ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
إنّها
حضارة الإسلام يا سماحة المفتي بقلم:
محمد علي شاهين أتحفنا سماحة المفتي
بخطابه أمام البرلمان الأوروبي
في ستراتسبورغ في مطلع العام
الحالي، بأفكار وآراء جريئة،
أنكر فيها أن يكون للمسلمين
حضارة، فقال: (ليس هنالك حضارة
إسلامية, ولا حضارة مسيحية, ولا
حضارة يهودية, لأن الحضارة هي من
صنعنا, أما الدين فهو من صنع
الله)، وأصرّ على أنّ للمسلمين
ثقافة فقط، وأبدى عدم إيمانه
بصراع الحضارات، وطالب بإعادة
النظر بهذا المصطلح، ودعا إلى
وحدة الأديان رغم اختلاف
الشرائع، ودعا لإقامة حكومات
مدنيّة لا دينيّة بكل صراحة
قائلاً: أنا أدعو من هذا المكان
لحوار ثقافي بلا حدود, ولنقيم
دولاً على أساس مدني لا على أساس
ديني أو طائفي، واعتبر كلمة
الرئيس الأسد: (أريد سلاماً
حقيقياً واستراتيجياً) حجر
الزاوية في هذا المقام، فقال
ولمّا يتبيّن الخيط الأبيض من
الخيط الأسود في مباحثات السلام:
لن نحارب بعد اليوم: (إننا لن
نحشد بعد اليوم سلاحاً إنما
سنحشد دائماً كلمة السلام
وسنقول للعالم بعد اليوم ما من
حرب رابحة)، واتهم الإعلام
بالكذب دون أن يذكر الأسباب
الحقيقيّة لحملته على الإعلام،
ولفت المفتي الانتباه إلى مشروع
تطوير دار الفتوى قائلاً: أنا
اليوم أهيء في بلدي مفتيات
ليكونوا في دار الفتوى، ووصف
أوروبا بأنّها معجزة القرن
العشرين لأنها استطاعت أن تهدم
جدار برلين دون أن تريق قطرة دم
واحدة, ولأن أوربا جمعت شعوبها
في برلمان واحد. وكان بودي أن أقرأ
رداً علميّاً شافياً على الخطاب
من قبل أهل الغيرة والاختصاص،
لكن شهوراً مضت لم أحظ فيها
بمقالة تروي ظمأي، وتشفي غليلي،
فجرّدت قلمي للرد دفاعاً عن
حضارة الإسلام التي كتبت فيها
خمسة وعشرين فصلاً جمعتها في
كتاب سينشر قريباً إن شاء الله،
وعلّقت على بعض ما جاء في الخطاب
باختصار. يا سماحة المفتي: تبيّنت أنّ أهل
الإنصاف من أهل الشرق والغرب ـ
سوى بعض المستشرقين الحاقدين ـ
قد أجمعوا على أنّ الإسلام دين
حضارة متكاملة، تتناول كل جوانب
الحياة، الدينيّة، والسياسيّة،
والاجتماعيّة، والاقتصاديّة،
والثقافيّة، والعسكريّة، وأنّ
حضارته ليست سوى جانب من جوانب
عظمته، فلماذا التنازل السخي عن
حضارة الإسلام؟. وأنّها حضارة وحي
سماوي كامل شامل، لا يقبل
التجزئة، بإحياء بعضه وإماتة
بعضه، تشمل العقائد،
والعبادات، والأخلاق،
والمعاملات. حضارة غير محصورة في
الجوانب الأخلاقيّة والروحيّة،
لتشمل التأمّل والتفكير، وتحث
على السير في الأرض، والنظر في
ملكوت الله، والتنقيب في السنن
الكونيّة والنواميس. حضارة منفتحة
بعقلانيّة على الحضارات
السابقة، تأخذ، وتنقل، وتصهر،
وتضيف، وتبدع، وتبتكر، لصالح
البشريّة، ومن أجل سعادة
الإنسان ورفاهيّته، وتعطي
عطاءً سخيّاً ليس له حدود. حضارة الإنسان
المكرّم خليفة الله في الأرض،
الإنسان المتوازن، المعتدل
العادل، المحسن، الذي يخشى الله
ويرعى حقوق المخلوقين. حضارة الإنسان
المحافظ على الأرض، الأمين على
ثرواتها الدفينة من الهدر بطراً
وإسرافاً. حضارة أسهمت كتبها
العربيّة الإسلاميّة المترجمة
إلى لغات أوروبا في تطوّر الفكر
الفلسفي، والطب البشري، والأدب
العالمي، والمصطلحات العلميّة،
والفنون المعماريّة
والزخرفيّة، وكانت أساساً
لتقدّم أصول البحث والدرس
والتأليف في شتّى فروع المعارف
الإنسانيّة. حضارة متفوّقة،
أخصبت بترجماتها الأمينة،
وفكرها الراقي، وثقافتها
العالية، العقل الأوروبي وهو
يتلمّس طريقه نحو المستقبل ؛
وأيقظت حركة الاستعراب فيها
أوروبا من سباتها الطويل، فكانت
قديماً مدرسة المترجمين في
طليطلة، وجامعة قرطبة، وجامعة
إشبيلية، ومركز الثقافة في
سالرنو، وجامعة نابولي، ومدرسة
مونبليه، واسطة العقد بين
الثقافة العربيّة وما تنطوي
عليه مكتباتها من علوم الإغريق
واللاتين المعرّبة، التي
ادخرتها حضارة الإسلام
المتفوّقة للأجيال، وصانتها من
العبث والضياع، وبين الغرب
اللاتيني الذي أخذ يبدع ثقافته
الحديثة. حضارة بنّاءة عجّلت
في نهضة أوروبا عدّة قرون، يوم
كانت حواضر العلم والأدب والفن
في الأندلس، وابنتها الصغرى
صقلية، ودمشق وبغداد والقاهرة
وإسلامبول منارات هداية،
ومقصداً للباحثين عن أسرار
الكون وعلومه، ومنهلاً عذباً
لطلاّب العلم والمعرفة من
أبنائها، أمّا ما تعلّمه الغرب
من حضارة الإسلام خلال مائتي
عام من الحروب الصليبيّة، وقيام
المملكة اللاتينيّة في القدس،
التي كادت أن تتحوّل إلى مملكة
شرقيّة، فقد ساهم بقسط وافر في
يقظة أوروبا ونهضتها، وكان له
الأثر المحمود في تطوّرها
الاجتماعي وتقدّمها الفكري. حضارة توحيد، لا
وثنيّة فيها، وحريّة لا قهر
فيها ولا استعباد، وشورى لا
استبداد فيها، وإخاء لا استعلاء
فيها على المخلوقين، وعدالة لا
ظلم فيها، ولا سرقة لجهود
العباد. حضارة أمّة مسلمة
نبيلة كريمة متسامحة، مؤمنة
بالتعايش بين أهل الأديان
السماويّة، تنفر من التعصب
الديني، وحملات الكراهية
والبغضاء، تبوّأ في ظلها أهل
الذمّة أعلى مناصب الدولة،
وتمتّعوا بمكانة اجتماعيّة
كريمة، وكانت حقوقهم في ظل
دولتها مصانة، حيث بنى النصارى
كنائسهم، وعقد أساقفتهم
مجامعهم الدينيّة بكلّ حريّة،
وشهد لها بالتسامح علماء نصارى
كثر أمثال الأستاذ (آدم متز)
بقوله: إنّ الكنيسة الرسميّة في
الدولة الرومانيّة الشرقيّة قد
ذهبت في معاداتها للمسيحيّين
الذين يخالفون رجالها في
التفكير، أبعد مما ذهب إليه
الإسلام بالنسبة إلى أهل الذمّة.
أما اليهود الذين
تنكّروا للمسلمين في الأندلس
يوم وقفوا في خندق قشتالة، وفي
فلسطين يوم أرادوها وطناً
قوميّاً، فقد كثر سوادهم في
ديار الإسلام، وعاشوا بعقيدتهم
أحراراً، يتمتّعون بالمال
والثراء، ونقل العلوم من
العربيّة إلى العبريّة. حضارة لم تعرف خلال
تاريخها المديد قمع العلماء،
واضطهاد المفكّرين، لأنّها
كانت على الدوام مؤتمنة على
الحريّة والعدالة، ولم تصادر
فيها حركة البحث العلمي، ولا
حريّة التفكير، لأنّه لا تناقض
بين الدين الإسلامي وبين العلم. حضارة لم يقم صرحها
على حساب الأخلاق، والفضائل
الروحيّة، ومعاداة الفطرة، ولا
على الظلم والتسلط والبغي
والفساد. حضارة تبرأ إلى الله
من محاكم التفتيش، والقبور
الجماعيّة، والقتل على
الهويّة، والتمييز العنصري،
والتطهير العرقي، والقمع
السياسي، وانتهاكات حقوق
الإنسان في الماضي والحاضر. حضارة لا زلنا نتفيّأ
ظلالها، وننعم بمواريثها
الدينيّة، والأخلاقيّة،
والأدبيّة، والفنيّة، ونشاهد
آثارها العمرانيّة الباقية
الخالدة أبد الدهر في أوابد
الفردوس المفقود، وصقلية،
ومدائن الإسلام وحواضره، ونلمس
إنجازاتها الراقية التي لا تحصى
في شتّى ميادين المعرفة. حضارة كل المسلمين،
عرباً وفرساً وأتراكاً
وأكراداً وبربراً، وشركساً من
كافة الأمم والشعوب، جمعتهم
وحدة الدين، والتآخي في الله،
وربطت بين قلوبهم محبّة الله. حضارة شارك في بنائها
إلى جانب المسلمين في دار
الإسلام، أهل الأديان والملل
والنحل. حضارة أمّة ماجدة
ناهضة بأمانة الرسالة
العالمية، فتراثها وإنجازاتها
للجنس البشري كلّه، لا للعرب
وحدهم ولا للمسلمين فحسب. حضارة راقية حمل
لواءها علماء عباقرة أفذاذ،
وفقهاء وأدباء وشعراء وكتّاب،
وقادة حرب وسياسة، كانوا غرّة
جبين الدهر، استخدموا علومهم
ومعارفهم لتطوير أحوال الجنس
البشري، وارتقائه وإسعاده،
والسموّ به، وإحلال العدل
والسلام بين شعوبه. حضارة أنجبت للمعرفة
والفنون والآداب الإنسانيّة
والعلوم العقليّة والنقليّة،
أعياناً من العظماء الأعلام لا
يأتي الزمان بمثلهم. حضارة مزدهرة شارك في
بناء إنجازاتها الرجال
والنساء، الحكّام والمحكومون،
الأغنياء والفقراء، الأحرار
والعبيد، البيض والسود، البدو
وأهل الحاضرة. حضارة خيّرة مدت
بجناحيها من نهر تاجة بإسبانيا
إلى نهر الكانج بالهند، كأنّها
غيمة ممطرة، تحمل الخير والعطاء
والنماء للشعوب والأمم عبر
العصور، يوم كان الغربيّون كما
قال (دوزي) في ظلام الجهالة، لا
يرون النور إلاّ من سمّ الخياط. حضارة أمينة على حفظ
مواريث الحضارات العالميّة
القديمة، قادرة على ملء الفراغ
الذي خلّفه جزر الأنماط
الحضاريّة المنحسرة، والتفاعل
معها، والسمو والارتقاء بها. حضارة قادرة على
الانطلاق والوثوب من جديد، وجسر
الهوّة بين المسلمين وبين
العالم المتقدّم، وتخطّي كافة
العقبات والمعوّقات، لأنّ طاقة
الصحوة والانطلاق والنهوض فيها
كامنة، تنتظر الإمام المجدّد
رافع راية الحريّة والخلاص
والتوحيد. حضارة واقعيّة، جمعت
بين علوم الدين وعلوم الدنيا،
وبين الروح والمادّة والفكر،
والقول والعمل، وبين الكليّات
والأفكار العامّة، حيث لا حواجز
على الإبداع والابتكار. حضارة سامية تدعو إلى
التمسّك بالمثل العليا،
والأخلاق الفاضلة، والسموّ
الروحي، وتحضّ على البذل
والعطاء والكرم والإيثار،
والتضحية والفداء. حضارة أمّة لا يضيرها
حقد أعدائها، وبغض حسّادها،
وضعف أبنائها، وعجز حكّامها،
وتعصّب أصحاب الأهواء وذوي
النفوس المريضة عليها، ما دامت
محاطة برعاية الله وحفظه
وتوفيقه. حضارة قامت على أسس
سليمة، وقواعد راسخة قويّة،
ومبادئ سامية، فبناؤها سليم
متين شاهق ومتوازن وجميل. حضارة البدائل
والحلول العمليّة لكافة
المعضلات الاجتماعيّة
والاقتصاديّة والسياسيّة التي
عجزت الأيديلوجيّات القديمة
والمعاصرة عن حلّها. إنها من أروع
الحضارات التي حفظ التاريخ
ذكراها، لأنّها فتحت القلوب
والعقول قبل أن تفتح البلاد
بحدّ السيف، لأنّ السلاح يستطيع
أن يحقّق الانتصارات، ولكنّه لا
يستطيع أن يبني الحضارة الراسخة
الشامخة التي تترك بصماتها
المميّزة على الأرض والإنسان. وإنّها من أعجب
الحضارات، لأنّها استطاعت خلال
مئتي عام أن تنقل العرب من ظلمات
الجهل والتخلّف إلى النور،
بينما احتاجت أوروبا ـ التي
وصفها سماحة المفتي
بأنّها معجزة القرن العشرين
لأنها استطاعت أن تهدم جدار
برلين دون أن تريق قطرة دم واحدة,
ولأن أوربا جمعت شعوبها في
برلمان واحد ـ إلى ألف وخمسمائة
عام بدون الإسلام لتصل إلى ما
وصلت إليه من إنجازات.
إنها سيّدة الحضارات
بدون منازع، حقيقة لا تعصباً،
لأنّ الإنسان عاش في كنفها
سيّداً حراً كريماً، مطمئناً
على نفسه ودينه وعقله وعرضه
وماله. وإنّها حضارة
الإسلام العظيم، دين تقدم لا
رجعيّة فيه، وتمدّن لا تخلّف
فيه، وسموّ نحو المثل العليا،
لا انحطاط فيه. حضارة متوازنة تجمع
بين المادّة والروح، وبين
الدنيا والآخرة، وبين الفرد
والجماعة، بين القوي والضعيف،
بين المسلم وأهل الأديان والملل
والنحل، هدفها تحقيق رفاه
الإنسان ورخائه، وسعادته في
الدارين، وتوفير الطمأنينة
والاستقرار والأمن في ربوع
مجتمعاته، ونشر العدل والإخاء
والتعارف بين شعوب العالم وأممه.
حضارة دين إلهي (إنّ
الدين عند الله الإسلام) جاءت
شريعته ترفع الحرج عن الناس،
وتدفع الضرر عنهم، وتضع عنهم
إصرهم والأغلال التي كانت
عليهم، وتحلّ الطيّبات، وتحرّم
الخبائث، لأنّ السعادة في إدراك
الطيّبات والتحلي بالفضائل،
واجتناب الخبائث والرذائل. دين يمنح معتنقيه
الطمأنينة، والقناعة، والأمن،
والاستقرار الروحي والعاطفي،
والرضا بقضاء الله وقدره. دين كتابه الإلهي
المعجز يحثّ على النظر في ملكوت
الله، ولا تتعارض حقائقه
القرآنيّة الأزليّة مع الحقائق
العلميّة الحديثة، وتؤكّد
الأبحاث كل يوم على ما في آياته
من إعجاز مذهل، ولا عجب أن يكون
القوّة الدافعة وراء كلّ
الإنجازات العلميّة،
والابتكارات الفنيّة،
والإبداعات الأدبيّة، والنهضة
الفقهيّة، والأوابد
العمرانيّة، والأبحاث المحفوظة
في تراث الإسلام. وتقوّل المفتي في
خطابه فعبّر عن اقتناعه
بوجوب فصل الدين عن الدولة،
وإقامة حكومات مدنيّة لا دينيّة
بكل صراحة قائلاً: (أنا أدعو من
هذا المكان لحوار ثقافي بلا
حدود, ولنقيم دولاً على أساس
مدني لا على أساس ديني أو طائفي)
ففاق في جرأته الشيخ علي عبد
الرازق في كتابه (الإسلام وأصول
الحكم)، الذي أجمع أهل العلم على
تسفيه صنيعه، وإخراجه من زمرة
العلماء. تمنيت أن يكون الأديب
مصطفى صادق الرافعي، أو الشيخ
محمد رشيد رضا، أو شيخ الإسلام
مصطفى صبري، حيّاً لينسف هذه
الآراء الهجينة نسفاً، ويظهر
قلّة بضاعة صاحبها في السياسة
الشرعيّة، ويفضح جهله بتراث
الأمّة وحضارتها، ليكفيني
مؤونة الرد على علماء السلطان. إنّها حضارة الإسلام
يا سماحة المفتي، وإنّها دولة
الإسلام قادمة، وإني لألمح
راياتها من بعيد. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |