-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
رمضانيات
(27) الأمُّ
الرحيمة د. عثمان قدري مكانسي روى
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه
قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ يقول : ((
إنّ لله تعالى مئة رحمة ، أنزل
منها رحمة واحدة بين الجن
والإنس والبهائم والهوام ، فبها
يتعاطفون ، وبها بتراحمون ،
وبها تعطف الوحشُ على ولدها ،
وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين
رحمة يرحم بها عباده يوم
القيامة )) وفي رواية (( جعل الله
الرحمة مئة جزء ، فأمسك عنده
تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض
جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء
يتراحم الخلائق حتى ترفع
الدابّةُ حافرها عن ولدها خشية
أن تصيبه )) (1)
. وتظهر
رحمة الأم ببنيها في أحاديث
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم
ـ واضحة جليّة ، فهي مثال العطف
والحنان ، ونبع الشفقة والرأفة
، خلقها الله سبحانه وتعالى
ينبوعاً يفيض على أبنائها بالحب
، ويؤثرهم بالرفد والعطاء ، فقد
جعلها النبيُّ ـ صلى الله عليه
وسلم ـ صورة حية ، ينفذ منها إلى
توضيح رحمة الله سبحانه وتعالى
بعباده ، فقد روى أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
قدم رسولُ الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ ، بسبيٍ ، فإذا امرأة من
السبي تسعى ، إذ وجَدَتْ صبياً
في السبي (2) ، فألزقته ببطنها (3)
، فأرضعته ، فقال رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ : (( أترون
هذه المرأة طارحةًً ولدها في
النار ؟ )) قلنا لا والله ، فقال
:(( لَلّهُ أرحم بعباده من هذه
بولدها )) (4). امرأة
وقعت في ذلّ الأسرِ ، حزينة
كاسفةُ البال ، كانت سيدة في
أهلها وعشيرتها ، حرّة في كنف
رجال قبيلتها ، مطاعةٌ في بيت
زوجها ، فجعلها الأسر أمةً
مملوكة وجارية مأمورة . . حالةٌ
نفسيّةٌ صعبة يَذهلُ الإنسانُ
بها عما حوله ، ويعتصر الألم
قلبه ، ولكنَّ هذا كلّه لم يلهها
عن ابنها وفلذة كبدها ، فقد بحثت
عنه جاهدة حتى رأته ، فاحتضنته
راغبة ، وألقمته ثديها حانيةً ،
وضمّته إلى صدرها بين ذراعيها
مشفقة ، امرأة كهذه لا تُسلِمُ
ابنها إلى مكروه مهما صغُر ،
وتدفع عنه الأذى مهما حقـُر ،
وتفديه بنفسها من كل ضرِّ . امراة
كهذه تَهَبُ ابنها كلَّ ما
لديها ، وتسعى جاهدة ما وسعها
الجهد إلى الذود عنه . . إنها
الرحمة ما بعدها رحمة . . فحين
انتبه المسلمون إليها ، ورأوا
ما فعلته بولدها قالوا بصوت
واحد : لا والله ، لا تسلمه إلى
النار ولا تطرحه فيها . وهنا
يلفتُ الرسول الكريم نظر
المسلمين إلى رحمة الله بهم ،
لهو تعالى أشدُّ رحمة بهم من هذه
الأم بولدها . . أيّ رحمة إذاً
يدّخرها الرحيم الرحمن لعباده ؟
والربُّ العظيم الغفور لمن آمن
به وأطاعه ، وامتثل أمره ؟ وهذه
إحدى بنات النبيِّ ـ صلى الله
عليه وسلم ـ يُحتضَر ابنُها
فتودُّ أن يحضر أبوها ـ صلى الله
عليه وسلم ـ وفاته ، فترسل إليه
ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنّ
ابني قد احتُضِرَ (5) فاشهدنا ، فأرسل يُقرئها السلام ويقول : ((
إنَّ لله ما أخذ ، وله ما أعطى ،
وكل شيء عنده بأجل مسمّى ،
فلتصبر ولتحتسب (6)
فأرسلت إليه تـُقسم
عليه ليأتينّها . . . )) (7) . فهذه
ابنة الرسول الكريم ـ صلى الله
عليه وسلم ـ شأنها شأن الأمهات
جميعاً ، ترى ابنها يذوي ويموت .
. وبمن تستعين في هذا المصاب
الجلل ؟ إنه أبوها رسول الله ـ
صلى لله عليه وسلم ـ ، فحين يرسل
إليها أن تصبر وتحتسب تفزع إليه
مقسمة عليه أن لا يخيّب رجاءها ،
وأن يوافيها ، فهي في أشدّ
الحاجة إليه ليهوّن عليها
المصاب أو يسرّي عنها في فلذة
كبدها . . وهذه
أم الربيع بنت البراء ، وهي أم
حارثة بن سراقة الذي قتل في بدر
تأتي إلى الرسول ـ صلى الله عليه
وسلم ـ ترجو أن تسمع منه عن
ابنها الشهيد ما يثلج صدرها
فقالت : يا رسول الله ألا تحدثني
عن حارثة ؟ . . فإن كان في الجنّة
صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ
عليه في البكاء ، فقال : (( يا أم
حارثة ، إنها جنانٌ في الجنّة ،
وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى )) (8) . إن
فقدان الولد أمر عظيم يمزق
القلب ، ويقطع الأحشاء ، ويفتت
الكبد . . . وهي تسأل النبيَّ ـ
صلى الله عليه وسلم ـ إن كان في
الجنة فسوف تلقاه إن شاء الله ،
وصبرُها على فراقه رفعٌ لدرجتها
ودرجته (9) في الجنة ، وإن لم يكن كذلك لتبكينّه
بحرقة مَن يفقد العزيز الغالي
إلى الأبد . . وهذا ما تستطيعه ،
وجلّ ما تقدر عليه . . إنها الأم
الثكلى والراحمة العطوف . وتعال
معي إلى هذه الصورة الرائعة
المتجسدة رحمة فيما روته السيدة
عائشة رضي الله عنها قالت : أ ـ جاءتني
مسكينة تحمل ابنيتن لها . . ب ـ فأطعمتها
ثلاث تمرات . جـ ـ فأعطت كل
واحدة منهما تمرة . د ـ ورفعت
إلى فيها تمرة لتأكلها . هـ ـ فاستطعمتها
ابنتاها . و ـ فشقّت
التمرة التي كانت تريد أن
تأكلها بينهما . فاعجبني
شأنها ، فذكرت الذي صنعتْ لرسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
فقال : (( إنَّ الله قد أوجب لها
بها الجنّة ، أو أعتقها من النار
)) (10)
. إنه
الإيثار الرائع الذي جعلها ـ عن
رضا ـ تتخلّى عن نصيبها
لابنتيها ، ولهذا كانت الجنّة
تحت قدميها ، وأوصى النبيُّ ـ
صلى الله عليه وسلم ـ بها ثلاث
مرات وربَّع بالأب بعد ذلك . وقد
مرّ في بحث المرأة الكريمة ما
فعلته السيدة أم سلمة رضي الله
عنها حين سألت رسول الله
ـ صلى الله عليه وسلم ـ في
إنفاقها على بنيها حين قالت : أ ـ هل لي
أجر في بني أبي سلمة أن أنفق
عليهم ؟ ب ـ ولست بتاركهم
هكذا وهكذا . جـ ـ إنما هم
بَنيَّ . . . وتقرّر
أنها لن تتركهم قبل أن يجيبها
النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بالإيجاب ، فالفطرة أجابتها قبل
إجابته . وهل
يحضُّ الإسلام إلا على المبرّات
، وفعل الخيرات ، والعطف على
الأرحام وصلتهم ، وغرس الرحمة
والودَّ في المجتمع كي ينشأ
الأبناء صالحين أبراراً . وقد
أورد النبيُّ ـ صلى الله عليه
وسلم ـ قصة المرأة كان ابنها
يرضع من ثديها ـ وكل أم تحبُّ أن
يكون ابنها وجيهاً ، عظيماً ،
يُشار إليه بالبنان ـ فمََرَّ
رجل راكب على دابّة فارهة
وشارَةٍ حسنَةٍ ، فقالت : ((
اللهمَّ اجعل ابني مثل هذا ،
وكلُّ امرأة لا ترضى لابنها أن
يكون خسيساً فاسداً مرذولاً . .
فمرَّت به على جارية يضربونها ،
ويقولون : زنيتِ سَرَقْتِ . .
فقالت الأم حين رأتها : اللهمَّ
لا تجعل ابني مثلها . . (11) . أما
أم أيمن رضي الله عنها حاضنة
النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وهي تكبره سنّاً بست سنوات ـ
خدمته رضي الله عنها حتى شبَّ
وبلغ مبلغ الرجال ، وكان
يناديها أمي . . كان يجلُّها عليه
الصلاة والسلام ، وزوَّجََها من
أنصاري فولدت له أيمن ، فلما مات
زوجها زَوَّجها من زيد بن حارثة
رضي الله عنه فولدت له أسامة ((
الحِبَّ ابن الحِبَّ )) ، وكان ـ
صلى الله عليه وسلم ـ يزورها
لفضلها
ـ يقول أبو بكر لعمر رضي
الله عنهما ـ بعد وفاة رسول الله
ـ صلى الله عليه وسلم ـ : انطلق
بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها
نزورها كما كان رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ يزورها ، فلما
انتهينا إليها بكتْ ، فقالا لها
: ما يبكيكِ ؟ ألا تعلمين أن ما
عند الله خير لرسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ !
قالت : إني لا أبكي أني لا
أعلم أنّ ما عند الله خير لرسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،
ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من
السماء ، فهيّجتـْهما على
البكاء ، فجعلا يبكيان معها (12)
. فقد
أحبته كأفضل ما تحب أم ابنها ،
وترجو الخير بوجوده ، وانقطع
الوحي حين التحق الرسول الكريم
ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق
الأعلى ، أفلا تبكي أغلى
الأبناء وأفضل الرجال !! ؟ والرحمة
تنفع صاحبتها ولو اقترفت ملء
قراب الدنيا آثاماً ، لأنَّ
الراحمين في الأرض يرحمهم
الرحمن (( وارحموا مَن في الأرض
يرحمكم مَنْ في السماء )) (13)
. . فعن أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه أن َّ رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ قال : (( بينما كلب
يُطيف بِرَكيّةِ ، قد كاد يقتله
العطش إذ رأته بغيُّ من بغايا
بني إسرائيل فنزعت موقَها (14)
فاستسقت له به ، فسقته ،
فَغُفِرَ لها
به )) (15)
. وهناك
كثير من الأحاديث الشريفة
تتحدّث عن رحمة المرأة بمن
حولها . . . اللهمَّ ارحم نساء
المسلمين ، ودلَّهُنَّ على
الخير ، واملأ قلوبهن بحبك
وحبَّ دينك ورسولك ، ونحن معهن
يا رب العالمين . (1)
رواه البخاري برقم ( 6000 ،
6469 ) ، ومسلم برقم ( 2752 ) ، وأحمد
برقم ( 9326 ) . (2)
هو ابنها . (3)
كناية عن شدة الشفقة
والرحمة . (4)
رواه البخاري برقم ( 5999 ) ،
ومسلم برقم ( 2754 ) . (5)
احتُضر : حضرته مقّدمات
الموت وعلاماته . (6)
تنوي بصبرها طلب الثواب
من الله وأن يجعل ذلك في صالح
عملها . (7)
رواه البخاري برقم
( 1284 ، 5655 ، 6655 ) ، ومسلم برقم (
923 ) ، وأحمد برقم ( 21282 ) وغيرهم
. (8)
رواه البخاري برقم ( 2809 ،
3982 ، 6550 ) ، وأحمد برقم ( 12788 ،
12838 ) ، والترمذي برقم ( 3174 ) . (9)
قال تعالى في سورة الطور
الآية 21 : ( وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
أَلْحَقْنَا
بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ
عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ). (10)
رواه مسلم برقم ( 2630 ) ،
وأحمد برقم ( 24090 ) . (11)
يرجع إلى القصة في كتاب ((
قصص رواها النبيّ ـ صلى الله
عليه وسلم ـ )) للمؤلف تحت
عنوان : المرأة التي كلّمَتْ
وليدها ص 49 ، والقصة رواها
البخاري برقم ( 3436 ، 3466 ) ،
ومسلم برقم ( 2550 ) ، وأحمد برقم
( 8010 ) . (12)
رواه مسلم برقم ( 2454 ) . (13)
كما في الحديث الذي أخرجه
أحمد برقم ( 6458 ) ، وأبو داود
برقم ( 4941 ) ، والترمذي برقم (
1924 ) ، وانظر : المشكاة برقم
( 4969 ) . (14)
الموقُ : الخُفُّ .
الركيّة : البئر . يَطيفُ به :
يدور حوله . (15)
رواه البخاري برقم ( 3467 ) ،
ومسلم برقم ( 2245 ) ، وأحمد برقم
( 10205 ) . ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |