-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس  19/02/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الإسلام والرؤية الواضحة للمستقبل

بقلم : يسري عبد الغني عبد الله*

تقديم :

ليس شيء أمر على الإنسان ، من أن يضيع هدفه في الحياة المعاشة ، فيظل متعثرًا في حياته ، لا يعرف طعم الراحة والسعادة ، ولا طيب العيش .. وبالمقابل فليس أقوى على الإنسان ، من اليوم لذي يكتشف فيه وجوده الحقيقي ، فيعرف أن له هدفًا في الحياة يسعى إليه وبالتالي يعيش من أجله ..

ولكن هل استطاع الإنسان أن يكتشف هدفه ، في ظل حضارة مواكيك الفضاء ، والأقمار الصناعية ، و ثورة الاتصالات ، و تكنولوجيا المعلومات ، والانفجار المعرفي ، والهندسة الوراثية ، وبحوث الاستنساخ ، والجينوم البشري .. إلخ .. ؟

الإجابة التي نراها : لا بالطبع ، إن السفن الفضائية ، حملت الإنسان إلى أعماق الفضاء ، ولكنها عجزت كل العجز عن حمل هموم هذا الإنسان العاثر الحظ .. إن الأقمار الصناعية ، تستطيع أن تقرأ رقم سيارة عابرة في أي شارع من شوارع العالم ، ولكنها تستطيع أن تقرأ الجوع والمأساة في عيون الأطفال الأبرياء .. !!

ونفس الأمر بالنسبة لتكنولوجيا المعلومات أو ثورة الاتصالات ، والتي جعلت العالم عبارة عن قرية كونية واحدة ، ما يحدث الآن يراه على الفور جميع سكان العالم في كل مكان ، ولكن كل هذا لم يحقق السعادة أو الأمن أو الهناء أو الاستقرار للبشر على وجه البسيطة الأرضية .. وبالتالي لم ينقذهم مما يعانون من فقر وجوع وجهل ومرض ، ولا نبالغ إذا قلنا أن هذا التقدم العلمي زاد البشرية شقاء في بعض الأحايين .!

البحث عن الخلاص :

إن البشرية اليوم تبحث عن خلاص ، أكثر من أي وقت مضى ، وسوف لن تحصل على خلاصها ، دون الرجوع إلى هدفها الأعلى في الحياة الواقعية المعاشة ، ألا وهو العيش من أجل الله سبحانه وتعالى ، ومن أجل الآخرين ..

نعم ، إن الحياة لا تعادل شيئًا ، إذا لم تكن هناك قضية مقدسة ، قضية يعيش الإنسان حياته من أجلها ، أو يموت شهيدًا في سبيل الدفاع عنها .. وهل هناك قضية أقدس ، من عبادة الله جل شأنه ، وإسعاد الآخرين .. ؟ ، بالطبع لا وألف لا ..

ومن خلال نظرة واحدة ، على القرآن المجيد ،والتاريخ الصحيح ، يبدو واضحًا ، أن الأنبياء والرسل (عليهم سلام الله أجمعين) ، وكذلك أهل الإصلاح ، كان هدفهم يتلخص في عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، وإسعاد الآخرين في كل مكان .. أي إنهم اتخذوا من الحياة جسرًا يعبرون عليه إلى هذا الهدف السامي النبيل ، وذلك أن الذي يحقق السعادة الحقة ، هو السعي وراء هدف نبيل في الحياة ..

وكم هو جميل أن يكون لكل واحد منا ، هدف نبيل يضيء درب الحياة أمامه .. ومتمثلاً بالعظماء من الأنبياء والأئمة وأهل الصلاح ، الذين كانت تنعكس أهدافهم من خلال توحيد الله ألعلي العظيم ، وإسعاد الآخرين ومساعدتهم وتقديم العون لهم قدر الطاقة والإمكان ..

من أجل ذلك كانت ثورة الإسلام دين الحق والعدل والخير والمساواة ، قد انطلقت من التوحيد الخالص ، وليس من غيره ، لذلك طلب منا القرآن الكريم أن نقول لا إله إلا الله بصدق من أجل أن نسير في طريق الفلاح والنجاح ..

وعندما يرفض الخلفاء الراشدون (رضوان الله عليهم ) الخلافة إلا أن يقيموا حقًا أو يدفعوا باطلاً ، يكون واضحًا لدينا جميعًا ، أن الأصل في القضية يتلخص في : عبادة الله وحده لا شريك له ، ونفع الآخرين لأن خير الناس أنفعهم للناس ..

نبي الله يوسف (عليه السلام) مثل يحتذى :

ولعل في قصة نبي الله يوسف الصديق (عليه السلام) خير شاهد على ذلك ، فمن خلال القصة نجد أن إدخال السرور في قلوب الآخرين كان هدفه الأول والأخير .

إذ أن صفة الإحسان للآخرين ، كانت ملازمة لنبي الله يوسف (عليه السلام) في كل مراحل حياته ، سواء كان في أعماق السجن يعاني من : الأغلال ، و القيود ، والحرمان ، أو كان ملكًا يرفع أبويه على العرش ، ويدير حكومة العالم بيده !

يقول المولى جل علاه : { ودخل معه السجن فتنيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ، وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين .} [يوسف : 36 ] .

ويقول سبحانه وتعالى : { قالوا يا أيها العزيز إن له أبًا شيخًا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين .} [يوسف : 78 ] .

ولنلاحظ جيدًا جملة { إنا نراك من المحسنين } في الآيتين السابقتين ، لندرك أن الإحسان كان هاجسه أو همه الوحيد .. حقًا : هذا هو الإنسان المؤمن ، إنه من المحسنين مع الناس أينما يكون ، لا فرق بين أن يكون مسجونًا تحت سياط الطغاة ، أو يكون ملكًا يدير اقتصاد ، وسياسة العالم ..

المؤمن الحق يفيض إحسانًا على الناس ، أينما يكون ، ولذلك يجعله رب العزة مباركًا أينما كان ..

وعليه كان السجناء يخاطبون يوسف الصديق (عليه السلام) بكلمة { إنا نراك من المحسنين } يوم كان مسجونًا معهم .. ونفس الخطاب ووجهه إليه إخوته حين دخلوا عليه ، وكان يوسف ـ يومها ـ ملكًا ليس فقط على مصر ، وإنما على العالم أجمع ، كما يقول كتاب الله الكريم { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } [ يوسف : 56 ]

حيث أخذ يوسف بناصية اقتصاد الأرض ، وسياسة العباد ـ { قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف : 55 ] .

والذي جعل نبي الله يوسف بهذا المستوى الرفيع من الإحسان هو هدفه في الحياة الذي يتجلى في عبادة الله العلي العظيم ، وفي العمل الجاد الصادق من أجل إسعاد الآخرين .

سلامة الهدف والحياة الكريمة :

نقول : إن الإيمان بالله سبحانه وتعالى و الاعتقاد الراسخ به ، والسعي إلى إصلاح حياتنا بالعمل الجاد الصالح الذي منطلقه الحب و العدل والمساواة والخير هو قمة الإنقاذ لأنفسنا وللعالم نعيش فيه ، وبذلك ينتشر السلام في ربوع العالم بعد أن ملأت الأرض جورًا وطغيانًا وظلمًا ، و سوف نضمن سلامة الهدف على أكمل وجه ، مما يعطينا نشاطًا وحماسة ـ نحن في أشد الحاجة إليها في وقتنا الراهن ـ في السعي وراء الهدف ، في الوقت الذي يضيء الأمل في داخلنا ، وتسبح قلوبنا بنور الحب والسماح والإيمان ..

نقول : ماذا تعني الحياة الكريمة ، في ظل الإسلام ؟ ، نذكر أن بعض مشايخنا في طفولتنا كانوا يحفظون إيانا هذا الدعاء : " اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله ، وتذل بها النفاق وأهله ، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك ، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة " .

هكذا يتحدث الإسلام ، عن دولة المستقبل ، وحضارة الغد ، بقيادة أهل الإسلام أنفسهم ، بعزيمتهم وإرادتهم وقوتهم .. إنها دولة كريمة ، كريمة في العطاء ، كريمة في إنسانية الإنسان ، كريمة في الاقتصاد ، في السياسة ، في العلم ، في الأخلاق الفاضلة .. كريمة في إعطاء الإنسان حريته واستقلاله ، وعزته ، وكرامته .. في إعطاء الأمن والأمان والمأكل والمشرب والمسكن والكساء للجميع .. و بالتالي فهي كريمة في فتح الطريق أمام البشرية جمعاء ، الطريق الموصل إلى رحاب الله ، وشواطئ الحب والسعادة والرخاء ..

ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق أن السعادة سوف تنزل علينا في طبق من فضة ، دون تدخل منا .. أبدًا ، وإلا فذلك معناه الركود والجمود والخمود والاستسلام والانتظار السلبي غير الواقعي ، فليس من المنطقي على وجه الإطلاق أن نجمد نشاطنا الإنساني ، ونوقف حركتنا في الحياة ، مع أن الحياة جوهرها ولبها الحركة التي هي بركة على الناس جميعًا ..

إن السلامة التامة العامة للجسم ، وتوفير الطعام لكل فم ، بالإضافة إلى المشرب والملبس والمسكن لكل إنسان ، والأمن والأمان للجميع ،كل ذلك من أكبر درجات السعادة في الإسلام الحنيف ، ونحن نعلم أن ندرة أو عدم توفير سلامة الجسم والطعام والأمن ، ليس فقط يشكل خطرًا على الإنسان ، وإنما يدمر الحياة على وجه المعمورة الأرضية أيضًا .. إذ أنه يؤدي إلى الصراع والحروب والفتن ، ولكن في نفس الوقت إذا توافرت هذه العناصر في كل زمان ومكان ، وأصبحت موجودة للكافة ، دون سعي أو جهد فإن ذلك يؤدي إلى الاتكالية ، ومن ثم إلى الخمول والركود الكامل ..

والمعنى الذي نريد أن نؤكد عليه هنا إن عدم توافر عناصر الحياة الرئيسية يتطلب من الإنسان العمل و السعي الجاد في مناكب الأرض ، وعليه أن يخلق الحافز لدى الإنسان في الحركة ، ويجعله أكثر نشاطًا من أجل الوصول إلى أهدافه المأمولة ..

بالتعب تكون الحياة :

هذا ، وقد أكد علماء النفس والاجتماع بالتجارب والأرقام ، أن أسباب الراحة إذا اجتمعت لدى الفرد ، تؤدي به إلى الخمول والكسل ، والشعور بالضياع الذي ينتهي بدوره إلى محطة الانتحار في بعض الأحيان ، كما نرى في السويد والنرويج والدنمارك وفنلندا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية ، حيث نسمع عن العديد من حالات الانتحار ، في الوقت الذي نرى فيه أعلى درجة لدخل الفرد في هذه البلاد ..

وحتى لا يتحول الإنسان ، إلى مجرد قطعة من العجين الخامل ، وقد شاءت إرادة الله تعالى لهذا الإنسان ألا يحصل على سعادته إلا بالعرق والتعب والدماء والدموع ، فمن دون كدح أو كبد لا يصل الإنسان إلى خالقه الأعظم ، ولا يستطيع أن يحقق رسالته المكلف بها .

من دون بذل الجهد لا يستطيع الإنسان أن يبلغ هدفه في الحياة ، فلولا المشقة ساد الناس كلهم ، والجود يفطر والإقدام قتال ، يقول القرآن الكريم : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } [ البلد : 4 ] أي في تعب وعناء ، لأن الكبد مأخوذ من كابد يكابد ..

حتى كأن حرية الإنسان أشبه شيء بالوردة الجميلة المحاطة بالأشواك ، بحيث يكون لا بد من إدماء الأصابع من أجل قطفها ..

وعند إزالة الجوع والخوف والصعاب والعوائق من الطريق ، تموت الرغبة في العمل لدى الإنسان ، وتنعدم بواعث السعي والحركة في أعماق النفس ..

ومن أجل ذلك يقول القرآن الكريم : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ... } [ البقرة : 155 ]

ولقد أعطى القرآن الكريم أروع صورة للموضوع ، من خلال هذه الآية الكريمة ، وما أعظم الصبر والتحمل من أجل استمرار الحياة ، فمن أصابته مصيبة قال : بنفس راضية : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وهذا النفر من الناس عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون ..

الإسلام دين العمل الجاد :

إن الإسلام يربي الإنسان على حب العمل والإخلاص له ، العمل الجاد الملتزم ، العمل الذي هو حق وواجب وشرف وكرامة ، ومن ثم يكون المرء هو المسئول الأول والأخير عن عمله في الحياة الدنيا ، وهذا الأسلوب في التربية ، يعتبر أروع الأساليب ، وأكثرها وقعًا في القلوب .

ولكي نقرب الموضوع إلى ذهن القارئ الكريم ، أضرب المثال التالي : تصور معي معهدين علميين ، فيهما أعداد كبيرة من الطلاب ، ولكل معهد مدير أو عميد خاص به دون غيره ، ولكن لكل واحد من هذين الرجلين أسلوب خاص في معاملة الطلاب ...

المدير الأول يقف أمام الطلاب ليقول لهم : اسمعوا جيدًا ، إن النجاح والرسوب بيدي أنا فأنا الذي أعطي نجاحًا للبعض ، وأنا الذي أجعل البعض الآخر من الراسبين .. إن مصيركم بيدي وليس بأيديكم !!

بينما في المقابل يقف المدير الثاني يخاطب طلاب معهده فهذه العبارة : أولادي ، التفتوا إلى كلمتي التي هي من أجلكم : إن نجاحكم ، ورسوبكم بأيديكم أنتم ، وليس بيدي أنا .. فالطالب الذي يذاكر دروسه جيدًا ، ويوسع دائرة معارفه بالقراءة والإطلاع ، ويلتزم كل الالتزام ، يفوز بالنجاح ، بينما الذي لا يذاكر دروسه ويجتهد في علومه ، يكتب شهادة الرسوب بيده هو ..

مما لا شك فيه أن كلمات المدير الثاني ، تخلق حافزًا في نفوس الطلاب ، وتدفعهم إلى ساحة القراءة والمطالعة ، والدراسة والتحصيل أكثر فأكثر ، بينما كلمات المدير الأول فهي كلمات غير تربوية على الإطلاق ، لأنها تزرع اليأس في نفوس الناشئة ، إذ أنه يشعرون بحالة من البعد تفصل بينهم وبين أهدافهم في معهدهم التعليمي .

ونحن عندما نقرأ القرآن الكريم ، نجد أنه يتبع الأسلوب الأخير في توجيه طاقات الفرد ، فالقرآن يعلمنا أنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأنه من عمل صالحًا فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، وعليه فلا نزر وازرة وزر أخرى .

الأهداف لا تكون بالأماني :

علينا أن نعي جيدًا أن السعادة تعتمد على السعي الحثيث وراءها من قبل الناس ، فهي لا تأتي بمجرد الكلام الذي لا يجدي ولا يفيد ، أو بمجرد التمني ، فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا بالجد والعمل والكد والكدح ..

الأهداف ليس بالأماني ، أمانينا أو أماني غيرنا ، ومن عمل السوء جزي به ، ومن عمل الخير وقف الله بجواره وحقق له أمانيه .

وخلاصة الأمر أن الحياة الكريمة في ظل حضارة الإسلام ، لا تحصل أو تتحقق بعصا سحرية ، وإنما تتكون بجهود المؤمنين المخلصين الذين يلتحقون بركاب الجد والعلم والعمل المخلص .

أما المعجزة ومكانها في حياتنا ، فلسنا في معرض الكلام عنها ، وذلك أن حديث المعجزات في المنطلق الإسلامي محوره أن زمن المعجزات قد ولى ومن الصعب وجوده في حياتنا المعاشة ، ولكن ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى أن حياة الأنبياء والرسل (عليهم سلام الله أجمعين) كانت تجري وفق الظواهر الطبيعية ، ليس لها علاقة بأجواء المعجزة لا من قريب ولا من بعيد ، وذلك لسبب بسيط جدًا ألا وهو : لو كان هؤلاء يعيشون تحت ظل المعجزات بشكل دائم ، لسقط كونهم قدوة ، وأسوة حسنة ، ومثل أعلى للناس كافة .

حتى لا ينسف مفهوم الأسوة الحسنة :

إن الأنبياء ، لكي تصبح حياتهم قدوة ومثل وأسوة للناس في كل زمان ومكان ، لا بد أن تجري بشكل اعتيادي جدًا شأنها في ذلك شأن حياة الآخرين ..

إن مجرد الاعتقاد ، بأن حياة الأنبياء والرسل ، كانت حياة خارقة للطبيعة ، وغير مألوفة لدى البشر ، مجرد الاعتقاد بهذا الفهم المقلوب ، كفيل بأن ينسف مفهوم الأسوة الحسنة والمثل الأعلى ، نسفًا جذريًا لا يبقي ولا يذر ، إذ كيف يمكننا أن نطبق ما قاله الله لنا ، من أن لنا في رسول الله محمد (عليه الصلاة والسلام) الأسوة الحسنة ، حين تكون حياته مبرمجة بالخوارق ، وموقوتة بالمعجزات ؟ !! ..

إذن فمجرد إثبات المعجزات إثباتًا مطلقًا في حياة الأنبياء والرسل ، يسقط كونهم قدوة مضيئة ، و مثل أعلى ، وأسوة حسنة .

وهنا اسمحوا لي بهذا السؤال : كم مرة في تاريخ البشرية تعطل قانون الحرارة في النار عن الإحراق ؟ ـ طبعًا مرة واحدة ليس أكثر (في قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام) .

وكم مرة تحولت العصا إلى ثعبان ؟ ، و كم مرة توقف البحر عن عمله في إضراب مائي لم يشهد له التاريخ مثيلاً ؟ ، أيضًا مرة واحدة ، وذلك عندما أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نبيه موسى (عليه السلام) ، أن يضرب بعصاه البحر في القصة التي ذكرها القرآن الكريم .

أقول لكم : إن المعجزة كان لها ضلع لا يستهان به في إنجاح مهمة الرسل والأنبياء ، وصحيح أن المعجزة كان لها دور في حياة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ولكن ذلك لا يعني ـ على الإطلاق ـ أن حياتهم كانت مغمورة في بحر الإعجاز ، لأن الحياة لا تسيرها المعجزات ، وإنما تسيرها الأسباب والأخذ بها ، فليس عهده هو عهد المعجزات ، كما يحلو للبعض أن يقول أو يعتقد ، بحيث يتم كل شيء فيه بمعجزة ، وأن الحلول لمشاكل العالم تنبع من المعجزات !!

حضارة أقوى من حضارتنا الراهنة :

أبدًا ، لن يحدث من هذا القبيل شيء على وجه الإطلاق ، بل الذي يحدث هو : أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ، كان يدعو بدعوته الخالدة إلى حضارة ـ لو وعيناها وفهمناها ـ فهي أقوى من الحضارة الراهنة التي نعيشها ، حضارة يمكن لها أن تنشر الخير والسلام فتتغلب على المادية والسلبية التي تكبل الإنسان على وجه البسيطة الأرضية ، و يستطيع الإنسان ـ أعظم مخلوقات الله ـ بسط الدولة الإسلامية العادلة الداعية إلى الخير والحق والعدل ، على كل أرجاء الدنيا ، بفعل القوة التي يملكها ، وبجهود المخلصين و المؤمنين الأشداء الأقوياء ..

وعلى هذا الأساس ، فإن عهد الإسلام ليس هو عهد المعجزات كما يتبادر إلى الأذهان ، وإنما هو عهد تبلغ فيه البشرية قمة نضوجها الفكري ، وذروة حضارتها الإنسانية بفضل الثقافة الإسلامية الواعية المستنيرة المعتدلة التي ينشرها الإسلام الذي هو دين الوسطية والعقلانية على كل بقاع الأرض .

إن الحضارة الإسلامية التي نتطلع إليها وننشدها ونتمناها إلى العالم أجمع ، ليس لها نظير في تاريخ البشرية جمعاء ، إذا وعيناها جيدًا ، وفهمنا مبادئها وأسسها التي لا هدف لها إلا خيرية الناس في العالمين ، حضارة الإسلام العظيم ، حضارة القرآن الكريم ، حضارة لم تعرف الحياة مثلها منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها ..

على أن دولة الإسلام التي ننشدها ، هي بحد ذاتها تشكل أكبر معجزة في التاريخ ، ولكن ليست معجزة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، وإنما هي معجزة من حيث كونها تعجز الآخرين بالإتيان بمثلها ، وأنى لهذا الإنسان أن يأتي بحضارة تعادل حضارة الحق والإسلام ؟! ..اللهم إلا أن يكون القرآن الكريم ، هو محور تلك الحضارة ، وهذا هو بالفعل ما سوف يقع في المستقبل إن شاء الله تعالى ..

نعم ، فالأنبياء والرسل ، من حيث كونهم أسوة حسنة للبشرية كافة ، لا بد أن تكون حياتهم طبيعية ومألوفة لدى الناس ، لا فيها غرابة أو غموض ، ولا فيها معجزات إلا في الضرورة القصوى ..

هل يختفي الشر من عالمنا ؟

ونأتي إلى سؤال آخر : هل بانتشار الإسلام في كل مكان يختفي الشر من النفوس ؟ ـ نقول : بصراحة شديدة لا ، فالشر باق في النفوس ، شأنه في ذلك شأن الخير ، إلا أن الإسلام سوف يخلق أجواءًا اجتماعية ونفسية ،تساعد إلى حد كبير في تقوية جانب الخير عند الإنسان ، وإضعاف جانب الشر ..

أما أن تختفي نزعة الشر في النفوس البشرية ، فليس ذلك بصحيح على وجه الإطلاق ، وعلى الإجمال فإن حضارة الإسلام ستكون أقوى وأعظم من الحضارة المادية المتوحشة التي نحياها في أيامنا هذه .

ودولة المستقبل ، التي تحدث القرآن الكريم عنها ، وذكرها نبي الحب والتسامح والسلام نبينا الأكرم محمد (عليه الصلاة والسلام) في أحاديثه المطهرة ، هي دولة الأمن والاستقرار ، دولة السعادة والرخاء ..

هي تلك الدولة التي سنسير فيها بإذن الله تعالى ليالي وأيام آمنين مطمئنين ، والله تعالى على كل شيء قدير .

وضوح الرؤية أساس المستقبل :

نعود لنقول : إن أهم شيء في حياة الإنسان ، أن يكون المستقبل لديه واضح الرؤيا ، يلمع في أشعة الشمس وفي الهواء الطلق ، فالصورة القاتمة أو الضبابية أو الغامضة أو العشوائية للمستقبل ، تجعل من المحال على الإنسان في أي زمان أو مكان أن يعيش في أمن وسلام وسعادة ، فليس أقوى على قلب المرء ، من أن يكون أمامه مستقبل زاهر ، يلوح له براية الأمل ، وببرق العطاء .

إن الثقة بالمستقبل ، هي وحدها التي تفجر طاقات هذا الإنسان ، لتوظيفها في البناء ، والحب والخير والسلام .. وبمقدار ما يكون المستقبل مشرق الرؤيا ، واضح الهدف ، يكون تقدم الإنسان في الحياة الواقعية المعاشة ، ولأهمية هذا الأمر ، نجد القرآن المجيد ، يعلمنا كيف نمشي إلى المستقبل في النور مسلحين بالأمل ، وليس في الظلام مسيطر علينا اليأس والإحباط .. وعليه فلا يصح أن تكون حياتنا مغلفة بالحيرة والضياع ، ومن ثم الحزن والكرب والكآبة لانعدام رؤية المستقبل ..

والكلام عن الإسلام هو حديث عن المستقبل ، وعن الأمل والتفاؤل بالخير والنصر .. لأنه حديث العطاء ، حديث المستقبل ، ولأن المستقبل هو مرحلة من مراحل الزمن ، فلابد لنا من معرفة نظرية الإسلام في أهمية الزمن بالنسبة للإنسان .

ولا بد أن تعود الأرض للصالحين :

نقول : إن الأرض في النهاية لا بد أن تعود إلى أيدي المؤمنين الصالحين ، ولا بد أن يتقلب المؤمنون في أحضانها .. إن الله تعالى لم يخلق الأرض لتبقى تدور في دولاب الدماء والظلم والبغي إلى البد ، وإنما خلقها لتسبح دائمًا وأبدًا في نور الحرية ، وفجر السعادة ..

وعليه فمن المستحيل أن يستمر الظلام ، وأن يدوم حكم الطغيان في الأرض ، وأن يظل الإنسان غارقًا في الألم والحرمان ، وذلك لأنه من المحال أن يغفل الله عن المفسدين والظالمين في الأرض ، وإنما يؤخرهم ليوم معلوم ، لساعة موقوتة لا يفلتون من قبضتها أبدًا .. فالنصر في نهاية الأمر مهما كانت الظروف والملابسات والأحوال والتقلبات هو من نصيب أهل الخير والصلاح بإذن الله تعالى ..

وصاحب الفطرة السليمة يعي جيدًا بأن ثورة الحق قادمة لا محالة ، وستدوس الظالمين بأقدامها القوية وسوف تقذف بهم إلى مزابل التاريخ ، وعندها سوف ينضوي العالم أجمع تحت لواء حكومة واحدة ، ذات ثقافة واحدة ، ذات طابع حضاري واحد ، حكومة على رأسها أهل الصلاح والخير الذين يؤمنون بذلك جاعلين أرواحهم فداء لكل القيم السامية النبيلة .

العدل محور الوجود :

ونظرة واحدة نلقيها على ما يدور حولنا ، من كائنات ومخلوقات ، حية وغير حية ، تكشف لنا ، عن أن كل شيء في هذا الكون ، قائم على أساس العدل ، ولا يمكن له أن يعصى الله طرفة عين ..

فالمجرات الكوكبية ، تسبح في الفضاء الواسع ، في أروع نظام ، وأدق قانون ، وهي تسبح الله جل علاه وتقدسه .. وكما في المجرات ن كذلك في عالم الأحياء ، بدءًا من الخلية والنبات والطير ، وانتهاء بالدواب والحشرات والأسماك ، فهي لا تعصي الله أبدًا (يبدو أن المخلوق الوحيد الذي يتجرأ على عصيان الله هو الإنسان المجبول على الجحود والكفران ).

أصحاب العقل السليم يدركون جيدًا أن الله تعالى يسبح له من في السماوات ، ومن في الأرض ، والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ، وليس هناك من شيء في هذا الكون الرحيب إلا يسبح في كل وقت بحمد الله تعالى ، وإن كنا لا نفقه تسبيحهم .

ليس في الكون ، ذرة واحدة خارجة عن النظام أبدًا ، وإنما كل الذرات وكل الخلايا ، وكل ما يجري في الطبيعة قائم على الحساب والدقة والنظام ، وذلك ضمن معادلات رياضية غاية في الإتقان ..

وعليه : فالكون كله مطيع لرب العزة ، ساجد له ، يسبح بحمده ، والملائكة هي الأخرى تفعل ذلك ، والاستثناء هنا هو الإنسان الذي يكون منه العاصي ، ويكون منه المطيع ، ومن أجل أن يستقيم نظام الكون ، فلا بد أن يأتي يوم يرجع الإنسان فيه إلى ربه ، وإلى نظامه منسجمًا مع سائر الكائنات ، على نور العدل والحق والخير والسلام ، ذلك اليوم لا ريب فيه ، آت لا محالة ..

لا بد للأرض من أن يرثها عباد الله الصالحون في المستقبل القريب أو البعيد إلى أن يرثها الله رب العالمين .. لأنه من المستحيل أن تظل الأرض ، غارقة في حمامات الدم التي يزرعها الجلادون في كل مكان ، ومن المستحيل أيضًا أن يظل الإنسان يدور في دائرة العذاب والحرمان والخوف ، بل لا بد للبشرية أن تنعم في ظل الإسلام بأحلامها ، وتشرف على طرد المفسدين في الأرض بنفسها ، وبذلك يحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر أهل الإثم والعدوان ..

قصة خلق الإنسان : عظة وعبرة :

والقرآن الكريم كان صريحًا واضحًا عندما أكد على هذا الجانب بالذات ، وذلك عندما أراد الله أن يخلق الإنسان ، وأخبر الملائكة بالموضوع بأنه سوف يجعل في الأرض خليفة ، فما كان من الملائكة إلا أن قالوا :{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال : إني أعلم ما لا تعلمون ..}

ونستفيد من جواب المولى عز وجل للملائكة ، أنه يعلم ما لايعلمون ، أن الإنسان لا يمكن له أن يستمر في سفك الدماء في الأرض ، وإنما لا بد له من يوم يتوقف فيه عن أعماله الحمقاء الشريرة غير المسئولة ، ساعتها يعم الأرض الخير والسعادة والنور والعدل والحرية ..

حقًا : إن الله يعلم ما لا نعلم ، فإذا لم يكن هناك حد لوقف الدماء والتصرفات الشريرة ، وطمس الظلم في الأرض ، لما كانا هناك موجب لجواب الله سبحانه وتعالى للملائكة ، وعلى هذا فإن إشكال الملائكة يبقى معلقًا بلا جواب ..

وبمعنى آخر : إن الذي نستفيده من قول المولى جل علاه للملائكة أنه يعلم ما لا يعلمون ، هو أن الأرض سوف يرثها أهل الصفاء والنقاء والخير والصلاح ، وأن القائد المخلص لا بد أن يظهر ولو بعد حين ، فيطهر الأرض من الظلم والفساد ، ويملأها قسطًا وعدلاً وحبًا بعد ما ملئت ظلمًا وجورًا وكراهية .. !

كيف عرفت الملائكة أن الإنسان سوف يفسد في الأرض ؟

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا : كيف عرف الملائكة أن الإنسان سوف يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء ؟ ـ عرفوا ذلك من محورين :

المحور الأول هو : أن الله سبحانه وتعالى قال للملائكة : { أني خالق بشرًا من طين ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ، فقعوا له ساجدين .. } .

وهنا أدرك الملائكة أن هذا المخلوق مؤلف من قبضة من الطين ، ونفخه من روح الله ، فهو إذن يختلف عن جنس الملائكة ، وكذلك يختلف عن جنس الحيوانات .. فالملائكة لا غرائز لها وغنما هي مخلوقات رقيقة شفافة محدودة الثقافة والمعلومات ، بدليل قولهم : { قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ..} .. فالملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله ، أي أن علمهم محدود بأبعاد معينة .. أما الحيوانات ، فقد كانت تسير مشدودة إلى غرائزها ، فهي لا تعقل ولا تفكر ..

ولكن هذا المخلوق الجديد الذي اسمه الإنسان هو وحده الذي يملك قدرة الملائكة ، وقدرة الحيوان ، فهو لديه الغرائز التي مبعثها قبضة الطين ، وكذلك لديه العقل والفكر ، اللذان منبعهما نفخة الروح ، ولأنه مؤلف من غرائز مادية ومعنويات روحية ، فلا بد له من الصراع بين الغريزة والعقل من جهة وبين الشهوة والروح من جهة ثانية ، وكنتيجة طبيعية ، تتحكم الشهوة ببعض ، ويتحكم العقل ببعض آخر ، ويحدث صراع جديد بين أصحاب الشهوات وأصحاب العقول الراجحة ، وتكون النتيجة الصراع وسفك الدماء ..

هذا الشريط التطابقي مر في رؤوس الملائكة ، حين أخبرهم الله تعالى بأنه خالق بشرًا من طين ، والطين منبع الغرائز والشهوات ، كما أخبرهم أنه إذا سواه ونفخ فيه من روحه فعليهم أن يقعوا له ساجدين ، والروح منبع العقل والفكر ، من أجل هذا استحق الإنسان السجود من الملائكة ، والتكريم من الخالق جل علاه .

على أن السجود حدث بعد أن دخلت نفخة من روح الله في الإنسان ، فبعد أن سواه الله سبحانه ونفخ فيه من روحه طلب من الملائكة السجود له ، أما قبل التسوية الروحية ، فلم يكن الإنسان أهلاً لهذا السجود الملائكي ، وذلك لأنه كان مجرد جسد مطروح على الأرض ، وهو بعد ذلك كتلة من الغرائز الشهوات الملتهبة ..!

ومن هنا أدركت الملائكة ، عمق المأساة التي سيفجرها الإنسان في الأرض ، ولذلك طرحوا السؤال التالي : أتجعل فيها من يفسد فيها ، ويسفك الدماء .. ؟ وجاء الجواب في حزم : إني أعلم ما لا تعلمون ..

والمحور الثاني هو : أن الملائكة عرفت بفساد الإنسان لأن الله كان قد خلق قبل آدم هذا ألف ألف آدم ، كما تقول الروايات والأحاديث

خاتمة :

وأخيرًا نقول إن الإسلام سيكون بإذن الله هو صاحب العطاء الهنيء ، عطاء في كل شيء ، وذلك أن حضارته هي حضارة العطاء والخلاص والصفاء والنقاء والعدل والخير والحب والسلام ، حضارة تخلصنا نحن البشر من الدمار والخراب والضياع والخوف والحزن ..

عطاء في العدل والنور ، وخلاص من الظلم والظلمات ، عطاء في الحرية والاستقلال ، وخلاص من الاستبداد والاستغلال ، عطاء في الأمن والأمان والعيش الكريم ، وخلاص من الخوف والجوع والحرمان ..

إنها حضارة العطاء ، تلك التي يفجرها الإسلام في وجه العصر ..

والله تعالى ولي التوفيق ،،،

ـــــــــــــ

* باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية وخبير في الدفاع الاجتماعي

ayusri_a@hotmail.com

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ