-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 24/05/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


شمولية الإسلام

بقلم : محمد مسعد ياقوت *

في أوج معمعة التنكيل بالمسلمين برمضاء مكة، لاسيما بعد وفاة العم والزوج، وبعد رحلة مُرة إلى الطائف؛ كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يَعرض نفسه على القبائل، في موسم الحج، كان يمر على الجماعات في الأسواق، ومواسم الحج، ولا يترك شريفًا معروفًا ولا شاعرًا مشهورًا ولا حكيمًا مُطاعًا إلا عرض عليه الإسلام . وكان قد ركز جهده في السنوات الثلاث الأخيرة قبل الهجرة على البحث عن وطن جديد يكون مقر دولة الإسلام؛ يحتضن الدعوة والداعية؛ حتى تتم رسالة الله . وكان يقول هو يدور على الناس ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ :

  « مَنْ يُئْوِينِى ؟ مَنْ يَنْصُرُنِى ؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّى، وَلَهُ الْجَنَّةُ » [ أحمد 14830، والصحيحة : 64].

***

وكانت له مقابلة تاريخية - أطنب فيها الباحثون – مع قبيلة بني شيبان، تلك القبيلة العربية التي حالفت الفرس، على ألا يأووا مُحْدثًا.. تلك القبيلة العربية القوية التي احتضنت ثلة من نوابغ العرب كانوا من أبنائها، أمثال : المثنى بن حارثة الشيباني، وهانئ بن قبيصة، وكان من نسل هذه القبيلة فيما بعد الأمام أحمد بن حنبل – إمام أهل السنة - ويزيد بن مزيد وغيرهم من  العلماء والقادة..

إذنْ نقف وقفة إجبار وإجلال عند حصافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – نسَّابة العرب - عندما اقترح على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يعرض الدعوة على بني شيبان.

 فقال  أبو بكر للنبي – صلى الله عليه وسلم –:

" بأبي وأمي, هؤلاء غُرَر الناس, وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالاً " [ البداية والنهاية 3/143] .

أي : بأبي أنت وأمي يا رسول الله – صلى الله عليك – هؤلاء بنو شيبان من أكابر العرب وأحسنهم، وزعيمهم " مفروق" يفضلهم حكمة وجمالاً.

ومن ثم توجه أبو بكر برسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى مخيم بني شيبان في عرصات الحج.

ودار هذا الحوار الماتع:

تقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟

قالوا: شيبان بن ثعلبة

فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟

 فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة.

 فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟

 فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى. وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد, والسلاح على اللقاح, والنصر من عند الله يديلنا مرة, ويديل علينا أخرى, لعلك أخو قريش؟

 فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فها هو ذا !

فقال مفروق: إلام تدعونا يا أخا قريش؟

فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تُؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد»

 فقال مفروق، وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا .

 فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [الأنعام: 151].

فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك, وظاهروا عليك ..

 ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا, وصاحب ديننا.

 فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, وإني أرى تركنا ديننا, واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا، لا أول له ولا آخر لذل في الرأي, وقلة نظر في العاقبة أن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع، وننظر..

 ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا !

فقال المثنى -وأسلم بعد ذلك-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة, في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَين أحدهما اليمامة والآخر السَّمامة !

 فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصريان» ؟؟

 قال: أنهار كسرى, ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى, فذنب صاحبه غير مغفور, وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى, أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا, وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك, فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب, فعلنا.

 فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قولته التي أبان فيها سمة أساسية من سمات منهج الله، وعمدة عميدة من عماد النظام الإسلامي، أي شمولية الإسلام، وأنه جزء واحد لا يتجزء - قال خير البرية :

 «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك [انظر: البداية والنهاية (3/143- 145) ].

 

لماذا رفض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه الفرصة ؟

إنها فرصة بكل المقاييس، أن يرى المستضعفون أنصارًا لهم على أتم الاستعداد أن يدفعوا عنهم ظلم ظالميهم من العرب، علمًا بأن المستضعفين لا يشغلهم أمر الفرس في الوقت الراهن على الأقل ..

ألف فارس عربي من بني شيبان الأبطال في تمام التجهيز !

ألف فارس في خدمتك يا رسول الله – صلى الله عليك – تحت يديك، يضربون على أيادي قريش الباغية ..! 

يا حبيب الله ! لا شأن لنا الآن بفرس أو كسرى، وعدونا في وقع الأمر هو ذلك الوثني القابع في مكة، الصاد عن سبيل المؤمنين، الذي ألهب ظهور المسلمين، وحرَّق جلود المستضعفين في ساحات مكة تحريقًا، وقتل الضعفاء أمثال سمية وياسر، وهجّر الموحدين إلى وسط أفريقيًا .. !

ولما لا نرحل إلى بني شيبان، فنهاجر إليهم حتى إذا قويت شوكتنا على العرب، أو كره الفرس مقامنا بين إخواننا من بني شيبان، انتقلنا إلى ركن آخر ركين، فنجونا من سياط العرب وأعددنا العدة .  

يا رسول الله ! ما الأمر ؟ وما الحكمة من ذلك يا سيد الحكماء ؟

نعم !

آمنت بك ! صدقتَ، لله درك ..

لقد رفضتَ عرض بني شيبان لتضع النقاط على الحروف :

1-أنه لا أنصاف حلول في الأصول، فالإسلام نظام شامل، لا يقوم إلا شاملاً، فمن ينصره على العرب لابد أن ينصره على العجم، وإلا فلن ينتصر أبدًا، ويصير بددًا !

2-أن الجهاد الصادق المتجرد، جزء لا يتجزء من الإسلام، فكما لا يصح إسلام قوم تعاقدوا على صلاة الظهر دون العصر، فكذلك لا يصح إسلام قوم تعاهدوا على الجهاد في وجه دون آخر .. فالصلاة وحدة واحدة لا تتجزء، وكذلك الجهاد..

3- أن الحصافة السديدة وبعد النظر، يقتضيان رفض عرض بني شيبان، فلقد قالوا بصريح العبارة أنهم على استعداد أن يقفوا في وجه العرب لحمايتهم بيد أنهم لا يستطعيون ذلك مع الفرس، فلعل الدائرة تدور، فينتقل المسلمون من جحيم العرب إلى جحيم الفرس، فيستغيث المسلم بالنار من الرمضاء .. فيجمع المسلمون على أنفسهم عدوين، إذ كيف يكون الحال لو طلب كسرى من بني شيبان " تسليم محمد " ؟ !

 

 َمن حاطه من جميع جوانبه ؟

إذًن؛ .. من الذي سينصر دين الله ؟ ومن الذي سيقيم نظام الإسلام في الأرض ؟ ومن الذي سيطبق الشرع الإسلامي السمح ؟ ومن الذي سينصر الإسلام ؟

نعم ..

"من حاطه من جميع جوانبه " !

فكل فرد حاط الإسلام من جميع جوانبه، عقيدة، وعبادة، ومعاملات، وأخلاق، وفكر، وحركة، ودعوة، وجهاد- فهو ناصر لدين الله قائم على شرعه، وهو أحق الناس بالتمكين .

وكل دولة حاطت الإسلام من جميع جوانبه، في العقيدة والعبادة، في الأخلاق والمعاملات، في السياسة والسلطة، في الرحمة والعدل، في العلم والقضاء، في التجارة والاقتصاد، في الجهاد والجيش .. ولم تفصل بين الإسلام والسياسة - فالسياسة جزء من الإسلام -، ولم تفصل بين الإسلام والاقتصاد- فالاقتصاد جزء من الإسلام كذلك-، ولم تفصل بين الإسلام والتربية - فالتربية جزء من الإسلام أيضًا -.... ولم تفصل الإسلام عن الحياة، أو الحياة عن الإسلام، فالإسلام منهج الحياة، والحياة لا تصلح دون الإسلام .

" وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً{125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى{126}" [ طه ] .

 

"إن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه"

فلا فائدة من تلك الدعوات الجزئية، والحركات المختلة، التي اجتزئت الإسلام، فتشبثت بجزء من الإسلام ونامت عن جزء، أو أحيت جزءًا وأماتت جزءًا آخر، فهذه الدعوات أفادت وأضرت، وأصابت وأخطأت، وقدمت وأخرت، وذلك لأنها لم تحط بالإسلام من جميع جوانبه.

فمن هذه الدعوات من جعلت من الإسلام مجرد تعاويذ وتصوف .

ومن هذه الدعوات من جعلت من الإسلام هجرة وانقلابًا، وتكفيرًا وتفسيقًا .

ومن هذه الدعوات من جعلت من الإسلام متونًا تُحفظ، وكتبًا تُدرس، ولا اجتهاد، وأّخذت تحَّفظ الناس : لم يُبقْ الأولُ شيئًا للآخر، وكل شر في اتباع من خلف.

ومن هذه الدعوات من جعلت الإسلام فِرَقًا ومذاهب، وفتنًا وملاحم، وليس لنا من الأمر شيء سوى انتظار المهدي المنتظر، والمجدد المعتبر، وما علينا من واجب سوى أن نعض بجزع شجرة، ونعتزل الناس والفجرة، فالعالم يموج بفتن عمياء، وحرب صماء، وقصور مشيدة وآبار معطلة، ونساء عاريات، وليال ماجنات ..

وبين هذه الدعوات، غثها وثمينها، طيبها وخبيثها، صوابها وخطئها، نرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرسم بيده الكريمة خطوطًا يمنة ويسرة، ثم يضع يده الطاهرة على الخط الأوسط مناديًا :

"هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ  !! "

ثم تلا هذه الأية الكريمة :

" وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ " [ ابن ماجه ( 11)، من حديث جابر ، وصححه الألباني ].

 

أدلة الشمولية :

"إن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه"

إلا من طبق تعاليمه الشاملة ..

في جيع مناحي الحياة الحاضرة والمستقبلة ..

وإن قال قائل : ما الدليل من القرآن على شمولية الإسلام وإلزامية تعالميه في كل المجالات – خاصة في الجانب السياسي؟

قلت : أقول ما قال القرآن، خير مقال !

 

الدليل الأول

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ " [ البقرة : 208]

قال ابن كثير – رحمه الله – أي : "أنْ يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه" [ تفسير ابن كثير  (ج 1 / ص 565)]

الدليل الثاني:

 قال الله تعالى : " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ " [النحل89]..

قال الطبري :

"نزل عليك يا محمد هذا القرآن بيانا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب(وَهُدًى) من الضلال(وَرَحْمَةً) لمن صدّق به، وعمل بما فيه من حدود الله ، وأمره ونهيه، فأحل حلاله ، وحرّم حرامه( وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) .." [تفسير الطبري  (ج 17 / ص 278)].

 

الدليل الثالث:

" فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر " [ النساء : 59 ]

قال سيد قطب في تفسير هذه الآية :

"وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمناً على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك ، أبد الدهر ، في حياة الأمة المسلمة . . وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي ، الذي لا تكون مؤمنة إلا به ، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه . . إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك ، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله . . شرط الإيمان وحد الإسلام . . شرطاً واضحاً ونصاً صريحاً " [ في ظلال القرآن، سورة النساء الآية 59]

 

الدليل الرابع :

" وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ " [ الشورى : 10]

قال الشنقيطي :

ولم يقل إلى قياساتكم وآرائكم . ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبداً " [أضواء البيان(ج 4 / ص 273)].

وقال سيد قطب – رحمه الله - :

"إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) . . والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن؛ وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية ، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم ، وأخلاقهم وسلوكهم . وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا . وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر ، أوسع من دساتير الحكم وأشمل . فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -لتقوم الحياة على أساسه" [ في ظلال القرآن، سورة الشورى، الآية 10] .

 

الدليل الخامس:

" وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا " [ الإسراء : 12 ]

قال الطبري:

 " يقول: وكلّ شيء بيناه بيانًا شافيًا لكم أيها الناس لتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من نعمه، وتخلصوا له العبادة، دون الآلهة والأوثان " [تفسير الطبري (ج 17 / ص 395)]

 

الدليل السادس :

" وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله " [ المائدة : 49 ] .

وهو نص مُحكم في جوب الحكم بما أنزل الله وتطبيق الشريعة الإسلامية على جميع المستويات : الفرد والمجتمع والدولة.

ولقد قرن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين فريضة الصلاة وفريضة الحُكم بما أنزل الله في حديث عجيب من أحاديثه الكريمة، فقال :

"لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم و آخرهن الصلاة " [ أحمد، عن أبي أمامة، وصححه الألباني، انظر حديث رقم : 5075 في صحيح الجامع ]

 

الدليل السابع :

" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ " [ النساء : 65 ] .  فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده ، وهو تحكيمه في حال حياته وتحكم مهجه فقط بعد وفاته .

 

الدليل الثامن :

" إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله " [ النساء : 105 ] وتأمل : لم يقل بما رأيت أنت .

 

الدليل التاسع:

" وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون " [ المائدة :

44 ] .

قال سيد قطب – رحمه الله - :

بهذا الحسم الصارم الجازم . وبهذا التعميم الذي تحمله « من » الشرطية وجملة الجواب . بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان ، وينطلق حكماً عاماً، على كل من لم يحكم بما أنزل الله ، في أي جيل ، ومن أي قبيل . .

وعلة ذلك أن الذي لا يحكم بما أنزل الله ، إنما يرفض ألوهية الله . فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية . ومن يحكم بغير ما أنزل الله ، يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب ، ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر . . وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان ، والعمل - وهو أقوى تعبيراً من الكلام - ينطق بالكفر أفصح من اللسان؟!

إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل ، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة . والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه . . وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد . [ في ظلال القرآن، تفسير سورة المائدة ، الآية 44].

 

الدليل العاشر :

" وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون " [ المائدة : 45 ] .

قال سيد قطب – رحمه الله - :

" وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضاً لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده ، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم ، الصالحة المصلحة لأحوالهم " [ في ظلال القرآن، سورة المائدة، الآية 45].

 

الدليل الحادي عشر :

" وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون " [ المائدة : 47 ] .

قال سيد قطب – رحمه الله - :

" وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل . وليست تعني قوماً جدداً ولا حالة جديدة منفصلة عن الحالة الأولى . إنما هي صفة زائدة على الصفتين قبلها ، لاصقة بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل ، ومن أي قبيل .

الكفر برفض ألوهية الله ممثلاً هذا في رفض شريعته . والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله وإشاعة الفساد في حياتهم . والفسق بالخروج عن منهج الله واتباع غير طريقه . . فهي صفات يتضمنها الفعل الأول ، وتنطبق جميعها على الفاعل . . ويبوء بها جميعاً دون تفريق" [ في ظلال القرآن، سورة المائدة، الآية 47].

 

الدليل الثاني عشر :

"ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ " [ الحجرات : 1 ].

 أي لا تقدموًا حُكمًا على حكم الله، وأمرًا على أمر الله، أو قانونُا على قانون الله.

 

الدليل الثالث عشر

" فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الحجر : 92، 93]

عما كانو يعملون في مجالات الحياة جميعها، من إصلاح وإفساد، ومن  استقامة وانحراف، من عدل وظلم، من حق وباطل .. في خاصتهم وعامتهم، الكبير والصغير، الحاكم والمحكوم، والقائد والمقود..

 

الدليل الرابع عشر :

" قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) " [ الأنعام ].

 

"إنه التجرد الكامل لله ، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة . وبالصلاة والاعتكاف . وبالمحيا والممات . بالشعائر التعبدية ، وبالحياة الواقعية ، وبالممات وما وراءه ." [ في ظلال القرآن، سورة الأنعام، الآية 162].

 

وأخرى ...

هذا، ويعج المصحف الشريف، بمئات النصوص التشريعية في مجالات الحياة المختفة كل على حدى، ومثال ذلك:

في القصاص ..

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) " [ البقرة ].

 

 وفي الوصية ..

 " كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ " [البقرة: 180]

 

وفي الميراث ..

فأفرد صدر سورة النساء وآخرها في بيان أحكام المواريث بدقة متناهية لم يسبق إليه قانون بشري ..

وكان منها :

"يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" [ النساء : 11].

وفي المهر ..

وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا" [ النساء : 4]

وفي العلاقة بين اليتيم والولي ..

 "وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا" [ النساء : 2 ].

 

وفي الديون وتوثيققها ..

ونزل في ذلك أطول آية في القرآن :

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ..." الآية [ البقرة : 182] .

 

وفي التجارة ..

" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " [ البقرة 275].

 

وفي المعاهدات السياسية..

"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ" [ الأنفال : 58]

"إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ " [التوبة:4].

 

أتُؤمن بنصف المصحف وتكفر بالنصف الآخر ؟ !

وبعد، فهل يجوز لمسلم أن يعتقد أن الإسلام يكون في مجال ولا يكون في آخر أو أن الإسلام في القلب وفي المسجد دون المتجر أو المصنع ؟

وهل يجوز لدولة أو حكومة أن تقول : " لا سياسية في الدين ولا دين في السياسية"، أو يقول رئيس دولة : " لا دين في الاقتصاد "، أو يقول وزير : " تنقية المناهج المدرسية من الفكر الديني "... إلى آخر هذه الترهات والخبالات، التي يُخيل لك قائلها وكأنها يرتشف من مرحاض ؟ !

وكيف يعقل أن يؤمن المسلم  بآية قرآنية ويكفر بآخرى، أو يؤمن بحديث شريف ويكفر بحديث آخر .. والله يقول :

" أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " [البقرة:85].

وقال مستنكرًا :

" وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ " [ النساء : 150 ] الآية .

إن على المسلم تبعة في هذا الثغر الذي نال خصوم الإسلام من الإسلام عبره، إنها ثلمة في واقع التصور الإسلامي، حتى طلع علينا أذناب الغرب يحاربون الدين الإسلامي كما حاربت أوربا سلطان الكنيسة في العصور الوسطى، وأسقط هؤلاء الأذناب أفكار العلمانية على واقع المجتمعات الإسلامية، فظنوا ألا ملجأ إلى الحضارة والتنوير إلا بالبعد عن الدين كما بعد الغرب عنه، وينبغي أن نقوض دور المسجد كما قتل الغربُ سلطان الكنيسة، وينبغي أن نلغي التعاليم الإسلامية كما نحَّت أوربا تعاليم النصرانية .

ويحهم ! ويكأن أذناب الغرب يظنون أن المسجد يخَّرب العقول !

ويكأن أذناب الغرب يعتقدون أن تعاليم الإسلام تحارب العلوم ..!

ويلهم ! لو يعلمون، في الوقت الذي كان قساوسة أوربا يحرِّمون على عامة الشعب تعلم القرأة والكتابة، كان محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – يهتف في صحراء الجزيرة : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " [ الطبراني ( الكبير)، عن عبد الله، وصححه الألباني، انظر حديث رقم : 3913 في صحيح الجامع ]. .

 

توصيات عملية :

1-أن تُبلغْ للناس دعوة الله شاملة: سلفية/ خلفية/ سُنية/ صوفية/سياسية/رياضية/علمية/ ثقافية/اقتصادية/ اجتماعية .. وأن ترسخ هذا المفهوم العظيم " الإسلام منهج حياة " ..

2- أن تعلق لوحة فوق إحدى الواجهات، تقول : " الإسلام منهج حياة ".

3- أن تتوسع في مدارسة الكتب التي تتناول مفهوم شمولية الإسلام، وأنجع ما في ذلك الباب – على حد زعمي – كتاب : " أصول الدعوة " للدكتور عبد الكريم زيدان، هو مجلد كبير، فإن لم تسطع فعليك برسالة " الإسلام .. شريعة الزمان والمكان " للدكتور عبد الله ناصح علوان . 

4ـ مدارسة قصة موسى مع فرعون ـ آيات الحكم في سورة المائدة ـ قصة يوسف في السجن ـ قصة ذي القرنين ـ قصة سبأ ـ قصة داود وسليمان ـ الوقف على الكلمات القرآنية: " قرية " ، " الملأ"، " خليفة" ...

__________

* عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، المشرف العام على موقع نبي الرحمة

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ