-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 30/08/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


رمضان يجمعنا

د. حبيب بولس*

في حمأة هذا الزمن الرديء، وفي ظل انقلاب المفاهيم والقيم، حتى صار الواحد منا يلقى الآخر، بوجه أبي ذَرّ وقلب أبي جهل، في هذا الزمن العربي الرديء، ونحن نجتاز مفازة لاهبة مليئة بالحصى وبالبثور، في هذا الزمن المُثقل بالهمّ وبالوجع وبالجوع، في زمن الانكسارات والتشرذم والفُرقة الذي فيه تفتّقت خيوط عباءتنا وبهتت ألوان حطّتنا. في هذا الزمن الذي صرنا فيه دويلات وطوائف،

"في كل ارض وطئتُها أمم       تُرعى بعبد كأنها غنم"

في زمن كهذا يتبوأ قيادته مأفون: "من كل رخو، عظيم البطن، مُنتفخ- لا في الرجال ولا في النسوان معدود". في زمن كهذا يشهد تراجعنا وتخاذلنا وترهّلنا، من الطبيعي أن تُخلّع أبوابنا، وان تُهدم أسوار كرامتنا، وأن تُقتحم قلعتنا، وأن تستباح خدورنا وحرماتنا، ومعتقداتنا، ومقدساتنا، حتى صرنا عُرضة للهجوم والتّهجم الوقحين من نفر ما كان يجرؤون لو أن في جموعنا رجالا. فتارة نصحو على رسومات شائهة لشخص الرسول العربي الكريم، وطورا على مقال لفرنسي، يُعيد فيه الى الأذهان تقرير "اللورد كريمر" في العقد الأول من القرن المنصرم، القائل:" إن الدين الإسلامي دين لا يليق بهذا العصر"، وتارة ثالثة على قبسة  (باباوية ) فطير، كنا نأمل- سامحه الله- أن تكون خميرا تلائم مركزه، يتعرّض فيها للدين الإسلامي على أنه دين لا يُحكّم العقل، وتارة رابعة على تقليعة تُردف الإرهاب بالدين. هذا التطاول ما كان له أن يتم لو أن الأجنبي، كان يعلم أننا مُوحدون زعامة وشعبا.

وفي حمأة كل ما ذكر يهلّ علينا شهر رمضان المبارك ليغسلنا من أدراننا وليزيل ما علق بأجسادنا من ترهل ودسم وأورام، وليمسح عن وجوهنا الأصباغ كي نظهر على حقيقتنا، وكي نلتقي مع أنفسنا، في لحظة صدق. مع إهلالته الكريمة لا نملك إلا أن نقول لكل المُضلِّلين والمُضلَّلين: إن ما يجري تسيب أخلاقي وفلتان، فحرية التعبير عن الرأي مهما حاولتم مكيجتها، يجب أن تلجم إذا هي تجاوزت حدودها  ومسّت الآخرين في صميم معتقداتهم. ومن هنا لا يمكن أن نسمح بما يجري من جهة، ولكننا من جهة أخرى نقول نحن  ضد الإرهاب مهما كانت مصادره وأسبابه، ومهما كان فاعلوه ومهما كان انتماؤهم. فالخطأ لا يُعالج بخطأ، والشرّ لا يقتلعه شر، لقد قال "لقمان الحكيم" لابنه:" يا بني، لقد كذب من قال: إن الشر بالشر يُطفأ، فان كان صادقا، فليوقد نارين، ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى، إنما يطفئ الخير الشر، كما يطفئ الماء النار".

نحن هنا نحذر ونقول للمُضلّلين: إياكم والخلط بين الإرهاب والدين، فالإسلام دين سماحة وحضارة وعلم أجّ وتوهّج واشتعل فأنار العالم أجمع وهداه سواء السبيل. عليكم أن تعلموا انه مهما بلغ بكم الحقد على الإسلام والمسلمين، لن يمسّ هذا الحقد الدين بشيء، بل سينقلب عليكم:" إن هذا الدين يُسر، ولن يشاد الدين احد إلا غلبه" (حديث شريف). الإسلام دين راسخ، دعائمه العدل والخير والمحبة، لذلك لن يستطيع شخص أو فئة النيل منه:" إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"... (حديث شريف). لن تضير المسلمين رسومات تشوّه سواء كان فاعلها يعرف فتعمّد التهتك أو يجهل فادعى التنسك، فهو في الحالتين أساء. فمن كلام عليّ (كرم الله وجهه):" قصَم ظهري رجلان: جاهل متنسك، وعالم متهتك" وفي الحالتين الذنب هو الذنب. نحن هنا مسلمين ومسيحيين،نقول:

" نحن في الشرق والفصحى بنو رحم- ونحن في الجرح والإيمان إخوان".

من هنا فليعلم الجميع أن الدين الإسلامي دين سماحة وقيم وحضارة وعلم وعقل، ولن تضره رسومات ولا أقوال شائهة طائشة، ومن هنا ثانية نقول وبعقيرة مرفوعة جهيرة: إن رسولا كريما تجمّعت فيه القيم والصفات الحميدة فصار أسّا ومرتكزا وقدوة حسنة، لا يمكن أن نسمح لأحد بالمس به. إن رسولا اخترق العالم بتعاليمه وأنار ظلمته، لا يمكن أن نسمح لأحد بان يهزأ به. إن من يدعو إلى الوحدة والتآلف والى نبذ البغضاء والأحقاد، من يدعو إلى مكارم الأخلاق والتواضع والمحبة، والرحمة والتسامح، وإنصاف الضعيف، حيث يقول صلّى الله عليه وسلّم:" لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا". و" إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويُؤلَفون". و:" لا يؤمن أحدكم حتى يُحبّ لأخيه ما يحب لنفسه". و:" يا علي، اتقّ دعوة المظلوم، فإنه يسأل الله حقه، وإن الله لا يمنع ذا حق حقه". أو كما جاء على لسان أبي بكر رضي الله عنه:"ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه". أيُضام رسول كهذا، بهذه الأخلاق وبهذه القيم!! انه قابع في قلوب الناس منه يستمدون وبه يستنيرون.

"لحُبّ ابن عبد الله أولى- به يُبدأ الذكر الجميل ويُختم".

نعم، أيها الأخوة، الإسلام دين سماحة وحضارة وعلم وعقل. قال ابن رشد الفيلسوف:" الشريعة والعقل أخوان في الرضاعة".

من هنا، أقول لقداسة البابا: دُلّني قداستك على ملك أوصى قائده قبل المعركة، كما أوصى الصدّيق قائده الفتى أسامة قبل ان يشخصه على رأس حملة، حيث قال:" لا تخونوا ولا تغدروا، ولا تغّلوا ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لأكله". وسوف تمرّون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم به.." أليس هذا عين العقل، قارِن قداستك هذا الكلام بما جاء في التوراة عن فتح أريحا".

دُلّني قداستك على ملك ابرم معاهدة وجعل بندها المركزي كتبا، كما فعل الخليفة المأمون حين أبرم معاهدته مع ملك الروم، واشترط عليه إرسال الكتب والمخطوطات إلى بيت الحكمة لنقلها وترجمتها، قارِن قداستك هذا الأمر مع ما جرى في برلين في بداية  العقد الثالث من القرن المنصرم من إحراق أعظم مكتبة هناك، مكتبة "أونترن لندن".

إن دينا يبوِّئ القلم المنزلة الأولى ويقدمه على كل شيء، والقلم آلة الفطنة والعقل ورمزهما لا يُقال عنه إنه دين لا يحكّم العقل. فهذا العتّابي يقول: "الأقلام مطايا الفطن"، والمأمون يقول: "لله در القلم، كيف يحوك وشي المملكة" وهذا ابن الرومي يقول:

 " بذا قضى الله للأقلام مُذ بُريت - أن السيوف لها مُذ أُصليت خدم".

 وصلاح الدين القائد الفذّ يقول لجنوده:" لا تحسبوا أني فتحت البلاد بسيوفكم، بل بقلم القاضي الفاضل". وهذا غيض من فيض، ألا يدل ما تقدم على تحكيم العقل. من أين استمد هؤلاء على شتى مراتبهم وعصورهم؟ أليس من تعاليم دينهم، من القرآن الكريم ومن سنّة الرسول المشرّفة. من هنا نحن نردد مع الشاعر ونقول:

" من سبّ دين محمد- فمحمد متمكن عند الإله رسولا". لن يضير هذا الدين شيء. وبعد،  لو أن مطلقي هذه الاتهامات والتهجمات فكروا للحظة  لعرفوا أن ما قاموا به سيكون له عواقب وخيمة وسيمس أقدس ما نحرص عليه ونجعله قرآنا وإنجيلا في حياتنا هنا في الشرق، واعني ذلك النسيج المتلاحم بين مسلمينا ومسيحيينا، فنحن العرب المسيحيين نرى بهذه الأقوال مسّا بنا وبمرتكزات وجودنا وبحضارتنا وبتراثنا. لقد عشنا هنا متآخين متحابين أخوة في الهمّ وفي الشدائد، إذا عثر احدنا أقاله الآخر، يجمعنا وئام وحرية معتقد وحلم أخضر بالواحة. من هنا أحذّر وأقول: إن ردّة الفعل مشروعة، ولكن المطالبة بالحق شيء والخروج عن حدود ذلك شيء آخر. يجب حين نردّ أن نرقى إلى مستوى دياناتنا وألا نأخذ الكل بجريرة البعض. التعميم مرفوض، لأنه:" إذا انحطّ قدر الدّر من اجل بائع فذاك جهل باللآلئ". يجب ان نفكر بعقولنا، إذ لا يجوز مهما بلغ بنا الغضب أن نسقط ذلك على العرب المسيحيين، فالمسيحيون هنا، ليسوا رهائن عند احد، بل هم شركاء وأخوة، يجب أن ننتبه وأن لا نسمح بان يُستغل غضبنا للتطاول على المسيحيين العرب، فالاحتجاج شيء واعمال الشغب وحرق الكنائس شيء آخر، شيء يجهض نضالنا ويُهمّشه ويعطي الفرج للمسيئين إلينا. 

نحن هنا، مسلمين ومسيحيين نقولها صادقة لن نسمح بالمسّ برسلنا وبأنبيائنا ومقدساتنا، لن نسمح بتفتيت وحدتنا وبتمزيق نسيجها، مهما حصل، ولن تُفلح أية قوة في أن تحرف مسارنا وان تشوّه تاريخنا وعيشنا المشترك. "وأما الزّبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع  الناس فيمكث في الأرض". صدق الله العظيم.

 لنخرج من هنا أيها الأخوة موحدين متآزرين كحبّات العقد الواحدة تسند الأخرى، لنخرج صخرة عتيّة تتحطم عند قدميها قرون الوعل. ولننتبه يا أخوتي لأنه "إذا الرعاة اختلفوا تجرأ الذئب". وكم من ذئب على الأبواب يتربّص. وعلى أمل ألاّ يكون لقاؤنا هذا فورة تعقبها غورة، ننتظر رمضان القادم لنرتق سوية ما تفتّق من خيوط عباءتنا ولنرد إلى ألوان حطّتنا التي بهتت البهاء. لنردد مع شاعر بني تغلب ما يليق بنا:

" حُشد على الحق عيّافو الخنى اُنف- إذا ألمّت بهم مكروهة صبروا"

. ولنهتف مع شوقي:"

نحن اليواقيت خاض النارَ جوهرُنا – ولم يهن بيد التشتيت غالينا

لم تنزل الشمس ميزانا ولا صعدت- في ملكها الضخم عرشا مثل وادينا".

 وها أنا العربي المسيحي أقولها بكل صدق وفخر:

"أولئك إخواني فجئني بمثلهم- إذا جمعتنا يا جرير المجامع".

الله اسأل أن يسبغ علينا نعمته وان يقوّي أواصر وحدتنا وأن يشدّ أزرنا. "ربنا إننا سمعنا وأطعنا". "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهّاب". صدق الله العظيم.

وكل عام وكل رمضان وانتم ونحن بألف خير وعافية.

ــــــــــــــــ

*ناقد ومحاضر جامعي  - الناصرة

drhbolus@yahoo.com

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ