-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
تراثنا
العلمي وحوار الحضارات بقلم
: يسري عبد الغني عبد الله* لقد كتب
الكثير عن تقدم العلوم العقلية
والنقلية عند المسلمين في
العصور الوسيطة ، وعن إسهام
المسلمين بوجه عام في كل مجالات
العلم والفكر ، وعن استفادة
الغرب فيما بعد من ازدهار
الحركة العلمية والفكرية في
العالم الإسلامي ، ولذلك يقول
البعض : ليس ثمة ما يدعو إلى فتح
ملفات هذا الموضوع من جديد . وفي
رأينا أن هذا الموضوع لا ينتهي
بالتقادم ، أو بالطرح الموسمي ،
وعليه فإن أي حديث عن تعدد
الثقافات أو الحوار بين
الحضارات ، أو قضية التأثير
والتأثر ، أي حديث في هذا السياق
لا يمكن أن يخلو من الإشارة
الصريحة إلى جهد المسلمين في
تقدم العلوم ، في نفس الوقت الذي
يجب أن نعترف به بإسهامات عدد
كبير من أهل الاستشراق بالذات
في إبراز فضل المسلمين على
الحضارة الغربية ، وعلى التقدم
العلمي الحديث لديه . نقول :
إننا في أمس الحاجة إلى ضرورة
إلقاء الضوء الكاشف مرات ومرات
، على هذه الناحية ، ناحية الدور
الذي قام به أهل الاستشراق في
مجال خدمة تاريخ العلوم عند
المسلمين ، وذلك بما قاموا به من
تحقيقات علمية ، وأبحاث ودراسات
، وكتابة مقالات وآراء حول دور
المسلمين في النهوض بالعلم . وعندنا
: إن هناك العديد من الجوانب
المتعلقة بالتراث العلمي
الإسلامي في حاجة إلى المزيد من
الدراسة والتأمل والتفكير
والتحليل ، خاصة وأن وقتنا
الحالي بما فيه من تداعيات
وملابسات والتباسات يحتم علينا
المزيد من الاهتمام بتراثنا
العلمي ، واضعين في الاعتبار أن
أي حديث عن اهتمام أهل
الاستشراق بتراثنا العلمي سيضع
في اعتباره الحديث عن دور
المسلمين في العطاء العلمي
للبشرية ، بعيداً عن أي تعصب أو
ادعاء أو مبالغة . ونعترف
هنا أن هناك بعض الجهود التي
تبذل في العالم الإسلامي بهدف
إحياء التراث العلمي الإسلامي ،
ولكن بكل أسف نلاحظ أن هذه
الجهود كثيراً ما تتكرر بدون
أدنى تنسيق بين الجهات المنوطة
بذلك ، وهذا يؤدي إلى ضياع
الكثير من المال والوقت والجهد
، وحبذا لو انطلقت هذه الجهود من
إطار علمي منهجي سليم . إن
الاهتمام بالتراث العلمي
الإسلامي يجب أن يقابل من جميع
مؤسساتنا العلمية والتعليمية
والثقافية بالترحيب والتشجيع ،
بعد أن طال إغفاله وإهماله
والانصراف عنه . نعود
بعد ذلك لنقول : معنا الآن ابن
النديم ، الذي ولد ونشأ ، في
بغداد العباسية خلال القرن
الرابع الهجري ( العاشر
الميلادي ) والذي عني بالتاريخ
واللغة والأدب ، وشهرته في
التأليف مرتبطة بتأليفه لكتاب (
الفهرست ) وهو في نشأة العلوم ،
وأقدم الكتب في هذا المضمار . ويعد
كتاب ( الفهرست ) لأبن النديم من
أهم الكتب في تاريخ الثقافة
العربية الإسلامية ، فهو وثيقة
مهمة يمكن لنا أن نتعرف من
خلالها على ملامح الازدهار
الثقافي ، ولقاء الثقافات
والحضارات في إطار الحضارة
الإسلامية ، وهذا ما نؤمن به ،
وندعو إليه بعيداً عن أكذوبة
صراع الحضارات أو نهايتها ،
واضعين في الاعتبار أن الله
تعالى خلقنا فوق المعمورة
الأرضية من أجل أن نتعارف ،
ونتفاهم ، ونتبادل الآراء
والخبرات والأفكار ، من أجل أن
نتعاون ونتضامن ونتكاتف ،
وهدفنا في كل ذلك هو السعي من
أجل واقع معاش أفضل وأحسن
للبشرية جمعاء . إن نحو
ثلث كتاب الفهرست لأبن النديم ،
يتناول الرافد الأجنبي ،
وتأثيره في الحضارة الإسلامية ،
وعليه فإن هذا الكتاب يعد من هذه
الزاوية مصدراً مهماً يدلنا على
المعرفة العميقة الواعية بتراث
اليونان والفرس والهنود . لقد بذل
المسلمون جهوداً كبيرة من أجل
نقل هذا التراث ( تراث الآخر )
والإضافة إليه ، بعد أن
استوعبوه جيداً ، ونقدوه ،
وحذفوا منه الكثير الذي لا
يتناسب مع العقل أو المنطق ، أو
الذي لا يتفق مع ثوابتهم ، وكان
ذلك في جميع التخصصات : الفلسفية
، والرياضية ، والطبيعية ،
والطبية ، والموسيقية ،
والكيميائية .. الخ .. هذا ،
وقد خصص ابن النديم صفحات
للحديث عن ( جالينوس ) أشهر أطباء
اليونان ، وعن مؤلفاته التي قام
حنين بن إسحاق وتلاميذه من
المترجمين المسيحيين السريان
بترجمتها في العصر العباسي . والسريان
ـ كما نعلم ـ هم أبناء اللغة
السريانية ، وكانت هذه اللغة من
أهم لغات بلاد الشام والعراق
قبل الإسلام ، وظلت مستخدمة عند
بعض الجماعات إلى جانب اللغة
العربية في إطار الدولة
الإسلامية ، والحق يقال أن
السريان أسهموا في حركة ترجمة
تراث اليوناني إلى السريانية ،
وإلى العربية ، كما أسهموا
بعلمهم في النهضة العلمية
الإسلامية . وفي نفس
الوقت لا ننس أعلام الطب
الإسلامي ، مثل : أبي بكر الرازي
، طبيب الدولة الإسلامية الأول
، الذي ألف أكثر من مائة كتاب في
علوم الطب ، فهؤلاء جميعاً
ذكرهم ابن النديم ، وعرفنا
بجهودهم في التأليف والترجمة ،
ولهذا يعد كتاب (الفهرست ) من أهم
الكتب الدالة على أهمية
التعددية الثقافية ، وضرورة
لقاء الثقافات والحوار بينها ،
من أجل نهضة فاعلة لسائر الأمم . وبهذه
المناسبة يجب القول أن الثقافة
اليونانية كانت أكبر تأثيراً في
العلوم العقلية التي ألف فيها
المسلمون مثل الطب ، والرياضيات
، والفلسفة وغيرها .. وإن
الثقافة الفارسية كانت أكثر
تأثيراً في الأدب العربي ، وفي
نظام الحكم ، وفي الفنون بوجه
عام .. والمجددون في الأدب
العربي نثراً وشعراً كانوا من
أصل فارسي . نقول :
نحن لا ننكر فضل أهل الاستشراق
على تاريخ العلوم العقلية
الإسلامية ، مهما كان اختلافنا
مع بعضهم في بعض المنطلقات
الفكرية .. إن لأهل الاستشراق
الباع الأجل في الكشف عن تاريخ
العلوم عند المسلمين ، وهو فضل
رائع وعظيم ، يعيه ويدركه جيداً
كل من له اضطلاع ، ولو قليل في
مجال الدراسات الإسلامية ، أو
في تاريخ العلوم الطبيعية . لقد
تناول أهل الاستشراق التراث
العلمي الإسلامي بالتحقيق
والتمحيص والدرس ، والمقارنة
بينه وبين أصوله اليونانية
والهندية ، وتأثيره على الغرب
في العصور الوسيطة ، وأوائل
العصر الحديث . وعليه
فلا ضرر ولا ضرار أن نقوم
بدراسات وأبحاث تحاول أن تعرض
لأطراف مما قاموا به ، ولا بأس
أن تكون هذه الدراسات مسهبة
ومعمقة ، أو تكون سريعة عاجلة
غير مستقصية أو مستفيضة ، وهذا
النوع الأخير ممكن أن يكون في
شكل مقالات تنشر في الصحف
السيارة ، أو في المجلات العامة
، أما النوع الأول الذي ينطلق من
الإسهاب والتفصيل فيحتاج إلى
مجلدات ومجلدات ، ويكفي أن يعلم
القارئ أن مجرد السرد
الببليوجرافي لجهود أهل
الاستشراق في دراسة العلوم
الإسلامية ، يمكن أن يستغرق
بمفرده أكثر من ألفي صفحة أو ما
يزيد على أقل تقدير . فلا
غضاضة بالمرة من أن نعترف بجهد
الآخر ، والآخر هنا قدم خدمة
جليلة لتراثنا العلمي ، فما
المانع من أن نشكره ونقدره ،
ونحاول أن نطور ونعمق ونجود ما
قام به ، ونبدأ من حيث انتهى ،
ومهما اختلفنا معه ، فإن الود لا
يفسد للعلم والفكر الإنساني
قضية . ويرى
كاتب هذه السطور أن أوضح وسيلة
أو طريقة لتناول موضوع جهود أهل
الاستشراق في خدمة العلوم
العقلية الإسلامية ، هو أن
نتناوله : علماً علماً ، وبالطبع
قد لا يتمكن أي باحث من ذكر أو
الحديث المفصل عن كل العلوم ،
إذن فلا ضرر إذا قام بذكر بعض ما
قام به هؤلاء المستشرقون في
دراسة تاريخ العلم العربي ،
وبحثه وتحقيق نصوصه . وختاماً
: فليس عيباً على الإطلاق أن
نسعى لعلم الآخر أو فكره ، نفحصه
، ندرسه ، نتأمله ، ننقده ، ثم
نأخذ منه ما ينفعنا ، وما يصلح
لنا ، وما يتفق مع ثوابتنا . ــــــــــ *
باحث ومحاضر في الدراسات
العربية والإسلامية ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |