ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد  09/11/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


المدنية والدينية يلتقيان

د. رفيق حبيب

في المواجهة بين مشروع علمنة المنطقة العربية والإسلامية، وبين المشروع الحضاري الإسلامي، ظهر مصطلح المدنية، وبدلا من التبشير بالعلمانية، بدأ البعض التبشير بالمدنية بدلا منها، واتهام المشروع الحضاري الإسلامي، بأنه مشروع غير مدني.

ومن الواضح أن تلك العملية تنطوي على قدر من اللعب بالمصطلحات، خاصة مع نبذ عامة الناس لمصطلح العلمانية، وظهر من الخطابات المتقابلة بين العلمانيين والإسلاميين، أن كل منهما مقتنع بالمدنية كأساس لبناء الدولة والمجتمع، ولكن من الواضح أن كل منهما يتكلم عن أمر مختلف عن الآخر، حتى ظهر من يتهم الإسلاميين بأنهم أنصار الدولة الدينية، وأنهم بالتالي ضد الدولة المدنية. ثم ظهرت مواقف تفرق بين الإسلامي المعتدل وهو من يوافق على الدولة المدنية، والإسلامي المحافظ والذي يطالب بالدولة الدينية.

 

أقنعة زائفة

وهكذا أصبحت المعركة تدور حول مدنية الدولة، وهي في الحقيقة تدور حول الدولة العلمانية، ولذا بات من المهم التفرقة بين تلك المصطلحات وتحديد معناها، حتى لا تبقى ككلمات تخفي معانيها، وتلبس المعركة والمواجهة بين المشروع العلماني والمشروع الإسلامي أقنعة زائفة، أو مبهمة وغامضة.

فالغموض أحيانا يكون وسيلة ومن وسائل المعركة، والهدف منه اختلاط المفاهيم وتمرير معان سلبية عن طرف ما، حتى تختلط صورته لدى عامة الناس، مما يمكن من حصاره أو ضربه دون وجه حق. وهذا ما حدث، عندما تمادى الخطاب العلماني، بعيدا عن إعلان علمانيته، وأصبح يصف نفسه بالمدنية، ويصف خصومه في الحركات الإسلامية، بأصحاب المشروع الديني غير المدني.

وقد تجاوز الأمر هذا الحد، حتى بتنا نرى مواجهة بين المنتمين للمشروع الحضاري الإسلامي، وفيها نجد بعض الأطراف تحاول وصف مشروعها الإسلامي بالمدني، وتنفي صفة المدنية عن المشاريع الإسلامية الأخرى. وبهذا يكون بعض المنتمين للمشروع الإسلامي يؤيدون الدولة المدنية وبعضهم يؤيد الدولة الدينية. وكل من يؤيد الدولة الدينية، يتم اتهامه بأنه يحمل مشروعا ضد مصالح الوطن.

وهكذا توسعت المعركة لتضم حالة التنافس بين الحركات والرموز الإسلامية، لتصبح بذلك معركة متعددة الأطراف، يحاول كل طرف الفوز بصفة المدنية لمشروعه السياسي، وكأن تلك الصفة أصبحت باب المرور إلى الحياة السياسية في بلادنا، أو أنها أصبحت وسيلة للحصول على رضا النخب السياسية، أو أنها أصبحت باب المرور للحصول على قدر من الرضا الغربي أو الدولي، عن الحركة الإسلامية. وتلك العوامل جعلت المفاهيم غير واضحة، لأن كل  طرف يريد تحديد المفاهيم بالطريقة التي تخدم تصوراته، ليصبح وصف المدنية مصطلحا يدور حوله تنافس ومواجهة، وكأن حسم المعركة حول هذا المصطلح سوف تنهي المواجهة بين العلمانية والإسلامية، أو أنها سوف تنهي التنافس بين الحركات الإسلامية، والذي يشمل بعضه محاولة إزاحة مشروع لصالح آخر، أو إزاحة حركة لصالح أخرى.

 

معايير المدني والعلماني

لذلك سنحاول تحديد بعض المحاور، والتي تمثل معايير للتصنيف، والتي يمكن من خلالها تحديد توجهات الخطابات المختلفة، واكتشاف التوجهات التي تمثلها، وبيان الفروق بين تلك الخطابات. هي إذن محاولة للتصنيف، كما أنها محاولة لضبط المصطلحات وتحديد المعاني، لتجنب الغموض والالتباس، وأيضا تجنب التدليس.

 

في الدولة المدنية

1.   تمثل فكرة السلطة الدينية واحدة من القضايا التي تعتبر ضد الطبيعة المدنية للدولة، والسلطة الدينية هي الحكم بالحق الإلهي، أي أنها سلطة سياسية مطلقة، تدعي فئة ما أنها تمتلك الحق في ممارستها، وتفرض إرادتها على الأمة، وهذه السلطة هي سلطة مستبدة، وفي كل المشاريع هناك احتمال قيام سلطة مستبدة، وبالتالي تكون السلطة المستبدة في المشروع الإسلامي، مثلها مثل السلطة المستبدة في المشروع العلماني، فكلاهما نوع من الحكم المطلق الذي لا يخضع لإرادة الأمة. والسلطة المطلقة تلغي الطابع المدني للدولة، لأنها بالضرورة سوف تحوله إلى الطابع العسكري الأمني، حتى تحمي نفسها، وتفرض سلطتها على الناس.

 

2.   وكل نظام سياسي لم يقم من خلال إرادة الناس، وكل دستور لم يوضع من خلال ممثلي الأمة المنتخبين بحرية ونزاهة كاملة، وكل شكل من أشكال الوصايا التي تفرض على الناس، وكل محاولة للتحكم في اختيارات الناس السياسية، كلها تمثل شكلا من أشكال السلطة الدينية، سواء كانت نابعة من مرجعية دينية أو من مرجعية علمانية.

 

3.   لهذا تصبح الدولة المدنية، هي الدولة التي يقوم فيها النظام السياسي على الإرادة الحرة للناس، والتي ينتخب فيها ممثلو الأمة بحرية ونزاهة، والتي تختار فيها الأمة حاكمها. وهي بهذا الدولة التي لا تلجأ للقوة لفرض إرادتها، ولا تقوم على القوى الأمنية، ولا تستند إلى القوة العسكرية. ونقصد من هذا، أن كل دولة تقوم على الحكم المطلق المفروض على الناس، هي دولة مستبدة وهي أيضا دولة عسكرية. وبهذا تكون المقابلة بين الدولة المدنية والدولة المستبدة، أو الدولة العسكرية.

 

في مرجعية النظام السياسي

1.   كل نظام سياسي له مرجعية يستند عليها، وهذه المرجعية تمثل الغايات العليا والقيم التي يعمل النظام من خلالها. ولا توجد غايات مدنية وأخرى غير مدنية، أو قيم مدنية وأخرى غير مدنية، ومعنى هذا أن مرجعية النظام لا تحدد مدنيته من عدمها، ولكن تحدد قيمه التي يستند إليها.

 

2.   لكل نظام سياسي قواعد يعمل على أساسها، وهي قواعد الوصول للسلطة. وفي هذه القواعد يوجد طريقان، طريق الوصول للسلطة من خلال الإرادة الحرة للأمة، وطريق الوصول للسلطة بالقوة. والطريق الأول هو طريق الدولة المدنية التي تنبع من المجتمع، والطريق الثاني هو طريق دولة الحكم بالحق المطلق، وهي الدولة المستبدة أو العسكرية. وأي نظام سياسي يتبنى مرجعية معينة، يمكن أن يسلك أي طريق من طرق الوصول للسلطة.

 

في طبيعة المجال العام

1.   يفترض أن يتشكل المجال العام تبعا لهوية المجتمع، فتنعكس هذه الهوية الثقافية والحضارية على كل الأنظمة العامة التي على أساسها يبنى المجال العام. ولهذا يفترض أن يكون المجال العام علمانيا أي دنيويا بالكامل، عندما يغلب على المجتمع الهوية العلمانية أي الدنيوية الخالصة. ويفترض في المقابل أن يكون المجال العام دينيا، عندما يغلب على المجتمع الهوية الدينية.

 

2.   عندما يختلف المجال العام في سماته الأساسية عن المجتمع، بأن يكون المجال العام علمانيا وهوية المجتمع دينية أو العكس، عندئذ يكون المجال العام مفروضا على المجتمع وغير معبر عنه، وهنا نكون بصدد نظام يقوم على الحكم بالحق المطلق، أي نظام مستبد وسلطوي وغير مدني، وغالبا ما يكون عسكري وأمني الطابع.

 

في دور المؤسسة الدينية

1.   في كل رؤية أو فلسفة أو مذهب، بشري أو سماوي، هناك علماء ودعاة. وهؤلاء هم الذين يضعون أسس التصور الأساسية لهذا المذهب أو ذاك، وهم الذين يدعون له بين الناس، وفي الدعوة لأي مذهب، سماوي أو بشري، يكون المجتمع مدعوا لتلقي هذا المذهب، ومن ثم الإيمان به أو رفضه. ووظيفة العلماء والدعاة، هي دعوة الناس، وبهذا يكون لهم دور التأسيس الفكري والثقافي، وتحديد المفاهيم والمعاني.

 

2.   في أي مذهب تتم الدعوة له، يفترض أن يلقى من الناس قبولا أو رفضا، فإذا تحقق له القبول أصبح مذهب المجتمع، وإذا تحقق له الرفض أصبح مذهبا مرفوضا من المجتمع، فإذا قبل هذا المذهب من المجتمع، أصبح يمثل هويته، وبالتالي يفترض أن ينعكس هذا على النظام العام، وعلى النظام السياسي والدولة، بحيث يكون مذهب المجتمع، هو مذهب النظام السياسي والدولة.

 

3.   عندما تتم الدعوة لمذهب معين ولا يجد ذلك صدى لدى الناس، ومع هذا يفرض هذا المذهب على المجتمع، ويؤسس عليه النظام العام والنظام السياسي ويصبح مذهبا للدولة، نكون بصدد دولة مستبدة تحكم بالحق المطلق.

 

4.   المؤسسة الدينية مثل غيرها من المؤسسات الثقافية، تقوم بنشر الدعوة الدينية كما تقوم بتحديد أصول الدين، وكل ما تنشره المؤسسة الدينية بين الناس من أفكار، يكتسب شرعيته في النهاية من قناعة الناس به، فيصبح الفكر الديني الغالب بين الناس، وبهذا يصبح هوية المجتمع، والتي يلزم التعبير عنها في النظام العام.

 

5.   كل مؤسسة دينية تكتسب سلطة من تحالفها مع النظام السياسي، وتستخدم هذه السلطة لفرض رؤيتها على الناس، تصبح جزءا من نظام مستبد يقوم على امتلاك الحقيقة وفرضها على الناس، وبهذا تكون المؤسسة الدينية قد أصبحت جزءا من نظام مستبد يحكم بالحق الإلهي المطلق.

 

6.   بهذا يكون دور رجال الدعوة وعلماء الدين، هو التبشير برؤيتهم بين الناس، دون فرضها عليهم، وهذا ما يحقق مدنية المجال العام ومن ثم مدنية الدولة، عندما يكون حق الاختيار الأخير للرؤى والأفكار، هو حق المجتمع، فالرؤية الدينية التي تسود في المجتمع، تكون هي الرؤية الصحيحة، والتي تصبح ملزمة للنظام السياسي والدولة.

 

مدنية الحياة

1.   التوازن بين مجالات الحياة أمر مهم، حتى لا يقوم مجال بوظيفة مجال آخر، والمجال الديني هو مصدر للقيم والمبادئ والقواعد العامة، ولكنه ليس مصدرا للمهارات الفنية والمعارف الجزئية والسياسات الفرعية. نقصد من هذا أن سيادة القيم الدينية في مجتمع ما، يجعلها تمثل الغايات العليا للمجتمع، ولكن طرق الوصول لتلك الغايات هي شأن من شئون الدنيا، فإذا جار رجال الدين مثلا على مختلف المجالات، وتجاوزوا ثوابت الدين، في محاولة لفرض رؤيتهم في الفروع على أصحاب التخصص، كان هذا نوعا من أنواع الوصاية الدينية، والتي تخلق نوعا من السلطة المستبدة، أو السلطة القائمة على الحق الإلهي المطلق.

 

2. لأن الرؤية الدينية نفسها لا تصبح محل إجماع إلا بإجماع الجماعة المؤمنة عليها -أي الأمة- لذا يصبح الناس أنفسهم هم محل تحقق القيم الدينية، ومن خلال عمل الناس طبقا للقيم الدينية التي آمنوا بها، تتحقق تلك القيم من خلال تصوراتهم الفنية والمتخصصة والعلمية، كل في مجال عملهم.

 

3. في النظام القائم على المرجعية الدينية، تكون هناك جوانب دينية وأخرى دنيوية، وهو ما لا يوجد في النظام العلماني؛ لأنه يقوم على سيادة مجال واحد فقط وهو الدنيوي، وتنحية المجال الديني، ولذا تصبح العلاقة بين الديني والدنيوي في النظم ذات المرجعية الدينية، مسألة محورية. وتلك العلاقة تقوم على التكامل، حيث يمثل المجال الديني مصدرا للقيم والغايات العليا، ويمثل المجال الدنيوي محل تحقيق تلك القيم تبعا لقواعده التخصصية والعلمية والمستمدة من الخبرة العملية.

 

الديني مدني أساسا

1. من الضروري فهم الحقيقة الاجتماعية للدين، وهي تتمثل في رسالة سماوية جاءت للبشر، وعندما آمنت بها جماعة من البشر، أصبحت الجماعة المؤمنة بهذا الدين. وداخل الجماعة المؤمنة تتحدد أصول هذا الدين وثوابته، وتتحدد قواعده وأحكامه، وبهذا يصبح الدين متحققا أو موجودا، داخل الجماعة المؤمنة.

 

2. لهذا نقول أن وجود الدين نفسه ذو طبيعة مدنية بالأساس، فهو يوجد بإيمان جماعة به، وتصبح جماعة المؤمنين، وكل محاولة لفرض الدين على مجتمع ما، أو محاولة لفرض تصور خاص عن الدين على أي جماعة مؤمنة به، هي نوع من محاولة الهيمنة والتسلط على تلك الجماعة.

 

3. لأن الدين يمثل عقيدة راسخة لدى الجماعة المؤمنة، لهذا سنجد أن تلك الجماعة هي التي تنتصر للدين، وهي التي تجعله مهيمنا على مجتمعها وهي التي تحمي الدين من أي فكر دخيل، وهي التي تقف ضد من يحاول أن يفرض عليها تصوره الخاص من خلال السلطة، وهي أيضا التي تقف ضد أي محاولة لتأسيس حكم بالحق الإلهي، تستند على الدين.

 

4. نقصد من هذا، أن الجماعة المؤمنة هي محل تحقق الدين، وهي صاحبة القرار، أي محل الإجماع الحقيقي في أمور الدين. وبهذا تكون كل محاولة للحكم بالحق الإلهي، واستخدام الدين في فرض سلطة مستبدة على الناس، هي تعد على حقوق الجماعة المؤمنة. لذا نقول إن الدين يتحقق مدنيا إذا صح التعبير، ويدافع عنه كيان مدني، وهو الذي يمنع تحوله على يد أي فرد أو سلطة أو جماعة إلى سلطة دينية مطلقة تدعي الحكم بالحق الإلهي.

 

الخلاصة: المدنية والدينية متلازمان

رغم أن التجربة الإسلامية التاريخية لا تعرف الحكم بالحق الإلهي، وما حدث في أوروبا في العصور الوسطى لا علاقة له بالتاريخ الإسلامي، لكن قضية الدولة الدينية، أو دولة الحكم بالحق الإلهي أصبحت تلح على السجال الثقافي في بلادنا. وهي في الواقع نتاج محاولة التبشير بالعلمانية تحت رداء مصطلح المدنية.

 

لذا نقول: إذا تحقق مبدأ أن الأمة هي مصدر السلطات، كنا بصدد دولة مدنية، وإذا لم يتحقق هذا المبدأ كنا بصدد دولة دينية، حتى إذا كانت مرجعيتها علمانية. والمشروع الحضاري الإسلامي يقوم على فكرة إحياء هوية الأمة، وهو بهذا يجعل الأمة مصدرا للهوية ومصدرا للسلطات، فيصبح مدنيا في الأساس.

 

أما المفاضلة بين الرؤى الإسلامية، فهي ليست حول مدنية الدولة في الواقع، بل هي حول الرؤى السياسية لكل فصيل من الفصائل، فعدا الحركات التي ترى وجوب فرض الرؤية الإسلامية بقوة السلاح، والتي ترى فرض مشروعها من خلال الاستيلاء بالقوة على السلطة والدولة، نرى أن كل الحركات الإسلامية التي تتبنى خيار الإصلاح السياسي السلمي، وحق الأمة المطلق في اختيار حاكمها ومسائلته وعزله، هي حركات تدعو للمشروع الحضاري الإسلامي، وهو مدني الأساس والمنشأ.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ