ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الطريق
إلى السلام من منظور إسلامي بقلم
يسري عبد الغني عبد الله* إن الطريق إلى السلام
في المنظور الإسلامي ليس طريقاً
مفروشاً بالرياحين والورود ،
ولكنه طريق طويل وشاق ، فضلاً عن
أنه يمر عبر الكثير من
الامتحانات والابتلاءات ،
فالإنسان في هذه الدنيا ،
ووفقاً لسنة الحياة ، يبتلى
بالخير ، كما يبتلى بالشر أيضاً
. وكما يقول القرآن
المجيد : {كل نفس ذائقة الموت
ونبلوكم بالشر والخير فتنة ،
وإلينا ترجعون } . و (نبلوكم) أي نختبركم
، و (فتنة) أي ابتلاء ، والمعنى :
كل نفس ذائقة الموت أي كتب عليها
الموت ، ونبلوكم بتسليط البلايا
عليكم ، أو نغمركم بالنعم ،
اختباراً لقواكم المعنوية ،
وتربية لصفاتكم النفسية ، وفي
نهاية الأمر يكون المرجع إلى
الله تعالى . فعلى المؤمن الحق أن
يتحلى بالصبر ، والقيام ببذل
الجهد الصادق حتى يستطيع أن
يواجه هذه الابتلاءات ، وعندئذ
يزداد قوة ، ويصبح أكثر صلابة ،
وبالتالي يكون قادراً على تحمل
تبعات السلام . والله جل جلاله قد
خلق الخلق على أفضل وجوه النظام
والإبداع ، وفي داخل هذا الخلق
يتمتع الإنسان بمكانة مرموقة ،
ومنزلة عالية ، فالإنسان وحده
بين المخلوقات كافة هو الذي
يستطيع أن يقرر لنفسه وبمحض
اختياره وحريته قبول أمر من
الأمور أو رفضه ، وذلك على عكس
بقية المخلوقات التي لا حرية
لها ولا اختيار . فإذا قبل الإنسان هذه
المكانة العظيمة التي أرادها
الله له ، فإنه بذلك يعلن
استعداده لحمل الأمانة ،
وممارسة الواجبات والحقوق
المتصلة بذلك ، وعلى هذا النحو
يحقق الإنسان إنسانيته ، وفي
الوقت ذاته يحقق خلافته لله في
الأرض ، أما الرافضون لقبول هذه
المنزلة الرفيعة فإنهم
يتنازلون عن إنسانيتهم ،
وينحدرون إلى درجة أدنى من
مرتبة الحيوانات التي لا تعقل
ولا تعي ، والتي لا حرية لها ولا
اختيار . إن الحرية الإنسانية
تنمو وتترعرع عن طريق تحمل
المسئولية ، وممارسة العمل
المسئول ، وتقل أو تضل عن طريق
التخلي عن المسئولية ، وممارسة
العمل أللا مسئول الخالي من
الضمير والمصداقية . الحرية لا تعني أن
نحيا بطريقة عشوائية ، لأن مثل
هذه الحرية العشوائية ليست إلا
عبثاً لا معنى له وقيمة ،
والإنسان بفضل حريته يستطيع أن
يصل إلى أعلى المنازل والمدارك
، عن طريق قراراته التي يحتكم
فيها إلى العقل والضمير
الأخلاقي ومراقبة الله تعالى
دائماً الذي يرانا ، أما إذا سلك
الطريق الخاطئ فإنه ينحدر إلى
هوة سحيقة لا مكان فيها للسلام . وحتى يتجه الإنسان
إلى الطريق الصحيح السليم الذي
يوصله إلى السلام بالمعنى
الشامل ، يوجه القرآن الكريم
نظره إلى الإقبال بكل ذاته على
الدين الذي خلقه الله من أجل
خيرية الإنسان ، انسجاماً مع
طبيعته . يقول الله تعالى : {فأقم
وجهك للدين حنيفا ، فطرة الله
الذي فطر الناس عليها ، لا تبديل
لخلق الله ، ذلك الدين القيم ،
ولكن أكثر الناس لا يعلمون }. و (فأقم
وجهك للدين) أي فقومه له غير
ملتفت عنه ، و (حنيفا) أي مائلاً
عن العقائد الزائفة ، فعله : حنف
يحنف حنفاً ، و (فطره) أي خلقه ،
يقال : فطره الله يفطره ، فطراً
أي خلقاً . والمعنى : فقوم وجهك
للدين مائلاً عن العقائد
الزائفة ، وهذه هي خلقة الله
التي خلق الناس عليها ، بحيث لو
تركوا وشأنهم لاهتدوا إليها
بدون إشارة ، وهذه الفطرة هي دين
الإسلام ، لا تبديل لخلق الله ،
فهذا الدين الفطري (أي الإسلام)
الذي تهتدي النفس إليه بلا تعلم
، وهو الدين القيم ، ولكن أكثر
الناس لا يعرفون ذلك . ومن الدين الحق أن
يعتبر الإنسان نفسه جزءاً من
الخلق الذي خلقه الله ،
والعقيدة الصحيحة تتمثل في
الإيمان بإله واحد لكل الخلق ،
فالخلق كله من الله ، واستمرار
وجوده مرهون بقدرة الله ومشيئته
. وقد جعل الله الناس
مختلفين ليتعرف بعضهم على بعض
من أجل واقع أفضل وأحسن لدنياهم
، وهذا التعرف إذا كان جاداً
ومخلصاً ، فإنه يؤكد المساواة ،
الأمر الذي يحفز الإنسان على أن
يكون عادلاً ومنصفاً ومتسامحاً
مع غيره من الناس ، محباً لهم
مثلما يحب نفسه ، أي يحب لأخيه
ما يحب لنفسه ، وهنا يمتلئ قلبه
بالحب والخير والسلام ، ويكون
قادراً على أن ينشر السلام في كل
من حوله ، وما حوله . ومن فضل الله تعالى
على عباده أنه غمرهم بفضله
فأضاف إلى عدالته رحمته التي
وسعت كل شيء ، لما يعلمه سبحانه
من ضعفهم البشري ، فهو بعباده
رءوف رحيم ، كما أنه لا يظلم
أحداً . جاء في الحديث القدسي
: "يا عبادي إني حرمت الظلم
على نفسي ، وجعلته بينكم
محرماً، فلا تظالموا ." فالسلام لا يقوم إلا
على أساس من العدل ، ومن هنا حرم
الله الظلم على نفسه ، وعلى
الناس جميعاً . والمفهوم الإسلامي
للعدالة لا يمكن حصره في دائرة
الشكل القانوني الذي نعرفه ،
فالعدالة في الإسلام تدع
للآخرين في الوقت نفسه الطريق
إلى السلام مفتوحاً عن طريق
الرحمة ، وهذا يعني أن الإنسان
تحت ظروف معينة ينبغي أن يعطي
لعدوه فرصة السلام ، شريطة أن
يكون هذا العدو على استعداد
كامل وتام للسلام . ومن هنا يقول الحق جل
علاه : {وإن جنحوا للسلم فاجنح
لها وتوكل على الله ، إنه هو
السميع العليم } . و (إن جنحوا) أي وإن
مالوا إلى السلام ، يقال : جنح له
وإليه ، يجنح جنوحاً أي مال إليه
. والمعنى : وإن مال
العدو إلى السلام ، فمل له مثله
، وتوكل على الله تعالى الذي
يسمع كل شيء ، ويعلم بكل شيء . أما إذا لم يبد العدو
رغبتة صادقة في السلام ، أصبح
الجهاد ضرورة للدفاع عن الأرض
والأنفس والأموال والأعراض ،
فإن الإسلام يعطي للمسلمين الحق
في قتال الأعداء بشرط ألا
يتجاوز المسلمون الدفاع إلى
العدوان ، والطريق إلى السلام
لا يسمح إلا بالفعل الأخلاقي
قال تعالى : {وقاتلوا في سبيل
الله الذين يقاتلونكم ، ولا
تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين
} . والمعنى : وقاتلوا من
قاتلكم من الأعداء ، ولا تعتدوا
عليهم إن الله لا يحب المعتدين . ومن هنا فإن الرسول (صلى
الله عليه وسلم ) كان يذكر
المجاهدين وكذلك الخلفاء
الراشدين (رضي الله عنهم) قبل كل
معركة بتقوى الله ، ويحرم عليهم
التمثيل بالقتلى ، كما يحرم
عليهم إساءة معاملة الأسرى ، أو
قتل غير المحاربين من الشيوخ
والنساء والأطفال ، وعدم قطع
الأشجار المثمرة ، أو تسميم أو
تلويث آبار المياه . وقد روى أنس بن مالك
أن رسول الله (صلى الله عليه
وسلم ) قال : "انطلقوا باسم
الله ، وبالله ، وعلى ملة رسول
الله ، ولا تقتلوا شيخاً فانيا ،
ولا طفلاً صغيراً ، ولا امرأة ،
ولا تغلوا ، وضموا غنائمكم ،
وأصلحوا ، وأحسنوا ، إن الله يحب
المحسنين " وهكذا حرم الإسلام
على الجيوش الإسلامية ، كل شكل
من أشكال الأمور غير الإنسانية
، ولكن الحرب الدفاعية ضد العدو
ليست هي نهاية الحرب ، فالهدف
الأسمى للمسلمين هو محاربة
العداوة في قلوب الأعداء ، ومن
هنا لا يجوز للمسلمين أن يفقدوا
الأمل في ذلك لأن الأمل هو ملاذ
السلام . يقول تعالى : {لقد كان
لكم فيهم أسوة حسنة ، لمن كان
يرجو الله واليوم الآخر ، ومن
يتول فإن الله هو الغني الحميد .
عسى الله أن يجعل بينكم وبين
الذين عاديتم منهم مودة ، والله
قدير ، والله غفور رحيم } . و (من يتول) أي ومن
يعرض ، و (الحميد) المحمود ، و (عسى)
فعل جامد معناه يتوقع ويرجى . والمعنى : لقد كان لكم
فيهم قدوة حسنة لمن كان يرجو
الله واليوم الآخر ، ومن يعرض عن
الحق فإن الله هو الغني المحمود
، لعل الله يجعل بينكم وبين
الذين عاديتم من الأعداء مودة ،
والله قادر على كل شيء ، وهو
الغفور الرحيم . لقد أوصى الإسلام
المسلمين بالتسامح إزاء كل
الناس بغض النظر عن أعراقهم
وأديانهم ومذاهبهم طالما أن
هؤلاء لم يعتدوا على المسلمين . وهذا ما تعبر عنه
الآية الكريمة : {لا ينهاكم الله
عن الذين لم يقتلوكم في الدين ،
ولم يخرجوكم من دياركم ، أن
تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله
يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله
عن الذين قاتلوكم في الدين ، و
أخرجوكم من دياركم ، وظاهروا
على إخراجكم ، أن تولوهم ومن
يتولهم فأولئك هم الظالمون .} و (أن تبروهم) أي أن
تحسنوا إليهم ، والبر هو
المبالغة في الإحسان ، يقال :
بره يبره براً أي أحسن إليه
وبالغ ـ و (تقسطوا) أي تعدلوا ،
يقال : أقسط يقسط ، وقسط يقسط ،
ويقسط قسطاً أي عدل و (ظاهروا) أي
وعاونوا ، عاونوا أعداءكم ، و (أن
تولوهم) أي أن تتولوهم ، أي
تتخذوهم أولياء . الآيات السابقة تجيب
عن سؤالين هما : أي صنف من
الأعداء تجب مقاطعته ؟ ، وأي صنف
تباح معاملته ومعاشرته ، بل
والبر به والإحسان إليه ؟ ، وقد
راعى المسلمون هذه النصائح
الذهبية فلم يتدنس تاريخهم بمثل
المذابح أللا إنسانية التي حدثت
في أوربا باسم الدين ، فالله لا
ينهى المسلمون عن الأعداء الذين
لم يقاتلوهم بسبب الدين ، أو
حملوهم على الهجرة من أوطانهم ،
إنه سبحانه وتعالى يطلب من
المسلمين أن يحسنوا إلى هؤلاء ،
وأن يعدلوا معهم ، إنما ينهى
الله المسلمين عن مودة الأعداء
الذين قاتلوهم وعادوهم
وأخرجوهم من ديارهم وأوطانهم ،
وأعانوا غيرهم على إخراجهم ،
فيطلب منهم ألا يتخذوا من هؤلاء
أولياء . نقول : إذا توقف هؤلاء
الأعداء عن ظلم المسلمين ،
فينبغي أن نكون مستعدين للتجاوب
مع إرادة السلام العادل ، ومن
يرد السلام فإنه يتحتم عليه أن
يبعد عن كل لون من ألوان التعصب
، لأن التعصب يدمر السلام ،
ويؤدي إلى أعمال غير إنسانية . الإسلام كدين سماوي
يعلمنا أن الأرض قد خلقت لكل
الناس على السواء بصرف النظر عن
جنسياتهم أو أعراقهم أو ألوانهم
أو أديانهم أو عقائدهم ، ونعمة
الخلق أنعم الله بها على
العالمين أي على كل الناس ، لكي
يتمتعوا بها سوياً ويقدرونها حق
قدرها ، ويهتموا ويعتنوا بها ،
وبذلك يحققون ذواتهم بوصفهم
أشخاصاً بشرية والناس جميعاً
لهم الحق في ذلك دون أدنى
استثناء . أما من يرد أن يمنع
فئة من الناس من ممارسة وتطوير
حياتهم من أجل واقع أفضل لهم
ولذويهم ، فإنه بذلك يمنع نفسه
أيضاً من الارتقاء بذاته . الإسلام يدعو في
تعاليمه السمحاء إلى حقوق
الإنسان ، كما يدعو في نفس الآن
إلى ضرورة ممارسة الواجبات ،
وهذا يعني ممارسة الحرية
الإنسانية ، فالإنسان مطالب أن
ينمو كإنسان ، وأن يمارس
إنسانيته على أكمل وجه ، وبذلك
يتخذ السلام طريقاً . نؤكد على أن الدين
وحده هو الذي يهيئ للإنسان
الطريق إلى ذلك ، أما إذا أراد
المرء ألا ينظر إلى ما هو أبعد
من موطئ أقدامه ، وألا يرتقي
ويتسامى بفكره وعمله ، فإنه يسد
بنفسه الطريق إلى السلام إذ
يصبح سجيناً لماديات هذا العالم
. ولكن الإسلام يعلم
الإنسان كيف يكون حراً حرية
حقيقية ، منطلقها (أنا حر ما لم
أضر) ، كما يعلمه كيف يطور
قدراته الإبداعية ، وهذا لن
يتحقق إلا عندما يشعر الإنسان
بالسلام الداخلي في أعماق نفسه . الإسلام دين يدعو في
صراحة ووضوح إلى السلام العادل
في العالم أجمع ، كما يدعو إلى
ضرورة أن نجند كل إمكانياتنا
وطاقاتنا من أجل تحقيق هدف
السلام . بالإضافة إلى ذلك فإن
الإسلام نفسه يعد الطريق
المستقيم إلى السلام الحق ،
والمسلمون جميعاً انطلاقاً من
هدي دينهم ، يريدون السلام ،
والعالم الإسلامي كله يرى جذور
حضارته في الإسلام الداعي إلى
السلام ، تلك الحضارة التي سادت
في العالم قروناً عديدة ، و كانت
من أطول الحضارات عمراً في
التاريخ الإنساني ، وكانت
حافزاً قوياً للغرب في بناء
حضارته الحديثة . حضارة الإسلام
أساسها السلام والتسامح
والإنسانية واحترام الآخر ،
حضارة الإسلام لا تعرف التصادم
أو الصراع مع الحضارات الأخرى ،
بل تعترف بالتنوع و التعددية
الثقافية والفكرية ، حضارة تأخذ
وتعطي من أجل خيرية الإنسان في
كل مكان وزمان . لقد خبر عالمنا
الكثير من الأيديولوجيات التي
وعدت (ومازال بعضها يعد )
بالسلام العادل ، ولم تستطع أن
تفي بوعودها البراقة ، بل
انهارت وانهارت معها أحلامها
الوردية التي طالما داعبت قلوب
الناس وعقولهم . السلام الذي يعطيه
الإسلام للمؤمنين به يعد قوة
حيوية فاعلة متدفقة ، قوة تستمد
قوتها وحيويتها من الله تعالى
مانح السلام ، ومن أجل ذلك لا
يمكن ـ بأي حال من الأحوال رغم
كل الظروف والضغوط والملابسات ـ
أن يتسرب اليأس أو الإحباط إلى
قلوب المؤمنين بسبب ما يلاحظونه
من انتشار الظلم على نطاق واسع
في عالمنا ، فلا ييأس من روح
الله إلا ضعيف الإيمان ، أو من
يجحد فضل الله وقدرته . فالعالم الذي نعيش
فيه لا يخضع لإرادة عشوائية (كما
يذهب البعض ) ، فقد خلقه الله على
أفضل وجوه النظام والإبداع ،
وعليه فإننا إذا أردنا أن نسلك
طريق السلام فإننا نسهم بذلك في
استعادة النظام الأصلي للخلق ،
وبهذا الاعتبار يكون نظام
العالم وسلامته في أيدينا بوصفه
أمانة كبرى في أيدينا ،
ومسئولية جليلة في أعناقنا . فالله جل علاه قد
خلقنا في هذا الكون الرحيب من
أجل أن ننميه ونعمره ، من أجل أن
ننشر فيه مبادئ : السلام والمحبة
والخير والحق والعدل والجمال ،
حتى ينعم كل البشر فيه بالسلام
العادل ، والله هو الذي أنشأنا
من الأرض ، وهو الذي استعمرنا
فيها من أجل أن ننميها ونبث فيها
الخيرية والأمان . لقد طلب الله منا
عمارة الأرض ، لا تخريبها
وتدميرها ، والتعمير أو حضارة
العمران تتطلب السلام ، أما
التخريب فإنه صنو الحرب والدمار
. والمطلوب الآن من
الأسرة الإنسانية الكبيرة أن
تبذل كل ما في وسعها في سبيل
التغلب على كل الأخطار التي
تتهددها ، وأن تعمل بصدق وإخلاص
وإيجابية وشفافية وفاعلية من
أجل سلام العالم أجمع . أما الأديان فإن لها
دوراً كبيراً في صنع السلام ،
لأن السلام من وجهة النظر
الدينية يعني أساساً صلة قوية
وسليمة بالله سبحانه وتعالى ،
هذه الصلة الوثيقة بالله تنبثق
منها كل الصلات الأخرى . وهكذا يتضح لنا جلياً
أننا عندما نحاول أن نسهم بنصيب
في صنع السلام في عالمنا ، فإننا
بذلك نسهم في الواقع في إقامة
نظام عالمي جديد سمته الرئيسية
العدل والمساواة ، والعكس صحيح
كما يقولون . والمشكلة المحورية
في المجتمع العالمي الراهن
تتمثل في كيفية ممارسة القوة
دون عنف ، نظراً لأن أي عنف
سيرتد علينا جميعاً ، من حيث
أننا كلنا نجلس في سفينة واحدة ،
وبالتالي فإن أي عنف أو إرهاب
مهما كان سوف ينعكس علينا بشكل
أو بآخر ، إن أجلاً أو عاجلاً . ولقد لفت الرسول محمد
(صلى الله عليه وسلم) نظرنا إلى
ضرورة أن تطور الإنسانية
أسلوبها للتضامن والتعاون ، إذا
أرادت ألا تكون عرضة للهلاك
والدمار . يقول الرسول الكريم :
"مثل القائم على حدود الله
والواقع فيها كمثل قوم استهموا
على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها
وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في
أسفلها إذا استقوا من الماء
مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو
أن خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم
نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما
أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن
أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا
جميعاً " . ولعل هذا الخرق في
السفينة الذي ورد في هذا الحديث
الشريف ، يذكرنا بثقب الأوزون
الذي يهدد عالمنا الذي نحيا فيه
، فضلاً عن أن المقارنة
بالسفينة في الحديث تذكرنا
أيضاً بأننا بالفعل محمولون على
الأرض ، كما لو كنا في سفينة عبر
الفضاء الخارجي . وهكذا يتبين لنا أنه
من خلال العمل التضامني المشترك
الصادق يمكن إنقاذ العالم ،
فالفرقة والتنازع والتشتت
أسباب أساسية للفشل ، وصدق الله
تعالى إذ يقول : {ولا تنازعوا
فتفشلوا ، وتذهب ريحكم } والأمر يتعلق
بالبشرية جمعاء ، وليس بفئة
محددة من الناس ، فكل فرد من
أفراد الإنسانية يعد عنصراً
مهماً بالنسبة للإنسانية كلها ،
ومن أجل ذلك يقول القرآن الكريم
: {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد
في الأرض فكأنما قتل الناس
جميعاً } . وهذا يعني أن مرتكب
هذا الجرم قد محا الإنسانية
تماماً من نفسه ، ودمرها في
داخله ، وعلى العكس من ذلك فإن
من يقدم الخير والمعروف لفرد
واحد من أفراد الإنسانية فكأنه
قدم الخير للإنسانية جميعها . ومن هنا يقول القرآن
الكريم مكملاً الآية السابقة : {ومن
أحياها فكأنما أحيا الناس
جميعاً } . فإذا أدركنا على هذا
النحو القيمة المتفردة لكل حياة
إنسانية ، فإننا نكون قد اتخذنا
الموقف الذي يدعم ويؤكد السلام
بين البشر ، ذلك لأننا ندرك
حينئذ أن الآخر مهم بالنسبة لنا
تماماً مثل أنفسنا . والله سبحانه بجعله
لنا أحراراً , قد منحنا
المسئولية بالنسبة لنا ،
وبالتالي المسئولية عن الآخرين
، وعن عالمنا المعاش ، لأننا
كلنا وبنفس القدر جزء من الخلق
الواحد . والله الكريم الرحيم
لم يحملنا شيئاً فوق طاقتنا ، بل
أنه يطلب من الإنسان أن يكون
إنساناً فحسب ، لا يريده ملكاً
متوجاً ، ولا يريده في نفس الوقت
أن يكون في أسفل دركات البهيمية
، وتحقيق هذه الإنسانية يعني أن
يعمل الإنسان ما يتفق مع
الكرامة الإنسانية ، وفي رأينا :
إن هذا يعني الكثير ، إنه يعني
من بين ما يعني ، على سبيل
المثال ، أن يكون هناك تطابق بين
القول والفعل لدى الإنسان ،
فإذا أعطى وعداً لزمه الوفاء به
دون أدنى إهمال أو تسويف أو تراخ
. وهكذا يتحتم على
المسلمين الوفاء بما قطعوه على
أنفسهم من عهود ومواثيق في كل
الأحوال ، حتى مع غير المسلمين ،
فالعدالة لا تتجزأ فإذا طلبت
فئة مسلمة منا أن نساعدها في
حربها المشروعة ضد أعدائها
فعلينا أن نستجيب لندائها ،
ونهب لمساندتها ، قدر طاقتنا
وإمكانياتنا وظروفنا ، والله لا
يكلف نفساً إلا وسعها . لكن القرآن الكريم
يستثني هنا حالة معينة تحول
بيننا وبين الاستجابة لتلبية
هذا النداء من هذه الفئة
المسلمة ، وذلك في حالة ما إذا
كان بيننا وبين هؤلاء الأعداء
عهد أو ميثاق أو اتفاق ، إننا في
هذه الحالة مطالبون بالوفاء
والالتزام بما قطعناه على
أنفسنا . وفي ذلك يقول المولى
عز وجل : { ... وإن استنصروكم في
الدين فعليكم النصر إلا على قوم
بينكم وبينهم ميثاق ، والله بما
تعملون بصير } . وبصفة عامة تتمثل
الإنسانية التي يطلبها الإسلام
من بني الإنسان في احترام كل فرد
للآخر ، احترام حريته وكرامته
وحقوقه ، وفي هذا الصدد ورد أن
رسول الله محمد (صلى الله عليه
وسلم) مرت به جنازة ، فقام ، فقيل
له إنها جنازة يهودي ، فقال :
أليست نفساً ؟ ! . والإسلام لا يقلل على
الإطلاق من قيمة أي عمل سلمي ،
حتى ولو كان أقل القليل ، إذ فيه
امتداح للخلق الطيب واستجابة له
، ومن أجل ذلك يقول الهادي
البشير (صلى الله عليه وسلم) :
"لا تحقرن من المعروف شيئاً ،
ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق " والوجه الطلق البشوش
في إخلاص وحب يكون تعبيراً عن
قلب متفتح للخير ، ومملوء
بالتسامح والسلام ، والبعد عن
الكبر والتعالي والإثم والبغي ،
وفي هذا المعنى يقول الرسول
محمد (صلى الله عليه وسلم) : "إن
الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا
يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد
على أحد " والله ولي التوفيق
،،، ــــــــــــ باحث
ومحاضر في الدراسات العربية
والإسلامية ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |