حياتي،
بحرية ونهرية بخلطة مصرية
مميزة، كان كل شيء في تلك البلدة
بهيجاً. غص المنزل بوفود
القادمين للتهنئة بالزفاف،
تمنوا أن أحدثهم عن زيارتي
لغزة، أهل مصر يعشقون فلسطين،
رغم كل ما قيل ويقال من قبل بعض
الكتاب والمسؤولين، ورغم
محاولات التفرقة والتشويه،
جلسوا وتحلقوا يستمعون باهتمام
واستمتاع، بين الحين والآخر
تعلو الأصوات "ما شاء الله"
"يا سلام" "الله أكبر"
"سبحان الله"، هذه هي طبيعة
أهل مصر الكنانة، يحبوننا
ونحبهم. العشاء كان أيضاً
بنكهة مصرية خاصة، كرم "فلاحي"
أصيل، "لازم تجرب البط"،
عسل القصب، الفطير "المشلتت"،
وأصناف أخرى، وسط مرح أهل مصر
وخفة دمهم المشهورة، عذراً على
التفاصيل مرة أخرى، لكنها
ضرورية لانصاف من التقيت بهم،
ولأعكس طبيعة كرمهم وضيافتهم. بعد أمسية وسهرة
جميلة حان موعد النوم، كان شريط
الأيام الماضية يدور في رأسي،
كان حلماً وتحقق، دخلت غزة بعد
أن ظننت أنه لا مدخل، قضيت فيها
ليال ثلاث وكنت أظن أني سأمر
فيها بضع يوم، قابلت رجالاتها
وأهلها، تجولت فيها، تيسرت
الأمور وكأنها كانت مسيّرة،
أعود الآن وقد تركت فيها قطعة
مني، لك الحمد يا الله، ما أكرمك. مع ساعات الفجر
انطلقنا نحو مطار القاهرة،
انهيت اجراءات الجوازات
والطيران، أقلعت الطائرة في
موعدها، وعلى متنها قابلت من
كان سبقني إلى غزة بيوم، هل
تذكرون الذي اتصل وشرح لي صعوبة
الطريق لكنها مفتوحة، كان
عائداً على نفس الرحلة، تبادلنا
الأحاديث الشجية، هو من غزة
وفيها تربى، لكنه كان بشوق
اليها بعد طول غياب. اربطوا الأحزمة
استعداداً للهبوط، جلست في
مقعدي، أسندت رأسي وبكيت، هذه
المرة لم تكن دموعاً بل بكاءً
بحرارة، في هذه اللحظات وأنا
بين السماء والأرض دعوت وشكرت
المولى عز وجل من كل قلبي،
الأيام الأخيرة كانت كافية
لتمنحني طاقة لا حدود لها،
وبدأت أنظم كلمات خطرت على
بالي، هكذا دون مقدمات: أظلمَوها وظنوا أنهم
قاهروها، منارة للشعوب أضحت
يقتدوها، غزة الأبية لن تركع
وان جوعوها، لن يقدروا عليها
ولن يهزموها، قبلة
الأحرارغزةيقصدوها، ومنها دروس
العز تعلموها. فترة وجيزة وحطت
الطائرة في موعدها، وبعد اتمام
اجراءات الدخول اتصلت بزوجتي
لأطمئنها، كانت في حالة قلق
شديد، آخر اتصال كان من العريش،
توقعوا وصولي إلى القاهرة، لكني
ذهبت في زيارة لمحافظة أخرى،
كان هناك من توقع وصولي وانتظر،
ثم ذهب للمطار للتوديع فلم
نلتق، اتصل بأقاربه ليقول أني
لم أركب الطائرة، وبدورهم وفي
الساعة السابعة والنصف صباحاً
اتصلوا بالمنزل مستفسرين من
زوجتي، لا خبر أين هو؟ وذهبت بهم
الظنون كل مورد، لحظات فضول
وقلق، لكني على أي حال وصلت ولله
الحمد. انهالت الاتصالات
بين معاتب لعدم اصطحابه، ومهنيء
بالزيارة "التاريخية"،
ومستفسر متسائل، مشاعر من القلب
أبقت على أجواء قطاع غزة التي
عشتها، والجميع يطالب
بالتفاصيل والتوثيق، حاولت أن
أبدأ بذلك منذ اليوم الأول
وعجزت، لم استطع أن أغلب دموعي
كلما هممت بالكتابة، حتى استطعت
بعد ايام وايام أن أبدأ وما زال
دمعي يغالبني حتى اللحظة. بعد ايام من وصولي
جاءني اتصال من سيدة عرّفت
بنفسها واسمها ومكانها شمال
غزة، أرملة تعمل براتبها لتعيل
أطفالها، قطعوا عنها الراتب
مؤخراً، تتكلم بمرارة، تقسم
أنها ليست مع أي طرف فلِمَ
تُعاقَب، لم استطع الرد، ماذا
أقول لأواسيها؟ وما يملك عبد
فقير مثلي أمام ظلم واجرام من
يتحكمون بالقرار والمال، قلت
ذلك لها، كان طلبها بسيطاً
كبساطة أهلنا هناك، سمعت أنك
كنت هنا، أكتب عن الموضوع، أثره
اعلامياً، اسأل كيف أعيل أولادي
وأنا الأرملة؟ لا حول ولا قوة
إلا بالله، اللهم عليك
بالظالمين. بدأت بكتابة هذه
الأجزاء يوم بيوم، وبدأ معها
سيل الرسائل والتعليقات، تحيات
ولوم وعتاب وتهاني وغيرها،
لماذا لم تزر جباليا الصمود؟
كيف تكون في مدينتنا ولا نعرف؟
سامحك الله لماذا لم تقم بأي
فعالية عامة؟، أثرت شجوني،
ذكرتني بتجربتي، لست فلسطينية
لكن أحببت فلسطين وغزة، والكثير
الكثير من الرسائل والاتصالات
التي لم استطع الرد عليها
جميعاً، حاولت لكنها كثيرة وضيق
الوقت يقتلني بين مشاغل العمل
اليومي والعائلة والمتابعة،
اقرأ كل ما يصلني لكن اعذروني ان
لم يكن هناك رد، سامحوني. تفتحت جراح البعض
فأسهبوا في شرح معاناتهم، آخرون
رصدوا لحظاتهم الأولى في فلسطين
حتى عندما دخلوها أسرى مكبلين
من جنوب لبنان، آخر يلوم ويعاتب
وبعد أن أوضح أنه ليس ب "دحلاني"
قال بلهجة غاضبة هل غزة مقار
أمنية فقط، لماذا لم يأخذوك إلى
المسجد الفلاني والى الكنيسة
الفلانية والى قلعة غزة؟ يا أخي
وهل تظنني ذهبت لغزة كسائح ب"شورت"
وكاميرا؟ لقد ذهبت لأعيش
احداثها معها وبين أهلها، أتعرف
على معالمها لا للسياحة فيها،
ومع ذلك فقد زرت تلك الأماكن،
غزة كلها جميلة، لا تغضب. كل هذه المشاعر
والعبارات أعطتني زخماً
حقيقياً للاستمرار والمواصلة
في توثيق تجربتي، لكن استوقفتني
ظاهرة لم اتوقعها، عندما كتبت
كنت أنقل وبصدق وأمانة أحاسيسي
وانفعالاتي كما هي، لامني أحد
الأصدقاء بعد الجزء الأول لكثرة
الدموع فيما أكتب، لأن الرجل
الشرقي يعيبه أن يبكي!، رفضت تلك
الفكرة، فالبكاء ليس عيباً ولا
ينقص من رجولة أحد، بل أن دموعي
كانت تسقط بعد أن تكحلت برؤية
وطني وأهلي، لن أتصنع أو أخفي
شيء، لكن الظاهرة كانت في كم
الرسائل وحتى التعليقاتالتي
يقر فيها أصحابها بأسمائهم
ومناصبه أنهم ذرفوا الدمع، بل
شرحوا بكائياتهم، لم أكن وحدي
من بكى شوقاً وحباً للوطن،
وأبداً لن تكون دموعنا نقيصة
إلا في عقل العنتريات الزائفة. نفخر بك ونعتز يا
فلسطين، لا نستبدلك بالعالم
كله، هكذا كنا وسنبقى، أنشدت مع
المنشدين: "هو فيه مثله الوطن
يابا هو فيه مثله، أموت أنا
كرمال ترابه هو فيه مثله،
يعطونا الأرض بطول وعرض ومثلك
والله ما في أرض، حرية أسرك عسل
مرك، ثلج جمرك شوكك ورد" –
الوطن الذي عاد إليه أهله كما
وصف أحدهم قائلاً: ما السر في
هذا الوطن الذي يأسر قلوب
ابنائه إلى الحد الذي يدفعهم
للتهديد بقتل أنفسهم إذا لم
يسمحوا لهم بالعودة اليه، إلى
السجن كما يصفه الأغراب؟، هل
رأيتم سجيناً يقاتل للعودة
لسجنه بعد أن خرج منه؟ لا عجب
فكل الناس لهم وطن يعيشون فيه،
إلا نحن لنا وطن يعيش فينا. كانت هذه رحلتي
الأولى إلى جزء من بلادي
الغالية، نقلتها بأمانة
واختصار، كل لحظة فيها كانت
تاريخاً، لم أسجل كلمة واحدة
هناك، ولم التقط أية صورة،
ستبقى ذكرياتها محفورة في عقلي
ووجداني ما حييت، إلى أن يمن
الله علي وأكون بإذنه من الذين
يدخلون المسجد الأقصى "كما
دخلوه أول مرة" فاتحين
مكبرين، فأكحل عيني برؤيته وقد
تحرر من دنس المحتل، وأصلي
فيهواياكم ان شاء الله جزاكم الله خيراً
وبارك لكم وبكم، والى اللقاء في
القدس والأقصى. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |