-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
سُنّة
التطوّر والبقاء للأصلح د.
بوفلجة غيات عرف العالم منذ القديم
تعاقب وتداول مراكز القوة بين
مجموعة من الحضارات، عبر
التاريخ، وقد تفاوتت مدد هيمنة
الحضارات وقواتها، إلا أنها
كلّها تزحزحت عن مكانتها، لتأتي
حضارات أخرى وتهيمن على موازين
القوى الحضارية في العالم. إن
أقوى حضارة، كانت مع نهاية
القرن العشرين، وحتى الآن هي
الولايات المتحدة الأمريكية،
فهل يستمر العالم في هذه
الوضعية، أم أن أمريكا ستتزحزح
بدورها عن مكانتها، لتلحق بها
قوى حضارية أخرى، تنافسها
وتزاحمها وتنازعها وتقاسمها
القيادة الحضارية للعالم، وقد
تقاسمها، أو تزيحها عن موقعها
كأقوى دولة في العالم، مما يسمح
بتحقيق سنة الله في خلقه، من
حيوية وتغير وتطوّر، وعدم
التوقف والجمود عند مستوى معين. لبقاء الكائنات وتطورها
شروط، إذ ليس العبرة في القوّة
والضخامة بقدر ما هو في المرونة
وسرعة التكيف. وقد عرف العالم
كائنات حيوانية قوية
كالديناصورات، مع ذلك فقد
انقرضت ولم تمنعها قوتها عن
الإنقراض والإندثار. في حين
بقيت حيوانات أقل حجما وقوة
فسايرت التحولات وتكيفت مع
الواقع، وهناك أمثلة متعدّد من
حيوانات صغيرة وحشرات، بقيت
آلاف السنين، وقد تطوّر البعض
منها جسديا وسلوكيا للتفاعل مع
التغيرات. نفس الشيء بالنسبة
للحضارات، فقد سقطت حضارات
قديمة رغم فوّتها المادية مثل
الرومان والبيزنطيين والفرس،
والماغول، وذلك لاعتمادها على
قوتها المادية والعسكرية
بالدرجة الأولى، وثقتها
المفرطة والعمياء في هذه القوّة.
وقد وصل الأمر ببعض الملوك
والقادة إلى التجبر واعتبار
أنفسهم آلهة، كما وقع لفرعون
وغيره من الملوك الجبابرة. إلا
أنهم ماتوا ونالوا نفس مصير
الآخرين، كما زالت
إمبراطورياتهم واندثرت، ولم
يبق من قوّتهم إلا آثارا تثبت
مرورهم في أزمان غابرة على هذا
الكون. نفس السنن تسري اليوم في
عصرنا. إذ ليس ببعيد ظهور وبروز
الإمبراطورية البريطانية
العظمى، التي كان يشار إليها
على أنها "الإمبراطورية التي
لا تغيب عنها الشمس". وكذلك
كانت إمبراطوريات أخرى فرنسية
وإسبانية وهولندية...، إلا أن
دورها انحسر مع بروز قوى أخرى
كالولايات المتحدة الأمريكية
والإتحاد السوفياتي. وقد تفكك
هذا الأخير إلى عدّة دول وبدأ
الضعف يدبّ في جسمه، حيث ورثت
روسيا ما بقي من مجد الإتحاد
السوفياتي، ومقعدها في مجلس
الأمن. مع ذلك تراجعت مكانتها
كقوة عظمى إلى قوة من الدرجة
الثانية والبقية تأتي. ولا زالت
عجلة التطوّر والتغير في ديمومة
وحركة دون انقطاع، حيث تسقط
حضارات وتبرز أخرى. لقد وصل الغرب إلى مرحلة
من التطوّر والتقدّم، بحيث
أصبحت الولايات المتحدة
الأمريكية هي القوّة العظمى
الأوحد في العالم، بعد سقوط
الإتحاد السوفياتي وتفككه. فهي
تملك كل مقومات القوّة المادية،
الإقتصادية والعلمية والصناعية
والعسكرية، وهي مرتاحة لواقعها
هذا وتتمنى الحفاظ على نفس
الوضعية، بل أنها تعمل المستحيل
للبقاء عليها كما هي، وكما
يريدها المنظرون من المحافظين
الجدد أن تكون. حيث يريدون أن
تكون هذه الفترة نهاية للتاريخ . فهي تعرقل أي تقدم
وتطوّر لقوى أخرى ترى أنها
منافسة، كالصين واليابان
وروسيا والهند وإيران، بل وحتى
الإتحاد الأوروبي. لهذا فهي
تقوم بالحروب الإستباقية وتخطط
للمستقبل المتوسط والبعيد. إلا أن منطق الأحداث
ودينامية التطوّر الحضاري، لا
تعرف السكون والإستقرار. فكما
أن الإنسان يولد ضعيفا ويشبّ
ويقوى ثم يهرم ويضعف ويموت،
كذلك الحال بالنسبة لمختلف
المنظمات. بل أن نفس المنطق
والسّنن تسري على الحضارات.
فكلّ حضارة، كما يرى مالك بن
نبي، تعرف ثلاث مراحل، فهي تصعد
وترتفع، ثم
تستوي وتستقر لفترة قد تطول أو
تقصر، ثم تبدأ في الإنحدار .
وليست الولايات المتحدة
استثناء عن ذلك، فهي سنة الله في
خلقه، وليست لسنته تبديلا. إن الوقائع والأحداث
والحروب والمواجهات التي
يعرفها العالم المعاصر، منذ
نهاية القرن العشرين وإلى غاية
بداية القرن الواحد والعشرين،
وما تواجهه أمريكا من تحديات
متنوعة ومتعدّدة، على مختلف
الجبهات والأصعدة، اجتماعيا
واقتصاديا وسياسيا، بل وحتى
عسكريا، كلها مؤشرات على بداية
نهاية حقبة من التاريخ، حيث
هيمنة قوة عظمى وحيدة على
العالم، وبداية بروز قوى أخرى،
لم تتضح معالمها بعد. لأن ذلك قد
يستمر لفترة قد تصل إلى عقود من
الزمن، وقد تختصر وتتم في فترة
وجيزة، كما وقع للإتحاد
السوفياتي عند تفككه وسقوطه، في
فترة وجيزة، فشل غالبية
المحللين في توقع سرعة حدوثها. إن حرب العراق كشفت عن
ضعف أقوى دولة في العالم وعجزها
عن السيطرة على جيوب المقاومة
رغم الإمكانيات المسخرة،
وفشلها في القبض على بن لادن رغم
استماتتها في تحقيق ذلك، كون بن
لادن ورفقائه تحدّ كبير
لمصداقية الهياكل الأمنية
الأمريكية بتعددها، رغم ما
أنفقته من مال ووقت وجهد،
لتحقيق هذا الهدف، والذي كان
الكثير من المحللين يعتبرونه
شيئا بسيطا، خاصة بعد دخول
القوات الأمريكية وحلفائها إلى
أفغانستان. من دلائل التحولات أيضا
فشل أكبر قوة في الشرق الأوسط،
والتي هي إسرائيل في حربها ضد
حزب الله، وعجزها في الدخول إلى
جنوب لبنان خلال حربها معه سنة
2006، وتكبدها لخسائر كبيرة في
الأرواح والآليات، رغم دعم
الولايات المتحدة لها. كذلك
الحال بالنسبة لقطاع غزة، فرغم
كونه فعليا نحت الإحتلال
والحصار الخانق، ومع ذلك عجزت
إسرائيل في إعادة اكتساحه مع
نهاية 2008، فأعلنت عن وقف النار
بطريقة أحادية، ولم تتمكن من
تحقيق أي من أهدافها، رغم مرور 22
يوما من القصف والتدمير.
وانتصرت حركات المقاومة
بثباتها وقوّة عزيمتها. وهي
مؤشرات مهمة لتحولات مستقبلية
غير بعيدة، في إطار التدافع
الحضاري بين الأمم. إن أمريكا تحاول قهر
الشعوب وإذلالها، ونحن نعرف أن
إرادة الشعوب لا تقهر. إذ يمكن
تحطيم البنى التحتية لدولة ما،
وتنصيب عملاء لحكم تلك الدول،
إلا أنه لا يمكن تحطيم إرادة
الشعوب، وهو أكبر تحدّ تواجهه
الولايات المتحدة في العصر
الحالي. إذ مهما كان مستوى القوة
والعلم، فإنه لا يمكن تغيير سنن
الكون في التطور والتغير، وأن
التطور واقع والتغير حاصل لا
محالة، وكلّ حضارة تؤدي دورها
وتنتهي مرحلة هيمنتها. لا سيّما
إذا انحرفت عن القيم الأخلاقية
والإنسانية، إلى درجة تصل مرحلة
من التجبر والغرور، مما يسرع من
انحطاطها. وبهذا تجد نفسها مرغمة
على التنحي وترك المجال لقوى
أخرى وحضارات أخرى، والتاريخ
مستمر دون كلل ولا توقف،
والدّهر يحرك الأمور وفق سنن
موضوعة، لا تستطيع أي قوة كونيه
إيقاف هذا التطور، ولو كانت
الولايات المتحدة الأمريكية
بترسانتها العسكرية
والإقتصادية والعلمية. إذ أنها
ليست استثناء لذلك، ولن تجد
لسنة الله تغييرا، مصداقا لقوله
تعالى: "سنّة الله في الّذين
خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله
تبديلا" (سورة الأحزاب/ 62). ذلك أن الكون لا يخضع
لأهواء الأفراد والجماعات، ولا
حتى الدول والقوى العظمى، مهما
عظمت، وإنما هو يسير وفق سنن
ونواميس طبيعية يجب احترامها
والخضوع إليها. ولم تتطور
التنظيمات والدول إلا باحترام
العلم الذي يدرس الظواهر
الطبيعية والإجتماعية
والنفسية، ويتكيف معها. وقد جاء دور الولايات
المتحدة، لكونها دخلت متاهات
ومستنقعات الصراعات والحروب في
أفغانستان والعراق، وغيرهما من
أماكن التوتر في العالم، في حين
أن أبناءها تعوّدوا على نمط من
العيش والرخاء، المادي
والإقتصادي، جعلهم لا يستطيعون
تحمل الحياة الخشنة للجيوش في
الجبال والأدغال والصحاري. كما
أن تبنيهم للعقيدة المادية
وعبادة الشهوات والديمقراطية
والإلحاد، جعلهم يهابون الموت
ويسعون لتجنبها. لهذا فهي لا
تستطيع تحمل حروب طويلة الأمد
ولا خسائر مادية وبشرية مرتفعة،
وهو ما سبب مشاكلها في العراق
وأفغانستان، مما ينغص حياة
ساستها وشعوبها ومخططيها
الإستراتيجيين. لقد أفلحت الولايات
المتحدة في كسب أعداء متزايدين،
وقد تزايد غرورها بقوة اقتصادها
ونفوذها وآلتها العسكرية، وهو
ما يزيد من أخطائها واحتمالات
سرعة سقوطها، وهناك جهات تنتظر
ضعف قوة هذه الدولة لكي تنهال
عليها. وقد بدأ ذلك من خلال
فشلها في حربها ضد الإرهاب، ولم
تتمكن القوة العسكرية والمادية
حسم حروبها، أمام عدوّ يعتمد
المرونة والخفة في الضرب والكرّ
والفرّ، وهو ما يفقد أهمية
الصواريخ والطائرات والبوارج
والقنابل الذرية في معارك تعتمد
حرب العصابات. فهي حروب جدّ
مكلّفة للولايات المتحدة،
وزهيدة التكاليف بالنسبة
للمقاومة. وهكذا تؤدي القوة
المادية إلى الطغيان والتجبر،
ونكران حق الآخر في الوجود
واستخفافها به، وهو ما نشاهده
اليوم مع أمريكا والغرب عموما. وفي التاريخ أمثلة
متعدّدة عن تجبر حكام
وإمبراطوريات، وطغيانهم وقهرهم
لغيرهم من الضعفاء، ورغبتهم في
فرض هيمنتهم على عزائم الشعوب،
مما أدى إلى فشلهم وهلاكهم
وانحطاطهم، وتلك هي سنة الله في
الأرض. كما أن لا أخلاقية
الممارسات السياسية والعسكرية
والإقتصادية وتوسع نطاق الظلم،
عوامل تنبئ بقرب نهاية هذه
القوة الهائلة. وقد قال أحمد
شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما
بقيت فإن
هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. فقد تفشت أسرار ممارسات
الجيش الأمريكي في حروبه
وتعدّدت قصص التعذيب
والإغتصاب، وفضائح غوانتنامو
وأبو غريب، وازدواجية المعايير
السياسية، وانتهاك قواعد حقوق
الإنسان والسجون السرية التي
تدرها المخابرات الأمريكية،
وتدعيم إسرائيل التي تنتهك
الحقوق الأساسية للفلسطينيين
المستعمرين والمحاصرين، كلها
عوامل توضح أن الأمر لن يستمر
طويلا على حاله، وأن الوقت ليس
لصالحهم. وقد بدا ذلك واضحا من
خلال استمرار عمليات المقاومة،
في كل منطقة دخلتها القوات
الأمريكية، ولم تتمكن من حسم أي
قضية لصالحها رغم ما سخرته من
قوات وأموال لتحقيق أهدافها،
ذلك أن عزائم الشعوب لا تقهر. في حين أن التحلي
بالأخلاق الفاضلة في التعاملات
الفردية والإجتماعية
والسياسية، في السلم والحرب،
كلها عوامل تساعد على البقاء،
والإنسام مع المحيط الدولي، بما
يحتويه من دول وحضارات، وهو ما
تفتقده المعاملات السياسية
الغربية (ر.م. هير: 1992). وهكذا، فإن التركيز على
القوة العسكرية والإقتصادية
والسياسية، وكثرة الحروب
وتزايد الأعداء وإهانة
الثقافات وإنكار إرادة الشعوب
وحقها في الوجود، ومواجهة
إرادتها في الحرية والكرامة،
كلّها بوادر لبداية الإنحدار،
ذلك أن إرادة الشعوب لا تقهر.
وقد سبق أن سقطت الفرس والروم في
وجه القوات الإسلامية، التي
كانت أقل قوّة وعددا وعدّة. ومن مظاهر وهن الولايات
المتحدة الأمريكية أيضا،
إصابتها في أحد دعائم قوتها،
والجو الجانب المالي. إذ
اجتاحتها أزمات مالية بدأت
بالرهن العقاري، وانتقلت إلى
المؤسسات المالية سنة 2008، وهي
أزمة كبيرة مست اقتصاديات
العالم، واضطرت الدول الصناعية
خاصة، إلى دعم مؤسساتها المالية
والصناعية بمئات الملايير من
الدولارات لعلاج المشاكل
المالية والإقتصادية، وتجنب
الدخول إلى مرحلة متقدمة من
الركود الإقتصادي. وقد اعتمد الإسلام
دائما على المبادئ الإسلامية
السمحة في مراحل قوته وضعفه وهو
ما ساهم في الحفاظ على بقاء
العقيدة والأمة والحضارة
الإسلامية، في حين ظهرت حضارات
بعدها وسقطت، رغم قوّتها
المادية والعسكرية، ورغم ضعف
المسلمين ماديا وعسكريا. من هنا
تتضح أهمية سنة الكون وسريانها
على العالم. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |