-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
إنا
على فراقك يا أبا محمد لمحزونون د/
محمد سعيد درويش بسم
الله الرحمن الرحيم ((يا
أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى
ربك راضية مرضية ، فادخلي في
عبادي ، وادخلي جنتي)) . تمر على
المرء مناسبات يتمنى فيها أن
يوهَب شاعرية فحول الشعراء ،
وبيان أفصح الأدباء ليعبر عما
في نفسه من فرح أو حزن .
وما شعرتُ يوماً بحاجتي
لمثل ذلك في السنين الأخيرة،
كشعوري حين توفي والداي أثناء
غيابي القسري ، وحين فجِعَتْ
الأمة بفقد أعلام بارزين
كالسباعي ، وسيد قطب ، وعبد
الفتاح أبو غدة ، وعبد الله
المطوع ..... ومن قريب المربي
الكبير أمين الشاكر ، واليوم
بوفاة شقيق روحه الدكتور حسن
هويدي رحمهم الله جميعاً . معظم
الذين يعرفون حسن هويدي عن بُعد
، يعرفونه كطبيب نطاسي ، وإنسان
متدين بصدق . أما إخوانه
المقربون وتلاميذه فيعرفون
أكثر من ذلك . عرفناه
متفوقاً في كل شيء : في دراسته ،
حيث عُرض عليه بإلحاح الإنضمام
إلى هيئة التدريس في كلية الطب
في جامعة دمشق بعد تخرجه منها ،
وذلك لتميزه في إختصاصه ، وتفوق
في تحصيله الشرعي والفقهي ، إذ
قد لا يعرف البعض أنه من علماء
سوريا البارزين يشهد له بذلك
كبار المشايخ . كان
بورعه وتقواه مدرسة صوفية
متميزة ، من أمتع أوقات صحبته
عندما يَؤمنا في صلاة جهرية ،
يرتقي بنا فيها مدارج الخشوع ،
فنشعر فعلاً أننا مع الله في
عُلاه ، ونتمنى لو استمرت
الصلاة لساعات . تواضعه
مُلفت للنظر ، يعشق مجالسته
المساكين والصالحين ، وقد يشد
الرحال إلى أماكن إقامتهم . سعة
صدره نادرة : كان يتولانا (
مجموعة من الشباب ) بالرعاية قبل
أن يأخذ علينا البيعة كأعضاء
جدد في جماعة الأخوان المسلمين
، بداية الخمسينات من القرن
الماضي ، واليوم - وبعد أكثر من
خمسين سنة – أُطأطئ رأسي خجلاً
عندما أتذكر تحمله بعض أسئلتنا
وتصرفاتنا. وبمقابل هذا الحلم ،
كان غضبه لله شديداً فترى شخصاً
غير الذي تعرف . بسلوكه
واستقامته وتواضعه ، فرض
إحترامه وتوقيره حتى على خصومه
السياسيين بل حتى على سجّانيه
في المعتقلات . يزروه
في بيته ، تودداً ، كبار
المسؤولين ، رغم الخصومة
الحزبية . كانت
عيادته مأوى لفقراء المرضى ،
وبيته ملاذاً لإخوانه في الشدة
والرخاء . أما عن
حكمته وبُعد نظره ، وجُرأته ،
فلا يُحدثك مثل خبير ، فقد كان
له من المواقف الحكيمة والجريئة
في نفس الوقت ، ما مكنه أن
يُجنِّب الجماعة مزالق كثيرة
حين تولى المسؤولية الأولى فيها
أيام محنتها بداية الثمانينات . كان لا
يتردد في تحمُل الأعباء الجسام
، رغم تقدمه في السن وضعف جسده –
المزود بكلية واحدة – فأعطى
الأمانة حقها ، وبذل جهداً ينوء
به الشباب أولي العزم ، خاصة بعد
أن اختير نائباً للمرشد العام
وكَثُرَت مسؤولياته ، حتى كنا
نُشفق عليه ونطلب منه إعطاء
جسده وصحته حقهما ، فاستمر
العطاء بِصمت دون شكوى أو تبرم .
فكانت حياته عطاء متواصلاً حتى
وفاته. في أيام
ترجّله من السفر – وهي قليلة –
كان يرعى درساً مفتوحاً لمن
يحضر من إخوانه ، وكان آخر درس
له ليلة وفاته عن الموت ! يُخفض
جناحه لإخوانه وتلاميذه ، بقدر
واحد ، على اختلاف أعمارهم
ومستوياتهم الإجتماعية
ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم . وهبه
الله عاطفة جياشة تلقائية ،
ولعل الذين يذكرون خطبته في
مسيرة الإحتجاج الكبرى على
إعدام عبد القادر عودة وإخوانه
، وفي مُشيعي السباعي ، والذين
قرأوا قصيدته في رثاء سيد قطب -
رحمهم الله جميعاً – يُدركون ما
أقول . جيلنا ،
وأجيال قبلنا وبعدنا ، مدينون –
بعد الله – له وللرعيل الأول من
إخوانه ( أمين الشاكر ، عبد
الكريم عثمان ، إبراهيم الطه .....
) بالإستمرار على النهج القويم
في فترة عصيبة كانت فيها الفتن
السياسية والأخلاقية لا تستثني
إلا الجذور الراسخة . تعلّق
قلبه بالمدينة المنورة
وبساكنها عليه أفضل الصلاة
والسلام ، تعلُقاً شديداً ،
وكان يُكرر أمله أن يُدفَن في
بقيعها . عندما
يتحدث عن الرسول صلى الله عليه
وسلم يتغير لونه ونبرة صوته
ويُحلِّق في أجواء الحب، لتسمع
أدباً رفيعاً وعلماً غزيراً
وشعراً منثوراً . إن
الحديث عن أبي محمد يطول ،
والشعور بالفقدان لن يزول . وإن
القلب لَيَحزن ، وإن العين
لتدمع وإنا على فراقك يا أبا
محمد لمحزونون ... محزونون ...
محزونون ، ولا نقول إلا ما يُرضي
الرب ... إنا لله وإنا إليه
راجعون . اللهم
لا تحرمنا أجره ولا تفتِنّا
بعده ، وارحمنا إذا صرنا إلى ما
صار إليه ، واجزه خير ما جزيت
أستاذ عن تلاميذه ، واجمعنا به
تحت لواء الحبيب الأعظم صلى
الله عليه وسلم . والحمد
لله رب العالمين . ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |