-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
بائع
الجرائد معن
بشور
بعض الناس يختفون من حياتك
لسنوات، ولكنك فجأة تصطدم بحجم
حضورهم في ذاكرتك أو في الوجدان
أو في الاثنين معاً، خصوصاً حين
تسمع برحيلهم الاخير...
من هؤلاء كان كمال داميانوس
بائع الصحف الذي كان يحمل الينا
صحف الثمانينات كل صباح، فيبدو
وكأنه متلازم مع انواره فلا
تكاد تعرف اذا كان الصباح هو
الذي سيأتي الينا بكمال، أو ان
مجيء كمال بصحفه ينبئنا بحلول
الصباح...
كانت الصحافة المكتوبة
آنذاك هي صلتنا شبه الوحيدة بكل
ما يدور حولنا في لبنان
والمنطقة والعالم، لم تكن
الشاشات بالعدد الذي باتت عليه
هذه الايام، لم تكن الصحون
اللاقطة منتشرة على اسطح
البنايات في بيروت، ولم يكن
الاشتراك (بالكابل) معروفاً،
وكانت اخبار شاشة تلفزيونية أو
اثنتين على الاكثرتطل علينا في
المساء.. اما النهار كله فقد كان
أسير الصحافة المكتوبة تشاركها
اذاعات محدودة ومحسوبة على هذا
الطرف أو ذاك من اطراف الحرب...
لذلك كان كمال هو صلتنا
باخبار بلدنا والعالم، وربما
كان يدرك جسامة المسؤولية
الملقاة عليه، فلم يكن يخلف
موعدا الا ويحمل بابتسامته
الصادقة صحف الصباح... لم تمنعه
من اداء عمله كل قذائف الليل،
ولا حواجز المسلحين، ولا وحشة
الطرق التي تخلى عنها المارة
طلبا ليوم اضافي
من الحياة...
كان كمال صورة من اصرار
اللبناني العادي على الحياة،
وعلى السلام، وعلى التواصل،
يتصرف وكأن الجريدة هي زاد يومي
لا يقل اهمية عن الخبز والحليب
واللحم والخضار
بالنسبة لمواطن يريد ان يطمئن
منها على مستقبل حياته، تماما
كما يستعين بالقوت اليومي
لادامة هذه الحياة.
لم يكن كمال داميانوس رجلا
مشهوراً لم يكن مفكراً أو
كاتباً أو شاعراً أو ممثلاً أو
قائداً أو نائباً أو وزيراً
ورئيساً، بل كان رجلاً عادياً
جداً يعيش حياة عادية، ويحمل
احلاماً عادية ، وينشئ اسرة
عادية جداً، ويتحدث، اذا تحدث
كلاماً عادياً.
ومع ذلك فقد كان لخبر رحيله
المبكر في ذاكرتي ووجداني وقعاً
متفجراً اعادني إلى زمن متفجر
لم يكن الصراع فيه صراع مسلحين
من هذه الجهة أو تلك فقط، بقدر
ما كان صراعاً بين ارادة الحياة
التي يحملها عاديون، ككمال،
وبين مشاريع الموت والدمار
حملها زعماء ممن لا
يستطيع ان يرى زعامته مبنية إلا
على الاف الجثث والجماجم....
وحين بدأ المرض ينهش قلب
كمال ويحول دونه ودون توزيع
الصحف، وهذا ما لم تفعله كل
سنوات الحرب، بقي "بائع
الجرائد"، الرأس بيروتي،
المبتسم دائماً، مصراً
على ايصال جرائده لقارئيها،
واذا حال المرض دونه كان يطالب
زوجته بذلك،
إلى ان غاب كمال عنا، وغابت
الزوجة، وبدأ "زبائن" كمال
يبحثون عن "بائع جرائد"
آخر....
وكانت زحمة السنوات وقسوتها
ومشاغلها ان تنسينا كمال،
وتخرجه من ذاكرتنا المتداولة
فاذا بالنعوة المعلقة على جدران
رأس بيروت تظهر لنا كم ان صورة
كمال محفورة بعمق في الذاكرة...
صورة البيروتي اللبناني العادي
الذي ما استسلم للحرب والموت
والخطر، صورة الانسان المصر على
اداء عمله مهما كانت الصعوبات...
نعم العاديون هم الباقون في
قلوبنا ووجداننا والذاكرة ...لان
صناعة الحياة هي حرفة العاديين..
وهي الأهم.. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |