ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
العمش*
الأفريقي أهون من العمى العربي. الطاهر
إبراهيم** هذا ليس
مقالا في طب العيون، فما نشكو
منه نحن العرب ليس عمى في الأعين
وإن كانت الأنظمة قد أوصلتنا
إلى انسداد في الأفق لم نعد نبصر
معه هدى. وما نطلبه من أنظمتنا
العتيدة هو "شوية" كرامة،
على حد تعبير "دريد لحام"
في مسرحية "كاسك يا وطن"،
التي كتبها الشاعر المسرحي
العبقري الراحل "محمد
الماغوط". فأمراضنا سياسية
بامتياز، إلى الدرجة التي
أصبحنا نمتدح فيها أنظمة عربية
مستبدة لأنها تسمح بحرية محدودة
للانتخابات النقابية، مع أنها
كثيرا ما فرضت الحراسة على
إدارات تلك النقابات لأنها جاءت
على غير القياس كما هو الحال في
مصر، التي تسمح أحيانا لمنظمة
"كفاية" بالتظاهر. لم يحصل
إطلاقا وحتى إشعار آخر، أنه سجل
في بلد عربي فوز للمعارضة في
الانتخابات النيابية، باستثناء
الكويت ولبنان لأنهما استثناء
يؤكد القاعدة. أو أنه فاز غير
الرئيس الأبدي –حتى الموت- في
انتخابات رئاسة الجمهورية. بل
إنه لا يسمح حتى بترشح أي مواطن
في مواجهة الرئيس "التأبيدي"
لمنصب الرئاسة. إلا ما كان من
النظام المصري عندما سمح بترشح
آخرين –ليس أحدهم من الإخوان
المسلمين على كل حال- كانوا
كديكور ديمقراطي مزيف. ومع ذلك
فقد لُفقت تهمة –أو كانت مخبأة
لحين الحاجة- لأيمن نور المرشح
الذي وقف في مواجهة الرئيس "حسني
مبارك". في
تسعينيات القرن العشرين سجل لنا
التاريخ انهيار ديكتاتوريات
المنظومة الشيوعية. وقد تلاها
تفكك الاتحاد السوفياتي إلى
جمهوريات مستقلة. شكلت هذه وتلك
ديمقراطيات ناشئة، إلا ماكان
منها من أصول إسلامية. غير أن
شيئا من كل ذلك لم يحصل في أي بلد
عربي. لذلك كنت تنظر إلى المواطن
العربي وهو يتنهد بحسرة وحرقة
لأنه لم يرَ بلدا عربيا تحول إلى
الديمقراطية، كأن هذه "العملة"
غير مسموح لها بالتداول بها في
وطننا العربي. فإن قيل
لنا إن بلادكم العربية بلاد
نامية أو متخلفة، قلنا هذه
جمهورية السنغال متخلفة أكثر ،
حتى إن رئيسها الأول "ليوبولد
سنغور" اتهم بأنه كان يأكل
لحوم الأطفال. وقد خلفه من بعده
"عبدو ضيوف" الذي مدد لنفسه
الرئاسة أكثر من مرة. ثم ترشح
ضده أحد معارضيه، "عبد الله
واد" إلى انتخابات رئاسة
الجمهورية. صحيح أن عبد الله واد
تفوق على "ضيوف" بنقاط
قليلة، لكنها كانت كافية ليكسر
الاستمرار في السنغال. هذه
جمهورية "زمبابوي"
الأفريقية هي الأخرى تكسر
الاستمرار الأبدي بعد عدة
انتخابات فاز
فيها الرئيس "روبرت موغابي"
بالرئاسة وحزبه بالأكثرية
البرلمانية، حتى ظن أفارقة زمبابوي
أن "موغابي" لن ينزل عن
كرسي الرئاسة إلا إلى القبر.
ولكن، ولأن زمبابوي بلد غير
عربي، فقد سمح بأن يطاح بالحزب
الحاكم في انتخابات برلمانية.
وربما قَبْلَ أن ينشر هذا
المقال يكون قد أعلن عن الإطاحة
بموغابي نفسه من الرئاسة. أما
بلادنا العربية، فإنها ممنوعة
من الديمقراطية وحتى إشعار آخر.
وأرجو من القارئ أن يصبر علي بعض
الوقت في سرد تاريخي لحكاية
الديمقراطية المزعومة في بعض
البلدان العربية. في مخاض
عسير استطاعت الإمبريالية
الأمريكية أن تحرف الديمقراطية
الوليدة في سورية عن مسارها بعد
الاستقلال عام 1946. فتم اقتطاع
خمسة أعوام كاملة لحساب
الديكتاتورية والاستبداد بين
عامي 1949 – 1954. بعدها استعادت
سورية وجهها الديمقراطي وانتخب
"شكري القوتلي" رئيسا. غير
أن الديمقراطية انتكست من جديد
في عهد الوحدة. فصودرت الحرية،
وقمع المواطن باسم الوطنية.
وطرح شعار: "كل مواطن خفير"،
وكان هذا الشعار يعني أن يتجسس
المواطن على جاره، طرحه وزير
الداخلية القادم بقوة من المكتب
الثاني –مخابرات الجيش- اللواء
عبد الحميد السراج الذي كان
اسماً علماً في القمع
والاستبداد. أدى هذا القمع
لقيام الانفصال في أيلول عام 1961.
وإذا كان الانفصال حاول أن
يسترجع بعضا من الديمقراطية
الموؤودة، فإن انقلاب 8 آذار 1963
لم يمهله طويلا، إذ أطاح به
وبآخر مكتسبات ديمقراطية
الاستقلال، فاختفت من سورية
وحتى الآن. رغم طول
المدة التي أعقبت الانفصال،
فإننا يمكن أن نختصر الأمر بعدة
انقلابات تم فيها اعتقال الحرية
في سورية وحتى الآن. فرضت حالة
الطوارئ واعتمدت المحاكم
الاستثنائية ووضع القانون على
"الرف". أطيح بالناصريين
لصالح البعثيين. ثم أطيح
بالبعثيين القوميين ،أو"اليمين
العفن" كما أسمتهم مجموعة
المصالح المتنافرة التي قامت
بالانقلاب في23 شباط 1966. بعد ذلك
تم تصفية هذه المجموعة واحداً
تلو الآخر. فأعدم "سليم حاطوم"
قائد كتيبة المغاوير التي كانت
تسيطر على مبنى الإذاعة
والتلفزيون. وانتحر عبد الكريم
الجندي –أو نُحِر- مسئول أجهزة
الأمن. وهرب عبد الغني السعداوي
محافظ حلب. ثم كانت الحركة
التصحيحية في 16 نوفمبر 1970 التي
قادها "حافظ أسد" وأطاح بمن
تبقى من "الشباطيين" مثل
"صلاح جديد" الرجل القوي في
حزب البعث، وأدخله المعتقل هو
وباقي الرفاق الذين ناصبوا "حافظ
أسد" العداء، لم يخرج منه إلا
إلى قبره. أما "حافظ أسد"
فبقي في الحكم حتى مات في 10
حزيران عام 2000، بعد أن وضع خطة
محكمة ليرث الحكم من بعده ابنه
الرئيس "بشار الأسد"، الذي
ما يزال يحكم سورية حتى كتابة
هذا المقال. أما في
مصر، فقام فيها انقلاب 23 يوليو
1952. وحكم الرئيس "جمال عبد
الناصر"، ومدد لنفسه بعدة طرق
حتى عام1970 حيث غادر القصر إلى
القبر. ورث الحكم من بعده "أنور
السادات" وراثة ثورية إلى أن
غادره -بعدما سقط بحادثة المنصة
قتيلا- إلى القبر. وها هو "حسني
مبارك" يتبوأ حكم مصر لا
ينازعه منازع. يمدد لنفسه
ديمقراطيا بطريقة استبدادية. لا
يقبل أن ينازعه في الحكم منازع.
وعلى ما يظهر فإن مبارك لن يترك
الحكم –كسابقَيْه- إلا إلى
القبر بعد أن يكون قد هيأ ابنه
"جمال" ليخلفه في الحكم،
كما فعل صديقه في السلاح "حافظ
أسد" عندما أورث ابنه بشار
الحكم و"ما في أحد أحسن من أحد". في
الجزائر، بلد المليون شهيد، فإن
الديكتاتورية كان لها طعم آخر.
فإن "أحمد بن بلا" الذي
اختطفته فرنسا عام 1954 من طائرة
هو وآخرون -منهم: حسين آيت أحمد،
محمد خيضر ومحمد بو ضياف- صَعَد إلى السلطة بعد "فرحات
عباس" الذي فاوض الفرنسيين في
اتفاقية "إيفيان"عام 1962. لم
يلبث "أحمد بن بللة" إلا
قليلا حتى أطاح به العقيد "الهواري
بو مدين" بانقلاب أبيض وأدخله
المعتقل معززا مكرما. وسكن "بو
مدين" القصر بعده، وحكم
الجزائر بيد من حديد، حتى دخل في
غيبوبة مات بعدها في عام 1978، وهو
يعالج في موسكو. كان "عبد
العزيز بو تفليقة" هو الذي
يلي "بو مدين" في جبهة
التحرير الجزائرية الحاكمة. غير
أن جنرالات الجيش فرضوا الجنرال
"الشاذلي بن جديد" رئيسا.
كانت غلطة "بن جديد"
القاتلة عند العسكر أنه قرّب
إليه العالم الرباني الشيخ "محمد
الغزالي" واستمع منه وتأثر به.
فنحا نحْواً ديمقراطيا، وأجرى
انتخابات محلية فازت فيها "جبهة
الإنقاذ". ثم جرت انتخابات
برلمانية فازت فيها "الإنقاذ"
بكل المقاعد التي حسمت من الدور
الأول. أما جبهة التحرير
الحاكمة فلم تفز بأي مقعد. سارع
العسكر إلى إرغام "الشاذلي بن
جديد" على الاستقالة، وألغيت
المرحلة الثانية من
الانتخابات، ودخلت الجزائر في
دورة العنف التي راح ضحيتها
عشرات الآلاف. عين "محمد
بوضياف" رئيسا فقتل، ثم عين
"علي كافي" فاستقال. اختير
بعد ذلك وزير الدفاع "الأمين
زروال" رئيسا. لكنه لم يشأ أن
يكون ستاراً يحكم العسكر من
خلفه، فاستقال. أجريت انتخابات
رئاسية فاز فيها مرشح العسكر
"عبد العزيز بوتفليقة" بعد
أن وعى الدرس جيدا هذه المرة،
وما يزال في الحكم. وغير
بعيد عن الجزائر إلى الشرق
منها، لم يكن تونس بأوفر حظا من
الجزائر. فبعد حقبة الاستعمار
حكم "الحبيب بورقيبة"
اعتبارا من أواخر الخمسينيات.
بدأ بسياسة تغريب تونس، حتى غدا
دكتاتورا لا يجرؤ أحد أن يقول له
"ثلث الثلاثة كم؟". وبعد أن
بلغ من العمر عتيا، قفز إلى
السلطة وزيره الأول الجنرال "زين
العابدين بن علي". وزور
شهادات طبية تفيد أن "بو
رقيبة" خرّف ولم يعد أهلا
للحكم. بعد أن تمكن "بن علي"
جنح إلى العنف، فقتل وشرد
واعتقل حتى امتلأت المعتقلات.
ما يزال "بن علي" في
السلطة، وما يزال القمع
والاستبداد هما الحَكَم في تونس
حتى الآن. وإلى
الشرق من تونس، نجد الشقيقة
ليبيا التي حكمها "معمر
القذافي" قرابة أربعة عقود،
لم يرفع فيها ليبي رأسه خوفا من
القتل. ولن أزيد القارئ تعريفا
بالقذافي، فقد عرفه عن قرب في
مؤتمر القمة الذي عقد أواخر
آذار الماضي في دمشق، وفي خطابه
في المؤتمر مايغني عن أي تعريف. أما
السودان، فبعد حكم "محمد جعفر
النميري" الاستبدادي على مدى
16 عاما، قاد المشير "عبد
الرحمن سوار الذهب" انقلابا
أبيض وكان النميري في زيارة
لواشنطن. عاد بعدها إلى القاهرة
واستقر فيها. استلم السياسيون
الحكم فاختلفوا. فقامت مجموعة
من الضباط بانقلاب على رئيس
الوزراء في حينه "الصادق
المهدي" في عام 1989. وظهر
المشير "عمر أحمد حسن البشير"
على رأس المجموعة. وقد تبين
بعدها أن الإنقلابيين يدينون
بالولاء للداعية الإسلامي
الشيخ الدكتور "حسن الترابي".
تشكلت حكومة الإنقاذ في السودان
على أمل أن يترك الجيش الحكم
لأهل السياسة. وحتى تاريخه ما
يزال "البشير" يحكم بعد أن
افترق به الطريق مع الشيخ "الترابي". بعد هذا
المشوار الطويل في سرد حكاية
العسكر والاستبداد في البلاد
العربية، كان الحكم فيه "سقما
وعمى" كما يقال، لا أثر فيه
للحرية والنور. أما المواطن
العربي فيغبط الأفارقة في "السنغال"
وفي زمبابوي"، وهم يمشون في
طريق الحرية والديمقراطية ولو
بخطوات متعثرة، ولو كان يعشي
أعينَهم "عمش" لا يكادون
يرون فيه الطريق إلا ظلالا
وخيالات. لكن قطعا فإن "العمش"
الأفريقي أفضل بكثير من "العمى"
العربي الذي طمس عيون الشعب فهي
عمياء "طلطميس"، لا يبصر
فيها ولا يرى. *
العمش، هو ضعف البصر لا يكاد يرى
"الأعمش" إلا زوالا
وخيالات. **كاتب
سوري ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |