-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الدنيا
صغيرة الدكتور
عثمان قدري مكانسي سألت
والدي رحمه الله تعالى وانا صبي
مميز : ما
اسم جدك يا أبي ؟ قال :
عبد القادر . قلت :
واسمك " محمد قدري " وأنت
أكبر من عمي " عبد القادر "
ومن العادة أن يكون اسم الولد
الأكبر على اسم جدّه ، وها أنت
سميتني " عثمان " على اسم
جدي لأني أكبر إخوتي ... فَلِماذا
لم يكن اسمك " عبد القادر "
؟ قال:
سؤال وجيه وقصته تطول . قلت :
ليس وراءنا شيء يا أبي ، وأنا
أحب أن أعرف سبب تسميتك على غير
ما اعتاد الناس . قال:
أولاً حباً وكرامة ، وثانياً لا
بد أن تعرف عاجلاً أم آجلاً . عمل
جدّك عثمان – يا ولدي – رئيس
مخفر برتبة مساعد في بداية
القرن العشرين . ثم بدا له أن
يستقيل فيعمل عملاً آخر ، ولكنّ
الضابط (رئيسه في العمل ) نصحه أن
يظل في سلك الشرطة ، فالحرب
العالمية الأولى ( حرب السفر
برلك ) على الأبواب . وحين تدخل
الدولة العثمانية الحرب فسوف
تجنّد ما تستطيع من الشباب ،
وبقاؤه شرطياً خير له من سوقه
إلى الجبهات في الأناضول وبلاد
البلغار وغيرها من البلدان .
والداخل فيها مفقود ، والخارج
منها بعد طول العمر مولود . فلم
يقبل جدك النصيحة واستقال من
عمله . جدك
أكبر أخويه " محمود ومحمد "
وكان الثلاثة على أعتاب الزواج .
فلم تمهل الحرب الأول والثاني
فذهبا فيمن ذهب إلى جبهات الحرب
. فكان جدك ممن سيق إلى حرب
البلقان وشرق أوربا ، وانطلق
محمد للقتال في اليمن . أما
محمود فكان قد أصيب وهو صغير
بإحدى عينيه ، فبقي
بعين واحدة
، وهو بهذا لا يصلح للقتال ،
فتركوه . ودامت
الحرب أربع سنوات ، من سنة أربع
عشرة وتسع مئة وألف ميلادية إلى
العام الثامن عشر، وعاد من بقي
حياً إلى بلده أو قريته يقص على
الناس ما لاقاه في هذه السنوات
العجاف . ومرت
سنة كاملة لم يسمع فيها أحد
شيئاً عن الشابين " عثمان
ومحمد " فاعتقد أهلهما وأبناء
حيهما أنهما في عداد القتلى –
وما أكثرهم في هذه الحرب
المدمرة التي أكلت الأخضر
واليابس - فاحتسبوهما
شهداء عند الله تعالى . فلما مرّ
شهران آخران دخل جدك البيت على
أمه ،
فكانت فرحتها بعودته لا يماثلها
فرح ، وكانت سعادتها كبيرة لا
ينغص عليها سوى غياب الولد
الثالث " محمد " ، ومرت
سنوات ثلاث انقطع أمل عودته
إليها ويئست من لقائه فاحتسبته
فرطاً لها يوم القيامة . كان جدك
عثمان قد تزوج وأنجب عمتك
الكبيرة " قدرية " ، وكنت
ثاني أولاد أبويّ ، فأراد أن
يطلق عليّ اسم أبيه عبد القادر ،
فأبت جدّتي أن يسميني
إلا محمداً على اسم ولدها
الذي فُجعت به . فلما أراد أن
يقنعها أنه سيسمي الولد الثاني -
إن جاء باسم أخيه - أبت بإصرار
وبدا الغضب في وجهها واضحاً ،
فتدخّل أحد وجهاء الأسرة ،
فأرضى الطرفين حين رضيا اقتراحه
أن يكون اسمي " محمد قدري "
، إلا أن جدك - كما علمتَ
ياولدي - أطلق على أخي
الثاني عمك " عبد القادر"
اسم أبيه . حدث هذا
في العشرينات من القرن الماضي
حين تزوج جدي ورزق بأبنائه
وبناته ، وقص والدي رحمه الله
عليّ هذه القصة في بداية
الستينات من القرن نفسه حين كنت
فتى مميّزاً . وتمر
الأيام ، ويعمل شقيقي " كمال
" وهو ثاني أولاد أبي في اليمن
الذي كان سعيداً يوماً ما –
فالفقر وضعف الريال اليمني
والحرب بين اليمنين الشمالي
والجنوبي والحياة القاسية كان
قاصماً لظهر أحبابنا هناك
- وتزوّج في اليمن ، ورزق
الأولاد والبنات . هاجر إليها
عام ثمانين وتسع مئة وألف ، وما
يزال مع أولاده عالقين هناك ، أو
قل راغبين – على الرغم من شظف
العيش وضآلة الدخل . فحب الوطن
الذي درج الأولاد في ربوعه يطغى
على كل وطن غيره . وفي يوم
الفطر من شوال عام ألف وأربع مئة
وخمسة وعشرين للهجرة
المباركة الموافق عام ثلاثة بعد
الألف الميلادية الثانية اتصلت
بأخي " كمال "
أهنئه بالعيد السعيد . قال
لي : طرق
بابي قبل أسبوع
رجل يمني سبعيني ، قدم لي
نفسه باسم " سالم الشامي "
وقال : أأنت من
آل " المكانسي " ؟ قلت
: نعم . قال :
ومن حلب ؟ قلت :
نعم . قال : إن
أبي من حلب واسمه " محمد
مكانسي " وأخبرني أن له أخوين
أكبرهما " عثمان " قلت : هو
جدي . قال :
والآخر اسمه محمود وأصيب بإحدى
عينيه ، فهو يعيش بعين واحدة . قلت :
أجل ، إنه عمّ والدي .. دعوته ،
فدخل ، وفرحت به ، وكان حديثٌ
طويل ، أخبرته فيه ماذكره
الوالد رحمه الله لنا ، وقص هو
عليّ أن والده هرب من الجيش
العثماني ، ولجأ إلى إحدى
القبائل اليمنية ، ثم طاب له
العيش في اليمن ، واستقر فيه
وتزوج ، وأنجب ولداً واحداً هو
الرجل السبعيني الذي عرفني
بنفسه وسررت بلقائه . لم يبق
من إخوة أبي " محمد قدري "
رحمه الله سوى الأخوين الصغيرين
" أحمد وعبد العزيز " ، وهما
الآن جدان في السبعينات أطال
الله بقاءهما ورزقهما الصحة
والعافية . اتصلت
بهما مهنئاً بالعيد السعيد
وقصصت عليهما ما جرى مع ابن
أخيهما ، وقررا أن يسافرا إلى
اليمن ليلتقيا ابن عمهما –
الجديد القديم - الذي عاجله
القدر بعد هذه الحادثة بأشهر
قليلة ، فلم يُقَدّر لهما أن
يرياه ، وأظن أن أخي على صلة
بأبنائه . كان
صديقي الأستاذ الأديب " محمد
هدى قاطرجي " ينصت إليّ وأنا
أقص عليه ما ذكرته لكم ، وكان
معه آخرون فأخذهم العجب مما
سمعوا إلا " محمد هدى " الذي
قال : إن
قصتي أشد غرابة وأكثر متعة من
قصتك يا أبا حسان . قلت :
هاتها يا أبا أسعد . قال : إن
أخي أحمد – كما تعلمون - يعمل
بائعاً للذهب في مة المكرمة منذ
ثمانينات القرن الماضي ، وما
يزال . قلنا :
هذا صحيح . قال في
حج ألف وأربع مئة واثنين وعشرين
للهجرة ، الموافق تمام الألف
الثانية للميلاد دخل مصري يشتري
لزوجته سلسالاً ذهبياً بعد
أدائهما فريضة الحج ، ودفع
الثمن ، وكاد يخرج من الدكان ،
إلا أنه التفت عائداً وطلب من
أخي أن يكتب له " فاتورة البيع
" فلعله يبيع قطعة الذهب
في يوم ما . فقال
له أخي : ما اسمك ؛ يا أخانا
الفاضل ؟ قال :
" أحمد قاطرجي " . التفت
إليه أخي متعجباً أن يذكر هذا
الرجل اسمه وهو لا يعرفه
، وقال له : أريد
اسمك يا أخ . قال
المصري : أنا " أحمد قاطرجي
" . قال أخي
: وأنا كذلك " أحمد قاطرجي "
، فكيف اشتركنا بهذا الاسم ،
وأنا حلبي وأنت مصري؟! قال : إن
أبي من حلب ، واسمي هو اسم أبي
الذي سافر إلى حلب - وأنا جنين في
بطنها ، وهو لا يدري أنها حامل
بي - ولم يعد . وكانت تحبه ،
فأطلقت عليّ اسمه . فانطلق
أخي بالرجل وزوجته إلى دارنا كي
يتعرف عليه الوالد أطال الله
عمره . قال
المصري : إن أباه ساق من حلب
ثمانية خيول أصيلة إلى مصر في
ثلاثينات القرن الميلادي
الماضي ، باعها من الملك فؤاد
الذي لم يعطه ثمنها إلا بعد
ثمانية أشهر ، وكان يسكن طيلة
تلك المدة في بيت رجل رأى في هذا
الحلبي أدباً وخُلُقاً
، فزوجه من ابنته ، فبقي
معها شهرين حين استلم ثمن
الخيول ، فطلب إلى زوجته أن تذهب
معه إلى حلب ، فأبت قائلة : إن
كنت تحبني فابق هنا في القاهرة . لكنّ
ثمن الخيول أمانة في عنقه يريد
أن يؤديها إلى أصحابها ، فسافر
إلى حلب ، ولم يعد . أما
الشيخ " أسعد " أبو محمد هدى
" ، فقد قال : إن عمّه " أحمد
قاطرجي " أدى الأمانة
لأصحابها ، وكان يجهّز نفسه
للعودة إلى مصر ،وأخبر أهله أنه
قد يعود إلى حلب ، وقد لا يعود ،
إلا أنه لم يخبرهم أنه تزوج هناك
. إلا أنّ القدر عاجله ، فلم يلبث
يسيراً حتى لاقى ربه ، وبقي
السرّ سرّاً . فلم ينكشف إلا بعد
عشرات السنوات .، وكان
السرور باللقاء كبيراً ، وكان
أكبر في قلب المصري الذي تعرف
عشيرته وأهله .
------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |