-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
"وسِوى
الرّوم خلفَ ظهرك رومٌ..." الدكتور عبدالقادر حسين
ياسين* ليست هي الحرب الأولى... ليست هي الحرب الأخيرة... لم يكن الفلسطيني مقاتلا كما هو اليوم. وغزة ليست فقط مدينة في فلسطين. إنها تسكن الوجدان ومآقي العيون. غزة تنثر دمها الفلسطيني على عواصم العرب
ومدنهم فتعطيهم شرف الانتساب
إليها. إنها بمساحة الوطن الفلسطيني كله ... هذا الوطن المحاصر بالأطماع والعجز، بكل
رجاله ونسائه وأطفاله، بكل
انكساراته وتخلفه، بكل ذكريات
المواجهة والنصر والمقاومة،
بكل البؤس والشقاء، بكل الفقر
والقهر. من يرى نفسه خارج غزة هو خارج الوطن. في آذار 1950 كان الكاتب الفرنسي أندريه
مالرو (1901
1976) ، الذي أصبح ، فيما بعد،
وزير الثقافة الفرنسية، في
زيارة ميدانية لفيتنام لتغطية
الحرب الدائرة بين القوات
الفرنسية تؤازرها القوات
الأمريكية من جهة وبين ثوار
فيتنام من جهة أخرى . كانت "ديان بيان فو" تعتبر خلال تلك
الحرب من أهم المراكز
الاستراتيجية لدى كلا الجانبين.
وكان مالرو قد "سمع" عن
الجنرال فو نغوين جياب ، القائد
الثوري الفيتنامي الذي أصبح
فيما بعد أحد أهم قادة حرب
العصابات في العالم . ذهب مالرو للقاء جياب ، و"ذهل" عندما
رآه يرتدي "سروالا من الكتان
وحذاء من المطاط ، ويحمل عتاده
العسكري على ظهره ، شأنه في ذلك
شان أي جندي عادي" . وفي كتابه
"المذكرات المضادة"
Anti-Memories يقول
أندريه مالرو أنه سأل جياب عما
اذا كان يعتقد بأن "عصابات من
الفلاحين الجهلاء" قادرة على
هزيمة فرنسا. وأجابه جياب
والابتسامة لا تفارق محياه : "ليس
النصر شرطا لدخول المعركة، يا
سيدي... وليس الهرب من ميدانها
طريقا إلى النجاة ... ليس
ثمة هزيمة أكبر من أن تعلن يأسك
من نفسك بينما عدوك خائف منك حتى
الموت..." وطوال الأعوام
الأربعة التي
أعقبت ذلك اللقاء أحرز الجنرال
فو نغوين جياب انتصارات عسكرية
مؤزرة على القوات الاستعمارية
الفرنسية ، وصارت انتصاراته
تتوالى الى أن توِّجت في معركة
ديان بيان فو الشهيرة . وفي
السابع عشر من أيار 1954 سقطت قلعة
ديان بيان فو في أيدي القوات
الوطنية بقيادة الجنرال غياب ،
وأصبحت تلك المعركة التاريخية
درسا إلزاميا على الطلاب في
المعاهد والأكاديميات الحربية. مع كل فجر تتعاظم فلسطين وتتزايد قداسة
أرضها ويتعملق شعبها، ولو
مجروحة ومخذولة، لا أحد خارج الحصار. كلنا نتفرج على
موتنا، وكلنا نحتفل بالقيامة
الجديدة. لا أحد خارج غزة . إننا فيها. تلفحنا نيران قذائف العدو... تهدم طائراته وبوارجه جدران غرف الخوف
التي نداري فيها خجلنا من
أنفسنا، من أبنائنا وأحفادنا. تمشي دباباته فوق صدورنا، وتترك جنازيرها
آثارها على وجوهنا. لكنها حرب خروجهم ... كلما توغلوا فيها أكثر كانوا يعودون إلى
نقطة البداية. ماذا لو دمروا كل بيت؟ ماذا لو اعتقلوا ألفا، عشرة آلاف، مائة
ألف ؟! ماذا لو سحقت دباباتهم الورود وبراعم
الشجر؟! قدَر الفلسطينيين أن عليهم أن يقدموا،
بدمائهم، البديل... وأن يقرعوا
ناقوس الخطر لأمة من الخراف...تغط
في سبات يحسدها عليه "أهل
الكهف".... حملنا قناديلنا ، وخرجنا نبحث عن شموس ،
نلقى أشعتها في عيون "دليلة"
، فتزداد
نقاء وصفاء وزرقة ، وعن أقمار
نزرعها في ثغرها ، فيزداد تألقا
ودعوة إلى الحب ، وعن فراشات
ننثرها في ثنايا شعرها
الفلسطيني الأسود
المنسدل شلالا ليليا ، فتزداد
فرحة الأطفال …. لكنهم حاولوا منعنا! لقد ضبطونا متلبسين ب "جريرة" التعبد
في محراب الوطن لحظة تنفيذها ،
وذاك ذنبٌ لو تعلمون عظيم ، في
عالمنا العربي،
فعسكر السلطان عيونهم لا
تنام ، وهم لا يرحمون هذا النوع
من "الانحراف " . كنا نحاول أن نحرق نفوسنا بخوراً يفوح
عبقه الزكي،
ويملأ سماء الوطن الزرقاء
شحارير وحساسين وبلابل ، لكنهم
لم يتيحوا لنا
حرية الاحتراق ...
لقد استكثروا علينا أن
ننفرد بالنار ،
كي لا يقال عنا ، فيما بعد،
"كانوا يستحقون الوطن …وكان
الوطن يستحقهم !!" كنا نحاول أن ننتزع السوط من يد الجلاد
النازل فينا ضربا ، كي لا ينزل
بغيرنا ، وبدل إن يقولوا لنا "سلمت
زنودكم " راحوا
يثبتون السوط في يد الجلاد
ويمكنونه من أجسادنا لتتمزق
معتقدين إنهم بمنأى عن هذه
الهاوية. وما كان أصدق المتنبي
حين قال : "وظلم ذوي القربى اشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند " السلطان يصر على أنه "ظل الله في الأرض"
، وأنه وحده
بعد الله
الذي "يمنحنا" حق العيش
والتنفس ... فلا يجوز لقاماتنا أن
تنتصب ، ولا لهاماتنا أن ترتفع
... وُخيل لبعض العرب أن بالامكان أن يتصادق
"العوزي" الإسرائيلي
والطفل الفلسطيني ،
وتوهم البعض أن بالامكان أن
يتحالف الصياد والعصفور !! وإذا بهذا البعض يهتدي إلى نورقناديلنا ،
فيهتف بعسكر السلطان : "ها هم!!"
، وكانت فرصتهم الذهبية ... أو
هكذا خيل اليهم ، فأخذونا "أخذ
عزيز مقتدر" ، تزين معاصمنا
أوسمة حديدية خلفت آثارها صمودا
، وعزماً ، وإصراراً. أفلت الثور الهائج من عقاله ، فبدأ من
جديد مسلسل الإرهاب والعنف
الدموي الذي لا يحده حد ولا
يقيده عقال... أربعة عشر يوما لم يتوقف فيها القتل
والاغتيال والحرق بآلات الدمار
المبتكرة عند حدود المناضلين
والمجاهدين والرافضين لمسلسل
الذلة والخضوع، فقد أصدرت
اسرائيل (والولايات المتحدة
الأمريكية) على الفلسطينيين
حكماً لا تراجع عنه : إنهم
يستحقون الموت لأنهم يرفضون أن
يبقوا بلا وطن، ويرفضون أن
يوافقوا على أنهم ليسوا من هذه
الأرض التي زعم
أساطين الدعاية الصهيونية
أنها "أرض بلا شعب"،
وأنها وطن كل صهيوني وأرض
ميعاده مهما تنأى به الديار· لم يقف الأمر عند حد تصفية المقاومين
والمجاهدين والرافضين، وإنما
امتد ليحصد بشراسة كل أثر
للحياة على وجه هذه الأرض دون
رقيب أو حسيب، وليس أدل على ذلك
من ذلك المشهد الدامي الذي شهده
العالم بذهول وربما بصمت محايد
حين اجتاحت الدبابات والصواريخ
وطائرات الأباتشي قطاع غزة
تحرقه حرقا، وتستهدف كل أثر
للحياة فيه. طفلة خيم الموت على أسرتها كلها وهي تبحث
عن واحد منهم بين الأحياء،
فتعثر على أبيها جثة هامدة تهزه
بعنف لعل فيه بقية من حياة،
وكأنها ترجوه ألا يموت، فلا قلب
يحنو عليها بعده ولا حضن يؤويها
من غائلات الزمان· تأملت هذا المشهد الدامي والطفلة
المذعورة تصرخ وتنتحب وكأني أرى
فلسطين كلها وحيدة في العراء،
تخلى عنها العرب وأسلموها
لمصيرها ، وهم لاهون غافلون... الفلسطينون يقفون وحدهم
في العراء ... والعرب يشيحون
بوجوههم خجلاً، وربما إنكاراً · إن المجزرة التي يتعرض لها هؤلاء البسطاء
الآمنون من الأطفال والنساء
وكبار السن الذين يكدحون ليل
نهار لتأمين لقمة العيش لتعلن
لتاريخ زمن الخذلان ، وتحفر في
أوراق الزمن تاريخ انعطافة
خطيرة في السجل العربي لا سبيل
إلى تجميلها أو تبريرها... لقد كان هؤلاء البسطاء وسط دائرة الخطر
الداهم الذي لا يرحم بين قسوة
الشقيق وتنكر الصديق والوقوع
بين براثن عدو جبار خسيس لا يرحم
ولم يحتكم يوماً إلى مبدأ أو
قيمة، يجردهم كل يوم من مقومات
الحياة ... يقف شعبنا الفلسطيني أعزلا إلا من إرادته
وإيمانه بانتصار الحق والحياة،
يحمل على كاهله تاريخه المجيد
الذي يمتد مئة عام من النضال·
وإن كان هذا التاريخ عبئاً على
الكاهل لا يمكن إزاحته أو
التخلي عنه، فإن هؤلاء الصابرين
يعرفون أن قدرهم التصدي في وجه
هذه الغزوة مهما كلف الثمن
ومهما غلت التضحيات . ولعل مما يحز في النفس أن يمتلك
الفلسطينيون كل إرادة الصمود
والعرب ، كل العرب ،
من حولهم متقاعسون بل إنهم
لا يسلمون أحياناً من كيد ذوي
القربى... لقد تكاثر عليهم الأعداء وراحوا يتربصون
بهم الدوائر ، وكأن أبا الطيب
المتنبي حاضر ينظر في الآفاق ،
والحيرة تملأ قلبه والقلق يغشى
عينيه الذكيتين، وهو ينظر تارة
إلى سيف الدولة الحمداني الذي
تعلو وجهه سحابة الهمّ التي
تغشى النبلاء من ذوي الهمم
العالية وطوراً إلى عرب الروم
وقد شايعوا كل ناعق، يقول : "وسوى الرومِ خلف ظهرك رومٌ فعلى أيّ جانبيك تميلُ...؟!" إن من يستمع إلى محطات الاذاعة
والتلفزيون العربية وهي تنقل
وقائع المذبحة، يعتقد ان
الصواريخ تهطل كالمطر علي تل
ابيب وحيفا وناتانيا، وان
الجيوش العربية، تزحف لتحرير
القدس. ان العالم العربي يزحف
نحو عملية تغيير دموية، وجمود
حس الانظمة العربية، وادارتها
لظهرها تجاه ما يحدث في قطاع غزة
سيكونان العنصر المفجر لهذا
التغيير المنتظر. كوندوليزا رايس ، وزيرة
الخارجية الامريكية ، تصر على
أن من "حق" اسرائيل
"الدفاع" عن نفسها...
وتبشرنا بان اسرائيل "ستفاوض"
محمود عباس، وتنقل بشائرها الى
"أصدقائها" العرب ، وكأن
ذبح 800 فلسطيني واصابة أكثر من
3000 بجراح ، وتدمير
البنية التحتية في القطاع،
مُحلل ومُباح طالما وافق العرب
على قرار مجلس الأمن الذي تقدمت
به الولايات المتحدة ولريطانبا
وفرنسا. انه تأكيد جديد علي موافقة الادارة
الامريكية علي هذا العدوان
الجديد، واعطائها الضوء الاخضر
لتنفيذه في اطار الخطة
الاسرائيلية لتركيع
الفلسطينيين. وسط هذه "الزحمة" ينتصب شعبنا
الفلسطيني، منارة تعانق السماء
... ان
شعبنا الفلسطيني الذي يعتز بأنه
أول شعب حمل السلاح ضد
الإمبراطورية البريطانية (عندما
كانت لا تغيب عنها الشمس) لم
يركع أبداً ولن يركع، ودبابات
أولمرت لن ترهبه، إن شعبنا الفلسطيني سيعود لحملة قناديله
وملاحقة نور الشمس ، ولن تثنيه
عوائق الطريق ، مهما بلغت
التضحيات... إن أشد ساعات الليل حلكة هي تلك التي تسبق
بزوغ الفجر... ــــــــــ * كاتب وأكاديمي فلسطيني
مقيم في السويد . ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |