-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
عناصر
القوة الذاتية في الحضارة
الإسلامية د/
بوفلجة غيات أهم قوة حضارية يتميز
بها العالم الإسلامي هي عقيدته.
فالإسلام حضارة قديمة أثبتت
نفسها وبقيت صامدة في وجه
التحديات، رغم مكائد الأعداء
وقوتهم المسخرة لضربه. فالإسلام إيمان وعقيدة،
سلوك وعمل وأخلاق وعدل ومعاملات.
فهو ينظم الشؤون السياسية
والإجتماعية والإقتصادية،
يحترم حقوق الضعفاء والفقراء،
ويتعامل بموضوعية مع أفراد
المجتمع وبشفافية كاملة. كما
أنه يحدّد واجبات وحدود الفقراء
والأغنياء، لهذا فأول من أحبّ
الإسلام واعتنقه هم الفقراء
والعبيد، الذين ساهم الإسلام في
تحريرهم. كما أن الإيمان بخالق
واحد هو الذي يحيي ويميت وهو
الرازق والمانح والمشفي من
العلل والكروب،
تجب طاعته. فهي عقيدة تنزع
العبودية لغير الخالق، وتحرّم
على كلّ مخلوق التجبر والشرك
بالله ، فالحكم له وحده لا شريك
له. لقد تعددت النظريات
العلمية، ووضعت القوانين
الوضعية، ومع لم تكن شاملة
وعادلة لكل الأمم والعصور، كما
هو الحال بالنسبة للإسلام. ومن
هنا كانت قوته وصلابة إيمان
معتنقيه. فكلّ شيء وضعي يحتمل
الصّحة والخطأ، أما الإسلام فهو
دين سماوي، دين
الحق لا ينزل الباطل من بين
يديه ولا من خلفه. فالإسلام دين أخلاق،
يحترم الإنسان كإنسان، بما في
ذلك غير المسلمين. وحتى أثناء
الحروب فهو يعامل أعداءه معاملة
إنسانية، ويحترم ضوابط التعامل
معهم حتى في حالة حصول عدوان على
المسلمين. وقد كان عليه السلام
إذا بعث سرية قال: "بسم الله
وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة
رسول الله، لا تغلوا ولا تغدروا
ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا
ولا امرأة ولا شيخا كبيرا" (رواه
أبو داود والطبراني). وقد وصل
الأمر إلى النهي عن رمي السمّ
حتى في بلاد العدوّ (الطحاوي).
وفي التاريخ الإسلامي أمثلة
رائعة عن ذلك، فصلاح الدين
الأيوبي مثلا، عالج بنفسه عدوّه
الملك شارل قلب الأسد أثناء
الحروب الصليبية بالقدس. أتى الإسلام نظاما
متكاملا من النواحي الإجتماعية
والإقتصادية والسياسية،
وبالتالي أمكن بقاءه
واستمراريته حتى في ظل تخلف
السلطة المركزية وضعفها، أو تحت
الإحتلال كما وقع أثناء
الإستعمار الغربي للعالم
الإسلامي، أوفي حالة الفوضى
وغياب سلطة مركزية كما حصل في
الصومال. ومن أهم مظاهر قوّة
الإسلام، خضوع المحتلين
والمستعمرين لسلطته. وأشهر
ظاهرة في التاريخ اعتناق
المغول، بجنودهم وقادتهم،
للدين الإسلامي الحنيف، وهم في
أوج قوتهم وانتصارهم العسكري.
وبهذا ساهموا في نشر الإسلام في
الدول التي دخلوها، وفي أوطانهم
الأصلية بعد عودتهم. نفس الظاهرة أمكن
ملاحظتها في المجتمعات الغربية
المتطورة ماديا، حيث تأثر كثير
من الغربيين من أفراد بسطاء،
كانوا سببا في إشهار إسلامهم. ويمكن ملاحظة درجة
التشبث بالعقيدة والقيَم
الإسلامية، من خلال المجتمعات
الإسلامية التي كانت تحت سلطات
وهيمنة الإحتلال، والذي دام
قرونا محاولا محو ومسخ القيم
الإسلامية إلا أن نجاحاته كانت
جدّ محدودة. وهناك أمثلة
متعدّدة عن ذلك، منها بقاء
فرنسا لمدّة 130 عاما في الجزائر،
دون القدرة على النيل من
العقيدة الإسلامية لسكانها.
كذلك الحال بالنسبة لسيطرة
الشيوعية على بلاد الإسلام في
بعض الدول الإسلامية بالإتحاد
السوفياتي ويوغسلافيا
السابقتين. وخير مثال عن ذلك
مسلمي الشيشان الذين شردوا
وهجّروا وقتلوا، مع ذلك حافظوا
على إسلامهم وهويتهم، وأوقدوا
نار الثورة عند أول فرصة سنحت.
كما أن تفكك الإتحاد السوفياتي
أعاد الإسلام إلى الواجهة في
الدول المسلمة التي استقلت عنه
بعد تفككه، وكلّ ذلك دليل على
قوته. فقوّة الحضارة
الإسلامية مستمدّة من العقيدة
نفسها، ومن الأفراد وليس من
سلطات المركزية للدول
الإسلامية، التي تحاول
الولايات المتحدة السيطرة
عليها وإملاء أوامرها وشروطها
عليها. فالعرب المجاهدون الذين
توجهوا إلى أفغانستان والبوسنة
والشيشان والعراق...، لم يتصرفوا
بتوجيه وتحريض من سلطات دولهم،
بقدر ما كان بدافع عقدي ورغبة
شخصية. وهو ما يوضح استقلالية
الفرد المسلم وقوة عقيدته. وقد
جاء في خطبة الوداع، قوله تعالى:
"اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
الإسلام دينا" (المائدة/ 4).
وهذا يدلّ على أن قواعد الإسلام
واضحة، غير قابلة للتغيير ولا
التجديد، وأنه بإمكان أي فرد
دراستها وفهمها والعمل بها،
وليس باستطاعة أحد تغييرها، لا
الإمام ولا الحاكم ولا أي عالم
مسلم مهما كان قدره ومكانته،
فما بالك بباحث أو منصّر أو
سياسي غربي. وهذا ما يجعل الخبراء
الغربيين يعجزون ويضيّعون
أوقاتهم في محاولة تغيير بعض
التعاليم الإسلامية، ومحاربة
سوّر الجهاد، والسور التي تتحدث
عن اليهود في القرآن الكريم. وإن
تمكنت نتيجة الضغوط والإبتزاز
والتهديد من حذفها من البرامج
الدراسية ببعض الدول
الإسلامية، فليس باستطاعتها
ولا باستطاعة الحكام
والمسؤولين المسلمين حذفها من
القرآن الكريم، مصداقا لقوله
تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون" (سورة الحجر/9).
علما أن القرآن الكريم في صدور
حفظة القرآن، وأن استقلالية
العلماء المسلمين وتعدّدهم
وتنوع أماكن تواجدهم، جعل من
المستحيل السيطرة عليهم كلّهم
وإغواءهم أو قتلهم، أو محو ما في
صدورهم من قرآن كريم. كما تبرز قوة العقيدة في
قوّة المقاومة في فلسطين. فرغم
الفقر والإحتلال والحصار
الخانق، وغطرسة المحتل ومباركة
وتأييد وتدعيم أقوى وأعتى
الدّول في العالم، استمرت
المقاومة، وفرضت نفسها
بإمكانياتها الضئيلة
والمتواضعة، وسوف يشتدّ عودها
دون شك، ذلك أن الوقت يعمل
لصالحها. فلو كان صراع اليهود مع
أي أمة أوحضارة أخرى وفي أي
منطقة أخرى غير أرض المسجد
الأقصى، لكان هذا الصراع قد حسم
لصالح إسرائيل منذ أمد بعيد،
بسبب الدّعم المادي والإقتصادي
والسياسي والغربي لها. وهكذا فإن الجهاد دفاعا
عن النفس والوطن والعقيدة، لا
يتطلب إذن حاكم أو عالم. ذلك أن
الإسلام شرّع المقاومة بمختلف
مجالاتها المسلحة والثقافية،
فهو دين عزة وكرامة، لقوله
تعالى: "ولله العزة ولرسوله
وللمؤمنين" (سورة المنافقون /
8). فالصبر وتحمّل تجاوزات
الأعداء لا يعني الرضا عنهم
والقبول بهم. من أهم مظاهر قوة
العقيدة الإسلامية أيضا، صمود
المسلمين على المظاهر
والتقاليد الإسلامية، مثل
ارتداء الحجاب بالنسبة للنساء،
وارتداء العباءات وطلق اللحي
بالنسبة للرجال، غير عابئين
بالمضايقات سواء بالنسبة
للمقيمين ببلدانهم أو المقيمين
بأرض المهجر بالدول الغربية.
حيث لا يمكن الصمود في وجه
الضغوط، من إهانات واستهزاءات
ومضايقات أمنية، تصل عادة إلى
درجة الإتهام بالإرهاب، حيث لا
يمكن الصمود والصبر إلا لمن كان
إيمانه قويا بقضيته وعقيدته. لقد كان الإعتقاد
السائد في الربع الأخير من
القرن العشرين، أن إرسال دفعات
دراسية من الدول الإسلامية إلى
الغرب، يؤدي إلى تأثر الشباب
المسلم بالإباحية وبالنمط
الغربي في الحياة، مما يؤدي بهم
إلى تبني هذا النمط ليعودوا إلى
بلدانهم للعمل على نشره من
مواقع القيادة. إلا أن المفاجأة
هي أن كثيرا من هؤلاء الشباب
اكتشفوا حقيقة الإسلام في الغرب
وعادوا وهم أكثر تمسكا به،
وأكثر سخطا على المادية الغربية.
كما أنه رغم ضعف
المسلمين وتخلفهم في جلّ
المجالات، ورغم حملات التشويه
التي يتعرضون لها من طرف وسائل
الإعلام الغربية، حيث وصل الأمر
ببابا الفاتيكان "بنديكت
السادس عشر" إلى اتهام
الإسلام باللامنطقية، ورغم
الرسومات الكاريكاتورية
المسيئة للرسول محمد عليه
السلام التي نشرتها الجريدة
الدانمركية، مع ذلك، نجد الآلاف
من الأفراد من مختلف المناطق
والثقافات والأديان، يشهرون
إسلامهم سنويا، نجد من ضمنهم
الكثير من مشاهير العلماء
والأساتذة والأطباء والمهندسين
ورجال الأعمال ونجوم الغناء
وأعلام الرياضة، يتم ذلك نتيجة
اقتناع وليس نتيجة ضغط. قد نجد مرتدين عن
الإسلام بين أميين، إلا أن
عددهم أقل، وعادة ما يتم بسبب
ضغوط الحاجة والقفر، بدافع
الحصول على حوافز مادية، قد
تكون في صورة تأشيرات الهجرة أو
الحصول على الجنسية أو مبالغ
مالية أو عرض عمل، ومع ذلك قد
يكون التحوّل عن الإسلام مظهريا
فقط. كما أن هذه المُغريات قد
تؤثر على مسلمين ضعفاء الإيمان،
ورغم ذلك فهم يعودون عادة إلى
الإسلام، ديانتهم الأصلية بعد
زوال الضغوط الممارسة عليهم
وتحسن أوضاعهم المادية، وهو ما
يبرز قوّة العقيدة الإسلامية. كلّ هذه العوامل تمثل
القوة الروحية والعقدية
والأخلاقية، التي حوّلت عرب
الصحراء من قبائل متناحرة، إلى
أمة متماسكة فكونت حضارة أصبحت
منتشرة في أرجاء المعمورة. ذلك
أن قوة العقيدة باقية رغم الضعف
المادي، وهو ما يجعل الدول
الغربية عاجزة عن تحقيق مآربها
العسكرية والسياسية
والإقتصادية على حساب الأمة
الإسلامية، وأن خلل التوازن ليس
أبديا بل هو إلى حين. إلى جانب قوّة العقيدة،
نجد أن للعالم الإسلامي قوة
مادية لا يستهان بها وتتمثل في
موقعه الجغرافي وموارده
البشرية وثرواته وإمكانياته
غير المستغلة. إذ يتربع العالم
الإسلامي على مناطق جغرافية
واسعة، لها أهميتها
الإستراتيجية. كما يملك موارد
بشرية كبيرة، إذ يتميز المسلمون
بارتفاع نموهم الديمغرافي، حيث
تجاوز عددهم المليار مسلم عبر
العالم. كما أن هناك جهودا تبذل
في مجالات التربية والتعليم
والتدريب على كلّ
المستويات، بما في ذلك التعليم
العالي، حيث يتخرج سنويا الآلف
من الإطارات العليا في مختلف
التخصصات، وقد برز كثير من
العلماء، عمل الغرب على
استقطابهم. وسوف تظهر نتائج هذه
الدفعات من الكفاءات والإطارات
والباحثين على أرض الميدان في
السنوات المقبلة. إضافة إلى كل ذلك،
يستحوذ العالم الإسلامي على
أكبر مخزون للطاقة في العالم،
حيث تسيطر الدول الإسلامية على
أكثر من 50 في المائة من موارد
الطاقة العالمية، من بترول
وغاز، في مختلف المناطق، في شبه
الجزيرة العربية وإيران
والجزائر ونيجريا وأذربيجان
وأندونيسيا وماليزيا...، وأخيرا
انضمت السودان وسوريا إلى الدول
المنتجة والمصدرة للطاقة. وهي
موارد غير مستغلة استغلالا
جيدا، مما أدى إلى التبذير وعدم
الفعالية في التسيير، إلى درجة
أصبح التخلف والفقر سمتان لكثير
من الشعوب الإسلامية. رغم الأهمية
الإستراتيجية والثروة المعدنية
والطاقوية، وارتفاع عدد
المسلمين كطاقة بشرية حيوية،
إلا أن أهم الجوانب وأقواها
فيما يخص الحضارة الإسلامية، هو
عقيدتها وبعدها الأخلاقي،
وعدالة شريعتها وتوازنها، وهي
العوامل التي جعلت الإسلام
ملجئا للأفراد والشعوب عندما
تشتد بهم المخاطر، فيجدون فيه
الطمأنينة النفسية والحصن
المنيع الذي يمكن الإعتماد عليه
للوقوف في وجه الإعتداءات
والتحديات. وهو ما أدّى بالكثير
من الغربيين إلى الإقتناع بقوة
العقيدة الإسلامية، وبالتالي
اعتناقها. وهكذا يبقى الأمل كبيرا
في أن ترفع الدّول الإسلامية من
نجاعة اقتصادياتها، وتستغل
خيراتها ومواردها، حتى تتمكن من
حلّ مشاكلها المادية ومواجهة
التحديات الحضارية المعاصرة. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |