-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 24/11/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


عزرائيل لا يستأذن بالدخول...!

الدكتور عبد القادر حسين ياسين*

في السويد يموت الناس بصمت يليق بخفة ملائكة الموت.

يموتون في عزلة.

يموتون من قلة الشمس وشدة الاحباط وارتفاع الضغط....

كيف سيعرف الأهل والأصدقاء بنبأ الوفاة ؟!

 

سؤال صعب ، لكن الدولة والمؤسسات ( والسويد "دولة مؤسسات" بإمتياز)  تتعامل مع الموضوع بطريقة منطقية.

 

ففي سجلات كل شخص ثمة خانة يتطلب وضع معلومات فيها وهي السؤال عن إسم وهاتف الشخص الذي يجب الاتصال به في حالات الطوارئ.

 

هذه القسائم تحضر في عقود الاستئجار، وطلبات التقدم للوظيفة، وتطلب هذه المعلومات من الصغار والكبار، من المهاجرين والسويديين على السواء..

 

في السويد يموت الناس بطرق سريالية وبطرق مضحكة وبطرق مقيتة.

أشدها مأساوية تلك التي تكتشف بعد أن يتفسخ المرء في شقته و"ينزعج" الجيران من رائحة لا يعرفون مصدرها.

 

قرأت في صحيفة  Göteborgs-Posten  قبل أيام أن رجلا تركيا إستأجر غرفة مفروشة في شقة  في أطراف المدينة قبل ثلاثة أسابيع .

 

وبعد بضعة أيام بدأت تظهر عليه أعراض المرض/الموت.

كانت صاحبة الشقة ، وهي سيدة فنلندية ، تخاف عليه وترسل زوجها كل يوم كي يقرع الباب ويطمئن علي حياته...

 

إلى أن قرع الباب ولم يتلقَ رداً...

 

كان عزرائيل قد سبقه إلى الغرفة ؛ ولا أدري إن كان "ملك الموت" قد دخل من الباب.. أو من النافذة، أو من ثقب في القلب، أم أنه كان واقفاً فوق أرنبة أنف الرجل منذ يوم ولادته.

 

إتصلت السيدة الفنلندية بالشرطة كي تحضر وتأخذ الجثة. اتصلت الشرطة بأولاده في مدينة "أوديفالا" التي لا تبعد عن غوثنبيرغ أكثر من ثلاثين كيلومتراً ،  لإخبارهم ولم يحضر أحد لإجراء مراسيم الدفن ، أو حتى إلقاء نظرة أخيرة على الأب.

 

قامت السيدة الفنلندية ، بالتعاون مع الجهات المعنية ، بالواجب.

دُفنَ الرجل وحيداً كما عاش وحيدا لسنوات.

 

في هذا البلد ، "بلد الرفاه" و "المعجزة الإقتصادية" ، لا أحد يعرف حقيقة أحد، ولا شيء يكشف ويخفي ملابسات الناس إلا الموت.

 

تتعدد الوفيات، وتتعدد القصص حول هذا وذاك.

 

كنت في كوبنهاغن قبل شهرين .

وفي لقاء عابر مع الصديق  جعفر الكاظمي ، وهو طبيب عراقي يقيم في الدانمارك منذ سنوات ، سألته عن جاره اللبناني الذي أصَرَّ و"حلف بالطلاق" على أن أحلّ ضيفا عليه  في العام الماضي (مع أنني لا أعرفه) قائلا :

"إن أصدقاء جعفر أصدقائي" ؛

وغمزني جعفر يومها في إشارة أن لا جدوى من الرفض.

 

وقال لي جعفر ، بلهجته البغدادية المحببة :

" يا سبحان الله... اليوم جنازته... سأذهب الى كنيسة الروم الكاثوليك في نوربرو لحضور القداس.. هل تود أن تأتي معي؟"

 

وعندما لاحظ إستغرابي ، قا ل موضحا :

" عيني ؛ أنت معذور... فأنت لا تعرف الرجل . لا زلت أذكر إصراره على إستضافتك عندما إلتقى بك في بيتي لأول مرة... للمرحوم قصة تروى ... لقد تنقل حسين   وهذا إسمه الحقيقي   من دين إلى آخر، ومن مذهب إلى آخر ، ليس حباً في معرفة الأديان والتعمق في المذاهب، بل رغبة في التكسب والبحث عن عائلة وأصدقاء يلجأ إليهم بعد أن خانته الحياة وتخلت عنه زوجته بعد أن هربت مع عشيق في عمر أبنائها....

 

"كان المرحوم ساخراً ضاحكاً.

لقد إنتحرحسين.

قرر أن يضع حداً لحياته لكي يتخلص من الوحدة والجرح المكبوت ...

قال لي جاره أن Jens  ( وهو الإسم الذي إختاره حسين بعد أن إعتنق المسيحية ) أنهم عثروا على جثته بعدد عشرين يوما...بعد أن إتصل أحد الجيران بشركة السكن ليشكو من رائحة كريهة...!!"

 

ذهبت مع جعفر الى كنيسة الروم الكاثوليك لحضور القداس الذي أقيم لراحة نفس المرحوم...ولفت إنتباهي أن الكنيسة كانت خالية إلا من بضعة عجائز ربما كانوا أصلا هناك لحضور صلاة الأحد..

 

لم يبكِ أحد بصوت عال.

صمت كصمت المقابر  كما يقول الألمان   وخشوع لراحة الميت.

عيون دانماركية حمراء حزينة وغريبة.

تم الدفن بحضور القسيس.

أعاد القسيس بعض الصلوات ("من التراب جئت ، والى التراب تعود")...

كنت أنظر الى القسيس ، ولا أدري لماذا خيلَ إليّ بأنه كان حريصا على  الإنتهاء من أداء هذا "الواجب الثقيل" في أقصر وقت ممكن...

 

حمل كلٌ من المشيعين  وردة وضعها فوق ضريح حسين استعداداً للنوم  الطويل في تلك الحفرة الضيقة الباردة. لاحظت أن جميع الحفر على نفس المقاس تقريباً.

 

ثم إنصرف الغرباء كلٌ إلى شأنه.

 

تقدمت منا سيدة دانماركية في السبعين من عمرها ودعتنا (جعفر وأنا، فقد كنا الأجانب الوحيدين في الجنازة) إلى مطعم لتناول "لقمة الرحمة" على الميت.

 

ذهبت بدافع الفضول... ذلك أنني لا أحضر جنازة أو زفافا ...

أثناء الطعام لاحظت أن الناس في فرح، الكل يثرثر ويضحك ويناقش...

بعضهم يتحدث عن المرحوم ويتذكر فصوله المضحكة والمحزنة...

وبعضهم صامتاً يتناول طعامه بحزن....

وبعضهم إنزوى في ركن ما وكان يبكي لأسباب لا تعني أحداً سواه.

 

خرجنا من المطعم بعد أن شكرنا السيدة الدانماركية التي لاحظتُ طوال الوقت أنها كانت تشير إلينا وهي تتحدث مع صديقة لها...

ربما كانت تتساءل عمن يكون هذان الغريبان...!!

 

وفي طريق العودة الى محطة القطارات المركزية كانت أفكاري تتمحور حول فكرة واحدة :ترى ... كم من الوقت سيمضي على تعفن جثتي قبل أن يتصل جاري بشركة السكن...ليشكو من رائحة كريهة...؟!

ـــــــــ

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في السويد.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ