-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
المافـيا
التي تصنع الآراء الدكتور
عبد القادر حسين ياسين* يتبجحون
كثيراً في الغرب بأن الصحافة
"حرة" وكذلك كل وسائل
الأعلام المقروءة
والمسموعة والمرئية. ولكن خلف
هذا التبجح توجد حقيقة مغايرة
تماماً. حدث ذات مرة
أن قرر علماء الاجتماع
الأمريكيون استغلال الإضراب الذي قام به
جميع العاملين في الصحافة في
نيويورك، لمعرفة ما يشعر به
الإنسان حينما يفقد المصدر الإعلامي المعتاد.
قال أحدهم: "إنني أشعر بنفسي
مرتبكاً، كأنني قد عصبت عيناي". هذا نموذج من
الإجابات العادية على ما وجهه
علماء الاجتماع من أسئلة. وقد استنتج العلماء
أن الصحف قد صارت جزءاً لا يتجزأ
من نمط الحياة الأمريكية، وأنها تؤثر بقوة
على تكوين الرأي العام لدى
قرائها. ومثل ذلك التأثير الكبير تمارسه المجلات
أيضاً على الناس، وأكثر من ذلك
الراديو والتلفزيون أي جملة الوسائط التي تشكل وسائل
الإعلام الجماهيري. يصدر في
الغرب عدد كبير من الصحف
والمجلات، كما توجد كثير من محطات
الراديو والتلفزيون. ويبدو كما
لو أن بمتناول المواطنين في
الغـرب الحصول على أي إعلام
يريدون. وإذا ما افـترضنا جدلاً
أن وجود منبع واحد لا يوفر
إعلاماً صادقاً تماماً، أو
كاملاً بشكل تام، فإن هذا النقص
يمكن تعويضه بسهولة بالتوجه إلى مصادر أخرى.
إن معايشة جميع هذه المصادر
الإعلامية المتعددة يساعد حتماً على تكوين رأي
مـدعم بالحجج والبراهين، لدى من
يعيش في الغرب، إزاء كل مشكلة
تواجههم بها الحياة. مقلب بلا
حدود إلاَّ أن
الأمر يختلف تماماً في الواقع،
وها هو الدكتور هيربرت شيلر، أستاذ
الإعلام الجماهيري بجامعة
كاليفورنيا ، يقول: "إن التشبع
الإعلامي المفرط ليس بتوصيف
دقيق لحالة وسائل الاتصال في
الولايات المتـحـدة الأمريكية.
ليس لدينا وفرة في الإعلام الحقيقي،
تماماً كما أنه ليس لدينا نظام
جيد للرعاية الطبية، والتغذية المقبولة
والمساكن الملائمة. إن لدينا
بدلاً من ذلك محيطاً كاملاً من المعلومات التافهة وغير
الملائمة، والتي تستهدف
الإثارة وتسبح في ذلك المحيط
الذي لا يحده شاطئ، محيط بذور
الإعلام التي بقيت في مقلب
الزبالة سواء كانت ملحوظة أو غير ملحوظة..". ومن السهل
الاقتناع بأن ذلك هو عين
الحقيقة، إذا ما رجعنا مثلاً إلى برامج
التلفزيون في الغرب، لولا أنها
تتسم بالتفوق الحاد لإعلانات
معارض المعلومات
المسلية على المواد الإعلامية.
ولهذا السبب فعلى الرغم من أنه
يمكن مشاهدة
التلفزيون في أي بـلـد أوروبي
منذ الصباح الباكر وحتى ساعة
متأخرة من الليل، فإن مستوى
الإعلام في البرامج
التلفزيونية هابط جداً، وبرامج
الراديو أقل مستوى من التلفزيون
من الناحية الإعلامية. ونتيجة لذلك
يقدم لمشاهد التلفزيون أو مستمع الراديو إعلام غيـر كاف.
وينسحب ذلك ليس فقط على من يفتح
المذياع أو التلفزيون من حين لآخر، ولكن أيضاً على من
يشاهد أو يستمع لعدة ساعات بعد
فراغه من العمل. وبذلك، فإن الشخص لا يستطيع أن
يستوعب البرامج الإذاعية
والتلفزيونية المشوشة، لأنه
ليس لديه وقت للتفكير: إذ يتلو
البرنامج الإعلامي برنامج آخر
يحمل طابع الإثارة وهلم جرا. وبحساب عدد المستمعين
والمشاهدين للراديو
والتلفزيون، فإن التلفزيون هو
أكبر وسائل الإعلام الجماهيري
تفضيلاً، بسبب رجحان كفة
التسلية على كفة الإعلام السياسي. أما الصحف
والمجلات، فإنها تعطي جرعة من
الإعلام السياسي أكثر مما يعطيه
الراديو والتلفزيون. ومن جهة
الكم، فلقد كانت هذه الجرعة
كافية تماماً لتكوين رأي دقيق واضح، مدعم بالحجج،
لدى القراء، إزاء المشاكل
الأساسية في الحياة السياسية القومية والدولية. ولكن
ماذا يكتب في هذه الصحف
والمجلات وكيف؟ كيف يصبح
الأبيض أسود؟ لنأخذ على
سبيل المثال، صحيفةNew York Times "نيويورك
تايمز" إحدى الصحف البارزة في الولايات المتحدة الأمريكية.
فقبيل دورة مجلس الأمن التي بحث
العدوان الإسرائيلي على غـزة ،
أشارت الصحيفة إلى أن الولايات
المتحدة امتنعت عن التصويت على القرار الذي اتخذ بالإجماع...
ذلك الخبر كوَّن انطباعاً يوحي
بابتعاد واشنطن عن التأييد
الأوتوماتيكي لإسرائيل. وأكدت
الصحيفة أيضاً أن الولايات
المتحدة تسعى إلى موقف يتضمن استرضاء
الدول العربية "المعتدلة".
أما الحقيقة فكانت أن الولايات
المتحدة الأمريكية أخذت نفس الموقف
القديم المعروف المساند
لإسرائيل، في مواجهة جميع الدول
العربية وهو ذات الموقف الذي
اتخذته باستمرار... ومن الواضح
أن الخبر الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" لا يطابق الواقع
وأنه قد ضلل القراء، ومن وجهة
النظر الغربية، فإن الوضع في الشرق الأوسط يعتبر موقف
نزاع، ومن أجل الخروج بقرار
صحيح ينبغي الاستماع إلى تقييم النزاع من كل طرف من أطراف
النزاع، وللوهلة الأولى يبدو
وكأن الصحف تنقل للأمريكيين أراء الساسة العرب
والإسرائيليين. ولكن : أولاً : تظهر
وجهة النظر الإسرائيلية على
صفحات الصحف والمجلات بيسر واتساع
أكثر بكثير من وجهة النظر
العربية. ثانياً :
تحمل التعليقات الخاصة للصحف ـ
كقاعدة ـ طابعاً مؤيداً لإسرائيل.
وهكذا فإن "نيويورك تايمز"
تنظر إلى إقامة دولة فلسطينية
مستقلة، على أنه "ليس
وسيلة جيدة". كما أن القرار
الذي قدم لمجلس الأمن بالدعوة
إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من جميع
الأراضي المحتلة عام 1967، وإلى
الاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة خاصة
بهم، يعتبر وثيقة "غير عادلة"
من وجهة نظر صحيفة "واشنطون
بوست" الأمريكية. إن فكرة
النشاط الإعلامي للصحف في
أمريكا وفي الدول الغربية الأخرى، لا
تقوم على مدّ السكان
بالمعلومات الحقيقية، وإنما
على شدهم إلى تصورات محددة وإجبارهم على تبنيها.
فعلى سبيل المثال، عندما حدثت
عملية "التنظيف" المشهورة في القسم
الإسباني في هيئة الإذاعة
البريطانيةBBC ، كان الهدف
من هذه العملية، هو استبعاد
الموظفين الذين كانوا يعملون من
أجل تقديم إعلام موضوعي للرأي
العام، حول الأحداث في أمريكا اللاتينية. فمن أجل أي
شيء يا ترى يتم عمل ذلك؟ ومن
الذي يتحمل وزر السعي إلى تحويل "رجل
الشارع" الأمريكي والإنجليزي
والألماني والياباني، بواسطة
التلفزيون، إلى مشاهد سلبي لا يرغب (أو ليس لديه وقت
للتفكير) في جوهر الأحداث، وبواسطة
الصحف والمجلات، إلى تكوين تصور فاسد مشوه
حول أغلبية القضايا الوطنية
والدولية؟ المافيا
الـتي تصنع الآراء! يقول الباحث
الأمريكي ريتشارد رايت، إنه
توجـد في الولايات المتحدة الأمريكية "مافيا"
لتكوين الآراء، تشرف على نسبة 95
بالمائة من الإعلام... ويعدد
الباحث أولئك الذين تضمهم هذه
المافيا، إذ ترأسها (بدون
استغراب كما يبدو للوهلة
الأولى) إدارات أكبر الشركات
الصناعية والبنوك. وهي تهمين
على نشاط وسائل الإعلام
الجماهيري بواسطة الإعلانات. إن الدقيقة
الواحدة من الإعلان في
التلفزيون الأمريكي، تساوي 90 ألف دولار. وكلما كانت
الإعلانات أكثر كلما ازدادت
دخول أصحاب المحطات التلفزيونية. إن كمية
الإعلانات التي يتم عرضها على
صفحات المطبوعات، أو في أي برنامج، تتبع تماماً البنوك
والشركات. فإذا ما وافقت
المواقف الأيديولوجية والسياسيـة للصحيفـة هوى
الرأسمـاليين، فإن في
استطـاعتهم أن يجعلوها تزدهر،
وإذا لم توافق هواهم، فإن
باستطاعتهم خنقها... ولقد حدث شيء
مشابه منذ عدة سنوات مضت، مع جريدةWeek End "ويك
إند" الأسبوعية، التي تصدر في
مدينة سان فرانسيسكو. فقد تجرأ
محررها ونشر سلسلة مقالات نقدية
حول مستشفى محلي، وسرعان ما قام
أصدقاء أصحاب المستشفى، من ذوي الجيوب المنتفخة
بالمال، بسحب نسبة 50 بالمائة من
إعلاناتهم وسرعان ما شارفت الصحيفة على الإفلاس. ومع أن هذا
المثال يوضح دور الإعلانات،
إلاَّ أنه لا يوضح سمات العلاقات التي يقوم عادة
بين أصحاب الشركات والبنوك من
جهة، وبين أصحاب الصحف من جهة أخرى. ومن أجل البدء في
إصدار صحيفة أو مجلة جدية، أو
إقامة محطة إذاعية أو تلفزيونية، فإنه يجب أن
يكون الشخص المتولي لهذه
العملية على درجة كبيرة من
الغنى والثراء. إن الصحف "عمل
ضخم" من جهة الأرباح التي
يحصل عليها صاحبها. ويبلغ متوسط
الأرباح من الصحف الأمريكية،
نسبة 35 بالمائة، وذلك أكبر من
متوسط أرباح الصناعة. وفي ما يتعلق
بالتلفزيون، فإن أصحاب بعض
المحطات قد استطاعوا أحياناً أن يحصلوا على ربح خيالي وهو 170
بالمائة! إن أصحاب "نيويورك
تايمز" الأمريكية أو Le Figaro "الفيجارو" الفرنسية،
هم تماماً كأصحاب Lockhead "لوكهيد" أو " وإذا ما كانت
المصـالح الأمريكية تستوجب
تأييد إسرائيل، فإنه ينبغي على الرأي العام أن
يقتنع، دونما معارضة لتحريف
الحقائق، بأن مثل هذا
التأييد يتفق ومصالح
جميع سكان الولايات المتحدة
الأمريكية. وإذا ما توقف إعجاب
دوائر معينة بالحكومة
الموجودة على رأس السلطة، وفي
اللحظة الراهنة، فإن وسائل
الأعلام الجماهيري
تقوم بنقد الحكومة الأمريكية
بشـان الحرب في كل من العراق
وأفغـانستان بشكل واضح ، وأثناء
ذلك يراعون من جديد الإبقاء على العلاقات الاجتماعية
القائمة، أي على أسس النظام
الرأسمالي. وبـعــد ؛ إن الدور
الذي يقوم به الإعلام في الغرب
يكمن في تقديم "حالة سلبية"
سياسية في أوساط الشعب، وذلك
لصالح الإبقاء على النظام
الرأسمالي الاحتكاري. ــــــــــــــــــــــــــــ *كاتب
وأكاديمي فلسطيني مقيم في
السويد . ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |