ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
المثقف الأمريكي والسلطة.. المحافظون
الجدد نموذجاً علاء
بيومي أخطاء المحافظين
الجدد العديدة والخطيرة
وتحاملهم على العالمين العربي
والإسلامي خلال سنوات سيطرتهم
على إدارة الرئيس الأمريكي جورج
دبليو بوش يجب ألا تمنعنا من
التأمل في أفكارهم وخاصة في ما
يتعلق برؤيتهم للدور السياسي
للمثقف الأمريكي، وهي رؤية لم
يكتف المحافظون الجدد بالتعبير
عنها باستفاضة في كتاباتهم
العديدة بل تعدوها إلى ساحة
التنفيذ في واشنطن تحت أعين
العالم كله على مدى السنوات
الأخيرة، مما ترك سجلاً وفيراً
من النقد والتمحيص في رؤية
المحافظين الجدد السابقة
يساعدنا على فهمها وشرحها
وتفنيدها. إن نقطة انطلاق
المحافظين الجدد في رؤيتهم
للدور السياسي للمثقف الأمريكي
يعبر عنها بوضوح نورمان
بودهوريتز وهو أحد أهم مؤسسي
تيار المحافظين الجدد بصورته
الراهنة بالمشاركة مع القطب
الآخر للحركة إيرفينج كريستول.
والمعروف أن بودهوريتز تولى
رئاسة تحرير مجلة (كومنتاري)
الصادرة عن اللجنة اليهودية
الأمريكية وهو في أوائل
الثلاثينات من عمره، ونما معها
ليصبحا معاً من أهم علامات تيار
المحافظين الجدد الفكرية،
ويقول بودهوريتز إن ظهور
الجامعات الأمريكية وانتشارها
بالشكل الراهن أضعفا من دور
الثقافة والمثقفين الأمريكيين،
وذلك بعد أن حولت الجامعات
المثقفين إلى موظفين كما يرى
بودهوريتز. فالمثقف، كما يرى
بودهوريتز، يجب أن يختلط
بالجماهير ورجل الشارع ويشعر
بمعاناتهم ويكتب لهم سعياً
للفوز بتأييدهم ودعمهم المالي،
كما يجب أن يحصل على أمواله من
بيع كتاباته ومن المحاضرات التي
يلقيها، وهي من دون شك مصادر
صعبة وشحيحة للرزق، مصادر تحتم
على المثقف النزول لرجل الشارع
والحديث على مستواه، كما تحتم
عليه المعاناة وهي من شروط
الإبداع، وتربطه بالجماهير
وتوعيه بحاجاتهم وهي من
المتطلبات الرئيسية لدور
المثقف السياسي الذي ينبغي عليه
التقرب من السلطة ورجالها
والسعي لإقناعهم بأفكاره على
أمل العمل معهم بما يمكنه من
تطوير أفكاره السياسية
وتطبيقها واختبار صحتها للعودة
مرة أخرى بعد انقضاء فترة خدمته
السياسية إلى معترك الحياة
الثقافية ليكتب من جديد ويعرض
أفكاره على الجماهير في انتظار
فرصة جديدة للتجربة السياسية. أما الأكاديمي أو
الأستاذ الجامعي، في بعض صوره
الحالية، فقد تحول إلى خطر على
المثقف الأمريكي – كما يرى
بودهوريتز – لأن أستاذ الجامعة
تحول إلى موظف حريص على إرضاء
رؤسائه من خلال الكتابة في
مواضيع شديدة التخصص لا يفهمها
سوى أساتذته إن فهموها، كما بات
معزولاً يكتفي بتأدية الحد
الأدنى من متطلبات وظيفته التي
تمنحه راتبه الشهري. وعلى المنوال نفسه
يشجع هارفي مانسفيلد المثقفين
على خوض المعارك الفكرية دفاعاً
عن مبادئهم السياسية. ومن
المعروف أن هارفي مانسفيلد يعمل
أستاذاً للعلوم السياسية في
جامعة هارفرد منذ الستينات، وهو
أحد أنبغ وأوفى طلاب ليو ستراوس
الأب الروحي أو الفكري لتيار
المحافظين الجدد، ويتميز
مانسفيلد بكتابته الفلسفية
السياسية العميقة والتي تتخصص
في إعادة تأويل كتابات مفكري
العصور الغربية الوسطى الكبار،
وهي كتابات في غالبيتها معقدة
قد تعجز القارئ العادي أو حتى
المتخصص، ومع ذلك يحرص مانسفيلد
على كتابة بعض المقالات القصيرة
في مجلات المحافظين الجدد وعلى
رأسها مجلة (ذا ويكلي ستاندرد)
التي يرأس تحريرها ويليام
كريستول نجل إيرفينج كريستول. فبين حين وآخر ينشر
مانسفيلد مقالاً في هذه المجلة
يبدو سطحياً في كثير من
الأحيان، ولا يرتقي لمستوى كتب
مانسفيلد الفلسفية المعقدة
للغاية، ولكنها مقالات تعبر عن
التزام مانسفيلد بدور المثقف
الحريص على التخاطب مع الجماهير
وخوض الصراعات الفكرية، والتي
يشبهها مانسفيلد بساحة الحرب،
مشجعاً المثقفين على (تلطيخ)
أيديهم بدماء أعدائهم الفكرية،
وهي استعارة يبدو أن مانسفيلد
اقتبسها من كثرة قراءاته
لكتابات مفكري العصور الوسطى،
حتى إن مانسفيلد يبدو أحياناً
أحد هؤلاء الفرسان وقد بثت فيه
الحياة في القرن الحادي
والعشرين راكباً فرسه ومستلاً
قلمه. أما إيرفينج كريستول
رفيق كفاح بودهوريتز ومؤسس مجلة
(ذا ناشيونال إنتريست)
الأكاديمية فيقول البعض إنه
احتل مكانته المركزية لدى تيار
المحافظين الجدد، ليس بقدرته
على الكتابة البسيطة والتنظير
وتأسيس المجلات ومراكز الأبحاث
فقط، ولكن لتفوقه في مجال بناء
علاقاته بكبار السياسيين
وأثرياء المحافظين الذين
ساعدوه على دعم تلاميذه من
المحافظين الجدد مالياً من خلال
دعم مراكز أبحاثهم وسياسياً من
خلال فتح أبواب المؤسسات
الحكومية أمامهم للتدرب
واكتساب الخبرة السياسية
اللازمة لاختبار أفكارهم
السياسية. لذا لا ينسى مانسفيلد
في بعض كتاباته أن يشكر إيرفينج
على دعم بعض طلابه بحثياً
وسياسياً، ويقول إنه سعى إلى رد
جميل إيرفينج من خلال تعليم
ولده ويليام عندما كان طالباً
في جامعة هارفرد، ولما أراد
ويليام وزملاؤه الاحتفال
بأستاذهم الكبير في إحدى
السنوات كتبوا كتاباً وأهدوه
إليه بعنوان (تعليم الأمير) في
إشارة إلى حرص مانسفيلد على
تعليم الساسة على غرار فيلسوفه
المفضل ميكافيللي. استراتيجيات الهيمنة
الثقافية بناء على الرؤية
السابقة لدور المثقف السياسي
يتبنى المحافظون الجدد عدداً من
الاستراتيجيات الواضحة لتحقيق
رؤاهم، والتي يمكن تخليصها فيما
يلي: أولاً: يحرص
المحافظون الجدد على التعبير عن
أفكارهم بأبسط أسلوب ممكن،
فكتاباتهم وأفكارهم تتميز
بغالبيتها بسهولة كبيرة،
وأسلوبهم أقرب للأسلوب الصحفي
والأدبي من الأسلوب السياسي
الأكاديمي، وقد يعود ذلك إلى
خلفية بعضهم التي قد لا ترتبط
بالعلوم الاجتماعية، فتخصص
بودهوريتز هو الأدب الإنكليزي
أما تشارلز كروتهامر فهو طبيب. ثانياً: يتميز
المحافظون الجدد بقدرتهم غير
المحدودة على الجدل، حيث يعرفون
بأنهم متحدثون جيدون ومجادلون
مرهقون لخصومهم. ثالثاً: يتميز
المحافظون الجدد فيما بينهم
بقدر من الود والتقرب الفكري،
حيث يشير بودهوريتز إلى رفاقه
الفكريين بصفة (العائلة)، كما
أنه زوّج ابنته لأحد شباب
المحافظين الجدد (إليوت إبرامز)
الذي عمل في إدارتي ريغان وجورج
دبليو بوش (يعمل حالياً نائباً
لمستشار الأمن القومي الأمريكي)،
ولا تمل وسائل الإعلام
الأمريكية والدولية عن تنقيب
الروابط الشخصية التي تربط
المحافظين الجدد خارج أوقات
العمل، لذا يمكن وصفهم
بالمجموعة الفكرية المترابطة
على المستوى الشخصي لا الفكري
فقط. رابعاً: يتميز
المحافظون الجدد بالمقدرة على
صياغة مواقفهم السياسية في صورة
أفكار كبرى (الحرب العالمية
الرابعة ومحور الشر) وغيرها من
المصطلحات الفضفاضة التي
يروجها المحافظون الجدد، وهي
قدرة يتميز بها المثقفون، ويبرع
فيها المحافظون الجدد بغض النظر
عن مدى دقة أو صواب شعاراتهم
الكبرى. خامساً: حب المحافظين
الجدد للجدل وهزيمة خصومهم
تتفوق لديهم أحياناً على
ارتباطهم بأفكارهم ومواقفهم
السياسية، فالمحافظون الجدد
يبدون أحياناً مستعدين لطرح
الأفكار ومزيد من الأفكار
وأفكار تعارض أفكارهم الجديدة،
فأفكارهم تتميز بدرجة عالية من
السيولة ورفض التعلق بالأفكار
القديمة، لذا يردد بعضهم أنهم
لا يؤمنون بالأفكار الكبرى،
وأنهم كمثقفين يؤمنون بمحدودية
دور المثقف على الرغم من
أهميته، وأنهم يرفضون
الأيديولوجيات ومستعدون لتغيير
أفكارهم إذا ثبت خطؤها، حتى إن
ويليام كريستول ذكر في أكثر من
مرة أن حرب العراق ذاتها والتي
أيدها المحافظون الجدد وعارضها
العالم هي بمثابة تجربة إن نجحت
نجحوا معها وإن فشلت أطاحت بهم. سادساً: على المستوى
المادي يعتمد المحافظون الجدد
لتقوية أفكارهم من خلال سلسلة
واسعة من المؤسسات الثقافية
الداعمة لهم وعلى رأسها مراكز
الأبحاث التي يتنقلون بينها
وبين المؤسسات السياسية كمركز
أبحاث (أمريكان إنتربرايز)
معقلهم الرئيسي، إضافة إلى
سلسلة من المجلات وإلى علاقاتهم
الوثيقة بوسائل الإعلام
اليمينية الأمريكية التي
تستضيفهم وتوظفهم كمعلقين
وكتّاب دائمين. سابعاً: يجب أيضاً
الإشارة إلى أن المحافظين الجدد
تجمعهم جذور فكرية مشتركة إلى
حد ما خاصة في ما يتعلق باتباعهم
لأفكار ليو ستراوس على المستوى
السياسي الفلسفي ولأفكار إلبرت
والستتر على المستوى السياسي
الاستراتيجي. وعلى المستوى
الجماعي عكست خبرة المحافظين
الجدد تجربة جيل معين من اليهود
الأمريكيين وهو الجيل الذي
ترعرع في الربع الثاني من القرن
العشرين وينتمي لليهود الذين
هاجروا إلى أمريكا هرباً من
الاضطهاد في أوروبا، ورأى هذا
الجيل في نفسه قائداً لحركة
اندماج المهاجرين اليهود الجدد
في المجتمع الأمريكي مستغلين
قدراتهم التي اكتسبوها كجيل
جديد نشأ وترعرع في الولايات
المتحدة. وبذلك عكس أشخاص مثل
نورمان بودهوريتز وإيرفينج
كريستول خبرة جيل معين من أبناء
مجتمعهم بالشكل الذي رأوه
مناسباً مما يعزز رفض المحافظين
الجدد للعزلة، فهناك روابط
مجتمعية تبدو قوية ربطت
المحافظين الجدد – خاصة الجيل
الأول منهم – بأبناء عشيرتهم
وجلدتهم. ثقوب في النموذج النموذج السابق
للعلاقة بين المثقف والسياسة لا
يخلو من عيوب فندها بعض
المحافظين الجدد أنفسهم،
نلخصها فيما يلي: أولاً: يتهم البعض
المحافظين الجدد بالانقلاب على
مبادئهم وأفكارهم الأصلية وسوء
فهم هذه الأفكار وتطبيقاتها
المحتملة، وهو اتهام يأتي من
داخل التيار نفسه، حيث ظهر بقوة
في كتابات فرانسيس فوكوياما
كاتب العلاقات الدولية
الأمريكي المعروف وأحد رموز
تيار المحافظين الجدد الفكرية
والذي أعلن انقلابه الفكري
عليهم في كتابه (أمريكا على
مفترق طرق) الصادر في 2006، حيث
رأي فوكوياما أن الجيل الراهن
من المحافظين الجدد لم يحافظ
على التيار أو على أفكار الجيل
الأول التي ركزت على رفض سياسات
القوى الدولية الشمولية
المتطرفة كألمانيا النازية
والاتحاد السوفييتي الشيوعي،
كما رفض الجيل الأول الهندسة
الاجتماعية، وعابوا على الدول
الشمولية التي تزعم القدرة على
بناء المجتمعات والدول الأخرى،
ومع ذلك دفع الجيل الراهن من
المحافظين الجدد أمريكا تحت
قيادتهم إلى أن تكون واحدة من
تلك الدول الشمولية المتطرفة
الساعية لبناء دولة أخرى، كما
حدث في حرب العراق، وبذلك يصبح
المحافظون الجدد مثقفين غير
أوفياء لأساتذتهم أو آبائهم
المفكرين. ثانياً: هناك من يرى
أن بعض المحافظين الجدد ليسوا
غير أوفياء فقط، وإنما هم
أغبياء وقليلو المعرفة أيضاً،
حيث يشير البعض إلى أن شخصاً مثل
دانيال بايبس عجز عن العثور على
عمل جامعي في جامعة أمريكية ذات
أهمية مما اضطره للبحث عن وظيفة
في كليات خاصة بالجيش الأمريكي
وإلى إنشاء مركز بحثي خاص به وهو
(منبر الشرق الأوسط) ومركزه
مدينة فيلادلفيا بولاية
بنسلفانيا الأمريكية. ويقول
البعض إن المحافظين الجدد
يبرعون في إنشاء المراكز
البحثية بسبب عجزهم عن إثبات
أنفسهم كأساتذة في جامعات ذات
وزن. ثالثاً: يعيب البعض
على المحافظين الجدد أخلاقهم
الفكرية التي تطغى عليها صفات
كالشراسة مع المعارضين وحب
السمعة والشهرة والنفوذ، وهي
صفات لا ينكرها شخص مثل
بودهوريتز الذي يؤكد في سيرته
الذاتية أن طموحه يمثل بالنسبة
له شهوة عارمة يصعب التحكم فيها
تفوق (الشهوة الجنسية) وفقاً
لتعبيره، وأن رغبته في الظهور
والشهرة والثناء لا تشبع، وأن
معاركه الفكرية كالمعارك
الحربية لا تنتهي إلا بسفك دماء
خصومه والقضاء عليهم، هي
اعترافات دفعت بعض أقرب أصدقائه
إلى الابتعاد عنه – كما يشير
المتابعون. رابعاً: لا يخفي بعض
المحافظين من أمثال تشارلز
كراوتهمر (ميكافيلليتهم)
واستعدادهم لتبني سياسة غير
أخلاقية ولو كانت سوف تأتي
بثمار إيجابية، ويشيد هارفي
مانسفيلد بميكافيللي لأنه حرر
السياسة من الفضيلة، حتى إن
خروج المحافظين الجدد – مثل بول
ولفويتز وإليوت إبرامز ودوغلاس
فيث - من وظائف سياسية أمريكية
ودولية مختلفة ارتبط بفضائح
أخلاقية وسياسية متنوعة. أخيراً بقي لنا
الإشارة إلى أن نموذج العلاقة
بين المثقف الأمريكي والسلطة
كما يراه المحافظون الجدد ما هو
إلا نموذج واحد له مزاياه
وعيوبه نشأ في ظروف خاصة تحكمها
قوانين المجتمع والدولة في
الولايات المتحدة وطبيعة العمل
الثقافي والسياسي هناك. وما
أردنا من تناوله في مقالنا هذا
إلا العبرة والتفنيد
والاستفادة من إيجابياته ورفض
سلبياته. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |