-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء  28/01/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الحوار العقلاني

صالح المبارك

مآثر الرئيس الأميركي النازل جورج بوش كثيرة لا تحصى،  كان منها إحياء شعار هتلر "من ليس معنا فهو ضدنا". ومنها أيضا اعتماده قاعدة  "الحرب الاستباقية" بأن يغزو بلدا ويقتل شعبا لأنهم قد ينوون القيام بأعمال عدائية في المستقبل، (قياسا على ذلك يمكنك ضرب أولادك قبل أن يكسروا الصحن كما نسب إلى جحا من قبل ... من باب الاحتياط). ومنها أيضا مفهوم "الصحافة المصحوبة" أي المرافقة للقوات الأميركية الغازية والتي تمر كل أخبارها وتقاريرها عبر الفلتر العسكري الأميركي (وإذا لم تكن "مصحوبا" فسلامتك غير مضمونة بل قد تستهدف عمدا من قبلهم). ومن مآثر بوش أيضا تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار  ومعتدلين ومتطرفين ويقاس الاعتدال بزاوية الانحناء للأوامر الأميركية والتطرف بالخروج عليها . والمتطرفون هم ارهابيون ولذلك لايمكن الحوار معهم أو حتى الجلوس معهم على الطاولة!

 

والمبدأ الأخير ينافس مبادئ بوش الأخرى على جائزة المبدأ الأكثر غباء، والغباء هنا قد لايأتي من أناس أغبياء بل هو "غباء مكتسب" سببه طغيان الكبر والغطرسة على التفكير العقلي كما كان تفكير بعض مشركي قريش إذ كانوا يدركون أن محمد صلى الله عليه وسلم نبي صادق ليس بكاذب ولاكاهن ولاساحر ولا شاعر ولكن كبرهم وغطرستهم أبت عليهم الإقرار بالحق فكانوا يبحثون عن تهمة يلصقونها بالرسول صلى الله عليه وسلم لكي يظهروه أمام العالم بالخارج عن العرف والمنطق والقانون. كذلك كانت طريقة بوش: التكبر الموُرِثُ للغباء ، ومعرفة الحقيقة ومن ثم مجافاتها عمدا والبحث عن أدلة واهية ومزيفة لتدعيم وجهة نظره وقراراته التي أعدها مسبقا بغض النظر عن الحقائق.

 

        ثمة شبه آخر بين طريقة بوش ومشركي قريش: التشويش على الطرف الآخر وحظر السماع له لأنه مصنف كإرهابي. هل سمعتم بقصة الطُفَيْل بن عمرو الدَّوْسي‏؟ كان رجلا شريفًا، شاعرًا لبيبًا، رئيس قبيلة دوس، وكانت لقبيلته إمارة أو شبه إمارة في بعض نواحى اليمن، قدم مكة في عام 11 من النبوة، فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجل تحية وأكرم تقدير، وقالوا له‏:‏ يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل (محمد صلى الله عليه وسلم) الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه ، وبين الرجل وزوجـه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئًا‏.

يقول طفيل‏:‏ فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئًا، ولا أكلمه، حتى حشوت أذنى حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفًا (قطنا)؛ فرقًا (خوفا) من أن يبلغنى شيء من قوله، قال‏:‏ فغدوت إلى المسجد فإذا هو قائم يصلى عند الكعبة، فقمت قريبًا منه، فأبى الله إلا أن يُسْمِعَني بعض قوله، فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت في نفسى‏:‏ واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر؛ ما يخفي عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول‏؟‏ فإن كان حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فعرضت عليه قصة مقدمى، وتخويف الناس إياي، وسد الأذن بالكرسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت له‏:‏ اعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ الإسلام، وتلا عليّ القرآن‏.‏ فوالله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق.

 

انتهت قصة الطفيل مع النبي صلى الله عليه وسلم والآن قصة أميركا وإسرائيل مع حماس ومنظمات المقاومة الفلسطينية: ألا ترون أنها نفس القصة؟ أميركا وإسرائيل تقولان إن حماس منظمة ارهابية تريد محو إسرائيل الوادعة المسالمة من الخريطة ، فلا تسمعوا لها ولا تكلموها ولا تجتمعوا معها حتى تلتزم بالـ "قوانين والأعراف الدولية" بأن تتوقف عن الإرهاب (أي المقاومة) وتعترف بإسرائيل وتسلم رقبتها للجزار... وعندها تستحق شرف الجلوس معنا على الطاولة ، وهل ستحصل عندها على شيء؟ هذا موضوع آخر...

 

أميركا استعملت نفس الأسلوب مع دول تعتبرها مارقة كسورية وإيران وكان بوش يلقي بأوامره من البيت الأبيض وعلى إيران وسورية أن تنصاعا لأوامره وتلتزما بقوانينه حتى تستحقا شرف المحادثة وجها لوجه مع أميركا. عدم التخاطب مع الخصم لأنه خصم أمر يثير الضحك من فرط غبائه ، ظننت لوهلة أنه نظرية حديثة للرئيس بوش من ضمن نظرياته الفريدة لكني وجدت أن مشركي قريش سبقوه في هذه النظرية: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" أي لا تسمعوا لهذا القرآن وشوّشوا عليه كي لا يسمعه غيركم. هذا هو أسلوب من لاحجة له ولا منطق ، أسلوب المتعجرف الغبي الذي يأبى أن يعترف بالحقيقة ويأبى أن يتحاور بالمنطق فليجأ إلى الأسلوب الغوغائي الضوضائي لمنع الرأي الآخر

 

الإسلام يدعو إلى الحوار المبني على الاختيار..  ففي المعتقد (لا إكراه في الدين – سورة البقرة – آية 256) واحترام الآراء والابتعاد عن السخرية وتجريح الهيئات واتباع المنطق والحجة والبرهان. تاريخنا مليء بمناظرات ممتعة بين علماء وآخرين من نصارى وملاحدة وزنادقة وغيرهم وكان الإمام أبو حنيفة النعمان رائدا بحق في هذه الحوارات بل إن جل هذه الحوارات كان يجري في مكان عام حيث يشهده جمع من الناس ليزداد الذين آمنوا ايمانا بعقيدتهم حتى ولو تشبث بعض المحاورين بأفكارهم عنادا ومكابرة

 

الإسلام يدعو إلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن – سورة النحل – آية 125) بل ان الله تعالى قد أوصى بأهل الكتاب بشكل خاص في الحوار (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون – سورة العنكبوت – آية 46) فالجدال (الحوار) –ان كان الهدف منه الوصول إلى الحقيقة أوالتوصل إلى أرضية مشتركة- لابد أن يكون مجردا من العواطف ومهذبا ومنفتحا لتقبل الحقائق والآراء من الطرف الآخر والاعتراف بالخطأ والتراجع عنه عند التثبت من ذلك. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة في الحوار المهذب وكان إما أن يقنع الآخرين بدينه أو أن يكسب احترامهم على الأقل. كان عليه السلام يستمع لمحدثه حتى يفرغ من الكلام فيقول "هل فرغت يا عم أو يابن العم؟" ثم يجيبه. وقد تضمنت الآية الكريمة قاعدة مشتركة للبدء بالحوار مع أهل الكتاب (وإلهنا وإلهكم واحد) أي فلنبدأ من هذه الأرضية.

 

الاستثناء في هذه القاعدة يأتي إذا ما لجأ الطرف الآخر إلى العناد والمكابرة أو أساليب غير أخلاقية كالإهانة أو التجريح أو الاستهزاء فيفقد الحوار أو الجدال غرضه عندئذ ويصبح مراءً أو قد يؤدي إلى مشاحناتٍ وعراكٍ لا داع لها ، وهذا ما رمت إليه الآية الكريمة "... إلا الذين ظلموا منهم" كما أن الله تعالى لم يمنع المؤمنين من الحوار مع الكفار إلا إذا تحول الحوار المنطقي إلى مباراة للإهانات والسخرية (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً – سورة النساء – آية 140) عندئذ لانقابلهم بالإهانة والسخرية بل ننسحب حيث لم يعد ثمة مكان لحوار العقل والمنطق. يجب الانتباه هنا إلى أن النهي عن القعود معهم لم يكن فقط للكفر بالآيات بل للكفر مع السخرية معاً فلو أن انسانا رفض الإيمان بالله أو بالرسول أو بالقرآن دونما سخرية أو إهانة فلا بأس من حواره –كما فعل السلف الصالح- ولا تشمله الآية الكريمة السابقة.

 

لقد وجدت أن كثيرا من الأحكام الخاطئة وما قد يتبعها من الظلم راجعة إلى الجهل بالطرف الآخر وأغلبها يمكن تصحيحه بفتح أقنية التخاطب وتبديد الجهل. أذكر منذ سنوات عندما كنت أسكن في أميركا كان لي جار كانت نظراته لي ولعائلتي غير ودية ولم يكن يلقي علينا السلام كما يفعل الجيران عادة في تلك المنطقة بل كنت أشعر أنه يتربص بنا الدوائر لكني قصّرتُ ولم أفعل شيئا حتى قرر ابني الكبير –وكان في السادسة أوالسابعة عشر من عمره- أن يفعل شيئا ذات يوم حين لمحه خارجا من البيت ليفتح علبة البريد: "ياسيدي: هل لي أن أسألك لماذا لا تحبنا؟ لماذا تعاملنا بهذه الطريقة؟ هل فعلنا معك أي شيء قبيح؟" فوجئ الرجل بسؤالات ابني وتلعثم وقال "لا أبدا... أنا لاأكرهكم وليس عندي أي شيء ضدكم" ومنذ ذلك اليوم تغيرت علاقتنا فأصبحنا جيرانا بكل معنى الكلمة وتحول الجفاء والعداء إلى مجاملات وود وربما اقتنع أننا لسنا ارهابيين أو همجيين!

 

لو أننا نستعمل منطق الطفيل رضي الله عنه "والله إني رجل لبيب شاعر؛ ما يخفي عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول‏؟‏ فإن كان حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته". العقل نعمة كبرى منحها الله لنا: إن لم نستعملها رُدِدْنا إلى أسفل سافلين وأضحينا كالأنعام ، واستعمال العقل يجب أيضا أن يكون ضمن الضوابط الأخلاقية من التجرد والإنصاف والتواضع حتى نكون منصفين وغير متحيزين مع أنفسنا أوغيرنا وباحثين عن الحقيقة دوما.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ