-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 06/12/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


حظر المآذن حرب يمينية على الإسلام 

عداء الإسلام يصطدم بالمواثيق الأوروبية 

نبيل شبيب

المئذنة في الأصل وسيلة تلبي حاجة دينية، هي الوصول بالنداء إلى الصلاة في المسجد إلى أسماع المسلمين المقيمين حوله، وتذكيرهم بأداء صلاة الجماعة على وقتها، وعلاوة على ذلك أصبحت للمئذنة عبر الأطوار الزمنية المتتالية لتطور الهندسة المعمارية الإسلامية، مكانة متميزة، تراعي عنصر الجمال والذوق إضافة إلى المهمة العملية التي تؤدّيها، ولا تحتل مهمة المئذنة مكانة متقدمة في بناء المساجد في بلدان ينخفض فيها عدد المسلمين بالنسبة إلى مجموع السكان، لا سيما وأنهم لا يتجمعون إلا نادرا في مساكن متقاربة بحيث يصل صوت الأذان إلى المصلين، فهم يقصدون المساجد غالبا من أماكن بعيدة عنه، ولكن يصل الصوت لغير المسلمين، ولهذا لم يقترن الحرص على بناء المساجد أو تحويل بعض المباني إلى "مصليات" للمسلمين في الدول الاوروبية، بحرص مماثل على إقامة المآذن، بينما لعب عنصر الرمز الهندسي المعماري للمسجد وعنصر الجمال والذوق دورهما في تزويد بعض تلك المساجد والمصليات بالمآذن، منها المئذنة شكلا فقط فلا يمكن الصعود للأذان منها، ومنها الصغيرة التي لا يفيد إطلاق الأذان منها أصلا، ومنها ما يصلح لذلك ولكن لا يستخدم مراعاة للقوانين ولغير المسلمين، ولهذا نجد 206 مآذن صغيرة وكبيرة في ألمانيا مثلا، بينما يرتفع عدد المساجد والمصليات فيها إلى 2800 على الأقل (حسب المعلومات المتوافرة من عام 2006م) ومن المنتظر أن تكون مئذنة المسجد الجديد المزمع بناؤه في كولونيا بطول 55 مترا، وينطبق ذلك بصورة مشابهة على فرنسا، حيث تعتبر مئذنة المسجد الكبير في باريس (33 مترا) أطولها، وعلى بلدان أوروبية أخرى.

والراجح تاريخيا أنه في عام 53 ه، في عهد الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أقيمت لأول مرة أربعة أبراج ألحقت بمسجد عمرو بن العاص في مصر، واعتبرت "بداية ميلاد" فكرة المآذن (وحملت اسم المنارات فترة من الزمن لنصب القناديل المضيئة عليها إرشادا لمكان المسجد) بينما كانت المساجد منذ العهد النبوي إلى ذلك الحين دون مآذن، ثم بين عامي 88 و96ه أقيمت عدة مآذن للمسجد الأموي في دمشق، وتعتبر "مئذنة العروس" من بينها أقدم مئذنة في العالم، ومنذ ذلك الحين لم ينقطع الحرص على هذا الفن المعماري الهندسي في بناء المساجد، مع الحرص على أن يزداد جمال المآذن هندسيا، وطولها معماريا، وأطولها في العالم (210 أمتار) في الوقت الحاضر مئذنة مسجد الملك الحسن الثاني في المغرب، وقد يزود المسجد الكبير الواحد بأكثر من مئذنة، فللسمجد النبوي في المدينة المنورة 10 مآذن، وللمسجد الحرام 9 مآذن.

 

فزاعة التخويف من "أسلمة اوروبا"

على خلفية دور المئذنة وتاريخها وواقع انتشارها المحدود في أوروبا: ما الذي أثار تلك الزوبعة السياسية تجاه بناء المآذن في سويسرا والتي أوصلت إلى "استفتاء" شعبي على حظر بنائها يوم 29/11/2009م؟..

علام استهدف حزب الشعب اليميني المتشدد المآذن، رغم أن المسلمين في سويسرا لم يعمدوا إلى الإكثار منها، فليس فيها سوى 4 مآذن في أربع مدن رغم وصول عدد المسلمين إلى زهاء 400 ألف مسلم؟..

لا خلاف بين المسلمين في أوروبا وعموم المسؤولين ممن أدلى بموقف تجاه الحدث، أن المستهدف هو الوجود الإسلامي نفسه، وقد يمضي بعض المسؤولين الأوروبيين ممن لا يراعي ما تعنيه إثارة المخاوف إلى التهوين من دوافع اليمين السويسري المتشدد بالقول مثلا، إنه استهدف رفض انتشار التشدد والتطرف مع ازدياد انتشار أنشطة "الإسلاميين"، وسبق تحويل الوعي المعرفي الغربي إلى اقتران كلمة "الإسلامي" عنده بكلمات "الإسلام السياسي" و"التطرف" وما شابه ذلك، للتنصل من القول باستهداف الإسلام نفسه وعامة المسلمين، حتى بات وصف المسلم بالاعتدال يعني تلقائيا وصفه بأنه ليس من "الإسلاميين".. بينما لم تكن الكلمة عند المسلمين وسواهم، لا سيما في الغرب، تعني أكثر من ممارسة أنشطة تستهدف تطبيق الإسلام والحث على ذلك، وتشمل أحيانا التعريف به، مثلما تشمل أحيانا اتخاذ مواقف من منطلق إسلامي تجاه أحداث سياسية، على غرار ما تصنع الكنائس الغربية باستمرار، وتبعا لحرية التعبير عن الرأي تجاه الأحداث، وهو ما تحرص الدساتير والقوانين على دعم ممارسته ونشرها شعبيا.

حملة "حظر المآذن" الأولى من نوعها عالميا، وكما دخلت هذه الصفحة السوداء من تاريخ سويسرا لم تكن موجهة ضدّ "المآذن" بحد ذاتها، إنما انطلقت ضدّ وجود الإسلام والمسلمين في البلدان الأوروبية وتحولهم على أرض الواقع إلى جزء عضوي من مجتمعاتها، وليس مجهولا أن "حظر المآذن" لا يحل أي مشكلة إن وجدت، إنما هي حجّة لمهاجمة المسلمين" على حد تعبير هاتيبوغلو، رئيس الهيئة الإسلامية في زيوريخ.

السؤال المفروض طرحه إذن هو السؤال عن أسباب الخوف المرضي المنتشر إزاء وجود الإسلام والمسلمين في أوروبا عموما، وعن الخلفيات التي جعلت زهاء 58 في المائة من أصل 53 في المائة ممن يحق لهم التصويت وشاركوا فيه في سويسرا، يؤيدون حظر بناء المآذن.

من الناحية العددية المحضة تزداد نسب المسلمين إلى عامة السكان في البلدان الأوروبية، ولكن ليس بتلك الدرجة التي يجري التهويل من شأنها لتثير الفزع، لا سيما وأن هذا التنامي النسبي لا يعود بالضرورة إلى ازدياد أعداد المسلمين ازديادا "ضخما وسريعا" بل يعود في الدرجة الأولى إلى تنامي "المعدل" النسبي إلى مجموع السكان، وهو أسرع من تنامي "أعداد المسلمين" المجردة ويكمن السبب في التناقص السكاني العددي لغير المسلمين في عموم بلاد الغرب، بسبب العزوف عن الزواج والإنجاب مع انهيار الأسرة ومكانتها اجتماعيا، فلا علاقة للمسلمين بذلك.

والبنية الهيكلية السكانية في الدول الأوروبية حافلة بالأقليات، على أساس عرقي، أو ديني، أو مذهبي، أو طائفي، فلا يمثل المسلمون حالة "شاذة" في القارة التي تضم بضعا وثلاثين دولة، ولكنها تضم في هذه الدول أكثر من 200 فئة سكانية من حيث الأعراق، والمئات من حيث الديانة، وجميعها بنسب مختلفة ارتفاعا وانخفاضا، وعلى هذه الخارطة لا تبدو نسبة المسلمين عالية إلى درجة تسوّغ انتشار المخاوف من "أسلمة" أوروبا وقد أصبحت هي "الفزاعة" التي يستخدمها اليمين المتطرف، وعموم من يعادي وجود الإسلام والمسلمين، ونجد أن أعلى التقديرات عن عدد المسلمين في بلدان الاتحاد الأوروبي تتحدث عن حوالي 30 مليونا من أصل 500 مليون نسمة، ولئن صح أن أسلمة أوروبا قادمة فعلا، فلا يمكن أن تأتي إلا في صيغة تطور تاريخي واجتماعي وثقافي وقيمي طويل الأمد ولا يفيد لمنعه قسرا التحركُ بأسلوب التخويف والعنف وانتهاك الحقوق والحريات، ولا تتخذ زوبعة حظر المآذن في هذه الصورة الإجمالية أي مكان يستحق الذكر.

 

التخويف صناعة عريقة

كثيرا ما يُعزى انتشار ظاهرة الخوف المرضي من الإسلام إلى انتشار ظاهرة "العنف غير المشروع" أو الإرهاب وفق الأدبيات السياسية والإعلامية الغربية خلال السنوات الماضية، وليس هذا صحيحا، فحملات التخويف من الإسلام والمسلمين بل وتشريع القوانين للتخلص من ذوي الأصول غير الأوروبية -أي الوافدين- منهم، بدأت في وقت مبكر، ومن ذلك مثلا قوانين إغراء من يبلغ سن التقاعد بدعم مالي إن غادر البلاد بعد أن ساهم في بناء اقتصادها، كما كان في الثمانينات من القرن الميلادي العشرين، أو قوانين ترحيل من تُرفض طلبات لجوئهم السياسي، مع التشدد في الاستجابة لهذه الطلبات، وليس مجهولا أن أحد الأسباب الرئيسية من وراء رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي هو أنها دولة ذات غالبية إسلامية عالية، وقد تصبح -إذا انضمت- أكبر دول الاتحاد سكانا!..

قبل جيل واحد لم تكن نسبة المسلمين العددية في الاتحاد الأوروبي أدنى بما يستحق الذكر من النسبة الحالية، 6 في المائة، إنما بدأت تنتشر مظاهر العداء والتخويف آنذاك، ووصلت إلى مستوى أعمال عنف متوالية في التسعينات من القرن الميلادي العشرين، كرد فعل على انتشار ما يوصف بالصحوة الإسلامية، بمعنى ازدياد نسبة الإقبال على تطبيق الإسلام، وبالتالي على ظهور وجوده شعبيا واجتماعيا وثقافيا، لا سيما بارتفاع عدد المصليات ومن يتردد عليها من الشبيبة والخمار (الحجاب) بين جيل الفتيات الناشئات في أوروبا.

العداء هو العداء لوجود الإسلام في صيغة الممارسة الفعلية، وهو ما يتلاقى مع العداء للدين عموما، ويزيد عليه بسبب اختلاف جذور القيم الثقافية والحضارية وفق مفعول الأديان في صناعتها.

ولئن أدت أحداث العنف غير المشروع، ومعها الحروب ضد بلدان إسلامية والمقاومة، إلى ردود أفعال ولعبت دورا ما، فهو دور الذريعة لحملات التخويف من الإسلام والمسلمين الجارية من قبل، وهي حملات لم تعتمد على تلك الأحداث قدر ما اعتمدت على انتشار الجهل بالإسلام نفسه، وبواقع المسلمين وقضاياهم، نتيجة عقود مضت من الأنشطة الإعلامية والثقافية والفكرة والتعليمية لترسيخ الجهل والصور النمطية السلبية في الوعي المعرفي الغربي، من بعد قرون سابقة من جهود مكثفة مشابهة، وموازية للتبشير الكنسي والاستعمار العسكري من قبل.

انتشار العداء والخوف المرضي والصور النمطية السلبية مع الجهل أو التجهيل، هو الأرضية التي سبق ترسيخها، والتي تُتخذ الآن منطلقا لمزيد من العداء والتخويف، وهذا بالذات ما تعتمد عليه الأحزاب اليمينية المتشددة أكثر من سواها، مثل حزب الشعب في سويسرا.

 

من مسؤولية المسلمين

لا ينفي ما سبق أن المسلمين أنفسهم، في أوروبا وخارج حدودها، يحملون قسطا كبيرا من المسؤولية عن سلبيات حلقات هذا التطور، إنما لا ينبغي التهويل من شأن هذا "القسط"، مثلما لا ينبغي التهوين من شأنه.

مثلما كانت تُنشر الصور المزيفة عن حقيقة الإسلام من خلال ربطه وربط الشخصية الإسلامية والسلوك الإسلامي، بسلوك كثير من "الأثرياء" في أسوأ الأحياء والأوساط الأوروبية بميزان الانحلال والتبذير.. كذلك نجد في حدث الاستفتاء السويسري مثلا كيف كانت الضغوط الديبلوماسية و"النفطية" التي تعرضت لها سويسرا من جانب ليبيا مؤخرا في قضية "نجل القذافي" ومحاولة محاكمته في سويسرا، لا تُطرح على عامة السكان عبر تفسير يقتصر على القول إن هذا من مسؤولية صانع القرار السياسي في ليبيا فقط، بل يُربط ذلك التصرف "السياسي" بالزعم القائل إن "هذا هو سلوك المسلمين".. وهذا مما تشير إليه صحيفة دي برسه النمساوية، وتشير إلى أنه ترك أثره على عملية التصويت ضد المآذن، فكانت النتيجة عدائية رغم أن استطلاعات الرأي لم تكن تتوقع ذلك.

مثال آخر.. اعتبر مفتي مصر نتيجةَ التصويت "إهانة لجميع المسلمين"، ولكن الكاتب المصري علاء أسواني، صاحب رواية "عمارة يعقوبيان"، يتهمه بعدم الاستجابة لنداءات طالبته في وقت مبكر بإرسال من يستطيع أن يشرح للسويسريين موقع المئذنة في الإسلام شرحا موضوعيا، ولكنه لم يرسل سوى "مراقب" للتصويت يوم الاقتراع، أما جامع الأزهر فلم يعد لشدة ارتباطه بالدولة قادرا على أن يؤدي مهمته في التوعية بحقيقة الإسلام خارج حدود بلاد المسلمين، كما يقول علاء أسواني أيضا.

وقد كانت هذه التوعية من جانب المسلمين عموما -وليس من جانب الأزهر فقط- ضرورية باستمرار، وكانت ضرورية في الحدث السويسري موضع الحديث بالذات، لأن حملة حزب الشعب اليميني المتشدد في سويسرا كانت تعتمد اعتمادا رئيسيا على "التخويف" عبر نشر أكاذيب يمكن دحضها ببعض الجهود الهادفة، إذ كان يربط بين حظر المآذن وتحذير السويسريين بأن ما ينتظرهم من انتشار الإسلام في بلادهم هو "الرجم حتى الموت، وقطع الرؤوس والأيدي، والزواج القسري وفرض الشريعة!.."

 

عقبة قانونية تعترض تنفيذ "حظر المآذن"

حملة "حظر بناء المآذن" وسيلة من وسائل عديدة تستهدف ما هو أبعد منها وأهم، ومحوره "تهميش" وجود المجتمع الإسلامي في سويسرا قسرا، كما يقول هاتيبوغلو، رئيس الهيئة الإسلامية في زيوريخ، وتعني كلمة قسرا على أرض الواقع ما يخالف جذور ما تقرره الدساتير والقوانين والشرائع الأوروبية من حيث الحقوق والحريات الدينية.

هذا في مقدمة ما جعل نتيجة التصويت في سويسرا تثير موجة من القلق واسعة النطاق في أوساط المسؤولين الأوروبيين، بمن في ذلك المسؤولون في سويسرا، ولهذا أهمية كبيرة في تحديد الصيغة الأفضل لتعامل المسلمين مع الحدث.

تقول إيفيلين فيدمر شلومبف، وزيرة العدل السويسرية، إن حظر بناء المساجد يضر بسمعة سويسرا الحريصة على الحفاظ على الحقوق الأساسية للمواطنين فيها، وشبيه ذلك ما انتشر في وسائل إعلام عديدة، من بينها صحيفة نويه تسوريخر السويسرية المرموقة، ولكن الوزير السويسرية حاولت التخفيف من وطأة نتيجة التصويت على سمعة بلادها، بقولها إنها لا تعني "العداء للمسلمين" بل تستهدف "الإسلاميين" وما يسعون إليه.. على أساس ما سبقت الإشارة إليه بصدد تشويه وصف "إسلامي وإسلاميين"، بل لم تستبعد أن تكون أحد الأطراف الذين يلجؤون إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية لبيان عدم مشروعية الاستفتاء ونتائجه.

هنا تبرز أهمية رؤية عدد من خبراء القانون من سويسرا وسواها، الذين يستبعدون أن توصل نتيجة التصويت إلى تعديل الدستور السويسري (المادة الثالثة) وهو إجراء ضروري لتصبح نافذة المفعول، فمثل هذا التعديل لا بد أن يجد النقض من جانب محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، وهي تابعة للمجلس الأوروبي (الأوسع من الاتحاد الأوروبي ويضم بضعا وأربعين دولة) وسويسرا دولة عضو فيه، وقد سارع حزب الشعب الجمهوري بالفعل إلى استباق ذلك بالتحذير عبر موقعه الشبكي من أن تراعي الحكومة السويسرية هذا التناقض، وكتب حرفيا "إن الحزب يطالب المجلس الاتحادي (السلطة العليا في سويسرا) بتنفيذ نتيجة التصويت دون أي مواربة، فإذا تجرأت المحاكم (أي السويسرية) على رفض نتيجة الاستفتاء استنادا إلى الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان (أساس وجود المجلس الأوروبي ومحكمته) أو البيان الأممي حول الحقوق السياسية وحقوق المواطنة (من عام 1964م) فإن على سويسرا أن تعلن انسحابها من المعاهدات المعنية" بهما.

 

مخاوف المسؤولين على "قيم أوروبية"

ليست الإشكالية هنا إشكالية مخالفة نصوص واضحة فحسب، بل الأبعد من ذلك أن ما وقع في سويسرا يمثل "انقلابا" على أصل مفاهيم الحقوق والحريات أوروبيا، لا سيما ما يتعلق بالأقليات، فمرجعية الإرادة الشعبية ليست مفهوما مطلقا دون ضوابط، ويعني ذلك هنا أنها لا تبيح للغالبية في بلد من البلدان أن تتخذ عبر استفتاءات أو قوانين ما، قرارات تتناقض مع الكليات الكبرى التي تقوم عليها منظومة القيم والأسس الديمقراطية.

لم يكن هذا خافيا على المسؤولين، ولهذا لا بد من استغراب عدم تحركهم مسبقا على هذه الأرضية، للحيلولة من الأصل دون استفتاء ينتهك ما التزمت سويسرا به، كيلا تسقط في فخ اعتزازها بتطبيق ما يسمى الديمقراطية المباشرة عبر الاستفتاءات أكثر من سواها، وبدلا من انتظار أن تجد نفسها أمام معضلة قانونية مقترنة بالإساءة إلى سمعتها.

إذا أصبح مثل هذا السلوك "عرفا" أو أصبح التصويت ضد المآذن "سابقة" تصلح لتطبيقات مشابهة، فإن ذلك سيعود بالقارة الأوروبية إلى فوضى العصور الوسطى بمعنى الكلمة، وليس هذا مقبولا بالمنطق الأوروبي المعاصر نفسه، فأبعاد هذه السقطة أخطر وأبعد كثيرا من حدود التعامل مع الإسلام نفسه، في قارة تتعدد فيها الأقليات تعددا هائلا، كما سبقت الإشارة، ولا يحفظ تماسكَ الدول القائمة شيء قدر سريان مفعول مبدأ حماية الأقليات، بما فيها "الدينية"، ضمن إطار المفاهيم الاوروبية للحريات والحقوق وسيادة القانون، وبغض النظر عما قد يوجد من سلبيات على صعيد التطبيق.

إن ممارسة الدين بحرية تعني تأمين الأماكن المناسبة لذلك، وهذا ما يشمل وجود المآذن بالنسبة إلى المصلين، "وتلك هي الحرية الدينية".. كما تقول صحيفة "دي برسه" النمساوية مثلا.. وتتساءل مع صحف أخرى: ماذا لو أجريت استفتاءات مشابهة على وجود المعابد اليهودية في المجر مثلا!..

هذا سلوك يفقد أوروبا مصداقيتها كما تقول صحيفة فرانكفورتر روند شاو الألمانية، ويسري هذا على مصداقية سويسرا نفسها كما يقول راينهارد شولتسي، عالم الإسلاميات السويسري في جامعة بيرن، ومن المستهجن طرح مثل هذه القضية على "استفتاء" أصلا، كما يؤكد وزير شؤون الهجرة السويدي توبياس بيلشتروم، ومسألة بناء المآذن مسألة تخضع لقرارات الهيئات المختصة بشؤون العمران والمدن فحسب، كما تقول وزيرة الداخلية النمساوية ماريا فيكتر، وكما يجري على أرض الواقع في معظم البلدان الأوروبية، ومنها فرنسا التي اعتبر وزير خارجيتها بيرنارد كوشنر حظر بناء المآذن "اضطهادا دينيا"، بينما أعربت رئيسة مجمع نواب المجلس الأوروبي لويس ماريا دي بويج عن قلقها الشديد محذرة من أن التصويت سيزيد من شعور المسلمين بإقصائهم عن المجتمع، وحتى الفاتيكان اتخذ موقفا مماثلا يؤيد قول أساقفة سويسريين اعتبروا حظر المآذن مشابها لحظر الصلبان في أبنية عامة كالمدارس، ومحور هذه المواقف هو أن التصويت السويسري "يدوس الحرية الدينية بالأقدام" على حد تعبير ميشائيل لانداو مدير هيئة كاريتاس الدينية المسيحية في فيينا.

 

وضع التخويف من الإسلام على جدول الأعمال

جميع ما يرتبط بالحملة ضد المآذن في سويسرا والترحيب بنتائج التصويت، ومحاولة المضي على طريق استغلال الخوف المرضي من الإسلام، صادر عن الأحزاب اليمينية المتشددة الأوروبية فقط ومنتشر في أوساط مؤيديها، بينما يثير أشد درجات القلق والرفض خارج نطاقها.

هذه الأحزاب أقلية سياسيا وشعبيا محدودة، أبرزها تحركا في معاداة الإسلام، أحزاب هولندا وفرنسا والدانمارك، وأكثرها نفوذا حزب الشعب السويسري عبر معطيات خاصة بالسياسة الداخلية لسويسرا منذ أواخر التسعينات من القرن الميلادي العشرين، لا يفيد التفصيل فيها هنا، كما يمكن القول أيضا إن معظم وسائل الإعلام الأوروبية تعاملت مع مسألة حظر المآذن في سويسرا من منطلق الرفض والاستهجان والتحذير من العواقب.

تضاف إلى ذلك نتيجة غير مباشرة لا يستهان بأهميتها، فإلى وقت قريب كانت جهات إسلامية عديدة تطالب دون جدوى، بأن يعطي المسؤولون السياسيون في الدول الأوروبية اهتماما خاصا بظاهرة انتشار (أو نشر) الخوف المرضي من الإسلام، تحذيرا من عواقب ذلك لا سيما على الصعيد الشعبي في ظل الحملات الإعلامية المعادية لفترة طويلة من الزمن، واستغلال الأحداث وإن كانت فردية محدودة، أو بعيدة جغرافيا، استغلالا يؤدي إلى زيادة المخاوف وزيادة التوترات، وينذر بالتالي بتطورات خطيرة.

إن نتيجة التصويت تمثل إشارة تحذير بالغة الأهمية تجاه المسؤولين السياسيين، يمكن أن يضاف مفعولها المنتظر إلى ما تركته جريمة قتل مروة الشربيني في ألمانيا من مفعول مؤخرا، بصدد ضرورة التفكير بالعواقب المحتملة إن استمر إهمال معالجة هذه الظاهرة، ولم يُتخذ ما يكفي من إجراءات مضادة فعالة ومدروسة للحد منها، لا سيما على صعيد الأنشطة والكتابات والحملات الإعلامية وحتى التصريحات السياسية، التي تصنع أجواء المخاوف تجاه الإسلام دينا والمسلمين المواطنين في الغرب كفئات من المجتمع.

لا ريب أن ردود الفعل السياسية والإعلامية المعبرة عن قلق شديد، تضع في حسبانها أيضا أن تتكرر ردود الأفعال الجماهيرية من جانب المسلمين، لاسيما مع ظهور أصوات أولى في هذا الاتجاه في تركيا وإندونيسيا وعلى ألسنة عدد من المسؤولين، وفي أوساط منظمة مؤتمر العالم الإسلامي، إلا أن المواقف المتزنة بشكل ملحوظ من جانب المتحدثين باسم المسلمين في سويسرا نفسها، والترقب مع الإعراب عن القلق والاستنكار من جانب التنظيمات الإسلامية الأوروبية عموما، تساهم في ازدياد "الوعي السياسي والإعلامي" في أوروبا بضرورة العمل على تنمية "الوعي الشعبي" بشأن الإسلام والمسلمين وطبيعة وجودهم العضوي في البلدان الأوروبية، للحيلولة دون أن تؤدي أصوات المتطرفين من أقصى اليمين الأوروبي، أو المتطرفين من المسلمين أنفسهم، إلى مزيد من التوترات الاجتماعية فتتحول إلى مراجل تنذر بانفجار لا تحمد عقباه، ولا يحقق الفائدة لأي طرف من الأطراف.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ