ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
تأملات
تربوية في سورة الأنبياء المقال
الأول ( قصة أبي الأنبياء
إبراهيم ) الدكتور
عثمان قدري مكانسي هذه السورة المباركة
تتحدث عن غفلة المشركين عن
الساعة الوشيك حدوثها ، وقد
زعموا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا ينبغي أن يكون
رسولاً لأنه بشر ونسوا أن
الأنبياء كلهم بشر ، وقالوا عن
القرآن كما قال الأولون : سحرٌ ،
وشعر وأضغاث أحلام ، فقصم الله
الأولين ، ولئن استمر أهل قريش
على ضلالهم ليفعلنّ الله بهم
كما فعل بالهالكين قبلهم . ويطيب الله تعالى في
هذه السورة قلب النبي صلى الله
عليه وسلم بقصص الأنبياء
الصالحين قبله ، فقد أصابهم ما
أصابه من عنت المشركين وضلالهم
، وعلى رأسهم أبو الأنبياء
إبراهيم عليهم السلام جميعاً . 1-
حين يريد
الله تعالى بعبد من عباده الخير
، ويجعله من سعداء الدارين
يكرمه بالهداية منذ الصغر
ويحيطه برعايته ويربيه التربية
التي تليق به داعياً ومرشداً .
وعلى راس هؤلاء السعداء أبونا
إبراهيم عليه السلام حيث يقول
سبحانه " ولقد
آتينا إبراهيم رشده من قبل ،
وكنا به عالمين " فقد
أخبرنا المولى تعالى أنه آتاه
الفهم الثاقب والنظر المتأمل
والتفكير الصائب مذ
كان صغيراً فألهمه
الحق والحجة علَى
قَومه كَما قَال تعالَى " وتلك
حجتنا آتيناها إِبراهِيم عَلَى
قَومه " . 2-
فبدأ يعيب
على أبيه وقومه قومه عبادة
أصنام لا تعي ولا تعقل ، والأنكى
من ذلك أنهم يصنعونها بأيديهم
ثم يعكفون على عبادتها ، فهل
يعبد العاقل ما يصنعه بيديه أم
تراهم يعبدون بذلك أهواءهم
ورغباتهم ؟ وكأنهم يكرّسون
عبادة الإنسان وشهواته
ويشرّعون سطوة القوي منهم على
الضعيف المغلوب على أمره . وهنا
يأتي دور النبي والداعية الذكي
الذي عليه أن يحاورهم ويعلمهم
ثم ينقذهم مما هم فيه ، فيسائلهم
" ... ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون
؟!" فلا يجد من جواب سوى
أنهم ألفـَوا آباءهم كذلك
يفعلون " قالوا
وجدنا آباءنا لها عابدين
" وكأنهم بهذا التقليد
لآبائهم قد أراحوا أنفسهم من
عناء التفكير ، والبحث عن
الحقيقة ، ولعلهم يجدون التعليل
المناسب لاستمرارهم في غيهم
وضلالهم ، بل يظنون أنهم يفعلون
عين الصواب حين يسيرون على هدي
أسلافهم . وهم بهذا يريدونه أن
يدعهم وما يعبدون فلا يسفـّه ما
يعتقدون . 3-
الداعية
الشاب إبراهيم يرى جوابهم يحط
من قدر الإنسان . إذ كيف يرضى ذو
العقل والفهم أن يقلد غيره دون
فهم ولا روية ؟ لقد سألهم
محفـّزاً عقولهم وقلوبهم أن
يتدبروا ما هم عليه ، فما وجد
سوى التبعية لخطإ آبائهم ، وهو
حين سأل الناس كان أبوه أول
المسؤولين " إذ
قال لأبيه وقومه ... ، فالولد
يحب أباه ويجله . ومن تمام
الإجلال أن ينبهه إن أخطأ ، وليس
عيباً أن ينبه الصغير الكبير
وأن يحذره ، ثم يهديه . وإبراهيم
حريص على هداية الناس وهو أحرص
على هداية والده وأقربائه ، ألم
يقل الله تعالى مخاطباً نبيه
الكريم " وأنذر
عشيرتك الأقربين " ؟ . 4-
لا بد من
الصدع بالحقيقة ولو كانت مُرّة
وصعبة القبول عند قوم كان
الضلال رائدهم وهم يظنون أنهم
يحسنون صنعاً ، وكانوا يعتزون
بما ورثوا عن آبائهم واعتقدوه
صحيحاً لا يرقى الشك إليه فقال
لهم بصريح العبارة " لقد
كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين "
وهذه قمة الشجاعة في الداعية
حين يصدع بالحق دون خوف ولا وجل
، ويقول ما يعتقده بقوة دون
مواربة . فالرجال يُعرفون بالحق
، ولا يُعرف الحق بالرجال ؟ .. أنتم
وآباؤكم ضالّون عن الطريق
الواضح البيـّن . 5-
وحين يختلط
الأمر عليهم ويستنكرون ما يقول
يسألونه بلسان
منعقد من المفاجأة التي وقعت
عليهم " أجئتنا
بالحق أم أنت من اللاعبين ؟ "
ولِمَ سألوه هذا السؤال ؟
أفعلوا ذلك ليصلوا إلى الحق
الحقيق أم يستنكرون
ما أتاهم به ؟ أم
يسخرون منه ويهزأون ؟ أم إن
الأمر خليط بين هذا وذاك ؟ إنه
أعلن ذلك على الملأ ، لا
يخاف سطوتهم ولا يخشى عقابهم .
وعرّفهم بربهم المعبود الحق
الذي يستحق العبادة وحده " قال
بل ربكم ربُّ السموات والأرض
الذي فطرهنّ " فهو الخالق
لكل شيء ، وسبب الوجود . ثم رفع
الوتيرة حين شهد لله الحق
بالوحدانية المطلقة " وأنا
على ذلكم من الشاهدين " .. 6-
لم يكتف
الداعية بالمحاجة باللسان بل
وطن نفسه على مكابدة المكروه
وماساته في الذب عن الدين ، فقرر
كسر أصنامهم ليعاينوا ضعفها
وهوانها علّ الغشاوة تنجلي عن
أعينهم فيكفرون بها
ويؤمنون بالله وحده . وأقسم
بالله ليفعلنّ ذلك في غفلة منهم
ليُفاجؤوا بما فعل فيهتزوا هزة
قوية يفكرون بعدها بما هم عليه
من إفك وزور وضلال . قال ذلك في
نفسه ، فما ينبغي لمن عزم على
أمر أن يُفشيه قبل إتمامه ،
والتمس يوماً يخرجون فيه إلى
عيد لهم بعيداً عن المدينة
فيغتنم فرصة خلوّ المعبد منهم ،
ويحطم أصنامهم . ولا بد من كتم
السر فالرسول صلى الله عليه
وسلم يقول " استعينوا
على قضاء حوائجكم بالكتمان. "
. 7-
دخل المعبد
يحمل الفأس يضرب في الأصنام
بقوة ففتتها وجعلها قطعاً صغيرة
" فراغ عليهم
ضرباً باليمين " إلا
كبيرها لم يكسره ، وعلّق في عنقه
الفأس ليحتج به عليهم . ويبين
ضعف معتقداتهم بآلهتم المفتراة
، لعلهم يسألون هذا الإله
الكبير عمّن فعل بصغاره هذا
الفعل المهين ، ورآه هذا الإله
فلم يتحرك مدافعاً عنهم ، بل قبل
الإهانة حين عُلّق الفأس على
عنقه مقهوراً . 8-
ولكنّهم لم
يسألوا هذا الربّ فهم يعرفون
أنه حجر أصم لا يعي ولا يعقل ،
فتساءلوا فزعين مما رأوا " قالوا
: من فعل هذا بآلهتنا ؟! "
وكان أولى بهم أن يسألوا كبير
الآلهة " من فعل هذا بصغارك
وأنت أعمى أخرس ! " وكان أولى
بهم أن يكسّروه ويفتتوه
ويُلحقوه بالآخرين – لو كانت
لهم عقول – ولكن تساءلوا فيما
بينهم ليصلوا إلى الفاعل الذي
حطّم معتقداتهم وذرّاها في
الهوان والمذلة . " إنه
لمن الظالمين " ولنتساءل :
من الذي ظـُلِم؟ إن كانت الآلهة
فهي – على زعمهم -
قادرة على الدفاع عن نفسها
ومعاقبة من يسيء إليها ، بله أن
يفكر في ذلك ! وإن كان
عـُبـّادها المظلومين ، فقد
ظلموا أنفسهم – ابتداء –
بعبادة آلهة ذليلة ، وإن كان
الفاعل ظلم نفسه بتحطيمها
وكسرها فقد أحسن إلى نفسه حقيقة
ولم يظلمها ، وهل القضاء على
الخبث والفساد ظلم ؟! 9-
ويبحثون
ويسألون ، ثم يتذكرون أن الفتى
إبراهيم ذكر
آلهتهم بسوء وخفـّضها وحقـّرها
، فلم لا يكون هو الفاعل ؟ " قالوا
سمعنا فتى يُقال له إبراهيم "
فجاءوا به على أعين الناس
ليقرروه ويحاسبوه ويعاقبوه إن
ثبت أنه الفاعل الأثيم !! . جاءوا
به على أعين الناس ليظهروا أنهم
حماة العقيدة ورجالها ! ، وليخاف
من تسوّل له نفسه أن يفعل هذه
الفعلة في قابل الأيام !!
ويسألونه أمام الجميع " أأنت
فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟
" 10-
لم يكن يريد
الكذب حين أشار إلى الفأس
معلّقة بعنق كبير الآلهة
وزعيمها قائلاً " بل
فعله كبيرهم هذا ، فاسألوهم إن
كانوا ينطقون ؟! "
ولم لا يكون كبيرهم قد قتلهم
كي لا يشاركوه ألوهيّته ؟
والدليل قائم فالفأس يشهد على
إجرام كبير الآلهة ، ولن يستطيع
الدفاع عن نفسه فأداة الجريمة
موجودة ، وهو قائم في مكانها لم
يبرحه ، وهؤلاء القتلى المثخنون
بجراحهم ما زالوا في أرض
المذبحة ، ولعل أحدهم لم يلفظ
أنفاسه بعد ، فاسألوهم يخبروكم !
11-
حين يخلو
الإنسان إلى نفسه دون كبرياء
ولا استكبار يصل إلى الصواب
ويعرف الحقيقة . وهذا ما قاله
الجميع ابتداء " فرجعوا
إلى أنفسهم ، قالوا : إنكم أنتم
الظالمون " وما أجمل أن
يعترف المخطئ بخطئه ، ويرجع عن
غيه وضلاله ، إذاً فالحياة حلوة
جميلة .. لقد اعترف الحاضرون
أنهم يعبدون أصناماً هم صانعوها
، وأرباباً هم أوجدوها . لكن
الشيطان اللعين والنفس الأمارة
بالسوء لا يتركان الإنسان في
صفائه الروحي ، إنما يوسوسان له
، ويقلبان الحق باطلاً ،
والباطل حقاً ، والاستكبار غمط
للحق والجبروت أسْرٌ له وقتل .
هذا ما كان من الكبراء حين رأوا
الزعامة قد تطير من بين أيديهم
إن وافقوا الفتى فيما يقول ،
فسرعان ما عادوا إلى الضلال بعد
أن كانوا على أبواب الهدى ،
ومشارف سبل السلامة . " ثم
نُكسوا على رؤوسهم "
واتخذوا موقع الهجوم ليستروا
عوراتهم ويُضلوا العوام ّ من
حولهم فاتهموه بتكسير الأصنام
حين قالوا له : " لقد
علمت ما هؤلاء ينطقون " . 12-
ويرى الفتى
إبراهيم أنهم لن يسلكوا سبل
الهداية -
فالكبر يُعمي صاحيه ، ويقذفه في
مهاوي الفتن والضلال ، فقرّعهم
، وهزئ بهم وبآلهتهم " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً
، ولا يضرّكم "
ما هذه الآلهة البليدة التي
يتحكّم بها عُبـّادُها ؟ ولِمَ
يُعبد إله لا يضر ولا ينفع ؟
إنها الردّة البشرية إلى أعماق
الجهالة والهمجية ، إلى الطور
البهيمي ! أفتعبدون أيها القوم
هذه الآلهة البكماء ,
وقد علمتم أنها لم تمنع نفسها من
أرادها بسوء , ولا هي تقدر أن
تجيب إن سُئلت عمن يأتيها بخير
فتخبر، أفلا تستحون من عبادة مَا
كَانَ هكذا ؟ أفلا تتدبرون ما
أنتم فيه من الضلال والكفر
الغليظ الذي لا يروج إلا على
جاهل فاجر ظَالِم . "
أف لكم ولما
تعبدون من دون الله أفلا تعقلون
؟ " نعم ، إنهم وأمثالهم
لا يعقلون . فأقام عليهم الحجة
وألزمهم بها ولهذا
قال تعالى " وتلك
حجتنا آتيناها إبراهيم على
قومه " 13-
لا يتحمل
الظالم المتجبر أن يرفع الراية
البيضاء ويستسلم . فهو في هذه
الحياة الدنيا يقلب الحقائق ،
وويجترح كل المخازي ليكتم الصوت
الحر ، ويقطع لسان الحق ، ويطمس
نور الهداية . لا بد من القضاء
الكامل على من يقف أمامة ويجعل
نفسه له ندّاً . ويتداعى الظلمة
وأعوانهم إلى تحريق الفتى
وأمثاله على مدى التاريخ ليصفو
لهم الجو ، " قالوا
حرّقوه " والتحريق فوق
الإحراق وأشد منه بمراحل . لكنّ
الذي نراه في المتجبرين
الظالمين يتكرر دائماً ، فهم
نسخة واحدة تتجدد . لقد قالوا
" حرقوه
وانصروا آلهتكم ! "
والحقيقة أنهم يريدون نصر
أنفسهم فقط ، وما هذه الآلهة إلا
صورة يحكم الجبابرة – في كل
زمان ومكان – من ورائها ، ما هي
إلا ظل لهم ليس
غير ، أم يقل فرعون " ذروني
أقتل موسى ولْيدْعُ ربه ! إن
أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر
في الأرض الفساد؟! " وتصور
أن فرعون المتغطرس يتهم الداعي
الأول في عصره بالفساد ، يتهم
أحد الرسل أولي العزم كليم الله
تعالى بالفساد ، ويأمر –
ديموقراطياً – بقتله ليتخلص من
شروره !!! إنها الديكتاتورية في
كل آن ومكان تنطق بلسان واحد . 14-
وينسى
الظالمون أن الله تعالى ناصر
دعوته ، ناصر رسله ، ناصر دعاته
ولو بعد حين . ويُلقى الداعية
الأول أبو الأنبياء في النار ،
فيأمرها خالقها أن تكون برداً
وسلاماً على إبراهيم ، فتكون .
وهل تملك غير ذلك ؟ إنه سبحانه
الذي وهبها خاصية الإحراق ، وهو
الذي يمنعها إياها متى أراد " قلنا
يا نار كوني برداً وسلاماً على
إبراهيم ، وأرادوا به كيداً
فجعلناهم الأخسرين "
انتصر إبراهيم في الدنيا وكان
في صف الأنبياء الأوائل في
الآخرة وصلى الله عليه إلى يوم
القيامة ، وأمرنا بالصلاة على
نبينا كما صلى الله من قبل على
أبيه إبراهيم .. اللهم رب إبراهيم
ومحمد اغفر لنا ذنوبنا ، واستر
علينا عيوبنا ، واختم بالصالحات
أعمالنا ... اللهم آمين ، يا رب
العالمين . ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |