بوفلجة غيات

تعاني المجتمعات العربية عموما من صعوبات عديدة ومعقدة، تتمثل في مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وأمنية. وقد حاولت الحكومات مواجهة هذه الصعوبات والمشاكل، وصرفت ملايير الدولارات ومثلها من العملات المحلية دون التمكن من تجاوز هذه المشاكل.

وهكذا، لم يخل مجال فلاحي أو صناعي أو علمي أو تربوي أو ثقافي من عجز، بما في ذلك المجال الرياضي. وقد تطوّرت مختلف الرياضات ومن أهمها كرة القدم، وتحوّلت من وسيلة لتنمية أجسام سليمة وروح رياضية متسامحة، إلى مجال ثقافي وسياسي، تسعى الحكومات الرسمية من ورائه إلى إلهاء الشعوب وشغلها عن مشاكلها الحقيقية، والتي تتمثل في الجهل والتخلف وما يترتب عنهما من مشاكل يومية يعاني منها المواطنون. حيث أصبحت كرة القدم موضوعا لحديث العامة والخاصة، ومجالا لتحليلات للمواطنين البسطاء والمثقفين والإعلاميين والسياسيين والمهتمين بالرياضة وغير المهتمين بها.

كما أصبحت كرة القدم انشغالا كبيرا لمختلف وسائل الإعلام الفضائية والمكتوبة والمسموعة، ومجالا ملهما للفنانين والمبدعين والكتاب، وموضوعا للمغنين والممثلين والسينمائيين والمحللين السياسيين.

كما أصبحت كرة القدم فرصة لشحن المواطنين، ودفعهم إلى مناصرة فريقهم المحلي ثم الوطني، وتحوّلت هذه الشحنة إلى دفع المواطنين لمناصرة أوطانهم ومناصرة الحكام والساسة.

وهكذا، بعدما فشل الساسة في دفع الشعب إلى الإلتفاف حول الحكومات، وسياساتها المختلفة، اهتدت إلى طريقة لتحقيق ذلك من خلال كرة القدم.

إن كانت ظاهرة الإهتمام بكرة القدم قديمة وعريقة في الدول المتقدمة، حتى أصبحت ثقافة سائدة،  إلا أنها ظاهرة حديثة في الدول العربية، ودول العالم الثالث عموما.

وأبرز مثال عن التحولات التي وقعت في مجالات كرة القدم، ما أمكن مشاهدته من تنافس بين فريقين عربيين، الجزائري والمصري، للوصول إلى نهائيات تصفية كأس العالم ل 2010 بجنوب إفريقيا.

وهكذا تمت المباراة الأولى في الجزائر حيث انتصر الفريق الجزائري على الفريق المصري بثلاثة أهداف مقابل هدف، بملعب البليدة قرب الجزائر العاصمة.

لقد كان انتصار الجزائر في كرة القدم، فسحة من الفرحة بعد فترة طويلة من التخلف الكروي، وبعد مرور سنين اتسمت الخوف والموت والإرهاب وكثرة والمشاكل. كما عانى المواطنون لسنوات طويلة من فشل في كل شيء، فشل في الرياضة، وفشل في الإقتصاد، وفشل في التربية وفشل في الأمن.... لذا استغل الجزائريون انتصار فريقهم لإبداء مظاهر البهجة والفرح.

وهكذا حوّلت نتائج كرة القدم الشباب الجزائري، من ناقم على دولته ووطنه يبحث عن الهجرة الشرعية أو غير الشرعية، إلى أصبح وضعية أصبح الشباب يرفون أعلام الجزائر ويفتخرون بها ويعتزون بانتمائهم لها. وبهذا منحت كرة القدم للشباب الجزائري ما فشلت السياسة في تقديمه لهم. وهنا يمكن فهم الإهتمام الكبير الذي يمنحه السياسيون للرياضات الجماهيرية، ومن أهمها كرة القدم. حيث امتزجت السياسة بالرياضة، ودون شك كان المسؤولون السياسيون مبتهجين وهم يرون الشباب الجزائري يظهر ارتباطه بوطنه ويجمع على رفع الرايات الوطنية.

نفس الظاهرة نجدها تقريبا في جمهورية مصر العربية، حيث تتفاقمت المشاكل السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وقد وصل فريقها إلى المراحل النهائية من التصفية لكأس العالم. وهي تنتهج سياسة التهييج والتشجيع للرفع من معنويات الفريق المصري وتشجيع المناصرين له، إلى درجة أصبحت عملية تشجيع الفريق الوطني المصري مهمة الساسة والإعلاميين والفنانين من مغنين وممثلين.

لهذا أمكن ملاحظة عملية الشحن العاطفي للمواطنين المصريين، وإبراز العداوة للشعب الجزائري. حيث تخصصت قنوات فضائية مثل قناة "الحياة"، وقناة "دريم"، وغيرها من القنوات الفضائية والصحف المصرية برفع راية الشحن العاطفي وتغذية العداوة بين الشعبين المصري والجزائري.

إلى جانب القنوات الإعلامية الرسمية، وصلت نار الصراعات إلى وسائل الإتصال الإلكتروني من خلال المدونات والفيس بوك واليوتوب، من أجل الصراع الفكري والصحفي والإعلامي، فكانت معارك حامية الوطيس، رفع رايتها كثير من أشباه المتعلمين والجهلة من الجانبين الذين رفعوا مستوى الصراع بين الشعبين الشقيقين.

وقد استمرّت العملية إلى درجة مخيفة، إلى أن جاء موعد مباراة الرجوع بملعب القاهرة، حيث قام مشجعوا الفريق المصري بضرب الحافلة المقلة للفريق الوطني الجزائري، مما أدى إلى جرح بعض لاعبي الفريق الوطني الجزائري. وهي سابقة خطيرة، تتمثل في ضرب ضيوف كان من المفروض حمايتهم والعناية بهم. وهنا لم تعترف السلطات المصرية بما حدث، ولم تطلب الإعتذار، بل أخرج المسؤولون المصريون تفسيرات لا يقبلها عقل سليم لما حدث، كقولهم بأن "اللاعبين الجزائريين هم الذين كسروا زجاج الحافلة من الداخل وجرحوا أنفسهم".

وقد أجريت مباراة العودة يوم 14/11/2009، انتهت بانتصار الفريق الوطني المصري بهدفين مقابل صفر، وهي نتيجة ألغت التفوق الجزائري بعدد الأهداف، وأرجعت العداد إلى الصفر بين الفريقين، مما اقتضى تنظيم مباراة أخرى برمجت لتجرى في السودان.

ومن تداعيات مباراة القاهرة، ورود أخبار غير رسمية بسقوط عدد من القتلى والجرحى من مشجعي الفريق الوطني الجزائري بالقاهرة. حتى وإن نفت السلطات الجزائرية والتزمت مصر بالصمت، إلا أن الجزائريين يؤمنون بسقوط جرحى ووفيات من الجزائريين.

وهكذا، تمت برمجة مباراة فاصلة في العاصمة السودانية، أجريت يوم 18/11/2009، فقامت السلطات المصرية بتوفير شروط انتقال عدد من المشجعين من مصر إلى الخرطوم. كذلك فعلت الجزائر التي سخرت أسطولها الجوي المدني وجزء من أسطولها العسكري لنقل آلاف المشجعين من الشباب الجزائري إلى الخرطوم، وبتسهيلات متعددة وبتذاكر شبه مجانية من أجل تدعيم الفريق الوطني الجزائري.

وهي أموال طائلة صرفتها الدولتان من أجل كرة القدم في البلدين، ولو صرفت في مجالات إنتاجية، لأنشأت المئات، بل الآلاف من مناصب الشغل الدائمة للشباب العاطل في البلدين.

وقد لُعِبت المباراة الفاصلة بأم درمان، فكانت مقابلة تابعها الملايين من المصريين والجزائريين والعرب، مباشرة، أو من خلال مختلف القنوات الفضائية، وكلّهم قلق وخوف وحسرة إلى الدرجة المنحطة التي وصلها التضامن والتلاحم العربيين بسبب كرة القدم. وقد انتهت بفوز الفريق الجزائري على الفريق المصري بهدف واحد مقابل صفر.

وهكذا أسدل الستار على هذه المناطحة بين الفريقين بل بين ساسة وحكام الدولتين من خلال فريقيهما. وبعد كلّ هذا الشحن العاطفي، فماذا ستقدم مصر لشعبها، عندما يستفيق من غيبوبته؟ وماذا تقدم السلطات الجزائرية لشبابها بعد استفاقتهم من نشوتهم بعد استقرار الأمور؟. وما مصير جمال مبارك الذي حاول استغلال الكرة لمصالح ولايته على شعب مصر؟

وهكذا، فإن الشحن العاطفي الزائد للمواطنين من البلدين، أدى إلى عواقب لا تحمد عقباها. ذلك أن التعاون الإقتصادي بين الجزائر ومصر، وصل مرحلة متطورة نسبيا، نتيجة جهود كبيرة بذلت من الطرفين، خلال سنوات طويلة. إلا أن ألأمور لن تكون كما كانت من قبل، بل ستعرف العلاقات الإقتصادية تراجعا كبيرا، خاصة بالنسبة للإستثمارات المصرية بالجزائر، حيث ستتراجع دون شك. ومن الخاسرين الكبار شركة لأوراسكوم المصرية، بما في ذلك فرعها "جيزي" للهاتف النقال، التي ستفقد الكثير من زبائنها وبالتالي عوائدها دون شك، بعد أن كانت نموذجا للإستثمار العربي الناجح في الجزائر. كما تصبح العلاقات السياسية بين البلدين أكثر برودة، مما يؤثر سلبا على القضايا القومية العربية والعمل العربي المشترك.

كما أن المواطنين سيعودون إلى مشاكلهم وصعوباتهم اليومية،  بعد انتهاء المقابلات، ويعود الشباب إلى ممارساتهم التي هجروها في فترة المباريات الرياضية، وتعود المعارضة السياسية إلى مواقفها. وهو ما يوضح أن الشحن العاطفي الزائد عن حدّه لأنصار ومشجعي فرق كرة القدم، قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. حتى وإن لم تتأثر العلاقات السياسية أو الإقتصادية فسوف تتأثر مصالح كثير من الأفراد، وكثير من العائلات وخاصة في الأسر المختلطة.

لهذا فلا يجب اختزال انشغالات الأفراد والمجتمعات والشعوب، في كرة تتقاذفها الأقدام، ومحاولة إشغال الشباب عن واقعهم، بل يجب مواجهة المشاكل والصعوبات الإقتصادية والسياسية، والحفاظ على كرة القدم، كمجال للرياضة واللقاء ونسج العلاقات الأخوية. فكرة القدم مخدّر قد ينسي المجتمعات مشاكلها لفترات محدودة، إلا أنه لا يساهم في حلها. وهو ما يتطلب تحكم الرأس في القدم وعدم قلب المعادلة بحيث تصبح القدم هي التي تتحكم في الرأس، وهو ما شاهدناه في المباريات التي أجريت بين مصر والجزائر.

-------------------------