ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
رؤية
الإسلام للتنمية الثقافية
والفكرية يسري
عبد الغني عبد الله* تحرير الإنسان من
الجهل والظلمة :- إذا أردنا أن نقف على
رؤية الإسلام للتنمية الثقافية
والفكرية التي هدفها رقي
الإنسان وسعادته ، فعلينا أن
نعرف أنه من دعائم المنهج
الإسلامي في تحرير العقل والفكر
، تحرير الإنسان من أصفاد الجهل
وظلمته ، فالجهل قاتل محترف
للمواهب الفكرية وللرؤى
العقلية ، فهو يطفئ نور القلوب ،
ويعمي الأبصار ، ويخلخل عناصر
الحياة ، ويضعف القوة في الأمم ،
ويفسد على جماهير الناس مناهج
الدين والتدين ، ومبادئ الأخلاق
القويمة . الجهل هو الذي يجعل
النفوس مستعدة ومهيأة لقبول ما
يحدث في الدين من خرافات ، وبدع
، وضلالات ، لأن أهل الأهواء
والبدع الذين يظهرون بين الناس
بمظهر العلماء ، والزعماء
الدينيين ، يجدون في الجهل
بتعاليم الدين الحنيف : مرتعاً
خصباً ، ومجالاً رحباً ، لنشر
الخرافات والبدع باسم الدين ،
وبكل أسف فإن أكثر الناس يسارع
بدافع الجهل ، والأمية الدينية
، والثقة العمياء في هؤلاء
الأدعياء ، يسارعوا إلى اعتناق
أفكارهم الضالة المضللة ،
ويعملون بها على أنها من لباب
الدين ، وهم لا يعلمون أن الدين
منها براء . وهنا يتأتى دور أهل
الذكر ، من العلماء الذين
يتحلون بالاعتدال ، والاستنارة
، والقدرة على الوصول إلى عقول
وقلوب الناس ، يأتي دور هؤلاء في
التصدي لهؤلاء الأدعياء
وأفكارهم المضللة . ويأتي أيضاً دور
أولياء الأمور في نشر الوعي
الديني في جميع أماكن تواجد
الناس ، ولا يسمح بأن يتصدى
للوعظ والإرشاد والفتوى
والاجتهاد إلا من تتوافر فيه
الصفات المؤهلة لذلك ، وكفانا
تركاً لحبالنا على الغارب ! . لقد عني الإسلام
عناية كبرى بهذه الدعامة ،
دعامة تحرير الإنسان من ظلمات
الجهل ،فذم الجهل والجاهلين . قال الله تعالى : {
يظنون بالله غير الحق ظن
الجاهلية } [ آل عمران : 154 ] ، وقال:
{ أفحكم الجاهلية يبغون ؟ } [
المائدة 50]. لقد
علمنا الإسلام أن الذين يوقنون
بالله حق اليقين ، هم الذين
يتبعون الحق الإلهي ، وهم الذين
لا يعبدون إلا الله الواحد
الأحد ، وبذلك يكونون من أهل
الحق ولا يكونون من الجاهلين . كما أنحى الإسلام
باللائمة على الذين يتبعون
الظنون والأوهام في عقائدهم ،
لأن من يتبع الظن يطرق باب
الضلال ، والظن لا يغني من الحق
شيئاً ، والله يعلم بما نفعل ،
وبما نعتقد . والله سبحانه وتعالى
يطلب منا ألا نقف ما ليس لنا به
علم ، فالسمع والبصر والفؤاد كل
أولئك كانوا عنا مسئولين يوم
الموقف العظيم . العلم والحكمة في
مواجهة الجهل : لقد عظم الإسلام شأن
العلم ، وحث على طلبه في كل زمان
ومكان ، وجعله فريضة على كل مسلم
ومسلمة . يقول الله سبحانه
وتعالى : { بل هو آيات بينات في
صدور الذين أوتوا العلم ، وما
يجحد بآياتنا إلا الظالمون } [
العنكبوت 49 ] . والمقصود في الآية هو
القرآن الكريم ، ويجدر بالذكر
أن جملة ( أوتوا العلم ) وردت في
القرآن الكريم ( 11) مرة . ويطلب القرآن الكريم
من رسولنا ( صلى الله عليه وسلم )
أن يدعو ربه ليزيده علما . ويقول الرسول ( صلى
الله عليه وسلم ) : (( من يرد الله
به خيراً يفقهه في الدين ،
ويلهمه رشده )) [حديث متفق عليه] ويقول : (( من سلك
طريقاً يلتمس فيه علماً سهل
الله له طريقاً إلى الجنة )) [رواه
الشيخان] هذا ، وقد وردت كلمة (
علم ) في القرآن الكريم ( 60 ) مرة ،
كما ذكرت كلمة ( اقرأ ) ثلاث مرات
، كما ذكرت كلمة ( يتفكرون) عشر
مرات ، وكلمة ( تتفكرون ) ثلاث
مرات ، وكلمة (يتفكروا ) مرتان ،
وكلمة ( فكر ) مرة واحدة ، وكذلك
كلمة ( مفكر ) مرة واحدة ، ونحن
نعلم أن الفكر هو جزء لا يتجزأ
من العلم والمعرفة ، ومهما كان
علمنا فهو قليل جداً بالنسبة
لبحر كلمات الله الذي لا ينفد
أبداً . هذا ، وقد نوه
الإسلام بفضل الحكمة ، وما فيها
من الخير الكثير كما في قوله
تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً
كثيراً } [ البقرة : 269 ] . وقد تكررت كلمة (
الحكمة ) في القرآن الكريم خمس
مرات . وقال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) : (( لا حسد إلا
في اثنين : رجل أتاه الله مالاً
فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل
آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها
ويعلمها الناس )) [رواه الشيخان] إن الله سبحانه
وتعالى رفع العلماء إلى أعلى
الدرجات ، فدماء الشهداء تعادل
مداد العلماء ، والملائكة ترحب
بهم في يوم الموقف العظيم ،
وتحملهم على ظهورها ، و أجنحتها
ترفرف لهم تقديراً واحتراماً . والعلماء هم أهل
خشيته تعالى ، وقرن شهادتهم
بشهادته عز وجل وشهادة ملائكته
، فمن المحال أن يستوي أهل العلم
والمعرفة بأهل الجهل والضلال . والعلماء هم أصحاب
العقول الراجحة ، وهم أهل الذكر
، هم ينابيع العلم ، وموارد
العرفان ، ورواد الحق ، ودلائل
الهدى ، فعلينا أن نسألهم ونطلب
رأيهم إن كنا لا نعلم ، ولا ضرر
ولا ضرار في ذلك لأن الله خصهم
بالعقل والفهم . رؤية الإسلام لدور
العلم في تنمية المجتمع : لقد عرف المسلمون
الأولون منزلة العلم وفضله ،
وأدركوا مبلغ الحاجة إليه في
تدينهم ، وبناء مجتمعاتهم ،
وتنميتها في جميع النواحي ،
وكذلك دعم سلطانهم . لقد أدرك المسلمون أن
العلم هو الطريق الوحيد للتنمية
الشاملة ، فهو الذي يوضح لهم
معالم السير على النهج القويم ،
ويفتح لهم أفاق الحياة العزيزة
الكريمة ، ويكشف لهم عن أسرار
العوالم الكونية ونواميسها . أدرك المسلمون أن
العلم هو الذي يقيم لهم وسائل
الحياة والقوة ، ويبني لهم
قواعد السيادة والمجد والتقدم .
عرفوا كل هذا فوجهوا عزائمهم
إلى طلب العلوم والمعارف
والفنون على اختلاف أنواعها ،
ولم يشغلهم عن طلبها ترف
الحضارة ، ونعماؤها ، ولا أثنت
عزائمهم عنها بأساء الحياة
وضراوتها ، وبحثوا عنها بعزيمة
لا تكل ، وبرغبة لا تمل ، في آيات
الله التشريعية ، وآياته
الكونية ، فأقاموا لها في كل قطر
إسلامي مناراً عالياً ، وحملوا
مشاعلها المضيئة ، إلى مشارق
الأرض ومغاربها . أجدادنا من المسلمين
لم يقفوا بجهودهم عند نتاج
عقولهم وأفهامهم ، بل اتجهوا
بها إلى علوم السابقين ،
فاستخرجوها من زوايا الإهمال
والنسيان ، وأخذوا إبريزها بعد
أن زادوه نقاءً وصفاءً ، وردوا
زائفها بعد أن تبين لهم زيفه
وفساده ، لأنهم كانوا يطلبون
هذه العلوم طلب الناقد البصير ،
لا طلب التابع المقلد ، واكتمل
لهم من ملكات العلوم والفنون في
جيل واحد ، ما لم يكتمل لأمة من
الأمم الناهضة في عدة أجيال . وفي هذا يقول بعض
المؤرخين الاجتماعيين من علماء
الغرب : إن ملكة الفنون لم يتم
تكوينها في أمة من الأمم
الناهضة إلا في أجيال ثلاثة:جيل
التقليد ، وجيل الخضرمة ، وجيل
الاستقلال والاجتهاد إلا العرب
وحدهم ، فقد استحكمت لهم ملكة
الفنون في الجيل الأول الذي
بدءوا فيه لمزاولاتها . والباحث المدقق في
تاريخ حضارتنا العربية
الإسلامية ليعجب لهذه النهضة
العلمية التي تخطت مراحل النهوض
في الأمم ، ويعجب أيضاً كيف أنهم
قاموا بهذه النهضة على الرغم من
الأحداث العاتية التي حملوا
أعباءها ، والحروب الطاحنة التي
خاضوا غمارها ، لأن الأحداث
والخطوب ، وإن بلغت من العنف ما
بلغت ، لا تستطيع أن تقف في طريق
العقائد التي انطوت عليه القلوب
، وانفعلت بها النفوس ، ولا أن
تمنع العزائم القوية ، من
الوصول إلى أغراضها وأهدافها
النبيلة ، دون صدام أو عراك ،
ولكن وعياً وإدراكاً بأهمية
العلم والمعرفة ، وسعادة
البشرية جمعاء . نقول : إنه بهذه
النهضة العلمية استطاع الأجداد
عبر حضارتنا العربية الإسلامية
أن يعملوا عمل الأقوياء لدينهم
، ولوطنهم ، ففي رأينا : أن العمل
لبناء المجتمعات القوية في
دينها ودنياها لا يصدر إلا عن
إرادة قوية دافعة واعية ،
والإرادة القوية الدافعة تنبثق
من العلم والمعرفة ، فالأمة
التي أفقدها الجهل والتراخي
والتسيب وعدم الانتماء ، قوة
الإرادة وصدق العزيمة ، لا يمكن
لها على وجه الإطلاق أن تعمل
لدينها ولا لوطنها ، وتظل
دائماً في أسر التبعية للآخرين
من الأقوياء مادياً ، كما أنها
يسهل الهيمنة عليها ، وبالتالي
من المحال أن تملك قرارها أو
إرادتها . فلنعي ذلك جيداً ،
ولنبدأ من حيث انتهى الأجداد ،
ولنتحلى بحب العلم والمعرفة ،
كي نكون بحق من أصحاب الإرادة
القوية الدافعة ، ومن أصحاب
العزائم الصادقة ، من أجل ديننا
وأوطاننا . التحرر من طاعة
الأهواء : اهتم الفكر الإسلامي
وهو يؤكد على ثقافة تحرير العقل
والفكر ، اهتم بتحرير الفكر
الإنساني من طاعة الأهواء ،
والانقياد الأعمى لوحيها ، لأن
طاعة الأهواء من أقوى عوامل
انحراف السلوك الإنساني ، كما
يؤدي إلى التوائه في نظره ،
وتفكيره ، و يؤدي إلى ضلاله في
عقائده وتدينه . إن الهوى إذا دخل في
شأن من شئون الدين والدنيا
أفسده على الفور ، أما عباد
الأهواء والميول والنزعات
والرغبات فمن المحال أن تسلم
لهم طوية ، ولا يستقيم لهم رأي
أو فكر ، ولا تعتدل لديهم موازين
الحكم على الأمور ، ولا يخضعون
لحق ليس في جانبهم ، وكأن الحق
تابع لأهوائهم وأغراضهم ، فإذا
سألوا عن حكم شرعي ، أو رأي فيه
صالح للجميع ، سألوا عنه
وصدورهم منطوية على هوى دفين
فإن أجابهم أحد أهل العلم
والفكر المشهود له بالصلاح
والاعتدال ، أجابهم بما لا تهوى
أنفسهم ، سخطوا وأعرضوا ، وإذا
حاول أن يقنعهم بالدليل
والبرهان وبالتي هي أحسن ،
ركبوا رؤوسهم ، ولجوا في عتو
ونفور ، ودخلوا معه ومع غيره في
جدال سقيم عنيف ، لا يقف عند حد ،
ونقاش عقيم لا ينتهي إلى غاية أو
نتيجة ، لأنهم ليسوا طلاب حق
يخضعون له ، ويسلكون سبيله ،
وإنما هم أصحاب ميل وهوى ،
يسيرون وراءه ، ويبغون تحقيقه. ومن هنا عني الإسلام
بالتحذير البالغ من إتباع الهوى
والميل والانقياد الأعمى ، فذم
العاكفين على عبادة الأهواء
والأغراض ، ونعى عليهم ضلالهم
وانحرافهم عن الحق ، إرضاءً
لأهوائهم ، فهم لا يتبعون إلا
الظن ، ولا يسيرون إلا وراء
أهواء نفوسهم ، رغم أن هدى ربهم
قد جاءهم واضحاً جلياً . هذا الصنف من الناس
جعل من هواه إلهاً له وكانت
النتيجة أن ختم الله تعالى على
سمعه وقلبه ، وجعل على بصره
غشاوة . وقال تعالى :{ فإن لم
يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون
أهواءهم ، ومن أضل ممن اتبع هواه
بغير هدى من الله ، إن الله لا
يهدي القوم الظالمين .} [ القصص :
50 ] . ويقول رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) : (( لا يؤمن
أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما
جئت به )) .وقال : (( ثلاث مهلكات :
شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب
المرء بنفسه . )) .[الحديثان متفق
عليهم] وهكذا طالبنا
الإسلام الحنيف وهو يعلن ثقافة
تحرير عقل وفكر الإنسان ، بأن
نطهر نفوسنا وسلوكنا من الأغراض
الخفية ، والأهواء الدفينة ،
ونحرر عقولنا وأفها منا من
الخضوع لسلطانها ، والانقياد
الأعمى لوحيها ، وأن نجعل
أهواءنا دائماً وأبداً تبعاً
لحكم الله وشرعه الحكيم ، ولا
نجعل بأي حال من الأحوال أحكام
الله تبعاً لأهوائنا . وختاماً نقول : إن الدعائم التي سبق
وأن أوضحناها - في رأينا - تعد من
أكبر العوامل في اعتدال النظر ،
واستقامة التفكير ، وصحة
العقائد وكمال الأخلاق ،وصلاح
الأعمال ، وهي تعكس بجلاء كيف
دعا الإسلام إلى ثقافة تحرير
العقل والفكر ، قبل أن تدعو لها
الأفكار والمذاهب والفلسفات
والنظريات الحديثة والمعاصرة . والله ولي التوفيق
،،، ـــــــــــ * باحث
ومحاضر في الدراسات العربية
والإسلامية ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |