ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الرأسمالية
تترنح د.
يوسف القاسم ليست مفاجئة لنا نحن
المسلمين أن يترنح اقتصاد يقوم
على مبدأ الحرية المطلقة،
ويتغذى على الربا، ويستند على
السندات والديون، ويبيع ويشتري
بالهامش والبيع على المكشوف،
ويقامر حتى الثمالة. ولكنها مفاجئة
للعالم المتحضر الذي لا يؤمن
إلا بالقيم الرأسمالية، ولا
يمتثل إلا لأفكارها، ولا يحترم
إلا أبجدياتها وأدبياتها، كما
أنها مفاجئة وإحراج لكل من نحا
نحوهم، أو دار في فلكهم، أو سبح
بحمدهم، ولهذا أخذ هؤلاء
المسبحون بحمدهم يعتذرون عن
الهزة التي تعرض لها النظام
الرأسمالي الذي تتزعمه أمريكا
بأنها ليست بسبب النظام
الرأسمالي الذي يؤمن بالحرية
المطلقة، وإنما بسبب بعض
الممارسات الخاطئة بالسوق، في
الوقت الذي تنشر فيه جريدة
"الفاينانشيال تايمز" لأحد
كتابها عنواناً عريضاً في إحدى
صفحاتها قبل أيام: "باريس
تزدري الرأسمالية بهدوء..!!"
ثم جاء في مقدمة المقال:
"السياسيون الفرنسيون كانوا
طوال سنوات كثيرة يكيلون
الإزدراء للرأسمالية". أما المسلمون، فقد
تعلموا منذ أكثر من أربعة عشر
قرنا أنه لا توجد في السوق حرية
مطلقة، وأن الربا كبيرة من
الكبائر، وأنه لا يجر إلا
الدمار وخراب الديار والويلات،
ومحق المال والبركات محق الله
الربا، ويربي الصدقات}، بل
وتعلم ذلك قبلهم اليهود
والنصارى في كتبهم المنزلة من
السماء، كما أشار إليه الخالق
سبحانه في قوله: وأخذِهم الربا،
وقد نهوا عنه، وأكلِهم أموال
الناس بالباطل}، كما صرخ
علماؤنا المعاصرون بتحريم
الكثير من صور بيع الديون
المستجدة، وبيع الهامش، والبيع
على المكشوف، وصدرت بذلك
القرارات المجمعية والفتاوى
الفقهية منذ سنوات... وحيث إن أسواقهم لا
تدين إلا بالرأسمالية، ولا تؤمن
إلا بالنظم التي تقنن تحصيل
المال، فقد تنكب هذا الخلق
الضعيف طريق الحق، وخالفوا
تعاليم الخالق ألا يعلم من خلق
وهو اللطيف الخبير}؟، وتفننوا
في تشريع قوانين أرضية تناهض
قوانين السماء، فأصدروا
قانوناً يبيح الربا، ويقنن
الحصول عليه، وأسسوا مبادئ
"رأسمالية" تحترم رأس
المال، ولا تحترم الآدمي ذاته،
ولهذا جوزوا- مثلا- للشركات
الزراعية أن تتلف محاصيلها، وأن
تلقيها في المزابل، وتدفنها تحت
التراب، لتحافظ على حركة العرض
والطلب ولو تضور الفقراء
جوعا..!، بل ووضعوا تشريعات
تنحني للغني على حساب المسكين
وذي العيلة، وتسبح بحمد رجل
الأعمال ولو وضع الفقير بسببها
تحت الأشغال الشاقة، ولأن هذه
المبادئ والمثل الرأسمالية
من وضع البشر، وليست من وضع خالق
البشر، فقد تراجع دعاتها
وحماتها اليوم عما كان له صفة
القداسة بالأمس، حيث رفعوا منذ
سنوات عدة شعار حرية السوق،
وهاهم اليوم يمرغون هذه الحرية
بالطين لإنقاذ أسواقهم المالية
وشركاتهم الرأسمالية التي
تترنح تحت وقع الإفلاس، وهاهو
الكونجرس الأمريكي يصوت على
اقتراح الرئيس الأمريكي بضخ
مليار دولار لإنقاذ بعض شركاتهم
من الإفلاس، وبهذا يصبح التدخل
الحكومي للإنقاذ مسمارا آخر في
نعش الرأسمالية، ناهيك عما
قننوه بالأمس من أنظمة تسمح
بالبيع على المكشوف، ثم أوقفوه
اليوم حتى إشعار آخر، وذلك حين
اكتشفوا أثره السلبي والخطير
على أسواقهم وشركاتهم، وهلم
جرا. حكم الدّين في
الإسلام: الكراهة.. والجواز
للضرورة، مع الضوابط. ولو رجعنا إلى الوراء
أربعة عشر قرنا، لوجدنا أن
الإسلام قد قيد الحرية التي لا
ترعي بالاً للفقير والمسكين، أو
تلك التي تحترم الفرد على حساب
الكل، فحرم الربا، ومنع من
الإقراض بالفائدة؛ لما يؤديان
إليه من أثر سلبي وخطير على
الفقراء، وعلى الاقتصاد العام
ككل، والإسلام سمح بالدَين ولكن
في حدود الحاجة، وبضوابط شرعية
تمنع من وقوع أزمات، أو حدوث
انهيارات، تضر بأصحاب الأموال،
أو تلحق الضرر بالاقتصاد العام،
وها نحن نرى اليوم أزمة
الائتمان المفتوح في أمريكا،
وما خلفته من ضحايا في طول
العالم وعرضه، ثم توزيع هذه
الأزمة بالمجان على البنوك
والشركات والأفراد عبر السندات
سيئة الصيت، ولهذا نجد الشارع
الحكيم قد وضع للدين ضوابط
كثيرة، تكبح جماحه، وتسمح
بالاستفادة منه بالقدر الذي لا
يضر بالفرد والمجتمع، ولهذا
جاءت النصوص الشرعية ملمحة إلى
خطر الدين، حيث كان الرسول لى
الله عليه وسلم يكثر من
استعاذته من المغرم (وهو: الدين)، ومن ضلع
الدين (أي: ثقله) كما في حديث
البخاري: كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: اللهم إني أعوذ
بك من الهم والحزن والعجز
والكسل والجبن والبخل وضلع
الدين وغلبة الرجال"، وفي صحيح
البخاري أيضا
، عنه صلى
الله عليه وسلم
أنه كان يدعو في الصلاة، ويقول: اللهم إني
أعوذ بك من المأثم، والمغرم،
فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا
رسول الله من المغرم، فقال: إن
الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد
فأخلف"، وفي سنن النسائي، أنه
كان يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم
إني أعوذ بك من غلبة الدين،
وغلبة العدو، وشماتة
الأعداء"، واليوم نرى كيف
غلبت الديون شركات وبنوكا كبرى،
وأرغمتها على الإفلاس، ولفظ
الغلبة يلمح إلى إعجاز نبوي في
دقة العبارة، وما تحمله من
بُعد، ممن أوتي جوامع الكلم
صلى الله عليه وسلم . وكما ألمح هذا إلى
خطر الدين، فقد ألمح إليه أيضاً
عدم صلاة النبي صلى الله عليه
وسلم على من توفي وعليه دين، كما
جاء في صحيح البخاري: "أتي
رسول الله صلى
الله عليه وسلم
بجنازة، فقال: هل عليه دين؟
قالوا: نعم، قال: هل ترك شيئا؟
قالوا لا، قال: صلوا على صاحبكم!
قال أبو قتادة
رضى الله تعالى عنه : هو عليّ
يا رسول الله، فصلى عليه رسول
الله صلى
الله عليه وسلم "، بل ألمح إلى
خطره، فالدينمن الأشياء التي لا
تغفر للعبد مهما بلغ صلاحه،
ولهذا جاء في صحيح مسلم: يغفر
للشهيد كل ذنب إلا الدين"،
ولحرص الشارع على إطفاء أثر
الدين، وحسم نتائجه المرة على
الفرد والمجتمع، فقد تكفل
بتسديد دين المعسرين بيتُ مال
المسلمين، وهو ما يسمى اليوم
ب"وزارة المالية"؛ حفظاً
لأموال المسلمين من الضياع،
ولتجنيب أفراد المجتمع
ومؤسساته وشركاته من خطر
الإفلاس، كما جاء في الحديث
المتفق عليه: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل
المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل
ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه
ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم،
فلما فتح الله عليه الفتوح قال:
أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
فمن توفي عليه دين، فعلي
قضاؤه"وفي رواية للبخاري:
"فمن مات ولم يترك وفاء" ولتثقيف المسلم
بضرورة إعادة الدين إلى صاحبه،
فقد أمر الشارع بتحسين النية
عند اقتراض المال للحاجة، كما
جاء في صحيح البخاريمن أخذ
أموال الناس يريد أدائها أدى
الله عنه، ومن أخذها يريد
إتلافها أتلفه الله"، وهذا
فيه تحذير من تبييت المقترض
للنية السيئة، وإضمار عدم
السداد؛ وذلك محافظة على
الأموال، وصيانة لها من الأيدي
العابثة، وحرصاً على عدم تعريض
المجتمع إلى هزات عنيفة بسبب
الديون المتراكمة، ولهذا حرمت
الشريعة الإسلامية على الموسر
المماطلة في السداد، فقال عليه
الصلاة والسلام : مطل الغني
ظلم"، ولم يقف الإسلام عند
دعوة أفراده إلى السداد، بل
حثهم أولاً على تخصيص بند لقضاء
الدين كما جاء في صحيح البخاري
ومسلم، عنه
صلى الله عليه وسلم : لو كان لي مثل أحد
ذهبا ما يسرني أن لا يمر علي
ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء
أرصده لدين"، ثم حثهم ثانياً
على حسن القضاء، كما في صحيح
مسلم: إن خيار الناس أحسنهم
قضاء"، وذلك ليغرس في نفوس
أبناءه أهمية قضاء الدين،
وضرورة مكافأة المحسن بأحسن
منه؛ جزاء وفاقا. وكما أجاز الإسلام
الدين بضوابط شرعية
ومنها أن لا يكون الثمن
والمثمن مؤجلاً ، فقد أجاز
القرض الحسن؛ ليشيع في أبناءه
روح المحبة والتكافل، ولذا
حرَّم القرض بالفائدة؛ لأنه
ابتزاز للمحتاج الذي ألجأته
الضرورة أو الحاجة لاقتراض
المال، وبما أن النظام
الرأسمالي يسمح بنظام القرض
بالفائدة، لذا فقد أضر به ضرراً
بالغا في أسواقه المالية؛ حيث
تسببت هذه القروض الربوية
إلى جانب الديون منخفضة
الكفاءة في
أعنف زلزال عرفته باحة الشركات،
والبنوك الأمريكية. لقد نظم الإسلام
الحياة الاقتصادية بقانون من
الخالق جل
وعلا ، وذلك لينعم الخلق بحياة
اقتصادية آمنة، تحترم الغني
والفقير، وتراعي المصلحة
العامة والخاصة، وتحفظ للناس
حقوقهم، ولهذا فالشريعة: . أجازت البيع، وحرمت
الربا، والغرر، والتغرير،
والقمار. . وأذنت في التجارة،
ومنعت من الاحتكار، ومن بيع
البائع ما لا يملك، أو ما ليس في
حوزته، ومن ربح مالا يضمن؛
ليقتسم الجميع الربح والخسارة... ولو أخذت النظم
الحديثة بهذا القانون الإلهي
العادل، لم تحتج إلى تجربة
شيوعية، ولا رأسمالية، يثبت
فشلها مع مرور الأيام، وتتعرض
الأسواق بسببها للإنهيار،
والشركات للإفلاس والتقبيل،
ولكن كما قيل: ليس بعد الكفر
ذنب". ولكن الذنب علينا نحن
المسلمين: إن سرنا في ركابهم،
والذنب أكبر إن قام بعض فقهاء
المصارف والبنوك بإجراء عمليات
ترقيع على المنتجات البنكية؛
لتبدو بصورة إسلامية، وهي بروح
أجنبية.. تصيبنا عدوى الانهيار،
والإفلاس لا
سمح الله ... ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |