ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
كيف
لا يُصنع السلام في الشــرق
الأوسط؟
على
أبواب تنصيب باراك أوباما في
البيت الأبيض، كتب حسين آغا
وروبرت مالي، في 17 كانون الأول
الماضي في «نيويورك ريفيو اوف
بوكس»، مقالاً هو أشبه بجردة
حساب لكل من أسهم في إفشال تسوية
للنزاع العربي ــ الإسرائيلي.
لا تقتصر المسؤولية على الطرفين
الإسرائيلي والفلسطيني، بل
أيضاً على إدارات جورج بوش وبيل
كلينتون، وخصوصاً على أربعة من
أبرز صانعي سياسات إداراتهما:
أرون ميلر، دانييل كورتزر، سكوت
لاسينسكي ومارتن إنديك حسين
آغا وروبرت مالي (ترجمة
جورجيت فرشخ فرنجية) لم تحظَ
الشؤون الخارجية إلا بحصّة
صغيرة من حملة باراك أوباما
الرئاسية، ولم تمثّل عملية
السلام في الشرق الأوسط إلا
جزءاً منها. ومع ذلك، فإن
الاحتمالات الضعيفة جداً
للتوصل إلى سلام بين
الإسرائيليين والفلسطينيين،
تجعل من إحداث تغيير ملحوظ في
السياسة الأميركية المعتمدة
سابقاً حيال هذه القضية، مسألة
ملحة، بغض النظر عن أولويات
الإدارة الجديدة. يصعب التشكيك
في الحاجة إلى الابتعاد عن
المزيج القاتل بين الغطرسة
والجهل الذي طبع عهد جورج بوش
الرئاسي. وليس هذا بالأمر
الوحيد الذي يجب الابتعاد عنه.
فقد رحّب بعض المراقبين بعودة
ظهور الأسلوب الدبلوماسي
الأميركي الأقدم عهداً في العام
المنصرم، مع زيارات وزيرة
الخارجية كوندوليزا رايس
المتعددة إلى المنطقة، والجهود
التي بذلت لبناء مؤسسات وقوات
أمنية فلسطينية، والمفاوضات
بين الإسرائيليين والفلسطينيين
بشأن اتفاق الوضع النهائي. ولكن،
إذا وُضعت الادّعاءات جانباً،
يصعب للغاية اعتبار هذه الجهود
ناجحة. فالحقائق على الأرض ـ من
بناء المستوطنات إلى
الانقسامات الآخذة في العمق ضمن
المجتمعَين الفلسطيني
والإسرائيلي، إلى تزايد فقدان
الأمل بحل الدولتين ـ تبعد أكثر
فأكثر احتمال عقد اتفاق سلام. لقد
أحيا فشل جهود بوش المتكرر،
الحنين إلى جهود الرئيس
كلينتون، غير أنه حنين ولد من
لدن الغضب من الحاضر، بقدر ما
وُلد من الحنين إلى الماضي. فقد
مثّلت تسعينيات القرن الماضي،
مرحلة الفعالية الأميركية باسم
السلام، حتى أنها دوّنت رقماً
قياسياً يمكن التنافس عليه. لكن
هذا الكلام ليس للمعذرة، فقد
باءت ولاية كلينتون بالفشل في
هذه المسألة، وهو فشل له على
الأقل، علاقة ما بالسياسات التي
يُندَم عليها كثيراً اليوم. سوف
يتحتم على الرئيس أوباما أن
يحدث تغييراً، قول يكاد ينعدم
الشك فيه. ولكن ذلك سيتطلب أكثر
من قلب صفحة تضمنت أسوأ ما حملته
سنوات عهد بوش. فسوف يعني ذلك
كتابة مخطط مختلف تماماً. تحاول
كتب صدرت أخيراً، وضعها أربعة
من صانعي السياسية الأميركية
المتمرسين، أن تضيء على أخطاء
الماضي وتقدم إرشاداً للمستقبل.
فالكتاب المعنون «الأرض
الموعودة بشكل مفرط» هو عبارة
عن سرد شخصي إلى حد بعيد لما
يسميه كاتبه، أرون ميلر، «سعي
أميركا المحيّر إلى السلام
العربي ـ الإسرائيلي». وتركز
حصيلة دراسة ثانية صدرت عن «المعهد
الأميركي للسلام»، أجراها
دانييل كورتزر وسكوت لاسينسكي
تحت عنوان «التفاوض بشأن السلام
العربي ـ الإسرائيلي»، على عهد
كلينتون وولايتَي بوش
الرئاسيتَين. فتقدم كتيباً
يتضمن ما يجب على المسؤولين
الحكوميين المستقبليين أن
يفعلوه وما يجب ألا يفعلوه. أما
الكتاب الذي وضعه مارتن إنديك
بعنوان «ساذجة خارجياً»، فهو
يعطي صورة أشمل. إنه مقارنة
طموحة بين آخر محاولتَين
أميركيّتَين فاشلتَين لتغيير
الشرق الأوسط ـ كلينتون من خلال
السلام، وبوش عبر الحرب ـ وهو
يدقق في كلٍّ من النزاع العربي ـ
الإسرائيلي والسياسة الأميركية
حيال إيران والعراق. في مكان
ما في صميم هذا السعي، كما يوحي
عنوان إنديك وتستنتجه الكتب
الثلاثة، تكمن جهود قوة عظمى
حسنة النية في معظم الأحيان،
مرتبكة مراراً وتكراراً،
تُحبَط مناوراتها دوماً
بمناورات تفوقها براعة. تقدم
الكتب الثلاثة انتقادات حادة،
فظة أحياناً، للرئيسَين
الأخيرَين. ومع ذلك، لم يكن أي
من الكتّاب مشاهداً سلبياً في
عهدَيهما. فقد كان لكل من ميلر
وكورتزر وإنديك، أدوار بارزة في
صياغة السياسة الأميركية أو في
تنفيذها. لكن كورتزر، الذي كان
سفيراً في القاهرة وتل أبيب بين
1997 و2005، شغل مناصب كانت تصعب
منها صياغة قرارات سياسية مهمة؛
وكلمة حق تقال، لطالما أثار هذا
الرجل أسئلة من بعيد. لم
يحالف ميلر وإنديك حظاً مماثلاً.
فميلر كان مستشاراً لكل
الإدارات منذ عهد رونالد ريغان.
وفي عهد كلينتون، لعب دور مساعد
المبعوث الأميركي إلى الشرق
الأوسط، ومنسق عملية السلام؛
وكما يعترف مراراً منتقداً
نفسه، كان ينادي عادة بالسياسات
التي يأسف لاعتمادها الآن. أما
إنديك، فيمثّل حالة منفردة. كان
مدير مكتب الشرق الأوسط في
البيت الأبيض، والأمين العام
المساعد لشؤون الشرق الأدنى،
وعُيِّن مرتين سفيراً في
إسرائيل (1995ـ1997 و2000ـ2001)، وقد شغل
عملياً كل منصب يتمتع بنفوذ في
هذه المسألة يمكن التفكير فيه. هذا
وتستشهد الكتب بمجموعة من
المسؤولين السابقين الرفيعي
المستوى الذين لا يبدون وجهات
نظر متساهلة حيال أداء الإدارات
التي عملوا معها. يجب ألا
يمثّل هذا مفاجأة كبيرة. فثمة
تقليد يسود منذ أمد بعيد بين
المسؤولين الأميركيين السابقين
في الشرق الأوسط؛ إنهم يتحسرون
رجعياً على الاستراتيجيات التي
ساعدوا على صياغتها في الماضي.
وليس التحسّر الاستعادي
بالتصرف الاستثنائي بتاتاً، بل
أصبح من مخاطر العمل. ولكن أياً
من الكتب لا يواجه هذه الظاهرة
كلياً، وهو أمر مؤسف، إذ أصبح
الطقس منتشراً انتشاراً كافياً
ويترتب عليه ما يكفي من النتائج
لمعالجته. إن
الكتب الثلاثة، «الأرض
الموعودة بشكل مفرط»، و«التفاوض
بشأن السلام العربي الإسرائيلي»،
و«ساذجة خارجياً»، تخبر إلى حدّ
ما قصصاً مشابهة عن أميركا
ساذجة أو مفرطة في الحماسة، أو
الاثنين معاً، ضاعت في متاهة
الشرق الأوسط، وفاقها دهاء
مراراً أولئك الذين سعت إلى
التأثير فيهم، وفشلت تكراراً في
تحقيق أهدافها. تكمن
الاختلافات الرئيسة بينها في
الأسلوب. فقد كتب كورتزر
ولاسينسكي سرداً رصيناً
ودقيقاً جداً خالياً من أي
زخرفة، معتمدَين بشدة على عشرات
المقابلات مع مجموعة مهيبة من
صانعي السياسة الحاليين
والسابقين. فأتت النتيجة كتاباً
مثيراً للدهشة، مقتضباً بشكل
يريح القارئ. أما
كتاب إنديك، فهو مذكرات بجزء
منه وتحليل سياسي في الجزء
الآخر؛ وقد كُتب بأناقة ويصعب
انتقاده. كتاب ميلر من نوع آخر،
فهو غير متكلف وتحادثي، يتصف
باستبطان عميق كما كاتبه الذي
يكشف النقاب عن نفسه كشخص شديد
الثقة بالنفس وشكاك في ذاته
بطبيعته، في آن معاً. في قسم
كبير من حياته المهنية، عمل
ميلر في الظل الكبير الذي أرخاه
ربّ عمل بالغ الأهمية هو دنيس
روس. ويستنتج المرء أن ميلر
اعتقد، في معظم الأوقات، أنه لم
يكن يستطيع أن يعبر عن رأيه
بصراحة، أو على الأقل لم يفعل.
وها قد حانت له الفرصة الآن. «الأرض
الموعودة بشكل مفرط»، ليس
كتاباً ينقل التاريخ ولا حتى
سيرة ذاتية. بل هو إعلان ميلر
الاستقلال. بالنسبة
إلى الكتّاب الثلاثة، يمثّل
جورج بوش هدفاً مباشراً لا خلاف
عليه نسبياً. فتُطبع في أذهاننا
صورة رجل وإدارة لم يهتما
لعملية السلام، غير متنبّهَين
لتأثير سياساتهما، غير
مطّلعَين على الواقع، غير
قادرَين على مواصلة العمل حتى
إنجازه، ولا يربكهما البتة كل
ذلك. من
الناحية الإيديولوجية، كان
فريق بوش الجديد ميالاً إلى
التقليل من أهمية النزاع العربي
ـ الإسرائيلي؛ ومن الزاوية
السياسية، كان ميّالاً إلى
القيام بعكس ما قام به كلينتون
تماماً. ينقل إنديك عن بوش قوله
في أوائل عهده «لا جائزة نوبل
تُنال هنا». فقد
أدانه كورتزر ولاسينسكي لأنه لم
يكن «ملتزماً بشكل ناشط» في
عملية السلام، وأعربا عن أسفهما
لأن «الإدارة بقيت غير ملتزمة
لمدة تقارب الثماني سنوات».
وأشار إنديك إلى «تخلف» الرئيس
«عن الالتزام». وكتب ميلر
مستهجناً أن «جورج بوش أتى إلى
الحكم وهو ميّال مسبقاً إلى
التخلي عن التزام أميركا
بالقضية العربية ـ الإسرائيلية». انسوا
لقب «صاحب القرار»؛ ففي السرد
الذي قدمه ميلر، أصبح بوش الرجل
«الذي تخلى عن الالتزام». إنها
لتهمة غريبة، مخفَّفة للغاية
وغير دقيقة في الوقت عينه. توحي
بموقف سلبي، رخو ومتساهل من
الصعب أن تجد أبعد منه عن
الحقيقة التاريخية، موقف كان
ليُفضّل على هذه الحقيقة بأشواط.
فسياسات بوش لم تعكس عدم
التزام؛ بل أتت نتيجة جهد فريد
في طموحه، فظّ في غالب الأحيان،
وملتزم بقوة دوماً في إعادة
تكوين الشرق الأوسط. في الصميم،
كانت سياسة بوش الشرق أوسطية،
تطفّلية وتدخلية بقدر ما يستطيع
الإنسان أن يتخيل. فمنذ البدء
تقريباً، تدخلت الإدارة بشكل
أخرق في الشؤون السياسية
الفلسطينية، فساعدت على إعادة
كتابة القانون الأساسي
الفلسطيني، وأعلنت عرفات شخصاً
منبوذاً، واصطفت زعماءها
البدلاء المفضلين، وأصرّت على
الإصلاح الداخلي الفلسطيني
شرطاً مسبقاً للسلام، واتخذت
مواقف حيال اتفاق الحل النهائي
في رسالة وجهها بوش، سنة 2004، إلى
رئيس الوزراء في ذلك الحين،
أرييل شارون، حددت الشروط،
وشجعت المواجهة بين حركة «فتح»
الوطنية وحركة «حماس»
الإسلامية، وفرضت عقوبات على
سوريا، ولم تشجع على استئناف
المحادثات الإسرائيلية ـ
السورية. وعبر ذلك كله، أساءت
إدارة بوش قراءة الديناميات
المحلية، وتجاهلت الضرر
المتأتي عن تدخلها الخانق،
وأفرطت في تقدير تأثير المال
والمساعدة العسكرية، وأهملت
تأثير الإقناع والولاء
والإيمان. على
أساس الافتراض القائل إن مكالمة
العدو هي مكافأة له، وهو افتراض
يُشك في نتيجته، عزلت الإدارة
نفسها عن اللاعبين الأكثر
دينامية في المنطقة، سواء
المنظمات الإسلامية أو سوريا أو
إيران، ولم تترك لنفسها إلا
نفوذاً ضئيلاً عليهم. دعمت
فلسطينيين محليين وحلفاء
لبنانيين قلّدوا لغة الغرب،
واعتمدوا على الولايات المتحدة
من أجل الحصول على الموارد
والدعم، ومع ذلك افتقدوا إلى
قاعدة محلية فعالة. باختصار،
ساعدتهم بطرق تؤذي. كانت
الولايات المتحدة قادرة على
تحقيق أكثر من هذا بكثير عبر
القيام بأقل من هذا بكثير. لم تكن
خطيئة بوش عدم الالتزام، على
افتراض أن عدم الالتزام هو
خطيئة. فعدم الالتزام الفعلي ـ
أي التراجع خطوة إلى الوراء،
وإجبار الأطراف المحلية على
التعامل بعضها مع البعض الآخر،
والإظهار أن الولايات المتحدة
ليست شديدة اللهفة على مصالحها،
وأن الآخرين لا يستطيعون
الاعتماد على وجودها بشكل مفرط،
إذا استُخدم ببراعة ـ يمكن أن
يمثّل تكتيكاً فعالاً لا يُعتمد
بالقدر الكافي في معظم الأحيان.
وهو حتماً أفضل من نوع من التزام
أميركي شائع بشكل يثير العجب:
نزوة القيام برحلة وإطلاق
مبادرة، أو الدعوة إلى قمة، بغض
النظر عن التوقيت أو النتائج. لقد
قدمت الأشهر الاثنا عشر
الماضية، دليلاً مهماً على
محدوديات مثل هذه الممارسات.
فوعد بوش الفارغ باتفاق الوضع
النهائي بحلول نهاية 2008، كان
شبيهاً بجدول أعمال كوندوليزا
رايس القائم على التجوال،
وإعلاناتها المجوّفة التي تهدف
إلى إشاعة جو من الارتياح
السطحي، ولقاءاتها المتكررة
غير المثمرة مع الزعماء
الفلسطينيين والإسرائيليين في
زمن يمكن فيه لأي اتفاقية سلام
ممتازة، أن تفتقد كل مصداقية
بوجود قيادتَين ضعيفتَين من
الجانبَين. وهكذا، فإنّ وعد بوش
أضفى على الالتزام معنى سيّئاً.
لا يكمن الخلل في أن بوش فشل في
الالتزام، بل في كيفية اختياره
الالتزام. إذا كان
بوش يمثّل ضحية سهلة، فكلينتون
طريدة أكثر تعقيداً وإثارة
للفضول. ففيما ترك ميلر وإنديك
وكورتزر الإدارة الحالية في
منتصف الطريق، وهم يكادون لا
يكتمون شعورهم بالخيبة، فإنهم
مكثوا مع كلينتون حتى النهاية
المريرة؛ وتمتلئ كتبهم بالثناء
على تفانيه شخصياً من أجل
السلام العربي ـ الإسرائيلي،
والإشادة بجهود فريق عمله التي
لم تعرف الكلل. كما شرحوا كيف أن
ما وصفوه، بتعابير متطابقة
تقريباً، بـ«بيئة استراتيجية
مثالية لصنع السلام»، مهّد
الطريق أمام انهيار المفاوضات
الإسرائيلية ـ الفلسطينية،
والإسرائيلية ـ السورية أيضاً
كما الانتفاضة الفلسطينية
الثانية. قُدّمت
العديد من التفسيرات لهذا
التحوّل في الأحداث. وتفترض
الكتب الثلاثة وجود أكثر من خلل
عميق بين الإسرائيليين والعرب؛
ولا يستثني أي منها أحداً عند
تقييم الزعماء الفلسطينيين أو
الإسرائيليين أو السوريين. ولكن
هذا ليس همهم الأساسي، بل همهم
الأساسي هو محاكمة أميركا. وبحسب
الكتب الثلاثة، كانت مقاربة
كلينتون غير مضبوطة بتاتاً على
الرغم من كل إيجابياتها؛ فقد
أعطت الأولية للعملية على حساب
الجوهر، وغالباً ما فشلت في جعل
الطرفين يتحملان مسؤوليتهما.
كتب إنديك أن كلينتون، عندما
اقترب عهده الرئاسي من نهايته،
أسقط جدول أعماله على
الإسرائيليين والفلسطينيين
الذين افتقدوا إلى حسه بإلحاح
الأمور، وافترض الكاتب أنهم
كانوا مدفوعين بنوع من
براغماتية أميركية لا يرغبون
فيها كثيراً. واشتكى كورتزر
وميلر من أن الولايات المتحدة
بقيت على مسافة من الحلفاء
العرب والأوروبيين المحتملين،
وسعت إلى حل النزاع خطوة خطوة
بدلاً من أن تهدف إلى حل نهائي.
كما أنهما أسفا على تعصّب فريق
أميركي عمل من أجل تحقيق
السلام، إذ إن توازنه وتنوّعه
غير الكافيين، أديا به إلى رؤية
الأمور «من منظور إسرائيلي
أساساً» وفق ميلر. كما أنهما
لاما إدارة كلينتون خصوصاً على
افتقادها استراتيجية متماسكة
كان من شأنها أن تمكّنها من نشر
أفكارها الخاصة بدلاً من أن
تخضع لرغبات الطرفين ونزواتهما.لا
يمكن المرء أن يقرأ هذه الكتب من
دون العودة بتفكيره إلى الجدل
الذي أحاط بقمة كامب دايفيد عام
2000. فعلى أثر ذلك اللقاء، ألقى
التحليل الفوري لمجريات الأمور
كل اللوم على الفلسطينيين
لرفضهم «العرض غير المسبوق»
الذي قدمه باراك. واستُبعد أي
أمر آخر كان يمكن أن يؤثر في
الحصيلة باعتباره غير ذي صلة. ظاهرياً،
لا يدّعي ميلر أو كورتزر أو
إنديك أنهم يشاركون في الجدل
المتعلق بمن أفشل كامب دايفيد،
على الرغم من أنهم أقفلوه
عملياً. فقد وجّهوا انتقادات
قاسية إلى عرفات والفلسطينيين
لسلبيتهم المفرطة وعجزهم عن
انتهاز الفرصة أو عدم استعدادهم
لذلك. ولكنهم لم يتوقفوا عند هذا
الحد. فميلر، الذي حضر القمة،
ناقض وجهة النظر الشائعة بتقرير
مفصل أظهر أن كلاً من الطرفين
يتحمل مسؤولية كبيرة. فقد
استنفد باراك ثقة الفلسطينيين
في خلال الأشهر التي سبقت القمة
عبر إعادة التفاوض على اتفاقيات
سابقة ونكث الوعود. ويقول
شلومو بن عامي، الذي كان وزير
الخارجية الإسرائيلي في ذلك
الوقت، إن الاقتراحات
الإسرائيلية في كامب دايفيد «كانت
أقل بكثير من أدنى توقعات
الفلسطينيين». ولم
يملك الأميركي «أي استراتيجية
ثابتة»، ولم يضعوا نصاً
تفاوضياً على الطاولة،
وانهاروا عندما واجهتهم
اعتراضات الطرفين. لم يتشاوروا
مع دول عربية أخرى، وإذ اتخذوا
القرار بإلقاء اللوم على عرفات
نزولاً عند طلب باراك، نكثوا
باتفاق مسبق يقضي بعدم القيام
بذلك، كما عرّضوا للخطر الآمال
بفترة سلام تلي القمة. بشكل
مشابه، يصف كورتزر ولاسينسكي
الولايات المتحدة بأنها «غير
مستعدة»، وتفتقد إلى مواقف خاصة
بها حيال مسائل أساسية، وتواقة
إلى اعتماد «أولويات باراك...
ولكن أيضاً تكتيكات باراك». وفي
النهاية «تترك السيطرة الفعلية
على السياسة الأميركية،
للإسرائيليين». حتى
إنديك، وهو أقسى الثلاثة حيال
عرفات، يخالف المعتقد السائد.
فقد كتب قائلاً «لم يكن كامب
دايفيد بتاتاً مختبراً جيداً»
لافتراض باراك أن الزعيم
الفلسطيني لم يكن مستعداً
للتوصل إلى اتفاق تاريخي، إذ ما
من رجل دولة عربي كان يمكنه
القبول بما قُدِّم. وصفت
الكتب الثلاثة كلها المحادثات
الإسرائيلية ـ السورية المجهضة
بين عامي 1999ـ2000 بطرائق مشابهة
بشكل مذهل. ومن جديد، خالفت وجهة
النظر التي يتمسك بها كثر يلقون
المسؤولية على دمشق وحدها. فقال
إنديك خصوصاً إنّ باراك أضاع
الفرصة، فإذ كان همّه أن يثبت
للجمهور الإسرائيلي أنه مفاوض
شرس، رفض إظهار مرونة في زمن بدا
فيه الرئيس حافظ الأسد مستعداً
لعقد اتفاق. وقد
توصل آخرون، شاركوا في عملية
السلام في تلك الفترة، إلى
توافق في الرأي لافت للنظر،
مفاده أن مسؤولية الفشل
يتقاسمها كل الأفرقاء. إلى ميلر
وكورتزر وإنديك، يجب إضافة عدد
لا يُحصى من مسؤولين أميركيين
وإسرائيليين وفلسطينيين أجريت
معهم مقابلات. بالنسبة
إلى قرّاء نشرة «نيويورك ريفيو»،
يجب أن يترك كل ذلك إحساساً
مألوفاً بأن هذا مشهد سبقت
رؤيته. ففي عام 2001، نشرنا مقالة
في هذه الصفحات تبرز حججاً
مشابهة؛ فردّ عليها باراك بغضب،
معترضاً على سردنا «التعديلي»
لما جرى في قمة كامب دايفيد. وهو،
مذاك، يشجب الرواية التي يقدمها
إنديك عن المفاوضات السورية
بحجة عجيبة تقول إن الدبلوماسي
الأميركي الأعلى مقاماً «لم يكن
مطّلعاً على الصورة الكاملة».
ومع ذلك، حتى هو لا يسعه إلا أن
يلاحظ أن تفسيرنا، وفيما أثار
ذعراً وغضباً كبيراً منذ سبع
سنوات، كاد ألا يحرّك ساكناً
اليوم. لقد أصبحت التعديلية
معتقداً تقليدياً. إذا
وضعنا الجدالات التاريخية
العنيفة جانباً، تهدف الكتب
الثلاثة إلى الإجابة عن سؤال
محوري: ماذا يجب أن تفعل
الولايات المتحدة الآن؟ ويتخذ
كل كتاب جزئياً شكل مشورة
تُقدَّم للإدارة التالية،
علماً بأن المؤلفين يتمتعون
بأكثر من نفوذ عابر. فكورتزر هو
أحد أبرز مستشاري أوباما لشؤون
الشرق الأوسط، وإنديك مقرب من
هيلاري كلينتون. تتشارك
الكتب الثلاثة بوجهة نظر مفادها
أنه ينبغي على الرئيس التالي أن
يجعل من حل النزاع الإسرائيلي ـ
العربي أولوية، مدّعية أنّ ذلك
سيكون مهماً جداً لتحسين صورة
أميركا في العالَمين العربي
والإسلامي وسيُسكِت الدعوة إلى
الإسلام الجهادي. وتزعم أن
الولايات المتحدة، إذ تقوم
بذلك، لا يمكنها أن تتجاهل
السلوك المضرّ، سواء كان بناء
المستوطنات الإسرائيلية أو
العنف الفلسطيني. تدعو الكتب
إلى مراقبة الأداء من كل
الجهات، إلى تحميل المسؤوليات
بوضوح، وإذا اضطُر الأمر، إلى
فرض عقوبات حقيقية على خرق
الاتفاقات. وتقترح أن يعبّر
الرئيس علناً عن مبادئ جوهرية
مفصّلة لاتفاق إسرائيلي ـ
فلسطيني يعبّئ جماهير أنصار
السلام، ويعزّز أشكال حلّ
الدولتين. هذا ويُعتبر التزام
أكبر من جانب الدول العربية
أساسياً لطمأنة إسرائيل وتأمين
غطاء سياسي للقيادة الفلسطينية. تقدّم
الكتب الثلاثة نصيحة من نوع
أكثر عمومية: كلّموا أعداءكم؛
تجنّبوا القمم من أجل القمم؛ لا
تمنحوا قوى خارجية فيتو على
السياسة الأميركية؛ لا تقلقوا
بشكل استحواذي بشأن الشؤون
الإسرائيلية المحلية ولا
تتدخلوا بتطفل في الشؤون
الفلسطينية الداخلية من خلال
تشجيع الذين «يُعتبرون أكثر
مرونةً» انتقائياً. وإذ يردّد
إنديك صدى شعور مشترك، يقدم ما
هو أثمن من مخطط تفصيلي عندما
يحض الولايات المتحدة على «التقليل
من وجهات نظرها... وتجنب إثارة
التوقعات الإقليمية... وخفض لهجة
الخطاب والإتاحة لنتائج
الدبلوماسية الأميركية بالتكلم
عن نفسها». في بعض
المواضيع، تختلف النقاط التي
يُشدّد عليها. فبالنسبة إلى
ميلر، تُختصر حظوظ النجاح
عملياً بفريق العمل وبالشخصية.
في كلامه عن عظماء القادة الذين
يكنّ لهم كل التقدير والاحترام (جايمس
بيكر، وجيمي كارتر، وهنري
كيسينجر)، تبرز مواصفات القائد
القوي، الصلب، القائد الذي
يتميز بمراوغته. يتوق إلى من
يسميهم «السافلين» الحقيقيين
لكي يقودوا السفينة في المياه
الضحلة الغدارة للسياسيات
العربية والإسرائيلية
والأميركية. ويشدّد كورتزر على
أهمية الابتعاد عن مقاربة
الخطوة خطوة لمصلحة مقاربة تركز
على المرحلة النهائية. أما
إنديك، فيسلّط الضوء على السياق
الإقليمي؛ يريد أن يُجمَع بين
السعي إلى سلام إسرائيلي ـ
فلسطيني، وتعاطي الولايات
المتحدة مع إيران وسوريا،
وتشجيع الولايات المتحدة
المحادثات الإسرائيلية ـ
السورية. ويبدي
الكاتب براغماتية واضحة
باقتراح مقاربة مختلفة حيال «حماس»،
قائلاً إنه يتوجب على الولايات
المتحدة أن تدعم جهود المصالحة
بين الفلسطينيين إذا كانت
الحركة تلتزم وقف إطلاق النار
مع إسرائيل. عموماً،
تبدو هذه توصيات قيّمة
ومتفكّرة، وهي تقع على مسافة
بعيدة جداً من سياسة بوش،
ومسافة لا يُستهان بها من سياسة
كلينتون. وإذ تحض أوباما إلى
التحرك باكراً وبحسم لحل النزاع
الإسرائيلي ـ الفلسطيني، كما
ستحضه المطالبة المحتمة التي
سيتقدم بها القادة العرب
والأوروبيون، فسيميل الرئيس
الأميركي إلى التحرك في الحال
ويعمق التزامه ويعين مبعوثاً
خاصاً، ويدرب القوات الخاصة
للسلطة الفلسطينية، ويدعم
الحلفاء الفلسطينيين المعتدلين
المزعومين، ويسرّع المحادثات
الإسرائيلية ـ الفلسطينية. يمكن
التنبؤ بمثل رد الفعل هذا؛ كما
يمكن تفهمه أيضاً. ولكن هل سيكون
حكيماً؟ شيئاً
فشيئاً يبعدهم عن دائرة الضوء
لاعبون أكثر دينامية: أولئك
الذين يقودون الهجوم على حلفاء
أميركا ــ إيران وسوريا وحزب
الله وحماس. ومن يسعى إلى أداء
دور الوسيط بين الاثنين، هما
قطر وتركيا. كل هذه التطورات
تمثّل تحدياً بالنسبة إلى
استراتيجية أميركية تعتمد
حصرياً على الدول والقادة العرب
«المعتدلين» المزعومين، الذين
يفقدون القوة في مقاومة دول
وحركات إسلامية «راديكالية»
تكسبها. قد لا
تكون صورة الرئيس أوباما وهو
يكشف عن رؤيته لتسوية إسرائيلية
ــ فلسطينية أمام قادة عرب
مبتهجين ودعم دولي، بالصورة
المغرية جداً في هذه الظروف. فمن
غير المحتمل أن تثير خطة سلام
أصبحت مملة لشدة تكرارها حماسة
شعبية؛ ومن غير المرجح أن يؤدي
دعمها من قادة عرب يزدادون
ضعفاً إلى دفعها قدماً. يتمتع
الرئيس الجديد بمخزون هائل،
ربما غير مسبوق، من الارتياح
الإقليمي حياله. ومع ذلك، هو
ارتياح يستند إلى الأمل بأن
يستطيع أوباما أن يحدث تغييراً
كبيراً في السلوك والأسلوب
الأميركيَّين الماضيين، لا أن
يعززهما. ولعل أضمن سبيل
للتقليل من جاذبية أوباما في
المنطقة، يكون بتقديم خطة من
دون مستقبل حقيقي وبمعية قادة
أثقلهم ماضيهم. لأوباما
هموم شرق أوسطية أخرى مع انتهاء
ولاية الرئيس عباس وقرب انتخاب
إسرائيل رئيس وزراء جديداً،
يُرجح أن يكون إما تسيبي ليفني،
وهي وافدة جديدة نسبياً أظهرت
جرأة في السعي وراء اتفاق
فلسطيني وتصرفت بشكل أخرق في
تعاطيها مع قادة إسرائيل
السياسيين، وإما بنيامين
نتانياهو، وهو متمرس نسبياً
واجه مشاكل في المسألتين. وقد
تؤدي انتخابات لبنان في أيار/
مايو 2009 إلى وصول ائتلاف أقل
تعاطفاً مع الولايات المتحدة
إلى السلطة، ما سيقلق إسرائيل،
ويقوي من عزيمة المناضلين،
ويثير أسئلة بالنسبة إلى الجميع.
وعام 2009 هو أيضاً موعد استفتاء
شعبي في العراق على الاتفاق
الأمني بين الولايات المتحدة
والعراق، وانتخابات رئاسية في
إيران، وأزمة خلافة محتملة في
مصر، وكفاح للعثور على وريث
للملك السعودي البالغ من العمر
أربعاً وثمانين سنة. وفي هذه
الأثناء، يتقدم البرنامج
النووي الإيراني. وسط كل
هذا، يبقى السؤال عمّا يجب
القيام به على الجبهة العربية
ــ الإسرائيلية من دون جواب،
وقد لا يكون هذا بالأمر السيئ.
فمع هذا العدد الكبير من
المستجدات، وسوء سير كل هذه
الأمور طوال هذا الوقت، يجب
معالجة المسائل الأساسية
أولاً، ومن بينها أسباب الفشل
المتكرر، وفعالية الوساطة
الأميركية، والحكمة والواقعية
من وراء البحث عن تسوية شاملة
تتجاوز الحدود للنزاع
الإسرائيلي ــ الفلسطيني، أو
حتى محورية هذا النزاع بالنسبة
إلى المصالح الأميركية
والفوائد التي قد تكسبها أميركا
من حله. كذلك يمكن المرء أيضاً
أن يتفكر في الأسباب الكامنة
وراء عدم فعالية أميركا المزمنة
في إقناع القوى الأضعف (عرفات أو
حماس أو سوريا أو حزب الله) بأن
تذعن لمطالبها، وهي صورة توحي
بالعجز عن معرفة القوى السياسية
المحلية، أو فهم مصالحها أو
إدراك ما يجذبها. قد تقود
إثارة مثل هذه الأسئلة إلى
أجوبة هرطقية أو أجوبة غير
عملية، أو قد لا تقود إلى أي
جواب على الإطلاق. لكن يبقى من
الأفضل، بالنسبة إلى مَن يتصرف
باندفاع طائش، اتباع مخططات
مألوفة مكلفة، والسعي إلى تبنٍّ
مريح لأفكار جُرِّبت من دون أن
تحقق أي نجاح أو لم تُجرَّب
أبداً ولكن لم تعد قابلة للنجاح.
ومن بين فورة التوصيات التي
ستتلقاها الإدارة التالية،
يمكن أوباما أن يفعل ما هو أسوأ
من التفكير في نصيحة بسيطة. لا
تستعجل. تمهّل، خذ نفساً عميقاً
وقم بجردة حساب. من يدري، فقد
تستتبع ذلك حتى سياسات جديدة
أكثر فعالية. وعندها يكون تغيير
يمكن أن نؤمن به. ــــــ المصدر:
جريدة الأخبار - العدد
٧٤٣ – ٩/2/٢٠٠٩ ---------------- نشرنا
لهذه المقالات لا يعني أنها
تعبر عن وجهة نظر المركز كلياً
أو جزئياً
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |