نبيل شبيب

مع تسهيل سبل الكتابة والنشر عبر شبكة العنكبوت، ازدادت إمكانات الحوار القائم على طرح الفكر والفكر المضاد ازديادا كبيرا، إنما ازدادت معها إمكانات نشر ما يصعب إعطاؤه عنوان حوار، أو نقد بناء، أو نصيحة من منظور آخر، وهنا يتعاظم خطر الانزلاق دون تفكير في خوض جدال لا طائل تحته، لتفنيد بعض ما ينشر بأسلوب غوغائي حافل بالتهجم، والتنديد، والتسفيه، والشتيمة أحيانا، وهذا ما يسري على كثير مما تناولته بعض الأقلام، مستهدفة الإسلام والوحي وبعض العلماء، بدعوى تفنيد ما يقول به المشتغلون في "الإعجاز العلمي" في القرآن الكريم. 

أرضية التشويش

في مسألة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، موضع الحديث هنا ما يوشك أن يعمّ ضرره نتيجة الحملات والردود عليها، لأسباب عديدة، محورها السؤال عما يمس عامة المسلمين ولا سيما الشبيبة على هذا الصعيد، وأهم تلك الأسباب:

1- تتعدد رؤى كثير من العلماء المشهود لهم بالفضل والعلم، حول عدد من المسائل المتفرعة عن العنوان الرئيسي الجامع "إعجاز القرآن"، لا سيما بعد أن تفرع الاشتغال به تحت عناوين الإعجاز اللغوي، والموضوعي، والعلمي، والعددي وغير ذلك، ولا يسهل على عامة المسلمين الاستقرار على رأي أقرب إلى الصواب، عندما تتعدد اجتهادات العلماء موضع الثقة بينهم، إذا ما افترقت عن بعضها بعضا أكثر من المعتاد والمقبول تحت عنوان تعدد الاجتهادات.

2- جل ما يكتب ويقال تحت عنوان "الإعجاز العلمي" في القرآن الكريم، يعتمد على اجتهادات، منها المنهجي ومنها ما دون ذلك، وعند الربط بين الإعجاز العلمي ومسائل معينة من ميادين العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية وما شابهها، يسهل العثور على ثغرات قائمة بالفعل، كما يسهل اصطناع ثغرات مزعومة، وهي التي تنفذ منها جهات دأبت من الأصل على محاولة النيل من الإسلام، فليست هي موضع الثقة ابتداء، ولا أطروحاتها جادة بمقاييس منهجية، بل ولا تناقش أصلا المضامين المطروحة من جانب المجتهدين في الإعجاز العلمي، قدر ما تقتطع وتنتقي أو تؤول على غير المعنى الأصلي، لاستغلال حصيلة ذلك وتوظيفها في خدمة غاية مسبقة، محورها ترويج ما تريد هي على مستوى جيل الشبيبة تخصيصا، وليس الحرص على إسلامه، بمعنى "حمايته" من وجهة نظر ما تتناقض مع إسلامه.

3- إن طبيعة ما يقال وينشر تحت عنوان "الإعجاز القرآني" تستهوي المتابعة من جانب الشبيبة، لا سيما وأن ما صنعته الصحوة الإسلامية على صعيدها ما يزال "غضّا"، سواء من حيث الإحاطة بالأصول الإسلامية نفسها، أو من حيث حجم المعلومات العامة الذاتية، وهنا موطن خطر إضافي: فكما تجد أطروحات المجتهدين في قضية الإعجاز أصداء إيجابية لدى الشبيبة، يمكن أن تجد أطروحات التشكيك ثغرات للنفاذ بحملات مضادة إلى العقول والأفهام. 

جوهر المشكلة

هل يمكن القول في مسألة الإعجاز العلمي قولا فاصلا لتجنب المخاطر الناجمة عن المعطيات المذكورة آنفا؟.. لو أمكن ذلك لما أثارت هذه المسألة ما تثيره منذ فترة، وهو ما لم يبق خارج حدود العلماء والدعاة أنفسهم.

ولا يسهل الخوض في موضوع بهذا الحجم مع مراعاة ما يرتبط به من تخصص وتفرع بطبيعة الحال، إنما قد يفيد التوقف عند سؤالين أساسيين فيه، قد يحددان جوهر المشكلة:

آ- ما هي المحاور الكبرى، البعيدة نسبيا عن مواطن الاختلاف، لمسألة الإعجاز من حيث الأساس، أي ما يرتبط منها بإيمان المسلم وإسلامه، وكذلك من حيث الاشتغال بها حديثا؟..

ب- ما هي المعايير التي يستطيع المسلم من عامة المسلمين، أن يعتمد عليها، للتعامل مع ما يطرح المتخصصون عليه، ومع ما يتعرضون له من حملات مضادة، وإن لم يبلغ علمه الذاتي مبلغ المتخصصين؟..

وفيما يلي محاولة مبدئية للإجابة في النقاط الخمس التالية:

1- الثابت دون خلاف أن طريق الإيمان لم يكن طريق المعجزات. يتبين ذلك في القصص القرآني، لا سيما قصة موسى عليه السلام مع فرعون، ويتبين فيما ثبته النص القرآني عن الإيمان بخاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، لا سيما في الإجابة القاطعة على مطالبة المشركين بالمعجزات {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} -الإسراء: 93- وكذلك في تعامل الكفار من فصحاء العرب مع النص القرآني المعجز، ممن بقوا على كفرهم رغم عجزهم عن أن يأتوا بمثله أو بمثل سورة من سوره، أو آيات من آياته، وكذلك في كثير من المواقف المعروفة في السيرة النبوية، كما كان مع معجزة الإسراء والمعراج، وقد زادت الكافرين كفرا والمؤمنين إيمانا.

يعني ذلك: لا يوجد بمنظور إيمان الفرد وإسلامه، ما يستدعي التهويل عليه أو التهويل على نفسه من شأن حصيلة الاشتغال بالإعجاز العلمي ناهيك عن التشكيك في تلك الحصيلة.

2- الثابت للمسلم المؤمن أيضا أن القرآن الكريم هو كلام الله المعجز، وأن فيه الكثير مما يؤكد إعجازه أو يشير غلى بعض جوانب هذا الإعجاز وأنه إعجاز مستمر إلى يوم القيامة.

يعني ذلك: إذا استشعر المؤمن الإعجاز في كلام الله عبر تلاوته، فهذا يكفيه شرعا، وكل ما يزيد على ذلك يمكن أن يفيد عندما يوضع في موضعه من الإيمان المتوافر أصلا، وليس في موضع "الوسيلة" للوصول إلى الإيمان.

3- لم يسبق أن قال عالم من العلماء بأن هذا النص أو ذاك في القرآن الكريم، قد أورد أمرا جازما قاطعا مما يرتبط بأمور علمية بمعنى العلوم الطبيعية حديثا، وجل ما يقوله المشتغلون بالإعجاز العلمي إن في النص إشارات إلى مسائل علمية، وإن ما يثبت ثبوتا قاطعا عبر تقدم العلم يدخل في باب التوافق مع مقتضى تلك الإشارات، أما المزاعم القائلة بتعارض ما، فهي لا تنطلق أصلا من أمور علمية ثابتة قطعيا بل من فرضيات اجتهادية من جانب بعض العلماء والمفكرين، حتى وإن حاول كثيرون -غالبهم أدنى علما وتخصصا من القدرة على الجزم بشأنها- كما لو كانت مقولا علمية مفروغا منها.

يعني ذلك: أن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والاشتغال به، ليس مشكلة أصلا، إنما هو ميدان من الميادين المعرفية، ولعله ميدان فرعي يفيد الاشتغال به، ولكن لا يضر العزوف عنه أو العزوف عن متابعته، ولا يدعي من يشتغلون به أنه من العلوم الأساسية أو الضرورية!..

4- كل ما يأتي به المشتغلون في الإعجاز القرآني، لا يلزمون به وباعتقاده أحدا من المسلمين، فهم يعلمون وعموم المسلمين يعلمون، أن أركان الإيمان ستة، وأركان الإسلام خمسة، وليس فيها ما يلزم المؤمن المسلم على سلوك طريق الإعجاز العلمي تخصيصا، إنما الباب مفتوح لمن يريد "تقوية" إيمانه، كما يقال.

يعني ذلك: أن جميع ما يثيره المشكّكون لا يتناول جوهر مسألة الإيمان، وبالتالي فإن ما يطرحونه من نتائج لتشكيكهم، لا علاقة له بسلامة عقيدة الفرد المسلم المؤمن ابتداء، وإن حاولوا تصويره على هذا النحو!..

5- المسلم المؤمن بكتاب الله تعالى، لا يحتاج إلى دليل علمي حديث أو قديم، من ميدان العلوم الطبيعية وسواها، لإثبات أن ما ورد في هذه الآية أو تلك "صحيح"، فإيمانه بالله هو الأصل، وإيمانه بصدق التبليغ النبوي للوحي الرباني هو الأصل، وهذا ما تعنيه الشهادتان، وكل ما سوى ذلك فروع تُبنى على الأصول، فالإيمان بالغيبات، كالملائكة، صادر ابتداء عن ذكرهم في الكتاب، الذي آمن المؤمن بأنه كلام الله عز وجل وآمن بصدق تبليغه وحيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

يعني ذلك: أن الاشتغال بالإعجاز العلمي، علم فرعي اجتهادي، يتفرع عن العلوم الدينية الأساسية ولا يطرح من الأصل أسس "العلاقة بين الدين والعلم" كما يروّج المشككون، وقد يجدون ثغرة لذلك بأن بعض من اشتغل في الإعجاز العلمي دون أن يبلغ مستوى عاليا من العلم، تحمّس إلى طرح النتيجة كما لو كانت هي الدليل الذي يحتاج المؤمن إليه للإيمان بصحة ما ورد في هذه الآية أو تلك، وليس هذا الطرح سليما، بغض النظر عمن يطرحه. 

تحية للدكتور زغلول النجار

إن هذه المعطيات الأساسية كافية للمسلم، من مختلف المستويات العلمية أو المعرفية، ليتخذ من مسائل الإعجاز العلمي موقفا لا ينال من إسلامه وإيمانه، فإن أراد أن يزداد إيمانا واقتناعا فالأبواب إلى ذلك عديدة ومفتوحة، تفكرا وتدبرا وتعبدا وعملا صالحا، ومن تلك الأبواب ما يمكن أن يدعمه الاطلاع على ما يفصّل فيه العاملون في الإعجاز القرآني، أما إن لم يطلع، فإن ذلك لا يعني عند المسلم من عامة المسلمين "نقصا" في واجب، ولا "ضعفا" في عقيدة.

وإن هذه المعطيات كافية للمسلم أيضا كيلا يقف موقف الاهتمام أو الغضب أو التأثر أو الاكتراث، من "معركة مصطنعة"، تثير غبارَها جهات معروفة بسعيها للنيل من الإسلام والمسلمين أصلا، لا سيما على صعيد جيل الشبيبة وإقباله المتجدد على إسلامه.

وقد اشتهر في هذه الأيام العالم الفاضل د. زغلول النجار باشتغاله في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وتعرض أكثر من سواه لحملات مضادة، فيحسن التنويه للشبيبة المسلمة، ممن يتأثرون بعطاءاته، وكذلك من يتعرضون للتأثر بحملات مغرضة ما، إلى أن مما يساعد على وضع الأمر في نصابه، سواء من حيث ما يراد بهذا الاشتغال في مسألة الإعجاز، أو من حيث تهافتُ ما يقال عنه وعن حصيلته، أن نعود إلى ما يقول به د. زغلول النجار نفسه، وعلى وجه التخصيص ما ورد في النص التالي (ملاحظة: أضاف كاتب هذه السطور الترقيم فقط) بعد أن يعدد بعض ما طرحته العلوم الحديثة والنظر فيها بمنظور القرآن الكريم:

"1- في هذا الخضم يبقى للمسلم نور من الله في آية قرآنية كريمة، أو حديث نبوي صحيح مرفوع إلى رسول الله..

2- يعينه على الانتصار لإحدى هذه النظريات، والارتقاء بها إلى مقام الحقيقة..

3- لا لأن العلوم المكتسبة قد أثبتت ذلك..

4- ولكن لمجرد وجود إشارة إلى تلك الحقيقة في كتاب الله الخالق أو في سنة رسوله..

5- ونحن في هذه الحالة نكون قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بسنة خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين)..

6- ولم ننتصر بالعلم لأي منهما".

تؤكد هذه العبارات أن المنطلق هو الإيمان، وليس الإعجاز، كما يؤكد قائلها، وهو أحد مشاهير العلماء المعاصرين المشتغلين في الإعجاز العلمي، كما أنه يحدد في كثير من كتاباته طبيعة هذا الاشتغال وشروطه ويفصل فيها، ومحورها ما يعبر عنه بقوله في موضوع آخر "أما الإعجاز العلمي للقرآن الكريم فلا يجوز أن يوظف فيه إلا القطعيّ من الثوابت العلمية".

وإننا لنقرأ قوله عز وجل:

{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} -الإسراء: 88-.

فلا يتطرق أدنى شك يمس صادق الإيمان بالله وكتابه الكريم في أعماق القلوب..

كما أن هذا الإيمان يزداد عمقا يوما بعد يوم، ويزداد رسوخا عصرا بعد عصرا، مع استيعابنا واستيعاب الأجيال المتعاقبة من المسلمين لقوله تعالى:

{سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتين لهم أنه الحق أوَ لم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد} -فصلت: 53-

صدق الله العظيم.

-------------------------