-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت  18/04/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


بسم الله الرحمن الرحيم

سيد قطب ضد العنف

الحلقة الثامنة

د.منير محمد الغضبان*

حديثنا في هذه الحلقة يتناول بصورة موجزة (سيد قطب ضد العنف) من خلال الظلال في الأجزاء 4ـ10 وذلك في عينة قد تكون عشوائية من جهة، وقد تكون منتقاة من جهة ثانية حيث تقصد الموضوعات التي تناولت هذه المفاهيم، والتي لا يمكن أن نلقاها في كتاب محدد يتيح لنا فهم الأبعاد الكاملة لفكره ـ رحمه الله تعالى ـ وذلك بعد أن تناولنا في الحلقة السابقة الأجزاء الثلاثة الأخيرة، والأجزاء الثلاثة الأولى من الظلال.

الجزء الرابع: نظرة في معركة أحد

هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة، لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان وإلا مخالفة عن الأمر، وإلا حركة من الهوى، وإلا لفتة من الشهوة، والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة، أو النماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولية، وفي تاريخ النفاق والهزيمة!.

وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك، كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين.. وهذه وتلك أنشأت ـ وفق سنة الله وقدره هذه النتائج التي ذاقها المسلمين ـ وهذه التضحيات الجسام، التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله ، والتي لا شك أن الصحابة حين كان ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف، ويرونها أشد ما نالهم من الآلام، وقد دفعوا الثمن غالياً ليتلقوا الدرس عالياً، وليمحص الله القلوب، ويميز الصفوف، وليعيد الجماعة المسلمة للمهمة العظمة التي ناطها بها... مهمة القيادة الراشدة للبشرية. وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية، فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن » الظلال 4/466.

قيادة البشرية ليست خارجة عن السنن والقوانين الاجتماعية:

«والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض، يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها لأمور... فهم ليسوا بدعاً في الحياة، فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف.

والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس. فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث. وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان من ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين، بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله والرسول والسنن التي تشير إليها السياق هنا ويوجه أبصارهم إليها وهي:

عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ومداولة الأيام بين الناس، والابتلاء لتمحيص السرائر.

وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين، والمحق للمكذبين.

وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع، على الاحتمال، والمواساة في الشدة والتأسية على القرح، الذي لم يصببهم وحدهم، إنما أصاب أعداءهم كذلك، وهم على من أعدائهم عقيدة وهدفاً، وأهدى منهم طريقاً ومنهجاً، والعاقبة لهم بعد ذلك، والدائرة على الكافرين: ﭿ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ   ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ                    ﮡ ﮢ     ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ  ﭾ آل عمران: ١٣٧ - ١٣٨( ).

فسيد ـ رحمه الله تعالى ـ لا يعتسف الطريق، ولا يتسرع الخطا، وإنما يدعو إلى استكناه سنن الله في الأرض التي لا تحابي أحداً، ويدعو الدعاة إلى الصبر والتدرج في العمل، والبعد عن العشوائية، والهمجية.

الجزء الخامس: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ))النساء: ٥٩.

((يا أيها الذين آمنو أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنزعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)) النساء: ٥٩

وفي هذا النص القصير يبين الله سبحانه شرط الإيمان وحدا الإسلام، في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة، وقاعدة الحكم، ومصدر السلطان، وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي عند الله وحده، والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصاً، من جزئيات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام ليكون هناك الميزان الثابت الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام.

إن الحاكمية لله وحده في حياة البشر، ما جل منها وما دق، وما كبر منها وما صغر...

والنص يجعل الطاعة لله أصلاً، وطاعة رسوله أصلاً كذلك، بما أنه مرسل منه. وطاعة أولي الأمر منكم تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله، فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كررها عند ذكر الرسول ....

وطاعة أولي الأمر منكم بعد هذه التقريرات كلها في حدود المعروف المشروع من الله والذي لم يرد نص بحرمته، ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادئ شريعته عند الاختلاف فيه... ذلك فيما ورد فيه نص صريح فأما الذي لم يرد فيه نص، وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية على مدى الزمان وتطور الجماعات، واختلاف البيئات، ولا يكون فيه نص قاطع أو لا يكون فيه نص على الإطلاق، مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام، فإنه لم يترك كذلك تيهاً، ولم يترك بلا ميزان، ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع ووضع هذا النص القصير منهج الاجتهاد كله، وحدده بحدوده وأقام الأصل الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضاً ((فإن تنزعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول )) النساء: ٥٩.

ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمناً، فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو فردوه إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشريعته، وهذه ليست عائمة، ولا فوضى، ولا هي من المجملات التي تتيه فيها العقول ، وهناك في هذا الدين مبادئ أساسية واضحة كل الوضوح تغطي كل جوانب الحياة الأساسية، وتضع له سياجاً خرقه لا تخفى  على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين.

((إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر )) النساء: ٥٩.

تلك الطاعة لله والطاعة للرسول، ولأولي الأمر القائمين على شريعة الله وسنة الرسول ورد ما يتنازع فيه إلى الله ورسوله، هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر، كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، فلا يوجد الإيمان أصلاً وهذا الشرط مفقود، ولا يوجد الإيمان ويتخلف عنه أثره الأكيد »( ).

لكن: كيف يتم تطبيق هذا المنهج؟

قد تلتقي أو تختلف مع سيد ـ رحمه الله تعالى ـ في الفكر والفهم والفقه للنصوص، أما منهج التطبيق، أما وسيلة التطبيق فهي التي تعنينا في الحديث عن نفي العنف عن سيد ونفي الإرهاب عنه الذي لم يكن له أصل أبداً في فهمه، ولنستمع إليه ـ رحمه الله تعالى ـ وهو يحدثنا عن منهج التطبيق ووسيلته في هذا الجزء نفسه:

كف اليد:.

((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة  وءاتوا الزكوة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية )) النساء: ٧٧

« يعجب الله سبحانه من أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة، يتلقون الأذى والاضطهاد، والفتنة من المشركين، حين لم يكن مأذوناً لهم في القتال للحكمة التي يريدها سبحانه فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال في سبيل الله إذا فريق منهم شديد الجزع، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم، وهم ناس من البشر كخشية الله القهار الجبار الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد...

إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة، بل إن هذه قد تكون القاعدة، ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة القائمة غالباً ما تكون منبعثة من عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار. كما قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار، بأي شكل دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا وأشق مما تصوروا.

فكانوا أول الصف جزعاً ونكولاً وانهياراً، على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ويحتملون الأذى والضيق بعض الوقت، ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف، فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته، والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافاً، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور، وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً وأي الفريقين أبعد نظراً كذلك.

وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة، فيندفع يطلب من الرسول أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة، والرسول يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب، فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة، ولم يعد هناك أذىً ولا إذلال، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص، لم يعد يرى للقتال مبرراً أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة ( ).

الجزء السادس: الحكم بما أنزل الله

 

((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون )) المائدة: ٤٤.

بهذا الحسم الصارم الجازم وبهذا التعميم الذي تحمله (من) الشرطية وجملة الجواب بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان، وينطلق حكماً عاماً على كل من لم يحكم بما أنزل الله في أي جيل ومن أي قبيل، والعلة التي أسلفنا هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله، إنما يرفض ألوهية الله فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمة التشريعية، ومن يحكم بغير ما أنزل الله، يرفض ألوهية الله وخصائصها من جانب، ويدعي لنفسه حق الألوهية وخصائصها من جانب آخر. وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك؟ وما قيمة دعوى الإسلام باللسان أو بالإيمان والعمل، وهو أقوى تعبيراً من الكلام. ينطق بالكفر أفصح من اللسان؟.

إنما المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه، وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم، بالنص الصريح الواضح الأكيد....

((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظلمون )) المائدة: ٤٥

والتعبير عام، ليس هناك ما يخصصه ولكن الوصف الجديد هنا هو «الظالمون» وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق بالكفر، وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله، فهو كافر باعتباره رافضاً لألوهية الله واختصاصه بالتشريع لعباده وبادعائه حق الألوهية بادعائه حق، التشريع للناس، وهو ظالم يحمل الناس على شريعة غير الله الصالحة المصلحة لأحوالهم، فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة وتعريضها لعقاب الكفر وتعريض حياة الناس وهو معهم للفساد....

((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفسقون )) المائدة: ٤٧ والنص هنا كذلك على عمومه وإطلاقه وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل وليست تعني قوماً جدداً، ولا حالة جديدة، منفصلة عن الحالة الأولى، إنما هي صفة زائدة على الصفتين قبلها، لا صفة بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل، وأي قبيل.

الكفر يرفض ألوهية الله ممثلاً هذا في رفض شريعته، والظلم يحمل الناس على غير شريعة الله وإشاعة الفساد في حياتهم، والفسق بالخروج على منهج الله واتباع غير طريقه، فهي صفات يتضمنها الفعل الأول، وتنطبق جميعها على الفاعل ويبوء بها جميعاً دون تفريق »( ).

الرأي الآخر:

وليسمح لي أستاذنا المفكر العظيم أن أضع الرأي الآخر في تفسير هذه الآيات كما أورده الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ على خمسة أقوال:

1 ـ عنى به اليهود وأهل الكتاب: البراء بن عازب وأبو صالح والضحاك وأبو مجلز وحذيفة ببن اليمان.

2 ـ (الكافرون أهل الإسلام، والظالمون هم اليهود، والفاسقون النصارى )، وقال ذلك الشعبي.

3 ـ عنى بذلك كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق، وقال ذلك: عطاء وطاووس وابن عباس، هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله أو كفر لا ينقل عن الملة.

4 ـ نزلت في أهل الكتاب ورضي لهذه الأمة وقال ذلك: الحسن وابن مسعود

5 ـ الكفر لمن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً والظلم والفسق فهو للمقر به، وقال ذلك: ابن عباس، وقد رجح الإمام الطبري بين هذه الأقوال بقوله:

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب.... فإن قال قائل فإن الله تعالى قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً قيل: إن الله تعالى عمَّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم... وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر... »( ).

وكون هذه الآراء واردة كلها بالتفسير تجعل في الأمر سعة وليست بالصرامة والجزم الذي تبناه أستاذنا سيد ـ رحمه الله تعالى ـ.

لكننا نعود لنتحدث عن الأسلوب ومنهجية التغيير لدى سيد ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا الجزء.

((يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ))

((يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكفرين ))المائدة: ٦٧.

« إنه الأمر الجازم الحاسم لرسول الله أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملاً وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حساباً، وهو يصدع بكلمة الحق، هذا وإلا فما بلغ وما أدى وما قام بواجب الرسالة، والله يتولى حمايته وعصمته من الناس، ومن كان الله له عاصماً فماذا يملك له العباد المهازيل؟!!..........

إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة لا يعني الخشونة والفظاظة. فقد أمر الله رسوله أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. وليس هناك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة ـ والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق، فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه، والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة، وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها، فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان رسول الله يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ، وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة، فكان مأموراً أن يقول: ((قل يا أيها الكفرون . لا أعبد ما تعبدون ))الكافرون: ١ - ٢. فيصفهم بصفتهم ويفاصلهم في الأمر ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه، ولا يدهن فيدهنون كما يودون ولا يقول لهم إنه لا يطلب إليهم تعديلات خفيفة فيما هم عليه، بل يقول لهم: إنهم على الباطل المحض، وإنه على الحق الكامل، فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة »( ).

ولابد من ملاحظتين أخيرتين في هذا الصدد:

الملاحظة الأولى: هي أن سيد ـ رحمه الله تعالى ـ لم يكفر شخصاً بعينه، وأتحدى كل من يتهم سيد بالتكفير أن يأتي بنص واحد يكفر فيه شخصاً بعينه.

الملاحظة الثانية: أن كلمة ـ نحن دعاة لا قضاة ـ هي بالأصل لسيد ـ رحمه الله تعالى ـ كما ذكر أخوه المفكر العظيم محمد قطب، وذلك عندما يطلب منه تكفير شخص بعينه.

الجزء السابع: طبيعة المنهج الحركي

من مقدمة سورة الأنعام

« وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على النحو الذي  بيناه، ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي على هذا النحو لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية، والبناء الواقعي للجماعة المسلمة، لم تكن مرحلة تلقي النظرية ودراستها، ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معاً، وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى.

هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة، وأن تتم خطواتها على مهل وفي عمق وتثبت، وهكذا ينبغي ألا تكون مرحلة بناء العقيدة مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة في صورة حية، متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة، ومتمثلة في بناء جماعي يعبر نموه عن نمو العقيدة ذاتها، ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك، لتمثل  العقيدة حية، وتنمو نمواً حياً في خضم المعركة.

وخطأ أي خطأ بالقياس إلى الإسلام ـ أن تتبلور النظرية في صورة نظرية مجردة للدراسة النظرية ـ المعرفة الثقافية ـ بل خطر أي خطر كذلك.

إن القرآن لم يمض ثلاثة عشر عاماً كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى كله، فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة، ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاماً أو أكثر أو أقل حتى يستوعبوا «النظرية الإسلامية».

ولكن الله سبحانه كان يريد أمراً آخر، يريد منهجاً معيناً متفرداً كان يريد بناء الجماعة وبناء الحركة، وبناء العقيدة في وقت واحد، كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة، كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الفعلي، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو صورة العقيدة، وكان الله سبحانه يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة، فلم يكن بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة، حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج.

هذه هي طبيعة هذا الدين كما تستخلص من منهج القرآن المكي ـ ولابد أن نعرف طبيعته، هذه ولا نحاول أن نغيرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية ! فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة، وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة.

يجب أن ندرك خطأ المحاولة، وخطرها معاً في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي يجب أن تتمثل في واقع تام حي متحرك إلى نظرية للدراسة والمعرفة الثقافية لمجرد أننا نريد أن نواجه النظريات البشرية الهزيلة بنظرية إسلامية...

إن العقيدة الإسلامية يجب أن تتمثل في نفوس حية، وفي تنظيم واقعي، وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها، كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم، وتنتزعها من الوسط الجاهلي، وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول ومن الحياة أيضاً مساحة أضخم وأوسع وأعمق مما تشغله النظرية وتشمل فيما تشمل مساحة النظرية ومادتها ولكنها لا تقتصر عليها...

يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيداً أنه كما هذا الدين دين رباني، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك، متواف مع طبيعته، وأنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل »( ).

لا أدري كيف يقرأ أي قارئ هذا الكلام، ثم يخطر في ذهنه لحظة واحدة أن سيد يقبل العنف أو يتعامل معه، إن التربية على العقيدة حتى يصبح المجتمع كله مؤمناً بهذه العقيدة هو منهجه في العمل.

والإسلاميون في العالم لم يصبروا على هذا المنهج، ولم يتعاملوا معه كما طرحه سيد ـ رحمه الله تعالى ـ لأنهم يتصورن الطريق الديمقراطي أقرب، أو الطريق الدكتاتوري أسهل، وسيد يعلن ـ رحمه الله تعالى ـ في كل ما يكتبه: أن هذا الطريق طويل طويل، ولكنه هو الطريق الوحيد.

وإنني أتحدى كل من يتحدث عن سيد بأنه هو الذي نشر الإرهاب والعنف في العالم أن يأتي بجملة واحدة من الظلال ـ كلها ـ يدعو سيد فيها لاستعمال السلاح قبل قيام الدولة المسلمة، وقبل وجود جيش لها يكون جزءاً من مقومات وجودها كدولة تدفع الأذى عن نفسها، إنه هو الذي يقول:

«إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ولا انفصام بينهما، وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية، والمناهج الغربية الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية، ولكنها لا يمكن أن تحقق نظامنا الرباني، فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية، لا في الحركة الإسلامية الأولى كما يظن بعض الناس.

هذه هي كلمتي الأخيرة ـ وإنني لأرجو أن أكون بهذا البيان لطبيعة القرآن المكي، ولطبيعة المنهج الرباني المتمثل فيه قد بلغت وأن يعرف أصحاب الدعوة الإسلامية طبيعة منهجهم ويثقوا به، ويطمئنوا إليه، ويعلموا أن ما عندهم خير، وأنهم هو الأعلون ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )) الإسراء: ٩( ).

الجزء الثامن: التشريع بغير ما أنزل الله شرك:

«إن جاهلية العرب لم تكن تجحد الله البتة، ولم تكن تجعل معه إلهاً آخر يساويه، ولكنها كانت إنما تجعل معه آلهة ـ من دونه ـ أقل منه منزلة ورتبة ! وكانوا يقولون: إنهم إنما يتخذون من هذه الآلهة شفعاء يقربونهم إلى الله... وفي هذا كان شركهم... وبهذا كانوا مشركين.

وكان من شركهم كذلك أن يبتدعوا هم من عند أنفسهم ـ يقوم بذلك كهانهم ومشايخهم ـ شرائع وتقاليد في حياتهم، ثم يزعمون أن الله شرعها لهم، وأمرهم بها، إنهم لم يكونوا من التبجح بالشرك بحيث ينسبون هذه الشرائع إلى أنفسهم، ويدعون أن لهم هم السلطة الحاكمية العليا التي يصدرون بها الشرائع، مستقلين عن سلطان الله لم يكونوا بعد قد عرفوا هذا التوجه الذي عرفه مشركو هذا الزمان ممن يدعون من دون الله السلطان وبهذا كذلك كان شركهم وبهذا كانوا مشركين.

من هذه الشرائع  والتقاليد التي ابتدعوها وزعموا أنها شريعة الله ما كانوا ينذورنه من الثمار والأنعام لله سبحانه ولآلهتهم المدعاة، ثم ينصرفون بعد ذلك على هواهم أو على هوى السدنة والكهنة فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم.

ـ ومنها ما كانوا ينذرونه من أولادهم للآلهة المزعومة، وما كانوا يقتلونه من البنات إتباعاً لأعراف القبيلة.

ـ ومنها ما كانوا يحجرونه من الأنعام ومن الزروع لا يطعمه إلا من شاء الله وهم الذين يزعمون تحريمها وهم كذلك يطعمون  من هم الذين شاء الله أن يطعموها.

ـ ومنها ما كانوا يحرمون ركوبه من الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.

ـ ومنها ما كانوا يمنعون أن يذكر اسم الله عليه من الذبائح، زاعمين أن هذا من أمر الله.

ـ ومنها ما كانوا يخصصونه ـ من الحمل الذي في بطون الأنعام ـ للذكور منهم دون الإناث، إلا إذا أنزل ميتاً فيشارك فيه الإناث، وكانوا يجعلون هذا حراماً وذلك حلالاً.

ـ ومنه الميتة التي كانوا يحلونها ويقولون: ذبحها الله فهي حلال بذبح الله.

والقرآن يواجه هذا كله بحملة كاشفة يحشد فيها من المقررات الأساسية في العقيدة، والمشاهد والحقائق المؤثرة ما يحشده في مواجهة قضية الشرك والإيمان في سياق السورة كلها، لأنها هي هي بعينها قضية الشرك والإيمان في صورة تطبيقية واقعة.

ومن خلال هذه الحملة يتبين أن القضية هي قضية هذا الدين كما هي قضية هذه العقيدة.

فهذه التشريعات والتقاليد إنما زينها للمشركين شركاؤهم الذين يشرعونها لهم ليدمروا حياتهم ويلبسوا عليهم دينهم، وتلبيس الدين وتدمير الحياة كلاهما مرتبطان، فإما شرع الله، فهو الدين الواضح والحياة السليمة، وأما شرع غير الله فهو الدين الغامض، والحياة المهددة بالردى ((وكذلك زين لكثير من المشضركين قتل أولدهم شركاءهم ليردوهم وليلبسو عليهم دينهم )) الأنعام: ١٣٧.

وتبين أن الشياطين وراء هذا العدول عن شرع الله ودينه إلى شرع الشركاء ودينهم وأن الشيطان هو العدو المبين يقود خطأ المشركين إلى الخسران والتدمير: ((كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطن إنه لكم عدو مبين )) الأنعام: ١٤٢.

ويتبين أن التحريم والتحليل ـ بغير شرع الله ـ هو والشرك سواء، فهو شرك مثله، وإن إحالة شيء من هذا كله إلى مشيئة الله القاهرة هو دعوى يدعيها المشركون في جميع العصور، فقد شاءت إرادة الله أن تعطي الناس قدراً من الاختيار تبتليهم به، ومن ثم فلا قهر على الشرك في كل صوره إنما هو الابتلاء، وهم غير مفلتين من قبضة الله على كل حال....

ثم تختم هذه الحملة بيان أن هذا الذي قرره الله في قضية التشريع والتقاليد في الثمار والأنعام والأولاد هو صراط الله المستقيم ـ ذات التعبير الذي استخدم من قبل في قضية تحريم الذبائح، وتحليلها كما استخدم بذاك في قضية الألوهية في أول السورة كما ذكرنا بالتعريف بالسورة: ((وأن هذا صراطي منستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ))الأنعام: ١٥٣.

إنها جملة قضايا العقيدة والدين في الدنيا والآخرة في المحيا والممات، في العمل والجزاء في العبادة والسلوك، كلها يجمعها المنهج الرباني ليعقب بها ذلك الايقاع الجليل الرهيب الحبيب، على قضية الحاكمية والتشريع متمثلة في أبسط مظاهرها في الحياة اليومية ومطاعمها ومشاربها، ذلك أنها قضية الألوهية والربوبية في أضخم مجالاتها وأخطر مواقفها.

((قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين . قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وهو الذي جعلكم خلئف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما ءاتكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم )) الأنعام: ١٦١ – ١٦٥

الجزء التاسع: الجهاد في الإسلام ـ الهدف والمنهج..

نخلص أخيراً بعد هذا العرض إلى أن سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ لا يلتقي مع العنف أو مع الإرهاب لحظة واحدة، والذين يلبسون هذا المفهوم لسيد تتخبطون  بين فهم الفكر، وفهم الأسلوب والمنهج ولا يفقهون المرحلية أبداً، في كلل ما طرحه من آراء، بين مفهوم الدولة ومفهوم الدعوة.

وإلى الحلقة العاشرة والتي نعرض سيد فيها من خلال «معالم في الطريق».

وهو الذي اطلع عليه المتسرعون المهووسون، وفهموه على غير أصوله.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

ــــــ

*باحث إسلامي سوري

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ