ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 14/05/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


ستون عاماً.. وللعودة أقرب

ماجد الزير*

قد يبدو المشهد العام المباشر على صعيد الصراع العربي الصهيوني، وبعد ستة عقود من نكبة فلسطين، غير باعث على الأمل في إمكانية استرجاع الشعب الفلسطيني لحقوقه. ويستطيع من أراد الاستغراق في التشاؤم سرد نقاط كثيرة، تبدو منطقية في ظاهرها، لتدعيم رؤيته القاتمة.

 فالجانب الصهيوني متمكن من دولته بعد أن رسّخ أركانها بضمان الاستحواذِ على 

الأرض الفلسطينية، ونجاحِهِ في جلب المغتصبين المهاجرين من شتى أنحاء العالم. وفي المقابل؛ لم يرجع أي لاجئ فلسطيني طُرد من أرضه. وبهذا استمر بقاء اللاجئين الفلسطينيين بعيدين عن ديارهم موزّعين في أصقاع الأرض، حتى وصل المطاف مؤخراً بدفعة من فلسطينيي العراق إلى الساحل الغربي من أمريكا الجنوبية، حيث تشيلي التي تعد واحدة من أبعد رقاع الجغرافيا عن فلسطين.

 وفوق ذلك؛ فإنّ الدولة العبرية متحكمة أيضاً في مصير ما يقرب من أربعة ملايين فلسطيني في الضفة والقطاع، وتعاملهم بازدراء وامتهان منهجيين. وبينما قُطّعت أوصال الضفة؛ فإنّ قطاع غزة يعاني تحت حصار عزّ نظيره في العصر الحديث، وهو حاصل بتواطؤ دولي.

ثم إنّ الدولة العبرية متفوقة عسكرياً ليس فقط على الفلسطينيين؛ بل على الدول العربية مجتمعة. فالميزانية السنوية الإسرائيلية تمثل شاهداً من الشواهد على حجم الإنفاق العسكري الذي يفوق الوصف بالنسبة إلى كيان يمتلك زيادة على ذلك ترسانة من السلاح النووي. وعلى هذه المعطيات استند بنيامين بن اليعازر حينما هدّد إيران بأن لا يجعل فيها حجراً على حجر. ولا يخفى أنّ الجانب الإسرائيلي يعتمد في تفوقه النوعي على تحالفه الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، ما يعني دعماً لامحدوداً من أكبر دولة في العالم في مجالات شتى عسكرية واقتصادية، أما الدعم السياسي فيبدو عدد مرات استخدام حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن تعبيراً صارخاً عنه. أما إذا ما أُخذ بعين الاعتبار الإسناد والدعم الأوروبيان للجانب الإسرائيلي؛ فإنّ اختلال الموازين الدولية على حساب الفلسطينيين سيكون حاداً في عين المراقب.

كثيرة هي إذاً البواعث على الإحباط من عودة الحق الفلسطيني، وتدخل في دائرتها حال الأمة العربية وما يعتريها من تفكك وفرقة، وأزمات داخلية، وأنظمة دون مستوى المرحلة، غير راغبة في إحداث تغيير حقيقي في جسم الأمة من شأنه أن يوحدها، ويمضي بجدية في طريق مصالحها العليا وحماية حقوقها. وما شهدته قمة دمشق من تصدعات وشروخ يبقى عنواناً على حجم التدهور الحاصل في هذا المجال.

ولعلّ ما هو أثقل وطأة؛ أن ينظر المرء إلى الوضع الفلسطيني الداخلي، من فرقة واقتتال، أفضيتا إلى شبه دولتين وشبه حكومتين. سيرى الناظر فئة من الشعب الفلسطيني ارتمت في أحضان المحتل أمام الكاميرات، وذهبت بعيداً في أجواء تفاوضية غير عابئة بالقتل اليومي لأبناء شعبها. أما المؤسسات المرجعية فغابت عن المشهد الفلسطيني، دون أن يرى رجل الشارع الفلسطيني بصيص نور في نهاية النفق.

 كل ما سبق، مع عدم نكرانه، لا يمكن أن يكون الحكَم الوحيد على استشراف مستقبل القضية الفلسطينية. بل يمكن الجزم بأنّ الشعب الفلسطيني، وبعد ستين سنة من النكبة وقيام الكيان الاحتلالي، وما يزيد على قرن من بدء الصراع؛ هو في واقع الأمر بات أقرب لتحقيق آماله باستعادة حقوقه، وعلى رأسها عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هُجِّروا منها سنة 1948.

ما ذُكر من بواعث الإحباط ليس صورة كاملة للمشهد، ولا تقاس الأمور دائماً بميزان واحد، فلكل حساباته ونظرته في تحليل الأمور. والصراعات الممتدة لا يُحكم عليها بفترة زمنية معيّنة، حتى وإن نتجت من أحداثها وقائع، ما يمكن أن يدخل في دائرة الاستراتيجي وله صفة الرسوخ.

 

وهنا نقول إنّ المشروع الصهيوني بنى استراتيجيته الكاملة على ركنين، ولهما عوامل إسناد: طرد الشعب الفلسطيني والاستيلاء على أرضه. وكل السياسات الإسرائيلية، وفي شتى المجالات السياسية والعسكرية والثقافية والتجارية، من قبل الحكومات المتعاقبة خلال العقود الماضية؛ جاءت لتدعيم هذه الاستراتجية. وقد راهن صانعو المشروع على عوامل عدة، منها قضية تعاقب الأجيال واختلاف الظروف بموت الكبار ونسيان الصغار، كما قال بن غوريون.

وجاءت ثقة الغاصبين بنجاح استراتيجيتهم من مقارنتهم محاولتهم مع الشعب الفلسطيني الخاطئة بتجارب الاستعمار الغربي في القارة الأمريكية، الذي مارس سياسية التطهير العرقي بحق السكان الأصليين. وعليه؛ فسياسة القتل والاضطهاد كفيلة بإنهاء قضية الشعب الفلسطيني، كما كانت سياسة المغتصب في العوالم الأخرى.

لم يعِ ذلك المتعالي المتغطرس طبيعة الشعب الفلسطيني بخلفيته العقائدية والثقافية العربية والإسلامية وكوامن القوة فيه التي تستعصي على الطمس والإلغاء. كما لم يخبر راسمو المشروع الصهيوني عراقة هذه الأرض وعوامل طرد الغاصب المجبولة فيها، التي لفظت كل المغتصبين من قبله.

بعد ستة عقود، ومع كل إمكانات العدو الصهيوني ومن يدعمه في العالم؛ لم يستطع أن يحقق حالة الأمن له في فلسطين. فكان أن تحوّل من مشروع توسعي، إلى حالة التقوقع خلف جدران عازلة له عن المحيط المعادي. إنّ الجدار برغم آثاره وآلامه المباشرة على الشعب الفلسطيني؛ يبقى علامة فشل لاستقرار الكيان الاحتلالي، وهو مؤشر خوف كبير على مستقبل غير مضمون أو آمن لهذا الكيان.

كان الجدار بعد أن استنفد الصهاينة كل مخزون الشراسة والقهر على الشعب الفلسطيني، وتمثلت ذروة الهجمة على الفلسطينيين في انتخاب أرييل شارون رئيساً للوزراء، واعتباره بسجله الإجرامي منقذاً للصهاينة، فانتخبوه على هذا الأساس. كل ذلك، برغم غلبته العسكرية الظاهرة؛ هو دلالة انهزام وانسداد أفق في مواجهة الفلسطينيين. ويعتبر نموذج "سديروت" وضربها بالصواريخ الفلسطينية؛ ذروة الصراع وحسابات الربح والخسارة والنظر في المستقبل. فهذه الصواريخ في نظر الإسرائيليين لها ما بعدها من تطوير ومدى متقدم، ويدل على ذلك زيارة نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني لهذه الرقعة في النقب الغربي الفلسطيني المحتل سنة 1948.

 لم تتمكن كل أدوات الضغط العالمية على المحيط العربي، برغم التواطؤ الإقليمي هنا وهناك؛ أن تجعل من الدولة العبرية كياناً مقبولاً ومندمجاً في المنطقة. فحالة العداء لم تسقط، والتطبيع لم يحصل، وحالة النسيان لم تتحقق.

هذه الدولة ما زالت عالة وليست فيها مقومات الصمود الذاتي، فحجم المساعدات من الخارج هي ركن أساس في استمرارها، فإن رُفع الغطاء عنها من قبل القوى الكبرى فلن تدوم طويلاً.

وما زاد من صعوبة الموقف بالنسبة إلى المشروع الصهيوني أنه أخفق في جذب الكمّ الأغلب من يهود العالم للعيش في فلسطين المحتلة، التي لا يقطن فيها رغم كل الجهود والحملات المحمومة لاستجلابهم إليها سوى خمسة ملايين يهودي، من أصل ثلاثة عشر مليوناً يعيشون في أرجاء المعمورة. والمُلاحَظ أنّ هذه المجموعة تعيش في فلسطين في حالة عدم تجانس، فهي عدة مجتمعات مستجلبة من أماكن شتى، بثقافات متنوعة وخلفيات لم تستطع السنون محو تباينها.

ولم تسعف ثقافة العائلة الصغيرة عند المستجلبين اليهود الغربيين، التي تعطي معدل تكاثر ما يقرب من 2.6 مولود لكل أثنى مقابل ما يقرب من 6.2 لكل أنثى فلسطينية؛ في إحداث توازن سكاني مع من بقي في فلسطين من أبناء الشعب الفلسطيني، سواء في فلسطين المحتلة سنة 1948 أو في الضفة والقطاع. وبهذا؛ أصبح الميزان السكاني في فلسطين التاريخية متساوياً على الجانبين بما يزيد على خمسة ملايين للطرفين الفلسطيني الأصيل والمستجلب، بينما تتجه المؤشرات لرجحان الكفة الفلسطينية ليجعل الوجود الطارئ أقلية على الأرض الفلسطينية.

وفي ظلال هذه المؤشرات المتضافرة؛ لم تعد خافية حال الرفض الفلسطينية لواقع الاحتلال. لقد تم التعبير عن ذلك في شتى المراحل، وبالأخصّ منها انتفاضتان شعبيتان كبيرتان، هما انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى، جعلتا جيل ما تحت العشرين من الشعب الفلسطيني الذي يشكل القاعدة الديموغرافية من المنظور العددي؛ يعيش روح المقاومة ويمتلئ إصراراً على استعادة الحقوق مهما بلغت التضحيات. إنّ هذا المعطى كفيل وحده بصناعة المستقبل الحرّ للشعب الفلسطيني. فحسابات الاستشراف تنذر المشروع الصهيوني بما لم يتوقع صانعوه، بل أكثر من هذا؛ فالجيل الراشد من أبناء الشعب الفلسطيني انحاز بأغلبيته في انتخابات المجلس التشريعي في كانون الثاني/ يناير 2006 لخيار المقاومة رغم كل محاولات الترهيب المسبقة، وهو الخيار الذي يعتمده مركز الثقل الفصائلي في الساحة الفلسطينية، الذي تأتي حركة حماس في مركزه، ويضمّ لافتات عدة برهنت على حضورها وأدائها.

 يكتشف المراقب للمشهد الفلسطيني أنّ الشعب أكّد أنّ انحيازه لصالح المقاومة لم يكن عبثياً، فكان أن صمد في وجه الحصار الجائر وسياسية التجويع الخانقة، ليفشل عملياً رهانات اشترك فيها العالم أجمع، ولم تلن لهذا الشعب عزيمة، وظل واقفاً ومستعصياً على المعادلات القسرية التي يُراد فرضها عليه.

وتساوقاً مع هذه الحقائق الملموسة والوقائع الماثلة أمام الجميع؛ تواصل إبداع الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية وإيلامها الشديد للعدو، بل تسجيلها إنجازات ميدانية دخلت التاريخ، أجبرت المحتل على الانسحاب من قطاع غزة، وجعلته يتحاشى اجتياح القطاع كي لا يكون في مواجهة صلابة المقاومين. لم يكن ذلك الانتصار ملموساً في بعده العسكري التكتيكي وحسب؛ بل حملت الإنجازات الميدانية استنتاجات لا يمكن إغفالها في المنظور الاستراتجي كذلك. من ذلك مثلاً الدلالات التي يمكن الخروج بها من تجربة أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط والاحتفاظ به حيّاً لمدة تقرب من سنتين، في رقعة جغرافية هي الأكثر اكتظاظاً للسكان في العالم، وهي كالكف المفتوح للطيران الإسرائيلي وشبكات فاعلة من عملاء الاحتلال الذين لم يدعوا وسيلة إلاّ استخدموها للحصول على طرف خيط يوصل إليه. يستنتج الجميع أنّ جهازي «الشاباك» و«الموساد» لم يعودا يتفرّدان بتسيُّد الموقف كما كانت عليه الأمور في أحقاب خلت.

 وإذا اتسعت النظرة؛ فسنلحظ أيضاً أنّ جيش الاحتلال بات من النوع الذي يُقهر، وسقطت الدعاية الصهيونية التي حاولت إرهاب العرب والفلسطينيين بترويج مقولة التفوق النوعي للجيش، التي تمثل مرتكزاً لسياسة الردع التقليدي. فاندحار ذلك الجيش من جنوب لبنان في صيف 2000 وكذلك تراجعه وانكفاؤه في صيف 2006 بعد غزوه للبنان في محاولته للقضاء على المقاومة؛ منحا الانطباع الواقعي بتبدّل الميزان وحضور معطيات جديدة خلافاً لما يشتهيه الصهاينة.

لعلّ العلامة الأبرز في قرب استعادة الحقوق الفلسطينية؛ هو فشل الصهاينة في كسر إرادة الشعب الفلسطيني. فالصراع يمكن أن يختزل بإرادتين، والأكثر صلابة منهما هي التي ستؤول إليها الأمور. لقد نجح جيل النكبة في توريث القضية بمفرداتها الناصعة إلى الأجيال اللاحقة. فكانت فلسطين حاضرة في ذهن الأجيال؛ فلا الكبار ماتوا، حيث إنهم عاشوا إلى الأبد باستمرار فكرة الارتباط بالأرض والرجوع لها، والتي حملها أولادهم وأحفادهم، ولا الصغار نسوا، بل أضحوا أكثر صلابة، بل وشراسة في طلبهم لحقوقهم. لعلّ جولة سريعة في مخيمات اللجوء في الداخل والخارج؛ تثبت مثل هذا.

لقد تجذّرت ثقافة الارتباط بالوطن من قبل أبناء الشعب الفلسطيني، ومثالها الصارخ فلسطينيو الداخل الفلسطيني المحتل سنة 1948، الذين أزعجوا المشروع الصهيوني بتمسكهم بالبقاء في فلسطين وعدم التخلي عنها. حدث ذلك رغم أنّ هذه المجموعة من الشعب الفلسطيني بدت للوهلة الأولى الأسهل في التعامل معهم من قبل منظومة الاحتلال، حيث مارس العدو سياسة «الأسرلة» والتذويب وفقدان الهوية. ويبدو أنّ الحسابات الصهيونية أخطأت في هذه أيضاً. فقد برهن فلسطينيو الداخل المحتل سنة 1948 أنهم جزء أصيل في الصراع بما يقدِّمونه من إسناد لإخوتهم في الضفة وغزة. بل قدّم أولئك المنزرعون في ذلك الشطر الأكبر من الأرض المحتلة، التضحيات والشهداء، على مرّ العقود، من مجزرة كفر قاسم (1956) إلى شهداء «يوم الأرض» (1976)، وصولاً إلى شهداء «انتفاضة الأقصى» (2000). ويتواصل الحضور الفلسطيني في الداخل المحتل سنة 1948 تألّقه في تطوير البرامج والمشروعات وأشكال التعبير عن الانتماء وخدمة القضية، بما في ذلك المجهود الواضح في الحفاظ على المقدسات ومقاومة تهويد المعالم التاريخية.

وبمعايير الوثائق؛ يكفي في هذا الصدد أن نقول إنّ الشعب الفلسطيني، وحتى هذه اللحظة، يملك -قانوناً - أكثر من 92% من أرض فلسطين التاريخية. كان بإمكان من بقي من فلسطينيي 48 أن يغتنوا بملايين الدولارات من الإسرائيليين لو كان الارتباط بالوطن واهياً. وكذا حال فلسطينيي المخيمات الذين عانوا أشدّ أنواع المعاناة، أو أصحاب الأراضي من فلسطينيي الضفة الذين بنيت على أراضيهم مغتصبات (مستوطنات).

 

لم يجرؤ الإسرائيليون وبعد هذه العقود على التوسع في القرى والمدن التي هُدمت وسُوِّيت بالأرض سنة النكبة، وهي تزيد على ستمائة بلدة وقرية، ولعلّ هذا يشكِّل محوراً مهمّاً في رسم معالم المستقبل.

 لقد حافظ الفلسطينيون على كيانيتهم الشعبية والمعنوية طوال العقود، فكانت حالة التكافل والتعاضد الاجتماعي على اختلاف أماكن الانتشار الجغرافي، كما كان ملحوظاً تواصل فلسطينيي الخارج مع الداخل، وتواصل الفلسطينيين معاً على جانبي الخط الأخضر إلى الحدّ الذي استدعى تدخل سلطات الاحتلال لسن قوانين متشددة وإجراءات استثنائية تحُول دون ذلك التواصل وتعرقل حتى علاقات المصاهرة. لا شكّ أنّ هذه الحالة تمثل خزاناً لتجدّد الإرادة وللصمود، ولولا ذلك لما نجحت الانتفاضات والثورات، ولما احتفظ الفلسطينيون بعزيمتهم في وجه حصار خانق تستحكم حلقاته منذ سنتين.

 ومع رسوخ هذه المعطيات الفلسطينية بكل ما ستفضي إليه؛ يمثل استمرار حال اللجوء الفلسطيني هاجساً كبيراً يقضّ مضاجع الصهاينة. فقد نجح الفلسطيني بالفعل في أن يجعل من لقب اللاجئ، على مضامينه الضعيفة ظاهرياً، عنصر قوة. فبات المخيم الذي يحوي اللاجئين محضناً للثورات وخزاناً للانتفاضات، ودوحة يتخرج منها القادة والرموز، الذين كانوا أوفياء له. فمشهد رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية وهو يروح من مخيم الشاطئ ويغدو إليه، برغم الموقع الذي تبوّأه في صدارة المشهد الرسمي؛ إنما يبعث برسالة ذات مغزى في اتجاهات عديدة، منها ما للجوء من أهمية عند الفلسطينيين، ما دامت محطته الأخيرة هي العودة للديار الأصلية.

إنّ هذه الروح يعبِّر عنها أيضاً فلسطينيو المهجر، الذين يؤكدون على هويتهم الفلسطينية موسماً بعد موسم، ويقيمون الأنشطة والفعاليات لدعم صمود أهلهم في الداخل، مجسّدين فكرة الشعب الفلسطيني الواحد، التي طالما حاول المشروع الصهيوني نفيَها والفصل بين أبناء الشعب وتفتيتهم.

 والمؤكد أنّ الصهاينة ليسوا محظوظين بهذا التوجّه الفلسطيني الذي يتألق حتى في مواقع الشتات عبر أقاصي الدنيا. من ذلك مثلاً؛ استعداد فلسطينيي أوروبا لإقامة مؤتمرهم السادس في الثالث من أيار/ مايو في كوبنهاغن، ويتوقعون حضور الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني من شتى أرجاء القارة الأوروبية، وهم بذلك يدحضون النظرية الصهيونية في العمق، ويدفعون عجلة التاريخ لتدور في اتجاهها الصحيح.

يُظهِر الفلسطينيون في العالم تمسكهم بحق العودة، ويُعلون صوتهم ليسمع كل المعنيين بعدم تفريطهم بهذا الحق، سواء في الداخل أو الخارج على حد سواء. إنّ بقاء الفلسطينيين بأغلبيتهم رغم كل هذه السنين في فلسطين التاريخية وفي دول الجوار، وبعضهم يرى مدينته أو قريته على مرمى البصر؛ لا يمكن إلاّ أن يكون دافعاً ومحرِّضاً، ومخزونا استراتيجياً مرجِّحاً لكفة حسم الصراع لمصلحة الفلسطينيين.

ليست هذه التقديرات ضرباً من الرومانسية الحالمة التي تجافي الواقع لمجرد رسم الملامح المرغوبة للمستقبل. إلاّ أنّ المستقبل كما نتوّقعه، ونأمله، لا يأتي بالركون لواقع فلسطيني وعربي سيِّئ، بل بملاحظة مكوِّنات القوّة في جسم الشعب الفلسطيني ورصدها واستثمارها، وتوظيفها ضمن توجّهات استراتيجية واعية. بوسعنا أيضاً الرهان على متغيّرات قيادية حتمية قادمة ستتعامل مع المخزون الاستراتيجي للشعب والأمة، لتوظفها بإرادة سياسية حازمة لمصلحة حسم الصراع. قد لا يكون هذا في سنوات قليلة قادمة، ولكنه حتماً في الأمد المنظور أو المتوقع.

ثمة تحوّلات كامنة تحت السطح، وأخرى فوقه ظاهرة وبادية للجميع. إنها مؤشرات تأتي للشعب الفلسطيني بكثير من الوعود في ستينية النكبة، بأنّ العودة باتت أقرب حقاً. وعلينا أن ندرك ما يتطلّبه الموقف من التعامل مع التحدِّيات بأقصى درجات الجدية، والعبور بالقضية إلى مستقبل جدير بالشعب الفلسطيني وإرادته المتألقة وتضحياته الجسيمة. ويبقى ذلك العبور في حكم الممكن والمتاح بكل تأكيد.

* المدير العام لمركز العودة الفلسطيني

 -------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ