-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
حلف
الفضول الثاني د.
صالح المبارك عقد
الأحلاف مع مسلمين وغيرهم
والاتفاق على صيغة تعامل أخلاقي
أمر ليس بجديد بل قد فعله رسول
الله صلى الله عليه وسلم في أكثر
من موضع: في وثيقة المدينة
المنورة وفي صلح الحديبية ،
ولكن قبيل البعثة النبوية
المباركة مر على أمة العرب
حدثان مهمان شكلا نقطة انعطاف
في تاريخ العرب وطريقة تفكيرهم
وفي تشكيل الموازين الأخلاقية
وما يتبعها من أفعال الحدث
الأول كان موقعة ذي قار مع الفرس
وهي أول معركة ينتصر فبها العرب
على احدى الدوليتين العظميين (Super
Powers) في العالم آنئذ. وخبر ذي قار أن
رجلا يدعى زيد بن عدي أوغر صدر
كسرى على النعمان بن المنذر ملك
الحيرة وأرسل كسرى إلى النعمان
يستقدمه، فعرف النعمان أنه
مقتول لا محالة فحمل أسلحته
وذهب إلى بادية بني شيبان ولجأ
إلى سيدهم هانئ بن مسعود
الشيباني فأودع عنده نسوته
ودروعه وسلاحه وذهب إلى كسرى
فسجنه حتى مات وأقام كسرى
إياس بن قبيصة الطائي ملكاً
جديداً على الحيرة وكلفه أن
يتصل بهانئ بن مسعود ويحضر
ماعنده من نساء النعمان وسلاحه
وعتاده، فلما تلقى هانئ خطاب
كسرى رفض تسليم الأمانات، فخيره
كسرى إما أن يعطي مابيده أو أن
يرحل عن دياره أو أن يحارب
فاختار الحرب وبدأ يعد جيشاً من
بكر (وبنو شيبان فرع منها)
وأحلافها من العرب الذين وجدوا
فرصة لنصرة سيد بكر ضد عدو جائر
طأطأوا لهم رؤوسهم لسنين طويلة .
وكان جيش كسرى يضم بعض العرب
الذيت تحالفوا مع الفرس ضد
أبناء جلدتهم (سبحان الله... ما
أشبه اليوم بالأمس) ولكن العرب
انتصروا وقتلوا قادة جيش فارس
وانسحب معظم العرب المتحالفين
مع فارس من الجيش بل ان كثيرا
منهم انضموا إلى جيش هانئ بن
مسعود ، وكان نصرا مجلجلا للعرب
على فارس حتى ان كسرى مات كمدا
بعد هزيمة جيشه وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال لما
بلغه انتصار قبائل بكر بقيادة
هانئ بن مسعود الشيباني على
عساكر الفرس: هذا أول يوم انتصف
فيه العرب من العجم ، وبي نصروا. والحدث
الآخر كان حلف الفضول وكان حلفا
اجتمعت له قبائل من قريش في دار
عبد الله بن جدعان فتعاهدوا على
أن لا يجدوا بمكة مظلوما من
أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر
الناس إلا قاموا معه وكانوا على
من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته .
وقصته أن رجلا من بني أسد بن
خزيمة أتى بتجارة إلى مكة
فاشتراها رجل قرشي من بني سهم
وأبى أن يعطيه الثمن ، فكلم
الأسدي قريشاً واستجار بها ،
وسألها إعانته على أخذ حقّه ،
فلم يأخذ له أحد بحقه ، فصعد جبل
أبي قبيس فنادى بأعلى صوته
مستجيرا بأهل مكة لإنصافه فقامت
قريش فتحركت ضمائر يعض أشراف
قريش فتعاهدوا ألا يُظلم غريب
ولا غيره ، وأن يؤخذ للمظلوم من
الظالم. وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال لقد شهدت
في دار عبد الله بن جدعان حلفا
لو دعيت به في الإسلام لأجبت. والقاسم
المشترك في الحدثين (عدا عن
أنهما حدثا في شباب الرسول صلى
الله عليه وسلم وقبل البعثة)
أنهما شكلا تغيرا في عقلية
الإنسان العربي ونمط تفكيره
ونقلة نوعية من اتباع أعمى
لتقليد متحجر إلى ماهو أكثر
منطقية وأسمى أخلاقيا. الحدثان
شكلا اجتماعا لنصرة الحق
ومحاربة الظلم ولذلك امتدحهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم
فالاسلام لم يأت ليلغي كل ما سبق
بل ليصحح ويقوّم ، فما كان بحسن
تركه وثبته وما كان قبيحا قومه
وصححه. كان
شعار العرب في الجاهلية: انصر
أخاك ظالما أو مظلوما ، فأتى
الإسلام وصحح المفهوم: "لينصر
الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن
كان ظالما فلينهه، فإنه له نصرة
وإن كان مظلوما فلينصره" ،
وفي رواية أخرى: "إن يك ظالما
فاردده عن ظلمه".
قرارات الإنسان مزيج من
تفكير عقلاني وتجاذب عاطفي ،
أمور كثيرة تختلط في النفس
وتعترك للوصول إلى قرار يرضي
النفس ومن هذه الأمور ولاء
العرق والدم والقبيلة والعائلة
ومنها اعتبارات المصلحة (الشخصية
أوالوطنية أو غيرها) ومنها أيضا
الولاء للمثل العليا من حق وصدق
وأمانة وعدل. كان الإسلام واضحا
في وضع المثل الأخلاقية فوق أي
اعتبار آخر (إِنَّ اللّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ
الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ
بِالْعَدْلِ) و (إِنَّ اللّهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ
وَالْبَغْيِ) و (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ
قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء
بِالْقِسْطِ وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ
اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ) ومواقف العدل في
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
وخلفائه الراشدين وكثير من حكام
المسلمين تبقى مفخرة لنا
ونبراسا نقتدي به لنبتعد عن
تحالفات الظلم والبغي والفحشاء
وقد كان لموقف عدل وانصاف من
خامس الخلفاء الراشدين عمر بن
عبدالعزيز رضي الله عنهم أجمعين
أثر في تغيير التاريخ وإسلام
مدينة سمرقند بأكملها العدل
أساس الحكم والاستقرار والتحضر
الحقيقي وهو مطلب انساني لا
يعرف حدودا أو فوارق عرقية أو
دينية أو طبقية أو غيرها ،
والعدل لايقبل التجزأة ولا
النسبية ولا المحاباة. العدل –خلافا
للموضة والأمزجة- لا يتغير
بتغير الأزمان أو الأوطان أو
الأحوال. لقد
اكتوت شعوب العالم بنير الظلم
داخليا وخارجيا (وخاصة في
السنوات الأخيرة) وصار الكيل
بمكيالين عاديا ومقبولا. الدول
التي تسمي نفسها دول العالم
الأول أو الدول المتقدمة تسكت
عن مجازر ترتكب في حق شعوب
فلسطين ولبنان والعراق وغيرها
وتسكت عن دول تغزو غيرها وتقتل
وتدمر ، وتدعي حرية التعبير عن
الرأي عندما تصدر إساءات للرسول
صلى الله عليه وسلم وغيره من
الرموز الدينية –مسلمة ومسيحية-
ثم تثور ثائرتهم إذا استعمل
إنسان نفس "الحق" للتشكيك
في محرقة اليهود أو عدد الذين
قتلوا فيها. الدول "المتقدمة"
تمتص ثروات الدول الفقيرة وترمي
بملايين الأطنان من الأغذية في
الزبالة بينما تجوع ملايين أخرى
ويموت آلاف منها كل يوم. الدول
"المتقدمة" تجرّم وتعاقب
من يستخدم العنف ليقاوم محتلا
معتديا ، لكنها –في نفس الوقت-
تصنع العجيب من أسلحة الدمار
لتستعملها وتبيعها لمجرمي
الحرب. الدول "المتقدمة" لم
تبال بتدمير البيئة وتلويثها
وقتل الموارد الطبيعية بشكل غير
متوازن لكنها فرضت قيودا صارمة
على الدول الصغيرة والنامية
التي تريد أن تنهض بشعوبها. تلك
الدول "المتقدمة" حققت
فعلا تقدما علميا وتقنيا لكنها
فشلت وأفلست في مضمار الأخلاق
ولذلك فإن حضارتهم ليست ناقصة
فحسب بل محكوم عليها بالانهيار
مالم تتدارك الجانب الأخلاقي. نحن
لاندعو إلى إنكار المحرقة التي
تعرض لها اليهود ولا نقبل
بمجازر أوظلم ضد أي شعب على وجه
الأرض ولكننا نريد أن نتعامل
بمعيار واحد. ما يلزمنا الآن هو
حلف على أساس العدل ، يستوي فيه
القوي والضعيف والكبير والصغير
ويكون الكيل فيه بمكيال واحد.
هذا الحلف يجب أن يبنى على أرضية
من المبادئ الراسخة وليس
المصالح المؤقتة. المؤسسات التي
بنيت سابقا لم تنجح تماما لعدم
توفر أو استمرار شروط النجاح
فيها. الأمم المتحدة تحولت إلى
بناء بطبقتين: الطبقة الأولى
للدول القوية التي تملك حق
النقض فلا يمكن أن تعاقب على
جريمة أو ترغم على القبول بقرار
لاتريده ، والطبقة الثانية
للدول الأخرى التي لايمكن أن
تحصل على الحق (أو جزء منه) إلا
إذا حصلت على موافقة ومباركة
الكبار في الطبقة الأولى وقدمت
من أجل ذلك تنازلات للكبار. قبل
ذلك فشل تكتل دول عدم الانحياز
لأنه تجمع على مبدأ سلبي وهو عدم
الإنحياز إلى أحد من الفريقين
المتصارعين آنئذ: حلف الناتو
بزعامة أميركا وحلف وارسو
بزعامة الاتحاد السوڤياتي.
الاجتماع على "عدم شيء" قد
يمنع من شر لكنه لا يدفع إلى خير
بالضرورة. جامعة الدول العربية
كانت بنفسها مثلا لحالة
الانقسام والشلل والتناحر الذي
أصاب أمة العرب. منظمة الدول
الإسلامية لها وعليها ولكنها
تبقى حكرا للدول الإسلامية فقط. ما
أحوجنا اليوم إلى حلف الفضول
الثاني: إنه ضرورة إنسانية
وضرورة للإنسانية ، لاستقرارها
وتفاهمها وتقدمها. هو ليس
بالضرورة انسحابا أو انسلاخا من
مؤسسات أخرى كالأمم المتحدة أو
غيرها ، بل أداة لاستكمال ما
عجزت عنه تلك المؤسسات. ما
أحوجنا إلى تحالف تكون فيه
العدالة عمياء عن كل الاعتبارات
العرقية والحدودية واللونية
والدينية والمصلحية. إننا نرجو
أن يتبنى حكامنا حلف الفضول
الثاني وأن يدعوا إليه دول
العالم ومنظماتها وأن نطبق أمر
الله تعالى: يا عبادي إني حرمت
الظلم على نفسي وجعلته بينكم
محرما فلا تظالموا ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |