-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
قبل
أن نختفي من
سجلات التاريخ
الدكتور
عبد القادرحسين ياسين*
في
الوقت الذي تعقد فيه الندوات والمؤتمرات
العربية، مرة حول الإبداع ومرة
حول التراث، ومرة للتخطيط
لاستراتيجية ثقافية
عربية، في هذا الوقت بالذات
تنتشر ظاهرة المواطن العربي
الذي يحس بالاقتلاع
من جذوره حتى
وهو يقف على أرضه. وثمة ظاهرة
أخرى لا تقل خطورة وهي ظاهرة
الرغبة في
الرحيل والبحث
عن جزر مهجورة أو أماكن يستطيع
فيها هذا المواطن أن يعيش فقط :
يأكل
ويشرب وينام!
وفي الوقت الذي يتحدث فيه
أساتذة الجامعات والباحثون
والخبراء العرب
عن "المتغير
الاجتماعي" و"الاحتكاك
الثقافي" بين العرب والغرب،
وعن "نقل التكنولوجيا"
وخطط التنمية و شروطها، يشعر
المواطن العربي في هذا العالم
العربي
المترامي
الأطراف من المحيط إلى الخليج
أن حلمه الوحيد أن يخرج من
الخارطة العربية
ويتخلص من ضغط
الواقع العربي المأساوي وتضليل
أجهزة الإعلام العربية (المقيمة
والمهاجرة على
السواء) مرة واحدة وإلى الأبد.
ثمة وقت، إذن، لمن يسمون
بالمثقفين،
وثمة وقت
لعباد الله الآخرين وثمة واد
لهؤلاء، وواد لأولئك، ولا جسور
بين
المجموعتين.
فإذا كان ما يشغل البعض حتى الآن
هو كيفية التفاعل مع التراث،
فإن ما
يشغل بال متعب
بن تعبان على
حد تعبير الشاعر السوري الكبير
نزار قباني
المقتلع
من التراث
والحاضر معاً هو الحصول على
فرصة عمل ولو في آيسلندة التي لا
يعرف عنها
شيئاً.
وإذا كان ما يشغل البعض حتى الآن
هو "التغيير الاجتماعي"
فإن ما يشغل بال المواطن
العربي الذي لا يجاد نفسه أصلاً
في مجتمع حيّ، هو الهرب من
مستنقع التبعية
والموت البطيء
الذي يتعرض له صباح مساء.
إن القضية لا يمكن تفسيرها
بأخطاء في
الرواية
وتشخيص المشكلات والأوضاع
العربية، وإنما في تصميم بعض
"المثقفين" العرب
على تغطية
الرؤية الفاضحة حتى العظم،
وتمويه المشكلات. ذلك أن كل ما
يبحث تحت
عناوين خادعة
مثل "الإبداع"
و"التراث" وما إلى ذلك
ينطلق من افتراضات تحياها
مجموعة من
المثقفين مندمجة كلياً بالحاضر
الخرب، وعياً وسلوكاً، مجموعة
لا تستطيع أن تحدق في عمق
الكارثة العربية الراهنة، وإلا
فقدت مراكزها المرموقة
وامتيازاتها ورحلاتها
وبدلات سفرها
ومؤتمراتها العتيدة.
ولهذا تصر على تجاهل أن كل ما
تتداوله لا يعدو كونه
مجرد ألفاظ لا مدلول واقعياً
لها، وإن المدلول الحقيقي لما
يحدث على صعيد
الثقافة
والسياسية والاقتصاد والمجتمع
في كافة أرجاء العالم العربي هو
شيء مخيف لا
يستطيع
التقاطه الوعي المستلب بمكاسبه
القائمة. ولا أغالي إذا
قلت أن كل شيء
ينهار من
أساسه، سواء أكان ثقافة أم
تنمية أم مجرد وجود بيولوجي
لهذه الأمة ذات ال
320 مليوناً. والأرقام تتحدث عن
نفسها وتفضح كل هذا، ولكن ليس
الأرقام المتداولة
التي تصر لغاية
في نفس يعقوب
على تصوير "الإنجازات"
وكأنه ليس بالإمكان أبدع
مما كان. ثمة أرقام أخرى تتحدث عن المسار
المتسارع لاقتلاع الإنسان
العربي من جذوره وسلخه
عن أرضه. إن إحصاءات
التجارة الخارجية تؤكد، بما لا
يدع مجالاً للشك، أن 75% من غذاء
العالم العربي مستورد من
الخارج، ومن الدول الرأسمالية
تحديداً. أما
إحصاءات
التربية والتعليم فتشير إلى
هبوط أعداد الطلبة الذين يتلقون
التعليم من
العرب في
السنوات العشر الأخيرة، وهبوط
مستوى التعليم ذاته، وانغلاق
فرص التعليم
أمام الأجيال
المقبلة. أرقام الثروات العربية
المودعة في مصارف الولايات
المتحدة
الأمريكية
وأوروبا … أرقام الأراضي
الزراعية العربية الآخذة في
التقلص بشكل مخيف،
والصحراء
المتسعة بشكل مرعب. وعلى
الرغم من كل مظاهر التضخم في
أعداد
الموظفين
وأجهزة الدولة ومؤسساتها، إلا
أن المجتمعات العربية، دون
استثناء، تتعرض
للهامشية
والبطالة، ذلك أن "العمل"
العربي، ببساطة، لا ينتج شيئاً
ولا يستطيع أي باحث
نزيه أن يتجاهل مسار مثل هذا
الواقع العربي المؤلم. إنه مسار
التهلكة الواضحة دروبها
بشكل لا لبس فيه. أليس
عجيباً أن يتحدث "الخبراء"
العرب عن تنمية في الوقت الذي
يتشرد فيه مئات الآلاف من
الأطباء والمهندسين والخبراء
والعلماء والفنيين العرب
في أربعة أركان الأرض؟
أليس عجيباً أن يتشدق البعض
بالحديث عن "الإبداع" في الوقت
الذي تصادر فيه الحريات
الثقافية والفكرية ويُشل فيه
العقل العربي عن
الإبداع
الحقيقي؟ أليس عجيباً أن
يتبجح البعض بالحديث عن "نقل
التكنولوجيا" في الوقت
الذي يضغط فيه العدو الصهيوني،
بدعم من الولايات المتحدة
الأمريكية، لطرد
الفلسطينيين
وتفريغ المناطق الفلسطينية
المحتلة من الكفاءات والخبرات
العلمية ؟
إن ما يسكت عنه حديث المؤتمرات
وتصريحات المسؤولين العرب (وما
أكثرها) هو جوهر
المشكلة العربية، أي جوهر انهيار الخط
الإنتاجي العربي. وعندما يتحدث
أحد وزراء الاقتصاد
العرب عن الناتج القومي
الإجمالي، أو عن مسيرة الإنتاج
هبوطاً وارتفاعاً، فإن
حديثه لا يتضمن إلا معنى
البلاهة، ذلك أن هذا اللفظ ليس
له ، في الحقيقة ،
مدلول واقعي.
فليس ثمة نمط إنتاجي في العالم
العربي. كل ما هو موجود بقايا
أنماط
إنتاجية
هامشية في طريقها إلى الزوال
بعد أن أصبحت لا قيمة لها في
تحديد قاعدة
المجتمع
العربي ولا مصيره. الموجود هو
نمط لا أسم له حتى الآن في
قواميس
الاقتصاديين،
وعليهم أن يبحثوا عن
"الإنتاج" و"العمل"
و"القوة العاملة".
إن النمط الأقرب
إلى التسمية هو "النمط
الهلاكي" بوصفه حالة أو دورة
مهلكة تدخلها الكائنات التي
تعجز عن إنتاج احتياجاتها بيدها
وفكرها. ومن هذا النمط تتفرع كل
ظواهر الإبادة التي
تسمى في عرف الأكاديميين
"غياب الديموقراطية"،
و"العبودية" التي تسمى في
عرف الاقتصاديين
"تنمية منخفضة"،
و"التشرد" الذي يسميه
الخبراء "هجرة اليد
العاملة" أو
"هجرة العقول العربية". إن هذه
التسميات المنخفضة تمتد إلى
أكبر خطر يواجه الأمة
العربية وهو الخطر الصهيوني الذي يسكت
عنه أغلب الباحثين أو يسمونه
تسميات مخففة، خوفاً
على "حيادية العلم"
و"النزاهة الأكاديمية"
بينما يقلبه السياسيون إلى "التسوية
العادلة" و"السلام" وما
إلى ذلك، بينما هو في الواقع
أخطبوط يسعى إلى هدم مقومات
الوجود الثقافي والاقتصادي
والسياسي للأمة العربية،
والقضاء على الشعب الفلسطيني
سواء عن طريق التهجير أو
الإبادة الجسدية. وإذا
كان ثمة "عجز" علمي ظاهر
لدى "المثقفين" العرب عن
تسمية وتفسير هذا الواقع
المحزن، فإن "عجزهم"
يتصاعد
إلى تسمية وتفسير آلية هذا الواقع المزري
وارتباطاته الداخلية
والخارجية. فهم يجتمعون
للبحث في مشكلات الإبداع
والتراث دون أن يكلفوا أنفسهم
رؤية العلم الإسرائيلي
الذي يرفرف خفاقاً فوق رؤوسهم،
ولا نستبعد أن يواصل هؤلاء
اجتماعاتهم
وأبحاثهم دون
أن يشعروا أو يروا أن الشعب
العربي الذي يبحثون مشكلاته
الإبداعية
والتراثية قد
اختفى من سجلات التاريخ وتم
ترحيله نهائياً إلى المقابر
والمنافي. ـــــــــ * كاتب
وأكاديمي فلسطيني مقيم في
السويد ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |