-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 27/10/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


توأمان رأسماليان متماثلان

حلقة مفرغة بين يمين أوروبا ويسارها

نبيل شبيب

ما الذي يكمن وراء نجاح الأحزاب اليمينية التقليدية في عدد من البلدان الأوروبية في الانتخابات، وتراجع الأحزاب اليسارية التقليدية؟..

ما الذي يجعل نسبة من العمال مثلا تعطي أصواتها لأحزاب اليمين رغم سياساتها المتناقضة مع مصالح العمال؟..

ما الذي بقي من مفعول "الأممية الاشتراكية" التي جمعت في وقت ما أكبر الأحزاب اليسارية في أوروبا والعالم؟..

هذه التساؤلات أقرب إلى التعبير عن الاستغراب الشديد.. فالمفروض أن يتقدم اليسار الذي يرفع شعارات الدفاع عن مصالح العمال والفقراء، ليس فقط تحت وطأة الأزمة الرأسمالية الأكبر حجما ومفعولا منذ تسعين عاما، فمن قبل نشوبها لم ينقطع مسلسل التقارير والدراسات والبحوث حول ظاهرة اتساع هوة الثراء والفقر داخل الدولة الرأسمالية "الثرية" الواحدة، على غرار ما هو معروف عن هذه الظاهرة على المستوى العالمي بين الشمال والجنوب، والأحزاب الغربية الأقرب إلى حمل المسؤولية عن الظاهرة من خلال سياساتها الاقتصادية هي أحزاب اليمين، التي تحمل أسماء متعددة، أشهرها المحافظون في بريطانيا والجمهوريون في الولايات المتحدة الأمريكية، والمسيحيون والأحرار (الليبراليون) في بلدان أوروبية عديدة، إ ضافة إلى أسماء أقل شهرة كأحزاب "المركز" مثلا. 

 

مدرستان.. كلاهما رأسمالي

الفقر بمعناه الغربي -وهو تناقص الدخل إلى ما دون الحد الأدنى لتكاليف المعيشة الأساسية- يصيب فئات سكانية معروفة (تصل نسبها إلى الثلث في الولايات المتحدة الأمريكية وإلى السدس كما تقول آخر تقارير الاتحاد الأوروبي الرسمية، وإلى أكثر من ذلك في بعض بلدانه الرأسمالية العريقة كألمانيا وفرنسا) ومن تلك الفئات العاطلون عن العمل وكثير من العاملين بأجور ضعيفة، والمتقاعدون برواتب من الحد الأدنى.

المدرسة الرأسمالية التي تمثلها سياسات أحزاب اليمين تبرز للعيان، مع الأزمات الاقتصادية الخانقة -وهي "تقليدية" متكررة مع دورات "الركود والانتعاش"- فمع ازدياد وطأة الأزمة على السكان (ارتفاع البطالة، نقص القوة الشرائية للدخل، تقلص نسب رفع الأجور بما يعادل ارتفاع الأسعار) تعلن الأحزاب اليمينية عن برامج "الإصلاح" الاقتصادي، ومحور هذا "الإصلاح": تخفيف الضرائب والرسوم الاجتماعية على أصحاب المال والأعمال وبالتالي تخفيض تكاليف الإنتاج لتحقيق نسبة أعلى من الأرباح، بحجة تخصيص جزء منها لاستثمارات جديدة، يفترض أنها توجد أماكن عمل جديدة، تحرك عجلة الإنتاج مجددا، فتحدّ من البطالة، وتزيد عائدات الضرائب مجددا.

هذه الإجراءات ازدادت حدة بتأثير ازدياد مفعول العولمة الاقتصادية والمالية عالميا، أي بازدياد قدرة الشركات الكبرى على التهديد بنقل مواقع الإنتاج خارج الحدود إن لم تحصل على الميزات المذكورة.

وتقابل ذلك "المدرسة الرأسمالية الاجتماعية" التي تتبناها أحزاب اليسار (الاشتراكيون، الديمقراطيون الاشتراكيون، العمال، الشيوعيون.. وسوى ذلك من التسميات) ومحورها: تخفيف الضرائب على الفئات الأضعف ماليا، ودعم أسعار المنتجات المعيشية الأساسية (برامج الدعم المالي) وبالتالي زيادة القوة الشرائية لدى فئات سكانية "فقيرة"، بحيث تنشط الحركة الاستهلاكية، فتستجيب الشركات بزيادة إنتاجها، وبالتالي يتحقق الانتعاش الاقتصادي المطلوب.

هذه الصورة "النظرية" لوجود مدرستين رأسماليتين كانت هي السائدة في العالم الرأسمالي الغربي لفترة طويلة، وازدادت رسوخا في كثير من بلدانه (لاسيما الأقرب جغرافيا وبالتالي احتكاكا وقدرة على المقارنة مع المعسكر الشيوعي سابقا وتأميناته الاجتماعية تخصيصا) أثناء الحرب الباردة، التي كانت من الناحية الواقعية مواجهة بين نهجين اقتصاديين متعاكسين في نطاق الحضارة المادية الغربية. 

 

معالم لغز الانتخابات

ينبغي الانطلاق من هذه الخلفية عند رصد زيادة وطأة نتائج الأزمة الرأسمالية العالمية على الفئات السكانية الأفقر في الغرب، بزيادة تعدادها وارتفاع نسبها إلى مجموع السكان وانتشار صور غير مسبوقة لمستوى الفقر وتأثيره على ميادين الصحة والتعليم الأساسية وليس على ميادين "الكماليات والرفاهية" على صعيد "الطبقة المتوسطة" فحسب، وهذا مقابل ظهور هذه النتائج بالمقابل في صيغة عودة المصارف المالية التي لم تسقط خلال الأزمة إلى تسجيل نسب عالية من الأرباح الصافية، من قبل عودة الحياة إلى القطاعات الإنتاجية.

من هنا تأتي التساؤلات المطروحة في الوقت الحاضر عن أسباب نجاح المزيد من الأحزاب اليمينية التقليدية في عدد من البلدان الأوروبية، وتراجع الأحزاب اليسارية التقليدية، وما الذي يجعل نسبة من العمال مثلا تعطي أصواتها لأحزاب اليمين رغم سياساتها المذكورة.

لا تكفي الأجوبة التعميمية الشائعة لتفسير ذلك، ومنها مثلا:

- "الفقر" في الغرب ليس "فقرا مدقعا" كما هو الحال في البلدان النامية، بل هو نسبي، وبالتالي لا يمكن التعامل مع آثاره في الانتخابات انطلاقا من تصورات يستمدها أصحابها من واقع البلدان النامية.

- الخوف المنتشر في البلدان الرأسمالية من الشيوعية بسبب "حجر الحريات العامة" يكمن وراء الاستعداد لتضحيات مادية من جانب الناخبين من الفئات السكانية الأضعف ماليا.

إن التأمل الأعمق في واقع الحياة السياسية والحزبية في البلدان الغربية، لا سيما الأوروبية، يكشف عن عدد من المعطيات الأساسية التي تساعد على صياغة التساؤلات المشار إليها بدقة أكبر، ومنها:

1- الصورة الغالبة بصدد تقدم اليمين في أوروبا تعتمد في الدرجة الأولى على وصول أحزابه إلى السلطة في بلدان معينة، أبرزها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا (مع ترشيح ذلك في بريطانيا عبر انتخابات 2010م) إضافة إلى وصول اليمين إلى السلطة لأول مرة في بلدان معروفة بأنها من معاقل الأحزاب اليسارية، كما كان في السويد مؤخرا، ومن معالم الصورة أيضا تشكيل أحزاب اليمين للكتلة الأكبر (وكانت لليسار) في المجلس النيابي الأوروبي عبر انتخابات 2009م.

2- هذه الصورة لا تكتمل دون رؤية التقدم والتراجع لليمين واليسار الحزبيين في البلدان الغربية باعتبارهما أمرا نسبيا، فالحكومات تقوم على تشكيل ائتلافات حزبية، ولا يوجد -إلا نادرا- حزب يميني أو حزب يساري يحوز على غالبية الأصوات لينفرد بالسلطة.

3- مصطلحات اليمين واليسار داخل دولة رأسمالية مصطلحات تقليدية (موروثة من تقليد بريطاني قديم لتوزيع المقاعد بين أعضاء المجلس النيابي) بينما تنحصر الاختلافات الحزبية بين مدرستين، كلاهما رأسمالية، باعتمادها على ما يسمى نظام الاقتصاد الحر، فمنها من يعطي للضمانات الاجتماعية مكانة تتفاوت بين حزب وآخر وجميعها "يساري"، ومن لا يعطيها تلك المكانة بدرجة مماثلة فيوصف باليميني.

4- هذه الاختلافات "المحدودة" تلاشت تدريجيا بعد سقوط المعسكر الشيوعي، فمال كثير من الأحزاب الاشتراكية، والديمقراطية الاشتراكية، إلى اليمين بشكل ملحوظ، وأشهر الصور التطبيقية لذلك كانت عند الإعلان عما سمي "الطريق الثالث" من جانب حزب العمال البريطاني في عهد بلير وحزب الديمقراطيين الاشتراكيين في عهد شرودر، فأصبح الحزبان واقعيا "حزبين يمينيين"، ويمكن تفسير تدهور شعبيتهما من هذا المنطلق، فتوزعت نسبة من أصوات الناخبين التقليديين لهما (ويسري هذا على فرنسا وإيطاليا جزئيا) ما بين انتخاب أحزاب يمينية تقليدية (باعتبارها النسخة الأصلية للمدرسة الرأسمالية اليمينية) وانتخاب أحزاب "يسارية" ناشئة ورثت الرؤى اليسارية الأصلية كما في ألمانيا (حزب اليسار) وعزوف عن التصويت لافتقاد البديل.

5- لا تزال أحزاب اليسار التقليدي موجودة على الساحة بقوة أيضا، كما هو الحال في أسبانيا مثلا، أو في عودة اليسار إلى السلطة في انتخابات اليونان 2009م مثلا آخر، بالإضافة إلى سلسلة من البلدان الأصغر، لا سيما بلدان شرق أوروبا التي حكمها اليمين بعد سقوط الشيوعية فيها مباشرة، وهو ما يدفع المتخصصين إلى القول إن تقدم اليمين وتقدم اليسار يمثل "دورات متعاقبة" في أوروبا. 

 

على حساب أجيال قادمة

تشابه اليمين واليسار (مما يجعل الطرفين يطلقان على أحزابهما وصف أحزاب الوسط.. يمين الوسط ويسار الوسط) وكذلك نظرية "الدورات المتعاقبة" يكشفان عن عدم وجود خيار حقيقي أمام الناخبين، فهم ما بين رأسمالية ورأسمالية، وحتى الفوارق التي توصف بأنها حادة أكثر من سواها بدأت تتلاشى لا سيما في ظل الأزمة الرأسمالية الشاملة، فتدخّل الدولة في قطاعات المال والاقتصاد كان من "المحظورات" فأصبح من الخطوات المميزة لأحزاب اليمين، بل حتى "التأميم" بنسة مائة في المائة -كما كان مع أكبر مصارف الاستثمار الإسكاني في ألمانيا- لم يعد "محظورا".

ولئن ربط كثيرون نتائج الأزمة الرأسمالية بتوقع أن يميل الناخبون بقوة لأحزاب اليسار بمعنى الكلمة المذكور آنفا، فقد غاب عن الأنظار أن معالجتها في جميع البلدان الغربية لم تكن على حساب المعيشة اليومية لعموم الناخبين، فإنفاق مئات المليارات للخروج بالطبقة المالية الرأسمالية من الانهيار الذي أوصلت نفسها إليها، كان -كما يقال- على حساب دافع الضرائب من عامة السكان، والواقع أنه كان على حساب "الأجيال القادمة" من دافعي الضرائب، فمقابل إجراءات الإنقاذ ارتفعت "الديون" على الدولة إلى معدلات غير مسبوقة في تاريخ الرأسمالية، وسيكون سدادها لصالح "أصحاب الأموال" عبئا على الأجيال القادمة على مدى عشرات السنين، (ولا يستهان هنا بمحدودية الجانب القيمي والأخلاقي في مفعول التفكير الفردي المادي للناخب بمصير جيل قادم!) والقليل من ذلك ما يؤثر على المستوى الاستهلاكي الحالي، ولا يعود ذلك بالضرورة إلى الحرص على الاحتياجات المعيشية لعامة المستهلكين، إنما كان من مداخل مواجهة أزمة المصارف المالية والشركات الكبرى، الجمع بين الدعم المباشر وبين صيغ مبتكرة لتنشيط الاستهلاك في قطاعات معينة كقطاع السيارات، وهو ما يدعم في نهاية المطاف شركات صناعتها.

كما مالت أحزاب يسارية إلى اليمين بتقليص الخدمات الاجتماعية فقد أثبتت أحزاب اليمين في السلطة، كما في ألمانيا وفرنسا، أنها على استعداد للأخذ ببعض ما تدعو إليه أحزاب اليسار عادة، وتوظيفه في نطاق "مدرستها الرأسمالية" لدعم أصحاب المال والأعمال على حساب الأجيال القادمة، بحيث لا تخسر تأييد قطاعات كبيرة من الناخبين حاليا.

العامل الأخير الذي يحسب على الأحزاب اليسارية، أنها كانت تربط نهجها "الرأسمالي" بمنطلقات عقائدية، معروفة عن الأحزاب الشيوعية (مثل دولة العمال والفلاحين) واتخذت لدى الاشتراكيين والديمقراطيين الاشتراكيين صيغة أخف نسبيا، يعبر عنه شعار "العدالة الاجتماعية" مثلا، وارتبط هذا النهج العقائدي بقادة حزبيين على مستوى من التألق والتأثير الشعبي في الماضي، لم يعد له وجود في طبقة القادة المعاصرين لهذه الأحزاب، جنبا إلى جنب مع تأثير الفكر والإعلام سلبا على موقع "التوجه العقائدي" في صناعة القرار السياسي، فانتشرت مع سقوط الشيوعية مقولات من قبيل "نهاية عصر الإيديولوجيات" وازداد التركيز على مقولات أخرى مثل "السياسة الواقعية"، ولم يستطع أنصار الفكر اليساري الأضعف في قطاعات الفكر والإعلام (لأنها في هذه الأثناء قطاعات اقتصادية تحت تأثير قوة المال كسواها) أن يواجهوا التأثير على عموم السكان -وبالتالي الناخبين- عبر هذه المقولات، بالكشف عن أنها بحد ذاتها ركائز تقوم عليها "العقيدة الرأسمالية" إلى جانب ركائز أخرى في صيغة شعارات مغرية، مثل الحرية الفردية، وهي في الدرجة الأولى حرية "الفرد" أن يصنع ما يراه بما يملك من مال، وهي "حرية" تعود بحصيلتها على من يملك المال بالفعل أكثر من سواه بأكبر الميزات المنفعية، التي يوظفها في توجيه السياسة لمصلحته، مما جعل كثيرا من الخبراء يردودن، إن الاقتصاد بات يحكم السياسة وليس العكس، ولا يوجد في الإجراءات والتطلعات الحديثة بتأثير الأزمة الرأسمالية ما يوحي حقيقة لا كلاما، بأن هذا سيتغير في المستقبل المنظور!..

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ