ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
صناعة
الجوع في العالم العربي يحيى
اليحياوى لو كان ثمة من ناظم
مشترك يجمع الحكومات العربية في
مواجهة شعوبها بداية هذا القرن،
فلن يكون مقتصرا فقط علي
استبداد نظم الحكم، وتوريث ذات
النظم للعائلة أو العشيرة أو
الطائفة أو العرق أو ما سواها،
بل وأيضا عجزها عن إطعام
شعوبها، وتركها وجها لوجه مع
آفات الفاقة والفقر والجوع . هو ناظم مشترك
بامتياز، تتساوي بظله الدول
المتخمة بالغني والثروة
والمال، المملوءة الخزائن بما
طاب ولذ من العملات، مع الدول
الفقيرة المعدمة الإمكانيات،
المنعدمة الحيلة من أمامها ومن
خلفها، ومع الدول ذات الأراضي
الفلاحية الشاسعة، ورؤوس
الأغنام والمواشي المتنوعة،
وأبناؤها يتضورون جوعا، يتقزز
المرء لدرجة الغضب والانتفاض من
رؤيتهم بالفضائيات حفاة، عراة،
جياعا، تتلوي أعينهم بجماجمهم
ويلف الذباب القاتم الزرقة
أجسادهم، تماما كالموتي/الأحياء
. والواقع أنه لا تكاد
تخلو دولة عربية، مطلع هذا
القرن (ومن قبل متمه أيضا)، إلا
وكانت مكمن ثورات للجياع، رفعوا
ويرفعون خلالها لافتات تطالب
بالخبر، بمجرد الحق في الخبز،
أو مصطفين بطوابير طويلة،
بانتظار تحصيل بعض أرغفة خبز،
أو بعض كيلوغرامات من الدقيق
لسد رمق الأبناء : فمصر التي يخترقها
النيل، مصدر الأساطير
والإلهام، والمتحصنة خلف رافعة
السد العالي الخالد، لم تستطع
حكومتها الحالية ولا الحكومات
السابقة، إتاحة رغيف الخبز
للملايين من سكانها، فدفعتهم
لينتظموا آناء الليل وأطراف
النهار، بطوابير عريضة غالبا ما
تتحول إلي فتنة كبري أمام
المخابز، فتنة بين الجياع، عمن
بمستطاعه تحصيل وجبته المدعمة
قبل الآخرين، وإلا فالشهادة من
نصيب من يموت في الزحمة، بمنطوق
فتوي الشيخ/النائب يوسف البدري
... صاحب الفتاوي بمجلس الشعب . وفي المغرب، صاحب
المشروع المجتمعي الديمقراطي
والحداثي ، رفعت الحكومة يدها
عن دعم الدقيق ( والزيوت ومشتقات
الطحين والحليب وما سواها )،
فدفعت قسرا بالجماهير، للتظاهر
ضد نار الأسعار بأكثر من مدينة،
كانت مدينة صفرو في خضمها
الأسبق إلي إعلان انتفاضة الخبز
، فقتل بها من قتل، واعتقل من
اعتقل، وحكم علي العديد منهم
بالسجن أو بالغرامة أو بهما
معا، لا، بل بات الناس يخشون
الجهر بتذمرهم، مخافة متابعتهم
وتلفيق التهم لهم، علي هذه
الخلفية المصطنعة أو تلك... بظل
قضاء ظالم، ممعن في الظلم . وفي اليمن، قررت
الحكومة رفع سعر رغيف الخبز
بالعاصمة بنسبة 100 بالمائة مرة
واحدة (مع تركها لقرار تحديد
نسبة زيادة الأسعار في بقية
المدن، للمسؤولين المحليين
وللمحافظين)، فخرج الجياع
للشارع هاتفين محتجين، بظل صمت
أحزاب للمعارضة تكاد تكون، بضغط
من السلطة، غير عابئة بما يجري،
لا، بل إن العديد من اليمنيين
اعتبروا الزيادات الأخيرة،
حكما بالإعدام عليهم، بالقياس
إلي ما يتقاضونه من أجور أو
معاشات أو بالقياس إلي تردي
الواقع الاقتصادي العام القائم
. وفي لبنان وسورية،
حيث عدد السكان ضئيل للغاية،
ارتفعت أسعار رغيف الخبز
المدعوم بمستويات قياسية،
فاضطر السكان في أكثر من مدينة
وقرية إلي الانتظام بطوابير
طويلة، للحصول علي حصصهم من
الغذاء البدائي، بعد ساعات من
الانتظار والازدحام، انتظم به
الرجل والمرأة جنبا إلي جنب،
ودونما قليل من تحرش ناعم
وخشونة متبادلة . وفي السعودية التي
تدعي توفرها علي الاكتفاء
الذاتي من محصول الزرع والضرع،
ظهرت الطوابير أمام المخابز
بقوة، إما جراء تقليص بعض
المخابز لإنتاجها من الخبز، أو
بسبب إغلاق البعض الآخر
لأبوابه، علي خلفية ما بات يعرف
في أرض الحرمين الشريفين بأزمة
الدقيق . ففي الطائف والمراكز
الملحقة بها مثلا، أصبح هم
المواطن الأول هو الحصول علي
رغيف خبز لأولاده، في ظل تقليص
عدد من المخابز كمية الإنتاج،
وزيادة السعر، حيث أصبح سعر
الرغيف الآن ريالا، فيما قامت
بعض المخابز بوضع لافتات تقول:
نعتذر لعدم توفر الخبز . ليست الحالات
السابقة حالات نشاز، أو حصرا
علي ذات الدول، بل أضحت معطي
مشتركا مع دول عربية أخري،
بالأردن، بالجزائر، بتونس،
بالسودان، بموريتانيا، ناهيك
عن غزة والعراق، لدرجة بات
الجوع معها يتجاوز علي الحدود
الجغرافية، علي طبيعة النظم
السياسية، وعلي عدد السكان أيضا
. وبقدر تشابه واقع حال
الشعوب العربية بإزاء الجوع،
فإن مسوغات الحكومات بدورها لا
تختلف كثيرا من دولة لأخري، بل
تتماهي مع بعضها البعض لدرجة
التطابق : ـ فالحكومات إياها
سوغت لحالات الغلاء المرتفع
التي طاولت القمح والدقيق
والخبز، بمعطيات السوق العالمي
للحبوب، الذي عرف تراجعا في
منسوب العرض، وأيضا بحالات ضعف
الإنتاج المحلي، بسبب من هذا
المعطي الطبيعي الموضوعي أو ذاك. ـ وهي سوغت لذلك بقلة
الحيلة لزيادة المعروض
الداخلي، وضعف ذات البين
لاستيراد ما يجب استيراده من
الخارج، لسد حاجيات السوق
الداخلي، ناهيك عن الدفوعات
الأخري، من قبيل دفوعات تلاعب
التجار وأصحاب المخابز بأرصدة
الدقيق والخبز، وعدم امتثالهم
لما تفرضه اللوائح والتشريعات
من مستوي في الأسعار. ـ وهي سوغت له أيضا،
بالقول بأن العملية برمتها
محكومة بنظرية العرض والطلب،
وبأن مستوي الأسعار يتحدد علي
هذا الأساس وعلي أساسه فقط، ولا
يد بالتالي للحكومات في ذلك، لا
بل لا حق لها بالمطلق في التأثير
علي منطق السوق، في ظل انفتاح
الأسواق، وسيادة مبدأي
المنافسة وحرية تحديد مستويات
أثمان السلع والمنتوجات. قد يكون في هذه
المسوغات بعض من عناصر الصواب،
إذ أن السوق العالمية للحبوب
تعرف حقا احتكارات كبري (من لدن
أمريكا، وأوروبا، وأستراليا
ونيوزلندا، وبعض دول أمريكا
اللاتينية) تجعل منسوب المعروض
متحكما فيه، لا بل مثبتا
بمستويات دون بلوغها تحرق
المحاصيل وتدمر، وتعطي أعلافا
للحيوان، عوض أن تعرض بـ سوق
البشر بالخسارة، أو بربح لا
يرضي أصحابها. إلا أن الذي
تتغافله المسوغات إياها إنما
ثلاثة معطيات جوهرية، لم يعد
بإمكان أحد التستر عليها
بالشكل، أو التغاضي عنها
بالمضمون: إنها تتغافل وتتستر
علي واقع الفساد المستشري من
بين ظهراني أجهزة كل هذه الدول،
والتي تدلل ليس فقط علي فشل
السياسات التي اعتمدتها هذه
النظم بالجملة والتفصيل، بل
وتحديدا فشلها هي، كمنظومة في
الحكم ونمط من التسلط. إن أزمة
هذه النظم إنما هي من أزمة
اختيارات أفرزت الفساد
والاستبداد، وأهدرت الموارد،
وانحازت للأغنياء والأثرياء
الجدد، الذين تفتقوا كالفطر
الماسخ، عن سياسات اللبرلة
والتحرير والخوصصة وتدمير
القطاع العام، وأصبحوا بفعل
ذلك، لا يعيرون أدني اعتبار
لماهية الدولة أو القانون أو
المصلحة العامة أو ما سواها . إن ما ترتب عن سياسات
الانفتاح بظل العولمة التي
نهجتها نظم الجوع منذ مدة، إنما
خلق فرص التربح المجانية، وسبل
تكوين الثروات الطائلة
المتأتية من المصادر الطفيلية،
كما من نهب المال العام، كما من
السمسرة والعمولات وتهريب
ملايير الدولارات المنهوبة من
بنوك القطاع العام للخارج، كما
من التحايل المضمر عليها، عبر
عمليات في الخوصصة مشوهة، غير
مقننة، ومتجاوزة علي خاصية
الملك العام المشترك، العصي علي
التصريف والارتهان . وهي تتغافل تواطؤ ذات
النظم مع أباطرة الفساد، لدرجة
تطابق المصالح بينهما
وتشابكها، فيصبح الثاوي خلف
المال العام، مصدر نهبه، أو
تبذيره، أو ارتهانه من لدن قطاع
طفيلي يقتات من صفقات مشبوهة
تمنح له دون مساطر أو موجب حق
يذكر . إن جذر أزمة ما
أسميناه هنا بظاهرة الجوع، متأت
بالأساس من فساد عام منظم،
مدعوم بتسلط واستبداد سياسي
وأمني، تقوده نخبة متحالفة من
كبار مسؤولي الدولة، أو ممن
حظوا بصلات النفوذ والمصاهرة
والولاء الزبوني، وتداخل
السياسة بعالم الأعمال الخاص،
السري والعلني، في تفاعلية
قاتلة لا مثيل لها بالمطلق إلا
بزمننا الحاضر . ثم هي تتغافل لدرجة
التستر، علي ما يمكن وصفه
بإيديولوجيا التجويع، والتي ما
فتئت النظم الحاكمة بالعديد من
الدول العربية تنتهجها كنمط
تسيير، وأداة في تدبير القائم
والقادم. هل من المعقول أن تحقق
شركات كبري بمصر والمغرب
والأردن أرباحا مهولة، لا
بمجهود يذكر، بل بالزيادة
الأحادية في الأسعار ؟ هل من
المعقول أن يتقاضي مدير عام
اتصالات المغرب أضعاف ما
يتقاضاه الوزير الأول بالمغرب،
ودوره لا يتعدي اقتناء مستجدات
الغرب وإعادة بيعها للمغاربة
دون جهد يذكر، وبأسعار غير
اقتصادية بالمرة فضلا عن ذلك ؟ إن وضع قطاعات
استراتيجية كبري وحيوية لحياة
البشر بين أيادي نخبة محدودة من
كبار محتكري عمليات الاستيراد
والتصدير، والنقل التجاري
والشحن البحري وناهبي المال
العام، وعلي رأسهم من يحتكرون
استيراد وإنتاج وتوزيع وتحديد
أسعار سلع استراتيجية، مثل
المواد الغذائية والأدوية
والإسمنت وحديد التسليح ، إنما
هو بمثابة وضع رقاب البشر بين
أياد دونها ودون مصالحها الآنية
حرق الأخضر واليابس . كيف يا تري لنظم
تمتهن ذات السلوك أن تكون
الديمقراطية نهجها، أو يكون
تطلعها موجها نحو بناء دولة
الحق والقانون ؟ إننا نقولها بالصريح
الواضح : إن الذي يحكمنا بالعالم
العربي اليوم إنما العصابات
المتخصصة والمافيات السرطانية،
إنها العنزة الجرباء التي تدعي
قيادتنا، لكن مقابل ارتهان كل
شيء لفائدتها. ها هي اليوم ترهن
ما تبقي. ترهن رغيف الخبز الذي
يسد الرمق، مجرد سد الرمق الذي
يلغي المسافة بين الحياة
والموت، ولا تترك سبيلا يذكر
للفقير كي يعيش فقره تماما كما
يعيش الشيخ شيخوخته، وهو بأرذل
العمر ! ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |