ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
صفحات
لا تُنْسى ادخل
وأغلق عليك الباب ... وإلا! الطاهر
إبراهيم* في صيف عام 1980، إثر خروجي من
المعتقل، بعد استضافتي فيه
لبضعة أشهر، ظننت أني قد قضيت ما
علي، ونلت القسط الذي لا يعفيك
منه، إلا أن تكون بعثيا مصفّى، -فلا
ينفعك أن تكون بعثيا من أجل
الوظيفة- أو أن تكون من الأقارب
والمحاسيب، أو أن تنتمي –جغرافيا-
إلى منطقة معينة، مع أن
البعض من أهلها حُسِبوا على
المعارضة فَحُبِسوا، أو تكون
متزوجا من امرأة من تلك
المنطقة، فإنه من جاور "السعيد"
يسعد. إذا لم تكن ممن مرّ ذكرهم،
وحتى تنجو من الاعتقال، يجب أن
لا يجتمع فيك خصلتان: المواظبة
على الصلاة وعدم التدخين، فهما
مظنة أن تكون من الإخوان
المسلمين. ولكن، "ما كل ما يتمنى المرء
يدركه". فما أن مضى على خروجي
من المعتقل أسبوعان أو أكثر
قليلا، حتى بدأت أشعر أن من
أعرفهم، أكثرهم غادر الوطن،
هذاإن كانوا قد نجوا من
الاعتقال. فالعمارة التي كنت
أسكن في شقة منها خلت من سكانها
أو كادت. بدأت أضرب أخماسي
بأسداسي، فإذا الورقة التي سلمت
لي من فرع المخابرات العسكرية،
التي تقول أنه لم يثبت علي تهمة
الانتماء للإخوان المسلمين، قد
أصبح وجودها في محفظتي مظنة
تهمة، وقد كنت أظنها جواز مرور. وتحت ضغط هذا الخوف، وجدت نفسي
أستقل سيارتي مع زوجتي وأطفالي،
قاصدا القرية التي فيها ولدت
وعلى ربوعها ترعرعت، وأنا أظن
أني سأجد فيها الاطمئنان بعد
الخوف، والأمن
بعد الرعب الذي يقطع الجوف حين
يأتيك زوار الفجر قبل الأذان.
رحب بنا الأخوة والأخوات ترحيب
مشفق مما سيحل بي وبهم أكثر مما
هو ترحيب استبشار، بعد أن
أدركوا أن الرقيب غير "العتيد"
سوف ينقل نشاطه من داري الأولى،
فيبث عيونه حول دار أقربائي .وهم
بين مشفق علي، وخائف مما
سينالهم من الأذى بسببي. ليتبين
لي بعد مدة وجيزة أني هربت من
تحت رذاذ المطر إلى تحت مزراب
الغيث المنهمر. وإذ كنت في الحي في المدينة تحت
أنظار رقيب واحد، فقد أصبحت في
القرية تحت أنظار عشرة من
الرقباء، ما بين مُكَلّفٍ
بالمهمة يقبض راتبه على ذلك، أو
متربصٍ بنا قديم لاحت له الفرصة
فأمسك بها لينال وساماً من
مسئول الأمن، ويشفي به غليلَ
نفس مريضة، لا تجد الراحة إلا
بأذى الآخرين. غير أن هؤلاء
كانوا أهون على نفسي من الشعور
بأني أصبحت عبئا ثقيلا على
أقربائي. فهم إن لم تنطق ألسنتهم
بالخوف، فإن نظراتهم –خوفاً
علي وربما على أنفسهم- تتكلم
بأفصح بيان. ليس هذا فحسب،
فالرعب الذي يأخذ بأقطار النفس
عندما أسمع صوت محرك سيارة يقف
تحت نافذة بيتي، فأظنها سيارة
المخابرات جاءت تأخذني إلى حيث
أعلم ما ينتظرني، نوع آخر من
الخوف. فحزمت أمتعتي وعدت إلى
المدينة. عدت لبيتي في المدينة، لأجد أهل
زوجتي تركوا شقتهم الملاصقة
لشقتي. العمّ الكريم هاجر من الوطن مع "حماتي"
والأطفال الصغار، وتباين مصير
باقي الأولاد: أما الأصغر فطالب
في السنة الأولى ثانوي اعتقلته
أجهزة الأمن بعد مغادرة والده
الوطن. الكبير والأوسط اتفقا أن
يذهبا إلى بيت جدهما لأمهما
ليتواريا عن الأنظار حتى حين. في
الطريق قال الأوسط للكبير: لا
ينبغي أن نذهب إلى بيت واحد.
اذهب إلى بيت جدي وأنا أذهب إلى
بيت خالي، فإذا جاؤوا أخذوا
واحدا منا ونجا الآخر، وهكذا
كان. فقد اقتسما المصير بينهما. في ليلة صيفية، وفي الهزيع
الأخير منها، سمعت قرعا عنيفا
على باب الشقة. نهضت من دون
إبطاء، وتبعتني زوجتي. قلت بصوت
يخنقه الفزع: "مين"؟ فجلجل
صوت ليس فيه أي أثر للرحمة
أوالأمن: افتــــاح. لم أكن
بحاجة إلى أن يكرر ما قال. مددت
يدا مرتعشة ،فتحْتُ الباب، فوضع
أحدهم قدمه بين مصراعيه. سألني
الصوت المجلجل: أنت عبد القادر
علوان؟ عرفت أنه أخطأ الاسم. لم
يكن اسمُ من يسأل عنه عبد
القادر، بل كان "عبدا" آخر.
غير أني آثرت ألا أدخل معه في
جدل لغوي، فأشرت للبيت المجاور.
دخل أحد العناصر إلى شقتي
ليتأكد من "هويتي". أمسك
العسكري بالهوية ولم ينظر فيها -لعله
أخذته رحمة أو حبسه عني حابس
الفيل- وقال: يا سيدي هذا ليس عبد
القادر. ودفع لي الهوية وخرج. بعد أن التقطت أنفاسي، وقبل أن
أغلق الباب قلت لزوجتي اعملي
لهم بعض الشاي. فصرخ الصوت
المجلجل: ادخل بيتك وأغلق عليك
الباب ... وإلا هلكت. جلست أنا
وزوجتي ندعو ونقرأ الأذكار، وإن
كان أكثرها قد هرب من صدورنا حتى
حان وقت صلاة الفجر. فصلينا
وعدنا إلى مجلسنا، ونحن لا نصدق
أنهم ذهبوا. في التاسعة صباح خرجت من شقتي
لأجد باب شقة أهل زوجتي مفتوحا
على مصراعيه ما يعني أنهم دخلوه
عنوة. هبطت إلى الدور الأرضي حيث
تسكن جدة زوجتي لأبيها، فوجدت
جدها لأمها جاء يخبرنا بأن
المخابرات ذهبوا إلى بيته
وأخذوا حفيده الأكبر. في التفاصيل: عندما يئسوا من وجود
أحد في بيت والد زوجتي نزلوا إلى
بيت أخيه فأخذوا ابنه الأصغر
"عز الدين" ليدلهم أين ينام
ابن عمه فأخذهم إلى بيت جده
لأمه، فاعتقلوا شقيق زوجتي من
بيت جده لأمه. ولم يطلقوا سراح
"عز الدين"، مع أن ابن العم
هذا لا يصلي إلا فيما ندر. وهكذا
فقد صدق حدس الشقيق الأوسط،
فنجا هو واعتقل أخوه الأكبر. بعد شهرين من هذه الحادثة،
أخبرني صديق لي: أن شقيق زوجتي
وجد مقتولا مع آخرين، أقرباء
لشباب مطلوبين، فتكتمت على
الخبر. تركت والد زوجتي
ووالدتها يعيشان على أمل أن
يكون ابنهما في عداد المعتقلين.
بقيا يتسقطان أخباره كلما خرج
معتقل. بعد سبعة أعوام ، مات
الوالد، وتم حصر الميراث، وعزلت
حصة الأخ الغائب، لعل وعسى.
وهكذا مضت أعوام وأعوام زادت عن
ربع قرن، ولماّ يعدِ الغائب
بعد، وهل يعود الموتى؟ تعليق: لو أن العسكري الذي دخل
بيتي فجر ذلك اليوم أخذ هويتي أو
هوية زوجتي، فعرف رئيس كتيبة
الاقتحام اسمي أو اسمها،
وعُرِفت صلة القرابة مع صاحب
البيت الذي اقتحموه ، لتبادلْتُ
المصيرَ مع شقيق زوجتي. فسبحان
من قدر الأعمار وخالف بين الليل
والنهار. للأمانة والتاريخ، لم
أغير من حقيقة الرواية شيئا،
وربما تجاوزت بعض التفاصيل،
لكنها الحقيقة كما جرت مع بعض
التصرف. *كاتب سوري ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |