-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
"عيدٌ
بأيّ حالٍ عدتَ يا عيدُ...؟!" الدكتور
عبدالقادر حسين ياسين * "كل عام
وأنت بخير" عبارة تهنئة
يتبادلها الناس في مثل هذا
اليوم (عيد الفطر المبارك) في كل
بلاد المسلمين ، من طنجة الى
جاكارتا ... في كل بلاد المسلمين
الا في فلسطين ... في بلادنا لا
يقول الناس : "كل عام وأنت
بخير" ، أو "كل سنة وأنت طيب"
، أو "عساكم من عوَّاده ، بل :
"كل سنة وأنت سالم"... "كل سنة
وأنت سالم".... وكأن الكلمة تشي
بواقع الحال الذي يغني عن
السؤال : فالفلسطيني ان سلم من
رصاص مستوطن صهيوني فهو سالم ... وان تمكن من
الهرب من
بيته قبل أن تهدمه الجرافات
الاسرائيلية فهو سالم ... وان أخطأته
مروحيات "الأباشي" فهو
سالم ... وان نجا
بجلده من اشتباك مسلح بين "رفاق
السلاح" في فتح وحماس من أجل
الصراع على سلطة لا وجود لها فهو
سالم ... ومن بقي "سالما"
من الفلسطينيين في الوطن المحتل
سيتوضأ بماء سرقت اسرائيل أكثر
من نصفه ، وعندما يذهب الى
المسجد الأقصى لصلاة العيد (هذا
، بالطبع ، اذا كان محظوظا،
واستجاب الله لدعائه ،
وسمح له الجنود
الاسرائيليون بالوصول الى
المسجد!) سيردد مع حادي المأساة
العربية ، أبوالطيب المتنبي ،
وهو في طريقه الى الشام ، بعد أن
خذله كافور الأخشيدي : "عيد بأيّ
حال عدت يا عيد بما مضى ، أم
لأمر فيك تجديد أما الأحبة
فالبيداء دونهم ... فياليت دونك
بيدٌ ... دونها بيدُ" وسيردد "آمين"
بعد امام المسجد ، حين يدعو الله
أن "يمحق " المحتلين ، و"يزلزل"
الأرض تحت أقدامهم ، و "يزيل"
الغمة ... و"يجمع كلمة الأمة"
، و"يحرر"
الأقصى من رجس اليهود...,... و... لم يعد ثمة
داع لزيارة البيوت ل "التهنئة"
بالعيد... فالكل يلتقي "هناك"...
و"هناك"
لا بد أن يكون لكل فلسطيني أب ،
أو أم ، أو ابن ، أو ابنة ، أو خال
،أو خالة ، أو عمّ ،
أو عمة ، ، أو جد ، أو حفيد....
فالرصاص الاسرائيلي لم يعد يفرق
بين مقاوم وقائم للصلاة... أو بين
حقيبة تلميذة في الصف الثالث
الابتدائي وحقيبة متفجرات... "هناك"
في المقابر الفلسطينية عيد من
نوع آخر...اعتاد عليه
الفلسطينيون في الوطن المحتل :
توزيع الكعك بالتمر على أرواح
الشهداء ، والقهوة السادة بطعم
مرارة فقدانهم ، ورائحة "الهيل"
تذكر برائحة دمهم ، حيث أريق على
مقعد مدرسة ، أو رصيف شارع ، أو
تحت سقف كان يعج يوما بالحياة،
وصراخ الأطفال الشهداء ... في
مثل هذا اليوم لن يحتاج
الفلسطينيون الى "خروف العيد"
كوجبة دسمة ، بعد ثلاثين يوما من
الصيام ، ذلك أنهم برسم الذبح في
عالم عربي أدار لهم ظهره منذ 60
عاما ، وفي عالم يحكمه راعي
البقر الأمريكي... زمان... زمان... كانت شوارع
المدن والقرى الفلسطينية ، و"زواريب"
المخيمات ، تمتلئ بحظائر الخراف
في يوم العيد... حظائر متحركة
لأيام معدودات. وفي صبيحة
يوم العيد تفوح رائحة اللحم
الذي ثلثاه للفقراء ، وثلثه من
أجل أهل البيت . قسمة عادلة...
يأكل الجميع هنيئا مريئا... تتزاحم قطع
اللحم في المرق ، وفوق الأرز
الأبيض أو الأصفر حبات الصنوبر
تزيد الطعام لذة... وان لم يتوفر
فحبات الفستق الأبيض المقشور
تفي بالغرض...ففي حضرة االحم
البلدي (لم نكن نعرف آنذاك ،
اللحم "البلغاري المجمد ، ولا
"لحوم الأضاحي" التي "يتصدق"
بها "المحسنون"
على البؤساء من أمثالنا!!) يصبح
ما عداه هامشيا... ثلاثة أيام...
وينتهي العيد... وتختفي الخراف،
وقطع اللحم المجانية ، ويعود
الفقراء الى فقرهم ، والبؤساء
الى بؤسهم ، ويعود الثلث الى
غناهم . أفواه تواصل
رحلة البحث عن اللحم في ثلاجات
يابانية ضخمة... هذا فخذ
خاروف كان يركض يوما في سهوب
أوستراليا أو مراعي الأرجنتين... وهذا صدر كان
يستنشق ذات يوم الهواء العليل
في مروج بلغاريا... وتلك قطعة
"ستيك" من بقرة هندية كانت
تروي عطشها من مياه "الغانج"
المقدس... هل يتجمد
الطعم ويختفي المذاق في الرحلة
داخل الشاحنة
الثلاجة من الوطن الأم الى
بطون الجائعين؟ وهل تظل
البروتينات محافظة على خصائصها
بعد كل هذا الصقيع؟ هذه أسئلة
محرمة على الثلثين الذين لا
يجدون قوت يومهم.... كنت لا أعرف
طعما للحم إلا في الأعياد... وكان
من قبيل "الترف الفكري" أن
أسأل عن سنة صنع اللحم المعلب أو
انتهاء صلاحيته ... في صبيحة يوم
العيد كانت والدتي تبعث بي الى
"أبي خليل" ، صاحب ملحمة
"السعادة" (!!) في المخيم ،
لكي أشتري أوقية لحمة ، وكانت
تصر أن أرجوه وأتوسل اليه بأن
"يتوصى" ... وأن يعطيني بعض
"السقط" (بقايا اللحم الذي
كان أبو خليل يلقي به الى الكلاب
الضالة في المخيم)... وأن أبلغه
تحياتها... وكانت
النساء (ممن كن ينتظرن دورهن لكي
يجود عليهن أبو خليل ببعض "السقط")
يذكرن أبا خليل بأن الله "سيبني
له قصرا في الجنة" لانه
"يعطف" على الأيتام
والأرامل... كانت تلك
أسئلة "جوهرية" ... وغني عن
البيان أنها بدائية اذا ما قيست
بتلك الأسئلة التي يطرحها بعض
المترفين عن كمية "الكوليسترول"
في الغرام الواحد... وعن الدقائق
اللازمة للطبخ في "الميكروويف"
أو على الفحم في حفلات "الباربكيو"... زمان ... زمان... كان
الفلسطينيون فئات اجتماعية
وطبقية... أغنياء وفقراء...فلاحون
وأهل مدن... موظفون وعمال... أما
اليوم فقد اختفت كل الحدود
الفاصلة بينهم ؛ فهم اما مشاريع
شهداء أو شهود على مذابح ترتكب
باسم مكافحة "الارهاب"...
وهم اما ضحايا على موائد
الافطار أو أهداف للمدافع
الاسرائيلية... منذ 42 عاما
والعيد ممنوع من الدخول إلى
فلسطين ، ذلك ان المآسي اليومية
التي يعيشها شعبنا الفلسطيني
تحت الاحتلال ومنذ 16 عاما في ظل
"السلطة" العتيدة ، لم تترك
معبراً للأعياد، ولو نحو
الأطفال... في الوطن
المحتل ، حيث الصراع على "السلطة"
التي لا تملك ولا تحكم ، وليس
لها من الأمر إلا التسمية
المفخمة بغير مضمون والتي لا
تسمن ولا تغني من جوع، يلتهم
الجوع العيد ومعه السلطة وأهلها
، بينما
ينقسم هؤلاء فريقين مسلحين
وشرسين متنازعين حتى على الهواء
في عملية عبثية يعجز عن
ابتداعها العدو الصهيوني ذاته. لقد تحولت
"السلطة" إلى مصدر
للانقسام ومن ثم الفتنة،
ويتناوب أهلها على تدمير قدسية
قضيتنا التي كانت جامعة ،
فتهاوت ومعها حلم "الدولة"
فكيف بالاستقلال، خصوصاً
والعدو ينهش الأرض على مدار
الساعة... فإذا
ما عاد المختلفون إلى وعيهم،
بأعجوبة من عند الله، لن يجدوا
أرضاً لسلطتهم المتهالكة
والمفرغة من أي مضمون برغم كل
التضحيات التي قدمها شعبنا على
امتداد قرن كامل من النضال ... وبعد 16 عاما
على اقامة "السلطة"
العتيدة ، يجد الفلسطينيون
أنفسهم محاصرين بآلامهم ،
بهمومهم ، محاصرين حتى في
لقمة العيش ... فالموظفون بدون
رواتب، و الحياة مشلولة،
والفلتان الامني ، و الاقتتال
الداخلي خبر عادي في النشرة
اليومية... وحكومة لاتعرف ماذا
تفعل، و "رئيس" يتخبط... كل سنة وأنت
سالم... فان سلم
الفلسطيني هذه السنة ، فانه لا
يضمن أن يسلم من بطش العدو
الصهيوني في السنة المقبلة...
عدو أثبت لكل
من يعنيه الأمر
أن السلام لا يعنيه على
الاطلاق... وأن العدل ن بالنسبة
له ، لا يعني سوى موت الآخر... وكل سنة
وأنتم سالمون...! ـــــــــــــ *
كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في
السويد . ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |