-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 28/04/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


لا وقت للعُقد النفسِية

الدكتور عبد القادر حسين ياسين*

كنت أتناول طعام الغداء في أحد المطاعم الشعبية في ستوكهولم . فجأة تنظر إليَّ السيدة السويدية التي أجالسها وتسألني مرتاعة ، وكأن كوبرا قد لدغتها :

" أنت تأكل اللحوم " ؟

نظرت إليها وسألتها " ألا تأكلين اللحوم ، يا سيدتي " ؟

قالت , تنفي عن نفسها التهمة : " مستحيل ... تصور هذا الشيء الذي تأكل لحمه الآن كانت له عينان , وكان يمكن أن ينظر إليك , وأن تحبه , و ها أنت تأكله... لا بد أن لديك عقدة نفسية , ألا تشعر بشيء من تعذيب الضمير " ؟

قلت لها : " هل قرأت عن أناس سقطت بهم الطائرة وعزلوا فوق قمم جبال الأنديز الشاهقة في أمريكا الجنوبية , فاضطروا لأكل جثث رفاقهم القتلى " ؟

هل تعرفين , يا سيدتي الفاضلة , كيف يمكن أن يجوع الأطفال جوعا مزمنا فتتورم بطونهم وتهزل أطرافهم حتى يضحى منظرهم " مقززا " لك ولأمثالك ؟

هل قرأتِ شيئا عن البرازيل حيث تدَرَّب الطفلة على البغاء منذ العاشرة , وحين يصبح عمرها 12 عاما تصبح مومسا محترفة ؟

هذا , يا سيدتي , لا يحدث في بابل القديمة , ولا في أدغال بورنيو ، وإنما في البرازيل , " بلد المعجزة الاقتصادية " !

هل أتاك حديث الأطفال الفلسطينيين الذين كانوا يطاردون القطط والكلاب والجرذان في أزقة المخيمات بحثا عن " وجبة " تبقيهم على قيد الحياة ؟

المسألة ، في رأيي المتواضع , إنه ليس أمام الناس البسطاء المعدمين , وبخاصة أولئك الذين تسمونهم تأدبا ب " العالم الثالث " , دائما خيارا كاف في أن يكونوا لطيفين , وتنطبق عليهم مقاييس اللطف المبنية على الشبع والتخمة , كما هو الحال في " العالم الحر ".

إن حب الثقافة لا يمنع إنسانا يكاد يتجمد من البرد من أن يحرق كتابا ليتدفأ عليه , والعطف على الحيوان لا يمنع إنسانا يتضور جوعا من أكله . وحب الإنسان لا يمنع إنسانا مسحوقا من قتل الذين يسحقونه .

إن المسألة , يا سيدتي الفاضلة , ليست مسألة حضارة وتخلف , ولم تكن المسألة ، في يوم من الأيام ، مسألة " شرقي بربري" أو " غربي متمدن " .

إن المسألة , ببساطة , هي مسألة حاجة وانتقاء ... مسألة القدرة على الاختيار والتي يقابلها , بالضرورة , فعل الشيء الوحيد الممكن حتى لو بدا ذلك الممكن أقل لطفا .

كان بود المسحوق أن يربي قطة أليفة في بيته , لكنه جائع إلى درجة أن لا وقت لديه للقطة , ولا رغبة للقطة في البقاء لديه .

كان بود كل امرأة أن تربي أطفالها وتجلس بطمأنينة لولا أن الجوع والفاقة والظلم ... هذه الأمور كلها أرغمت بعض الأمهات على طرد أبنائهن من البيوت لكي يموتوا جوعا ... بعيدا عن أعينهن ولا يموتوا أمامهن .

كان بود الأطفال ( في فلسطين والعراق والسلفادور ونيكاراغوا وموزمبيق والسودان وغيرها ) أن يكملوا اللعبة المرحة ... لكن الشيء الذي كانوا يلعبون به انفجر بين أيديهم وفرق أجسادهم الصغيرة .

كان بود الأطفال أن يكملوا الطريق إلى المدرسة , لكن الجوع -  و"الجوع كافر" , يا سيدتي -  جعل الطريق إلى صندوق مسح الأحذية أقرب .

كان بود الآباء أن يكملوا الملاحظات التربوية , لكن قنابل" العم سام" تساقطت فوق المعامل والمدارس والحقول والبيوت الآمنة .

كان بود الناس أن لا يجوعوا ...

وكان بودهم أن لا يموتوا ....

وأي مكان تجدين فيه الفقير والمظلوم ... لا تقولي أنه غبي إذا قرر اتباع هذه الطريق , بل قولي إنه مسحوق أوصله الظلم والفقر واستغلال "العالم الحر" إلى هنا .

لم يبحث أحدكم بعد عن "العقدة النفسية" التي تجعل الإسرائيلي يقتل أطفال المدارس الذين خرجوا للتعبير في مظاهرة سلمية، عن رفضهم للإحتلال الصهيوني للضفة الغربية و قطاع غزة ... لم يكلف أحد منكم نفسه عناء أن يسأل الإسرائيلي الذي يقتل .. ويقتل ... ويقتل... ويتشبث بالخطأ الذي تقتنعون أنه " أمر واقع " ( Fait Accompli ) .

أنتم ، في "العالم الحر" أكثر قدرة على دراسة الذين يموتون .

معذرة، يا سيدتي, هذا الاستطراد كله قد يبدو لا علاقة له بأنني آكل اللحم ... إن مجموعة الظروف التي نعيشها, نحن الفلسطينيون, لا تسمح لنا بأن نحمل عقدا نفسية.

إن العقد النفسية " مرض أكابر", مرض ترف ... نحن نحمل آلام وتشوهات جسدية تبدأ بالفم والمعدة والساقين ... تبدأ بالحاجة إلى البيت والأهل والوطن .هل تعرفين, يا سيدتي, ما هو الوطن ؟

لا بد من الاستطراد الدائم ... الألم المزمن طبخ الهموم الفلسطينية كلها وصارت "شوربة " ... لقمة لا بد أن تحمل للفلسطيني رائحة الهموم كلها.

أنتم , في " العالم الحر ", لديكم الوقت لتربية القطط والكلاب وإجراء مسابقات للضفادع ... وتحليل أنواع الابتسامات ... ونحن مهددون في المخيمات وبيوت الطين, مهددون بالجوع والمرض والقنابل الإسرائيلية الأمريكية الصنع.

لذلك, لا ندقق كثيرا بنوع الطعام في الوجبة .. أو حتى طريقة الطهي .. أو بكمية الملح .. نحن, يا سيدتي, نأكل لنعيش ... أما أنتم فتحاولون أن لا تسأموا العيش ولذلك تنتقون ...

نحن ، ببساطة شديدة ، لا وقت لدينا للعقد النفسية!!

الوقت الوحيد المتروك لنا هو الاستفادة ، حتى الحد الأقصى ، من واقعنا أننا أحياء. وليس ثمة شك في أنك تعرفين أن الحياة بدون عمل وحرية ووطن ليست حياة .

ـــــــ

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في السويد .

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ