ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
عُربان
اليوم والرِدّة إلى عصر
الجاهلية د.
أسامه محمد أبو نحل*
منذ فترة أعجبتني جملة
مفادها: "اذبحني يا مولاي، إن
كان موتي يُرضيك!". هذه الجملة
وثيقة الصلة بما تعانيه ساحتا
العالمين العربي والإسلامي،
وخاصةً ما تتعرض له الساحة
الفلسطينية: من مظاهر محو
للهوية الوطنية من جهة، وإبادة
من جهةٍ ثانية، وحصار مُريع
غاية في الفظاظة لقطاع غزة، لم
يسبق أن رأى تاريخ البشرية
مثيلاً له من قبل من جهةٍ ثالثة.
أنْ يفرض العدو حصاراً على
شعبٍ يحتله، فهذا أمر نفهمه،
لكن أن يشارك بنو الجلدة من إخوة
وبني عم في هذا الحصار، فهذا أمر
يصعب على المرء تصوره وتقبله. قد
يتفلسف قائل ويقول: إن الإخوة
وبني العم مجبورون على فعل ذلك؛
لأن الرياح عاتية ولا قِبَل لهم
بمواجهتها، غير أن السوابق
التاريخية لمثل هكذا قضية لم
تحدث إلاَّ ما ندر.
وإليكم التفاصيل، ففي
التاريخ الوسيط والإسلامي منه
على وجه التحديد، غداة الغزو
الإفرنجي والمغولي للمنطقة
العربية شهدت بعض الإمارات
الإسلامية الكثير من الضعف
والانحدار السياسي والقيمي
والأخلاقي، ووصل بها الأمر لحد
التعاون مع المحتل الأجنبي ضد
بني جلدتهم من بقية الإمارات
التي آثرت المقاومة. لكن في
الفترة نفسها كان يوجد من يقف ضد
هذه الإمارات ويتصدى لها ويُعيد
لها عقالها، كما حدث من الناصر
صلاح الدين الأيوبي الذي قضى
على هذه الإمارات الهزيلة،
فأعاد للأمة شرفها المسلوب.
وكما حدث مع قادة المماليك
الذين تصدّوا للخطر المغولي
ووضعوا حداً لتمدده في المنطقة،
فكانت النتيجة؛ أن بدأ المغول
باعتناق الإسلام.
أما اليوم فالصورة مغايرة،
فلسطين سُلبت بالكامل وهُوِّدت
مدنها وقراها، وقُدسها
اُستبيحت على مرأى من العرب
والمسلمين، ولم ينطقوا ببنت شفة
تعبيراً عن رفضهم لهذا الواقع
الجديد. وإن قامت مقاومة ضد
سياسة التهوّد هذه، حوربت منهم
وجرى العمل على وأدها، كما
الأمر مع المقاومة الفلسطينية
بشتى صورها، التي تتصدى للتغوّل
الإسرائيلي بأبشع صوره. وكذلك
الأمر المقاومة اللبنانية التي
تمكّنت في العام الماضي في تموز
وآب 2006م، من تحقيق نصرٍ باهر على
الإسرائيليين، ومع ذلك وبينما
كانت المعركة مستعرة كان بنو
الجلدة يحاولون ضعضعة أركان
المقاومة بوصم القائمين عليها
بأنهم شيعة، أو بمعنى آخر لا
يجوز للسُنّي أن يدعمها. أي منطق
هذا الذي نحياه في زمننا هذا، أو
كما يقول العامة: "لا منهم ولا
من كفاية شرهم".
عُربان اليوم ليسوا هم
عُربان الأمس، الذين كانت تدب
فيهم النخوة لنصرة أقوام عربية
وإسلامية، بمجرد أن يستغيثوا
بهم لنصرتهم، كالخليفة المعتصم
بالله. اليوم إن استغاث بهم بنو
جلدتهم تململوا وتثاءبوا،
وولوا وجوههم للخلف كأن الأمر
لا يعنيهم، ما داموا لم ينكووا
من النيران المشتعلة بذوي
القربى. وهذا أمر ناجم من طلب
الأجنبي منهم بعدم التدخل فيما
لا يعنيهم، فأقاربهم- من وجهة
نظر هذا الأجنبي- إرهابيون،
وبالتالي فعليهم أن ينأووا
بأنفسهم عن مساعدتهم وإلاَّ
فسوف يوصمون بالتهمة ذاتها.
العالم العربي اليوم بالذات
مهلهل، باتت عيوبه ظاهرة
للعيان، ولا يمكن مداراتها
وتغطية سوءاتها؛ الأمر الذي جعل
بعض المتنفذين يستلذَّ الهوان،
صورة بتنا نقرأها كل يوم، حتى
أصبحت معتادة لنا!.
السيد الأمريكي القابع في
البيت الأبيض يحركنا كيفما شاء
بالوسائل الإلكترونية الحديثة،
كالريموت كنترول أو جهاز التحكم
عن بعد إن جاز لنا استخدام لغتنا
التي فضلها وميّزها رب العالمين
بالقرآن الكريم على بقية لغات
العالم. يقول لنا كن فنكون،
وعذراً إن استخدمت في مقالتي
مصطلحات لا يجوز استخدامها، لكن
الضرورة تقتضي ذلك. فالسيد
الأمريكي الذي نعيش في عصره
الآن، ومنذ أن رسّخ قدماه على
الأرض العربية يفرض علينا
ثقافته وتقاليده، ولم يستطع
عُرباننا أن يجابهوها بقيمهم
وتقاليدهم، التي هي أفضل من
قيمه وتقاليده. وتركنا شبابنا
عماد مستقبلنا ينهل من تقاليد
السيد الأمريكي دون وازعٍ من
ضمير، ولا نستطيع أن نمنعه من
النهل منها، أو على أقل تقدير
الحد من الإقبال عليها. فإذا فسد
شباب مستقبلنا، فالنتيجة
المحتّمة ستكون إقبالنا على
واقعٍ ومستقبلٍ مظلم، لا يعلم
إلاَّ الله متى سنخرج منه.
عندما احتل الفرنسيون مصر
عام 1798م، أخبرنا شيخ المؤرخين
المصريين عبد الرحمن الجبرتي،
بأن بعض أهالي مصر قد بدأوا
بتقليد المحتلين في عاداتهم
ولباسهم. ويبدو أن هذا أمر واقع،
من المفترض على المهزوم أن
يسايره. واليوم دول العالم
العربي الكبير باتت تتقمص
الشخصية نفسها، فدولٍ عربية
كانت حتى الأمس القريب فقط توصف
بالمحافظة، أضحت اليوم متأمركة
بالكامل، خلعت عن نفسها ثوب
المحافظة، الذي بات في نظر
أهلها تخلفاً ورجعية، فَلَبِس
شبابها الزى الأمريكي الخليع
سواء بين الرجال أو النساء. ولم
يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد
وصل الأمر إلى حد النظر إلى
دينهم الإسلامي على أنه سبب
تخلفهم، فبدأت مجموعات ليست
بالقليلة بالارتداد عن الإسلام
واعتناق المسيحية، خاصةً في
دولٍ يشكو أهلوها من الفاقة
والفقر، فاستغلت طوابير الفرق
التبشيرية هذه الظروف لإقناع
بعض المسلمين باعتناق
المسيحية، بعد أن صوّروا لهم
أنها المخلص لهم مما يعانونه.
والغريب في الأمر أن هذه
الجماعات التبشيرية في أغلبها
بروتستانتية، أي مذهب السيد
الأمريكي المؤمن بإسرائيل
كواقع وبضرورة دعمه بلا حدود،
ولا يتدخل حكّام هذه البلاد على
منع هذه الظاهرة، كأن حد
الرِدّة قد انتهى مفعوله.
إن ما يحدث ويجري على الساحة
العربية، هو نوع من الرِدّة إلى
العصر الجاهلي، لكنها الجاهلية
الثانية، سواء من جانب الحكّام
أو المحكومين، الاثنان
يتساويان في التبعية العربية
للأجنبي، وخاصةً للسيد
الأمريكي، الذي بات هو إلههم
الذي يعبدونه ويأتمرون بأمره.
يأمر فعليهم السمع والطاعة،
وينهى فيلتزمون بما ينهى عنه. في عصر
الجاهلية الأول الذي قضى عليه
رسالة محمد بن عبد الله صلى الله
عليه وسلم، كان العُربان لا
يتورعون عن فعل أي شيء منافٍ
لقيمهم وتقاليدهم، خاصةً
المتعلقة بضرورة الالتزام
بتعاليم وأوامر أسيادهم
القابعين خارج الجزيرة العربية
من فرس وروم وأحباش. بعض حكّامهم
في تلك الفترة التاريخية كانوا
يُعينون برغبة هؤلاء الأسياد،
ويحاربون بعضهم بعضاً تنفيذاً
لإرادة هؤلاء الأسياد. ومع هذا
كله فقد كان لدى بعض حكّام
الجزيرة العربية في الجاهلية
نوع من النخوة إذا وقع على جاره
مكروه، فيهبَّ لنصرته. أما
اليوم فالصورة مقلوبة تماماً،
أصبح العربي جار العربي عدواً
من الواجب على أحدهما أن يحاربه
أو يُضيّق عليه في مناحي عيشته،
ليُرضي إلهه القابع في البيت
الأبيض، وإلاَّ فالويل والثبور
له إن لم يفعل.
بالأمس القريب، كان إله
البيت الأبيض يزور منطقتنا،
وتوقعنا أن تبرز ولو على
استحياء شيء من النخوة لدى
حكّامنا، فيهبّوا للطلب من
سيدهم برفع المعاناة أو جزء
منها عن كاهل الشعب الفلسطيني
بقطاع غزة، لكننا صُدمنا عندما
شاهدنا بأم أعيينا كيف كانت
الحفاوة التي استقبلوه بها،
وكرم الضيافة الذي يشتهر به
العرب لكن ليس فيما بينهم وإنما
مع الغريب. لقد شاهدنا وسمعنا
كيف أن السيد الأمريكي يزمجر
ويأمر، وعبيده ينصتون بخشوعٍ
مبالغ فيه. والحق يقال: هكذا هي
العبودية الحقّة الواجب
اتباعها مع السيد الإله. السيد
يقول: إنني ملتزم بأمن الدولة
اليهودية، لا دولة إسرائيل،
والعبيد لم ينبثوا ببنت شفة
اعتراضاً على ما يقول، وهذا
دليل على قبولهم بما يقول.
ورأيناه يرقص الرقصة الشعبية
لبعض هؤلاء العبيد معهم، وهم
فرحون جزلى بأنه تعطّف عليهم
بأن قام بشيء يسر قلوبهم، توطئة
للجائزة التي سيحصلون عليها،
بإبقائهم على سدة الحكم.
ورأيناه يتوشّح بأرفع الأوسمة
الذهبية، كنوعٍ من الرضا عما
يفعله بأهل فلسطين، وكان الأولى
أن تذهب قيمة هذا الوسام لأهل
غزة المتضورين جوعاً، ولم يعد
ثمة ما يقتاتون به.
ليس العُربان فقط من
يتآمرون على فلسطين وقضيتها،
ويبيعونها قطعة تلو القطعة
للأجنبي، ويساعدون على
تهويدها، بل الفلسطينيون
أنفسهم من أصحاب التنظيمات
يتساوقون ويتبارون مع بني
جلدتهم من العُربان، بخلافاتهم
التي قصمت الظهور، وصراعاتهم من
أجل الكراسي والمناصب، واللهث
وراء سراب اسمه سلطة، لا يملكون
من حطامها شيئاً؛ لذا فالكل
متساوٍ في تفاقم معاناة أهل
فلسطين، سواء أكانوا عرباً أم
فلسطينيين، حكّاماً كانوا أم
محكومين، بل إن معاناة هذا
الشعب المكلوم هي من صنيعة
المحكومين أكثر منها من
الحكّام، فإذا كان الحاكم
فاسداً، فسكوت المحكوم على ما
يفعله الحاكم أكثر ضرراً،
فالمحكوم إذا أراد تغيير الواقع
المهين الذي يحياه، فيمكنه أن
يجد الوسيلة لذلك، ولكنه بسكوته
يفعل فعل حكامه، وكأنه استمرأ
المقولة القائلة: الناس على دين
ملوكهم، فهو وهم في المسئولية
سواء. ولكن
الأرضَ ولاسيما أرضنا المقدسة
التي أنجبت القادةَ الشجعان
والأبطالَ المغاوير لن تبخل
علينا بإنجاب من يملك الكرامة
والمروءة وعزة النفس؛ ليصنع لنا
المجدَ الذي نبغيه، وصدق شاعرنا
العظيم أبو القاسم الشابي عندما
قال: إذا
الشعب يوماً أرادَ الحياة
فلا بدّ أنْ يستجيبَ القدرْ ولا
بـدّ لليـلِ
أنْ ينجلي
ولا بدّ للقيدِ
أنْ ينكسرْ
ألم نستمع يوماً للمطربة
الكبيرة نجاح سلام وهي تشدو في
فيلم المجاهد الكبير عمر
المختار: "يا أمة العرب شيء من
الغضب"، لكنها كانت تشدو في
عالم غير عالمنا، وفي وادٍ سحيق
غير ذي زرع لا تقترب منه عربان
اليوم، ولكن على ما يبدو لأناس
من غير جلدتنا، كما هو حال
الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز
الشيوعي، الذي لا يؤمن
بديانتنا، والنائب البريطاني
جورج جالاوي، اللذان فرضت
عليهما النخوة يوماً ما ولا
زالا أن يكسرا الحصار على شعب
العراق المحاصر، وأن يمدا يد
العون للشعب الفلسطيني. أما
عُرباننا فجزاهم الله كل خير،
فإنهم عندما يشاهدون مناظر
عذابات أهلهم في فلسطين،
يمصمصون شفاههم وتذرف عيونهم
دموع التماسيح على ما شاهدوه،
ثمَّ سرعان ما ينسون ما رأوا،
ويذهب كل في طريق كأن لم يروا
شيئاً، وهذه نعمة النسيان على
بني البشر.
الله الله يا أمة العرب،
أليس فيكِ شيء من الغضب، تغضبين
به من أجل مستقبلك، ومن أجل
مرؤتك، فإن لم تستيقظي مبكراً
لِما يُحاك ضدك، فلن يكون لك دور
بين أمم الأرض، ولن يكون مصافك
حتى بين أكثر الأمم تخلفاً، إن
لم تكوني قد وصلت بالفعل إلى هذا
المصاف الرهيب والمخزي. *أستاذ
مشارك في التاريخ الحديث
والمعاصر جامعة
الأزهر – غزة ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |