د/ بوفلجة غيات

ونحن في مجتمع المعرفة، عصر الذرة وتكنولوجيا الإعلام والإتصال، اعتقد البعض أن الدراسات الحضارية والتاريخية والأنتروبولوجية، مجالات علمية قد أصبحت من الماضي. إلا أن التحولات السياسية، والكتابات الفكرية والإستراتيجية، كحوار وصراع الحضارات، ونهاية التاريخ، أحيت الإهتمام بموضوع الحضارة، بل أصبح من أهم اهتمامات المفكرين والقراء.

يعرف العالم تفاعلات حضارية، اختلف الباحثون الإجتماعيون والفلاسفة في الإتفاق على مفهوم واحد للدلالة عليها. وهكذا نجد مجموعة من المفاهيم المتداولة، كحوار الحضارات وصراع الحضارات وتدافع الحضارات، وهي اختلافات ذات انعكاسات على المفهوم وتداعياته، وهو ما يجب إلقاء الضوء عليه وتعميقه.

نتطرق في هذا الموضوع إلى أهم المفاهيم المستعملة للدّلالة على التدافع، أو الحوار، وإلى أهم الآليات المعتمدة في هذا التدافع.

مفهوم الحضارة وأهميتها:

إن الحضارة مفهوم معقّد ومتشابك، فهي شخصية الأمة، بماضيها وثقافتها وقيمها المادية والأخلاقية، بعقيدتها وممارساتها السياسية، ومهاراتها الإنتاجية وأساليب تنظيمها. فهي تشمل كلا من التراث الأدبي والعلمي للأمة، وقوتها العسكرية والإقتصادية والسياسية. هي اللغة والأخلاق وطرائق المعاملات الإجتماعية السائدة، هي إرث الماضي وتفاعلات الحاضر وآفاق المستقبل. هي أحزان ومعاناة ومشاكل وصعوبات وانهزامات، كما أنها انتصارات وأفراح وآمال وطموحات تسعى الأمم إلى تحقيقها.

ولأهمية الحضارة، فهي تحمل شروط استقلال الأمم واستقرارها وبقائها وتطورها وتفاعلها مع محيطها العالمي، في عصر الصراع والمنافسة والمواجهات.

كما أن انحطاط الحضارة، قد يؤدي إلى الوقوع تحت الإحتلال والتبعية، ويؤدي إلى التخلف وانتشار الآفات الإجتماعية، وما يترتب عن ذلك من صعوبات وذلّ وهوان.

كلّ ذلك يضع من حضارة الأمة ومقوماتها مجالا إستراتيجيا، يجب دراسته والعناية به ومنحه حقه من الأهمية.

أشكال التفاعل الحضاري:

تطلق على موضوع التفاعل الحضاري مجموعة من المفاهيم، من طرف مختلف الكتاب والمؤلفين والفلاسفة، وذلك باختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم الفكرية. وهو ما جعل الإختلاف المطروح موضوعا فكريا وفلسفيا يمكن معالجته والتطرق له من خلال الحوار، وبالتالي يمكن استعمال مفهوم "حوار الحضارات". أم هو موضوع صراع وتطاحن وحروب، تجاوز مرحلة الحوار وبالتالي وجب استعمال مفهوم الصراع والتعامل معه كما هو، أم أن الأمر يتطلب مفاهيم جديدة مستحدثة، وهي جوانب في حاجة إلى توضيح.

1. صراع الحضارات:

يرى بعض الباحثين وجود صراع بين الحضارات، ويعتبرون ذلك أقرب إلى الواقع المعاش، بالنظر إلى ما يعرفه العالم من أحداث، تؤكدها الممارسات السياسية لا سيما في الولايات المتحدة، تحت قيادة المحافظين الجدد، وحربها ضد الإرهاب، وممارساتها في أفغانستان والعراق، ومظاهر الهيمنة السياسية والاقتصادية والإعلامية والتربوية والثقافية، كما هو باد للعيان. وهو ما تركز عليه الفلسفة الأمريكية، كما تبرزها كتابات فوكوياما ، والممارسات السياسية والإقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية.

2. حوار الحضارات:

وهي نظرية يعتنقها الضعفاء إذ يخادعون أنفسهم، وهم يتوهمون أن المسألة بسيطة، يمكن حلّها عن طريق الحوار والإقناع، يؤيدهم في ذلك بعض المفكرين الغربيين، وقد يكون ذلك عن حسن نية. وهكذا يحذر "برهان غليون" من انجرار المسلمين أمام فكرة صراع الحضارات، لأن ذلك قد يؤدي إلى حرب باردة، كما يرى، وهو يعتقد أن القضية تحتاج إلى حوار ليس إلا.

3. تدافع الحضارات:

أصبح استعمال مصطلحي كلّ من حوار أو صراع الحضارات، مسخرا لخدمة أهداف محدّدة منذ البداية حسب مستعمليها. لذلك يمكن استعمال مفهوم التدافع الحضاري، لورود آيات كريمة في هذا الموضوع. قال الله تعالى: "…و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" (سورة الحج/ 40). وقوله أيضا "…و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" (سورة البقرة: 251).

والمفهوم واسع يشمل كلّ المعاني المطروحة، في الساحة الفكرية والسياسية والفلسفية. فهو إما تدافع محدود "خفيف"، وبالتالي فهو يعني الحوار والتعايش. كما تتم صراعات تدافعية، بمعنى صدام الحضارات، وقد يتم ذلك من خلال عمليات قوية ومفاجئة، وهو ما يعرف بالصدمة. وقد يتمّ التدافع العنيف، وهو صراع الحضارات، حيث يصل الأمر إلى صراع مسلح بين الأمم والحضارات، وهو ما نشاهده اليوم في مختلف بقاع العالم.

فأمريكا تعتمد سياسة العصا الغليظة، وأن صراعاتها الحضارية يقودها جنرالات ومنظرو البنتاغون، وهي أداة مكملة للحرب العسكرية. فالولايات المتحدة الأمريكية تضرب، وتطالب بالحوار، تستعمر وتطلب بإلقاء سلاح المقاومة، ومن الأسلحة المتوفرة والفعالة في يد المغلوبين على أمرهم، سلاح العقيدة والمقاطعة والرفض.

إن المتفحص للواقع الحضاري وتفاعلاته، يجد كلّ مظاهر التدافع والتفاعل الحضاريين، فهناك الحوار وهناك الصدام، وهناك الصراع، وهناك الحرب الحضارية، وكلها موجودة. إلا أن وجود أحد المظاهر لا يلغي وجود الآخر، وأمريكا والغرب يستعملانها كلّها، لكنهما يميلان إلى استعمال القوة العسكرية، لتحقيق مآرب حضارية واقتصادية وسياسية. أما الحوار فيوظف لغرض ربح الوقت وخدمة أهداف إستراتيجية على المدى البعيد، أو تركه مجالا يتلهى  ويتجادل فيه الفلاسفة والمفكرون المثاليون.

من هنا يتبين استمرارية التدافع الحضاري في مختلف صوره، وهو عبارة عن صيرورة دائمة وحيوية لا تعرف التوقف، وهو حالة طبيعية وأحد سنن الله في خلقه.

الحروب الاستعمارية وظهور الأقطاب:

أدّت الثورة الصناعية إلى التطور الاجتماعي والاقتصادي بأوربا وأمريكا، في وقت عرف فيه العالم الإسلامي الانقسام والتفتت والتخلف والانحطاط، مما أدى إلى تكالب الدول الغربية عليه. فبعدما قضى الغربُ على الإمبراطورية العثمانية، وانفصال أقاليمها العربية عنها، بدأت القوى الغربية تسيطر على دول آسيا وإفريقيا حيث أن غالبيتها من الدول الإسلامية، وهكذا لم ينته القرن التاسع عشر حتى كانت غالبية الدّول الإسلامية - إن لم نقل كلها - تحت نير الاستعمار.

إلا أن طبيعة الإسلام تأبى الإحتلال، لهذا ظهرت حركات المقاومة وتوسّعت، ولم ينته النصف الأول من القرن العشرين حتى كانت جل الدول الإسلامية قد نالت استقلالها.

وقد شاركت دول تنتمي للأمّة الإسلامية في الحربين العالميتين لكونها دول مستعمَرة ساهمت في الدفاع عن استقلال الدّول الغربية. وهكذا مات آلاف المسلمين في جيوش فرنسا، القادمين من مستعمراتها بالمغرب العربي والدول الإفريقية المسلمة، السينيغال خاصة. كذلك الحال بالنسبة لبريطانيا التي ضمت لشجيوشها جنودا من باكستان والهند خاصة، حيث لا نعرف الإحصائيات الدقيقة للقتلى المسلمين آنذاك،  ولم تنته الحرب العالمية الثانية حتى بدأت الحركات التحريرية والثورات العسكرية في الظّهور في مختلف دول العالم الإسلامي، وقد كان التخطيط لها من طرف الوطنيين المخلصين من رجال الدين والعلماء، فكان ثمن الاستقلال غاليا من دماء الأبرياء.

انتهت الحرب العالمية الثانية تاركة وراءها كتلتين متمايزتين، وهما الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية ويشكلان الحلف الأطلسي، يقابلهما الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه من الإشتراكيين وقد كانوا ينتمون إلى حلف وارسو. وهكذا انقسم العالم إلى كتلتين متنافرتين، هما المعسكر الرأسمالي الغربي، والمعسكر الشيوعي الشرقي.

أما الدول النامية فينتمي بعضها للكتلة الأولى والبعض الآخر تابع للكتلة الثانية.  ونتيجة الإحتلال الغربي واستغلاله لخيرات الدول النامية المستعمرة رأى كثير من قادة الدول النامية في الاشتراكية طريقا للخلاص من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها دولهم. لهذا اختارت كثير من الدول حديثة الاستقلال، الاشتراكية كمنهج سياسي واقتصادي لحلّ مشاكلها، إلا أن قادة هذه الدول، اكتشفت بعد مدة من التجريب أن الاشتراكية لم تحلّ مشاكلهم، مما أدى إلى التخلي عنها و تعديل مسارها الإقتصادي.

من جهة أخرى، عملت بعض الدول النامية على الاستقلال عن الكتلتين الشرقية والغربية، مما أدى إلى ظهور منظمة عدم الانحياز التي أصبحت تضم غالبية دول العالم الثالث، والتي كان لها دور فعال في منتصف القرن العشرين. وقد ساعدت  بوقوفها إلى جانب الحركات التحررية في المحافل الدولية، على تحرير كثير من الشعوب من نير الاستعمار،  إلا أن دورها انحسر كثيرا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، واختلال التوازن الدولي.

سقوط الاتحاد السوفياتي وعولمة الثقافة الأمريكية:

إن فشل الاتحاد السوفياتي في الرفع من فعالية الآلة الاقتصادية، وارتفاع نفقات التسلح، وغرقه في وحل المستنقع الأفغاني، وعجزه عن مواجهة أمريكا والدول الغربية، كلها عوامل أدت إلى تفككه، وانكشاف عيوب ونقائص النظام الاشتراكي في السياسة والاقتصاد، وهو ما أفسح المجال واسعا أمام أمريكا كقوة عظمى وحيدة في العالم. وقد أفقد هذا التطوّر العالم العربي والإسلامي غطاء سياسيا وعسكريا في مواجهة الهيمنة الرأسمالية المتوحشة، والعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني.

وبالتالي ظهرت العولمة كمفهوم مستحدث ليشمل كلا من السياسة والاقتصاد والتربية والثقافة، وهو غطاء لعولمة وفق الرؤى الأمريكية وتوجهاتها.

في ظل هذا النظام، وقعت أحداث 11 سبتمبر2001 ، والتي كانت نتيجتها القيام بمجموعة من الحروب بحجة "محاربة الإرهاب". وهكذا قامت الحرب على أفغانستان لإزاحة طالبان عن الحكم، وشنّت أمريكا حربا على العراق، رغم معارضة مجلس الأمن – وهو يتكون من غالبية حلفاء أمريكا. وبهذا تمّ التأريخ لبداية فترة جديدة من العنف واستعمال القوة ضد الشعوب المناوئة للولايات المتحدة الأمريكية، من أجل تغيير حكامها وأنظمتها، حيث كانت مقولة بوش المشهورة "من ليس معنا فهو ضدنا". وهنا بدأت حُقبة جديدة من صراع الحضارات، طاوية صفحة الحوار والتعايش، مما رفع من مستوى التحدّي الذي تواجهه الدول الإسلامية، والتي هي - في القاموس الأمريكي - مصدر الإرهاب وراعيته، وإن لم تصرح أمريكا بذلك علانية.

التدافع الحضاري والعولمة الاقتصادية:

عرف العالم تحولات هائلة في المجالات الاقتصادية، بدخول العولمة إلى حيّز التطبيق، وقد بدأ ذلك مع أفول نجم الإتحاد السوفياتي وتداعي أسس النظام الاشتراكي في العالم، وهجرة نظام التخطيط المركزي للاقتصاد، وتهاوي القطاع العامّ التابع للدولة. وهكذا ظهرت الولايات المتحدة كقوّة أعظم في العالم، فرضت نموذجها الاقتصادي الليبرالي، وأتت بما أصبح يعرف بالعولمة. فما مفهوم العولمة؟ وما انعكاساتها الإقتصادية والسياسية؟ وكيف يجب التعامل معها؟

وقد أدى ظهور العولمة إلى عدّة انعكاسات على الواقع الإقتصادي للدول الإسلامية، تتمثل أهمها في تخفيف سيطرة الدول على حدودها، وتعزيز دور القطاع الخاص، فأرغمت الدول على خوصصة القطاع العام، الذي كان سائدا بجلّ الدول النامية، والتي كانت تتبنى المنهج الاقتصادي المخطط. كما أدت العولمة إلى تناقص الحواجز الجمركية، وسهولة انتقال رؤوس الأموال بين الدول، وتزايد نفوذ الشركات المتعدّدة الجنسيات وخاصة في الدول النامية. عِلما  أن وراء الشركات الضخمة قوات الدول الغربية العسكرية والاقتصادية التي تحميها وتدافع عن مصالحها.

وهكذا وجدت الدّول الصناعية، التي لها فائض إنتاجي، أسواقا كبيرة تستقبل منتجاتها في ظل اقتصاديات ضعيفة بالدول النامية، والتي هي غير قادرة على المنافسة. وهكذا دخل القطاع الاقتصادي والخدمي بالدول النامية في منافسة غير متكافئة مع سلع الدول المتقدمة، التي فرضت نفسها في الأسواق لجودتها ورخصها. وقد أدى ذلك إلى غلق كثير من المؤسسات الإنتاجية بالدول النامية، وتسريح عدد كبير من العمال، في دول بها نسب البطالة مرتفعة أصلا.

رغم سلبيات العولمة والتفتح الاقتصادي واقتصاد السوق، إلا أن لها بعض الإيجابيات، تتمثل أهمها في توفر السلع، وقد يستطيع البعض اقتناءها. كما أن العولمة دفعت الدّول الناميه إلى البحث في موضوع الفعالية والمنافسة، وهو جانب كان مهملا، وقد فرضت الظروف نفسها على هذه المؤسسات لتحسين وضعيتها وأدائها ومستوى نجاعتها، وأصبحت تبذل جهدا أكبر للوصول إلى مستوى المعايير الدولية. وهو ما يفرز المؤسسات الفاشلة، ويدفعها إلى التطوّر أو الموت، وقد يؤدي ذلك إلى آثار إيجابية على بعض مؤسسات الدّول النّامية، على المستويين القصير والمتوسط.

كما أن متطلبات العولمة وانفتاح السوق، يقضي على التهاون والرداءة وسيطرة المافيا المحلية على السوق، من خلال استيرادها لمنتوجات رديئة وترويجها بأثمان مرتفعة باسم حماية الاقتصاد الوطني.

من هنا يتبين لنا أن العولمة وضعت من طرف الأقوياء لخدمة مصالحهم والسيطرة على الضعفاء، وهي حلقة من حلقات التدافع الحضاري في المجالات الاقتصادية والسياسية، من أجل الحفاظ على الأمر الواقع، والسهر على استمراريته ودوامه. إن الدول الإسلامية لا تستطيع التأثير على مجريات الأحداث، وإيقاف العولمة، لذا عليها التعامل مع الواقع واستغلال ما يمكن استغلاله فيها، والتعامل الإيجابي معها.

-------------------------