حسان القطب*

عند كل استحقاق سياسي لبناني تبرز معضلة طرح شعار أو عنوان (المقاومة).. في كافة البرامج الانتخابية، النيابية منها والنقابية وحتى الطلابية..واليوم نرى التجاذب على أشده حول هذا المفهوم بين الكيانات اللبنانية المتعددة والمتنوعة في انتمائها والتزامها وعقائدها ومذاهبها وتوجهاتها السياسية والثقافية والتربوية..وفي ارتباطها الإقليمي والدولي سواء لجهة التقارب الثقافي والديني أو لجهة التمويل والرعاية أو الانتماء للمشروع السياسي والحضاري..هذا التجاذب يقع حول كيفية تمرير فقرة في البيان الوزاري تتضمن حق حزب الله وحلفائه حصراً بحمل السلاح أينما شاءوا وكيفما شاءوا..تحت شعار أن هذا السلاح هو سلاح مقاوم وأن حامله كائناً من كان هو من المقاومين..

المقاومة انطلقت في لبنان عقب هزيمة عام 1967، وبعد صراعات مسلحة ومناوشات متعددة بين المقاومين الفلسطينيين واللبنانيين من جهة والجيش اللبناني من جهة أخرى اضطرت الدولة اللبنانية لتشريع عمل المقاومة بتوقيعها اتفاقية القاهرة مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام 1969،..إذاً مفهوم المقاومة وممارسة العمل المقاوم لم تكن وليدة أفكار حزب أو جهة أو مدرسة فكرية أو دينية، بل كان رد فعل منطقي، طبيعي، وعفوي وشعبي على الهزيمة التي أصابت الجيوش العربية في حرب حزيران/ يونيو عام 1967، وكان الاحتضان الشعبي العارم في لبنان وفي كافة أرجاء الوطن العربي لحركة المقاومة بكل أطيافها التي أخذت طابع حركة تحرر وطني يستنهض الأمة بأسرها دون استثناء.. وانخرطت كافة أطياف المجتمع المدني في حركات المقاومة دون استثناء. من حركات يسارية وإسلامية وقومية..... إلى أن انغمست هذه المنظمات في السياسات الداخلية للجمهورية اللبنانية وأصبح الشأن الداخلي أكثر أهميةً من أي أمرٍ مقاومٍ أخر.. وبعد أن كان الشعار.. لا صوت يعلو على صوت المعركة..أصبحت شوارع المخيمات الفلسطينية والمدن والبلدات والقرى اللبنانية مسرحاً لصراعات القوى المتناحرة على تحقيق وتنفيذ أجندات الدول الإقليمية الراعية لهذه التنظيمات وسواها. بل هي أم المعارك.... وما أصاب التنظيمات الفلسطينية وتنظيمات الحركة الوطنية اللبنانية من ممارسة الفوضى المسلحة والتجاوزات غير المبررة.. أصاب أيضاً التنظيمات ذات الطابع المسيحي والمتواجدة في الشطر المسيحي من لبنان بعد أن انقسم لبنان إلى معسكرين ومحورين وفسطاطين إبان الحرب الأهلية...

بعد ذلك وجد اللبنانيون الفرصة سانحة لإعادة لم الشمل والعمل على إعادة بناء الدولة وتفعيل مشروعها في ظل حماية ورعاية سلاح الشرعية ومؤسساتها وإعادة إنتاج المؤسسات الدستورية والإدارية والقضائية لتحقيق الاستقرار الأمني الذي يؤدي إلى تفعيل وتيرة النمو الاقتصادي و الازدهار المالي والاستقرار الاجتماعي..وأمل اللبنانيون تحقيق ذلك تحت سقف اتفاق الطائف الذي تم توقيعه برعاية عربية ودولية..

وبما أن هاجس الخلاص من الاحتلال الإسرائيلي الرابض على جزءٍ عزيز من أرض الوطن هو ما كان يؤرق اللبنانيين وينغص عيشهم، فالتف اللبنانيون من جديد حول مشروع المقاومة لطرد الاحتلال والضغط عليه لتنفيذ القرارات الدولية التي أقرت حق لبنان باستعادة أرضه.. ومرة أخرى عدنا لنرى الصراعات تتفاقم بين التنظيمات والقوى المسلحة... فتمت مصادرة قرار المقاومة وعنوانها وشعاراتها شيئاً فشيئاً.. فتم تغييب التنظيمات اليسارية والقومية والإسلامية تدريجياً عن ساحات القتال والمواجهة بحجة حفظ مشروع المقاومة وسرية عملها وأمن عناصرها.. ووقعت العديد من الاشتباكات بين أبناء الصف الواحد والفريق الواحد والتي حصدت أرواح ألاف المقاتلين... خاصةً بين حركة أمل وحزب الله في إقليم التفاح وقرى الجنوب وفي الضاحية الجنوبية والبقاع الغربي والشمالي..إلى أن استقر الأمر لحزب الله.. ليكون فصيلاً مسلحاً وحيداً على الساحة اللبنانية باعتبار أن سلاح حلفائه يقع  ضمن السيطرة الكاملة لحزب الله..وليشكل حزب الله وسلاحه ذراعاً سياسية وأمنية تخدم مصالح دول إقليمية وهي بالتحديد سوريا وإيران..وهو ما لا يخفيه قادة الحزب وعناصره.. وانتقل حزب الله من حالة المقاومة التي احتضنها جميع اللبنانيين دون استثناء قبل التحرير وبعده وإبان حرب وعدوان تموز/يوليو من عام 2006، إلى العمل في الساحة الداخلية ليعطل الحياة السياسية تحت عنوان حماية مصالح طائفة بعينها وذلك بعد أن استقال وزراؤه من الحكومة عام 2006، فخسر الاحتضان الشعبي والوطني.. وطالب بتغير الحكومة بعد أن عطل عملها تحت عنوان خروج طائفة من السلطة يعني عدم ميثاقيه الحكومة وممارساتها وبعد أن ضغط على حليفه بالإكراه الرئيس بري ليغلق مجلس النواب طوال عامين كاملين أو ما يزيد..فتوقف العمل التشريعي ومنع انتخاب رئيس جديد للجمهورية بحجة ضرورة التوافق عليه قبل انتخابه..واستباح لنفسه وجمهوره وإعلامه التهجم وإهانة كل رمز أو قيادي يرفض وصاية حزب الله عليه وعلى جمهوره.. مما كاد أن يوقع البلاد في حرب أهليه عقب هجومه في السابع من أيار/مايو عام 2008، على مدينة بيروت وصيدا والشمال والجبل والبقاع محاولاً وضع اليد على مؤسسات الدولة وإرهاب المواطنين حتى لا يجرؤ احد على معاندته أو رفض مواقفه وتوجهاته..سقط مئات القتلى والجرحى وانقسم الوطن وازدادت حدة التوتير المذهبي والطائفي بعد أن التف كل فريق حول قادته ورموزه ومواقعه في السلطة.. ثم تابع حزب الله عملية التعطيل عقب خسارته للانتخابات النيابية الأخيرة في أوضح دلالة على رفض اللبنانيين لتوجهات حزب الله ومشروعه وارتباطه..ومع ذلك يصر حزب الله على أن مشروعه وسلاحه يحظى بدعم ومساندة جميع اللبنانيين بل معظمهم ونسمع هذا الكلام....بنبرة استعلاء وفوقية...حيث اعتبر نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم أن "المقاومة التي حررت لبنان هي مقاومة لكل اللبنانيين إذا شاءوا، ومن رفضها ومن لم يرغب في شرف الانتماء إليها فهو الخاسر، لأنه أبعد نفسه عن بركة التحرير ونعمة العزة والمكانة المشرقة للأجيال في مواجهة الصهاينة". ،... وعن البيان الوزاري أكد قاسم أن هذا البيان "سيخرج في نهاية المطاف، ونحن راضون مسبقاً عمَّا سيذكر عن المقاومة في هذا البيان، ولن ندخل في مهاترات ولا جدال، لأن إثارة موضوع المقاومة هي إثارة سياسية من البعض، وهم يعلمون أن الأغلبية الساحقة من اللبنانيين تريد لهذه المقاومة أن تستمر وأن تقوى"، معتبراً أن "الحكومة مع تشكلها على قاعدة أنها حكومة وحدة وطنية لم يعد أمامها عقبات،.

فيما انتقد رئيس مجلس النواب نبيه بري "النقاش المستطير حول بند سلاح المقاومة في البيان الوزاري"، مؤكداً أن "سلاح المقاومة باقٍ حتى تحرير كل الأراضي اللبنانية المحتلة والانسحاب الكامل لإسرائيل من لبنان ووقف الخروقات". .....

إذاً كل الحوار والنقاش والتفاوض هو دون جدوى طالما أن حامل السلاح المغلف بشعارات المقاومة والممانعة والتحرير والصمود والتصدي... يرفض أن يكون جزءاً من الدولة بل شريكاً لها يحمل جمهوره السلاح في تنظيمات شبه عسكرية،  كما مؤسسات الدولة الأمنية ولا تدخل القوى الأمنية مربعاته إلا حين يستدعيها هو وحين يعجز..وذلك حين طالب حسن نصرالله القوى الأمنية بدخول الضاحية لمنع التعديات وترويج المخدرات وسرقة السيارات..

أما قول نعيم قاسم من أن أغلبية الشعب اللبناني هي مع سلاح حزب الله وشركائه..فهو مغلوط ومردود عليه لأن التنافس  في الانتخابات النيابية الأخيرة كان بين مشروعين... الأول يسعى لتشريع سلاحه إلى جانب سلاح الشرعية وأن يكون له الحق في بناء أجهزته إلى جانب أجهزة الدولة.. والمشروع الأخر يؤكد على مشروع بناء الدولة ومؤسساتها لتكون الضامن الوحيد لأمن الوطن والمواطن..وقد أظهرت الانتخابات الأخيرة أن المواطنين اللبنانيين هم مع مشروع الدولة دون سواه..وأثبتت الوقائع أن أصحاب مشاريع ومقولات المشاركة والشراكة في السلطة إلى جانب الدولة لجئوا أخيراً إلى الدولة اللبنانية ومؤسساتها وأجهزتها لرعاية الأمن والنظام في مربعات الأمن الذاتي خاصتهم.. بعد أن عجزوا عن ضبط جمهور أشرف الناس..؟.. لذلك يسعى حزب الله الذي خسر فرصة فرض مشروعية سلاحه بقوة الانتخابات النيابية.. إلى فرض هذا المفهوم وتشريع سلاحه من خلال البيان الوزاري...من هنا ندرك أن هناك تبايناً واضحاً في فهم شعار المقاومة الذي يرفعه حزب الله وملحقاته..وبين سائر اللبنانيين..أو أن حزب الله يدرك خسارته وانكشاف مشروعه ويسعى لفرض مفهوم واحد لهذا الشعار تحت تهديد تكرار السابع من أيار/ مايو......مشكلة حزب الله انه لا يريد أن يعرف أن احترام التعددية الدينية والسياسية في لبنان....يكون باحترام رأيها وخياراتها وقناعاتها...وعقائدها أيضاً..

ـــــــ

*مدير المركز اللبناني للأبحاث والإستشارات

-------------------------