-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
حاجتنا
إلى لقمان القرن الواحد
والعشرين بقلم
: يسري عبد الغني عبد الله* مما لا
جدال فيه أن الجيل الذي يعيش في
مطلع القرن الواحد والعشرين
يختلف كل الاختلاف عن الجيل
الذي كان يعيش فيه لقمان الحكيم
، وذلك لاختلاف ظروف العصر في كل
منهما . ولا شك
أيضاً أن لقمان الحكيم لو قدر له
أن يبعث مرة أخرى إلى الجيل
الحالي ، ليقدم له النصح الجميل
، والإرشاد القويم لاستخدم نفس
الألفاظ التي تعبر عن نصائحه
لولده وفلذة كبده .. فهل معنى ذلك
أن الجيل الحالي لم يتقدم ولو
بخطوة واحدة عن الجيل السالف ؟! إن الذي
قدمه لقمان الحكيم هو نتاج بحت
لتجاربه في حياته المعيشية ،
ولقد استمع ابن لقمان لأبيه
بأذن صاغية ، ورغبة حميمة في
الاستفادة والمعرفة والتعلم ،
ولم يصم أذنيه ، ولم يكن فيها
وقر ، بل أطاع ما سمع وسلك طريق
الرشد الذي أرشد إليه ، ولم يفعل
كما فعل ابن نبي الله نوح (عليه
السلام) وترك عقل وحكمة والده ،
واتبع هواه وشيطانه فترك سفينة
الأمان وأوى إلى جبل أصم لا
يختلف عنه ، ليس فيه حركة الحياة
وتجددها ، ولا يصل به إلى بر
الأمان فكان من المغرقين . لم يكن
ابن لقمان الحكيم يعصى أباه ،
ولم يكن غير بار بوالديه ، ولم
يكن صوته نكراً كصوت الحمير ،
ولم يكن تاركاً الباتة لطاعة
الله عز وجل ، ولم يكن متعالياً
متكبراً ، أو محتقراً للبشر ،
ولم يكن مختالاً ولا فخورا ، كما
أنه لم يكن متطفلاً أو متلصصاً
على أسرار الناس ، ولم يكن يرنو
ببصره إلى حُرمات غيره ، ولم يكن
جزعاً متبرماً يائساً من محن
الحياة وصروفها . وكذلك
لم يكن لقمان الحكيم فيلسوفاً
أو أديباً ، أو حاملاً لدرجة
الدكتوراه ، أو خريجاً لأرقى
الجامعات الأوربية أو
الأمريكية ، حين قدم إلى ابنه
نصائحه الذهبية الغالية ، في
نفس الوقت لم يكن يعاني من مرض
القسوة على الأبناء ، والتحكم
والتسلط ، كما أنه لم يكن
أنانياً ، أو نفعياً ، أو بخيلاً
، أو يقول ما لا يفعل ، أو
مفتقراً إلى القيم والمثل
والمبادئ والأخلاقيات التي
يقدمها لابنه ، بل كان هو القدوة
والمثل المحتذى ، كان النهج
والسلوك والإرشاد والتوجيه ، لم
يكن مخبره غير مظهره . أما
الجيل الذي يعيش في بدايات
القرن الواحد والعشرين هو جيل
الأقمار الاصطناعية ، وقنوات
التلفاز الأرضية والفضائية ،
وشبكة الإنترنيت المعلوماتية ،
والهندسة الو راثية ، وخريطة
الجينات البشرية ، وبحوث
الاستنساخ ، جيل ثورة المعلومات
وتكنولوجيا الاتصالات ، جيل
استطاع أن يحلق بمركباته خارج
الأرض وفي فضاء الكون الرحيب ،
فأتيح له ما لم يتح لابن لقمان
الحكيم من العلوم والمعارف
والأفكار ، ولكن هذا الجيل ـ بكل
أسف ـ ما زال غارقاً إلى أذنيه
في الجهل الأخلاقي ، وكأنه جيل
تقهقر بمعارفه إلى أبعد من جيل
ابن لقمان الحكيم بقرون وأجيال . إنها
قضية محيرة جداً ، فقد ارتبط
التقدم العلمي المذهل في أيامنا
هذه بانحطاط الأخلاق ، وسوء
السلوك ، وكأننا نكسب مادياً
وعلمياً بنفس القدر الذي نخسر
فيه أخلاقياً !! لقد وقف
العقل العلمي حائراً في أيامنا
هذه أمام قضية الأخلاق ، العلم
يتقدم بشكل هائل ، وفي نفس الوقت
تتفشى بيننا الأمراض
الاجتماعية والنفسية كوباء لا
يرحم ، إلى حد أن العقل فقد
قدراته ودخل إلى دوامة الجنون ،
فإيقاع الحياة سريعة ، والحياة
نفسها في عصرنا لا ترحم من لا
يسايرها في السرعة ، فلا وقت
للوقت نفسه ، وهكذا وبسرعة ضاعت
القيم وانحدرت الأخلاق ، فالابن
أضحى لا يجد في الأب القدوة
والمثل الأعلى ، والوالد نفسه
لا يجد في داخله رصيداً تلقاه عن
سابقيه ، وفاقد الشيء لا يعطيه . لو أن
الابن وجد في أبيه ما وجد ابن
لقمان في أبيه لأطاعه واقتدى به
، ونهج نهجه القويم ، لو وجد
والده يعامل الناس بالتي هي
أحسن لعامل هو الآخر الناس في
أحسن سلوك ، لو وجده يقيم الصلاة
تامة كاملة لأقامها ، ولو وجده
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
، لوجده يحترم الآخرين ويتقبلهم
ويتكاتف ويتعاون معهم على البر
والتقوى والخير ، لفعل مثله دون
شك . أقول
لكم : إن الجيل الحالي له العذر
كل العذر ، فهو لا يجد في والده
ومعلمه ومرشده المثل الأعلى أو
القدوة المنشودة ، لا يرى ولا
يسمع إلا عن : النفاق ، والتملق ،
والإثم ، والكذب ، والسرقة ،
والاحتيال ، والخيانة .. إلخ .. ،
لقد نشأ في بيئة أو مجتمع لا
يقيم للفضيلة وزناً ، ولا
للأخلاق قيمة . لقد
أضاعت البشرية في القرن السابق
أنفس ما لديها من ثروة ، وضربت
بتقدمها العلمي الساحق الماحق
عصب التقدم ، و هو الشباب نصف
الحاضر وكل المستقبل . ويوم أن
قام أحد العلماء باختراع
القنبلة الذرية لم يكن يقصد
باختراعه إلا القضاء على
الأوبئة والأمراض المعضلة ،
وتوفير الوقت والجهد ، ولكن هذا
المخترع نسي أمراً مهماً وهو أن
يضع مع قنبلته وصية حاسمة ملزمة
ألا وهي التمسك بالأخلاق ،
ولأنه لم يفعل فكان ما كان فدمر
البعيد عن الأخلاق والقيم كل
شيء جميل كان يحلم به ويرجوه
ويتمناه للبشرية جمعاء ، إنه
يشبه تلك الدبة التي استخدمت كل
قوتها لتدمر صاحبها بحجر ألقته
عليه كي تقتل ذبابة خافت عليه
منها حتى لا تقلقه في نومه . نعم ،
نحن في أمس الحاجة إلى لقمان
جديد ، لقمان مخلص ، يتناول
الإنسان من جميع زواياه ، لقمان
يداوي أخطاء الإنسان ، وأخطاره . نحن في
حاجة إلى مخترع فذ له عقل القرن
الواحد والعشرين ، وحكمة لقمان
النقية التقية ، نحن في حاجة
ماسة إلى علماء نصل معهم إلى
القمر وإلى المريخ ، ونجوب معهم
أغوار البحار والمحيطات ، علماء
يواصلون التقدم العلمي فينمون
ثرواتنا المادية بشرط مهم أنهم
لا يخربون القيم والمبادئ
والأخلاق . نحن في
أمس الحاجة إلى علماء يحضون على
الفضائل ، ويبغضون في الرذائل ،
في حاجة إلى علماء يشدون الهمم ،
ويبددون الحزن والغم والخوف ،
نحن بحاجة إلى لقمان ، لقمان
القرن الواحد والعشرين .. فهل
يتفق القارئ العزيز معي في ذلك ؟
! . ــــــــــ *باحث
ومحاضر في الدراسات العربية
والإسلامية وخبير في الدفاع
الاجتماعي ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |