الشيخ كمال خطيب*

الله جل جلاله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى , هو الذي خلقنا من العدم بعد إذ لم نكن شيئاً مذكورا , هو الذي أنشأنا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم أصبح الواحد منا جنيناً وجعل لنا السمع والبصر والفؤاد : (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النمل آية 78 .

الله جل جلاله هو الذي يمسك السموات فتظل مرفوعة بغير عمد , وهو الذي يحفظ على الشمس مدارها من الشرق إلى الغرب فلا يختل نظامها ولا يتغير منذ خلقها الله , وكذلك الأرض والقمر (وكلٌ في فلك يسبحون) وهو الذي جعل لنا الليل لنسكن فيه وننام , وهو الذي يصرف الرياح ويحرك السحاب وينزل الأمطار , وهو الذي يسير الفـُلك والسفن والبواخر في البحار , هذه وغيرها من آيات الله وآلائه ونعمائه علينا في أنفسنا وفي الكون حولنا هي من بعض فضله ونعمه علينا جل جلاله , وبغير هذه العناية الربانية والمدد الإلهي فإننا سنصبح كالجسد بلا روح ومثل الجهاز الكهربائي وقد أنقطع عنه التيار الكهربائي فيصبح كومة من الحديد لا فائدة منه ولا قيمة له , فهو الله جل جلاله وتباركت أسماؤه المنعم المتفضل وهو وحده الذي يستحق أن يُطاع فلا يُعصى وأن يُشكر فلا يُكفرُ وأن يُعبد ولا يُشرك به شيء سبحانه وتعالى .

وأن العلاقة التي ربطت بين الإنسان وبين خالقه , إنما هي علاقة كونه سبحانه هو الخالق ونحن المخلوقين , وهو المعبود ونحن العبيد وهو الغني ونحن الفقراء , هو الحي القيوم ونحن الذين نُولد ثم لا نلبث أن نموت .ولكن هذه العلاقة قد طرأ عليها خلل وانحراف , بل إنه الجهل الكبير بأنفسنا والجهل الأكبر بخالقنا سبحانه , وأنه بمقدار ما تكون معرفتنا به سبحانه يكون ذلنا وانكسارنا وخشيتنا وافتقارنا وعبوديتنا له سبحانه .ولقد سبق للخالق العظيم جل جلاله, الذي علم حال عباده هؤلاء أن قال في الحديث القدسي الجليل: (إني وأبن آدم على أمر عظيم , أخلق ويُعبد غيري , أرزق ويُشكر سواي , أتقرب إليهم وأنا الغني عنهم ويبتعدون عني وهم الفقراء إلي , من أقبل منهم لاقيته ومن أدبر منهم ناديته). إنها إذن حالة وصورة العقوق والتمرد في أجلى صورها ,وهي ولا شك ثمرة من ثمار جهلنا بربنا سبحانه وعدم معرفتنا به . يقول الدكتور مجدي الهلالي في كتابه "حطم صنمك وكن عند نفسك صغيرا" :(فعلى سبيل المثال عندما يتعرف الواحد منا على شخص ما معرفة عامة فإن نظرته له ستكون نظرة عادية مثله مثل غيره لا تلفت انتباهه , فإذا اقترب منه وازدادت معلوماته عنه وعن قدراته وخبراته وشهاداته أو المنصب الذي يتولاه فإن هذا من شأنه أن يزيده احتراماً وهيبة وتقديراً لهذا الشخص ,مما ينعكس على طريقة تعامله معه والتي بلا شك ستختلف كثيراً عما كانت عليه من قبل , إذن فنحن نحتاج إلى معرفة الله عز وجل لتزداد خشيتنا له وخوفنا منه ورجاؤنا فيه وتوكلنا عليه وغير ذلك من ألوان العبودية .ولقد سأل موسى عليه السلام ربه : يا رب أي عبادك أخشى لك ؟ فقال : أعلمهم بي ).

والغريب واللافت أن كل الخلائق تعبد الله سبحانه على الفطرة التي فطرها الله عز وجل عليها (كل قد علم صلاته وتسبيحه) فهي كذلك منذ خلقها الله تعالى مع أنها ليست ذات تكليف مثل الإنسان ,الذي مع كونه مكلفاً والذي سخر الله تعالى كل الكون له وزوده بالعقل وأنزل إليه الكتب وبعث فيه الرسل ومع ذلك فإنه وحده الذي يشطح ويذهب بعيداً في جفائه وعصيانه وبعده عن ربه سبحانه وطاعته .

فها هو نبي الله داوود عليه السلام وهو الشاكر الذاكر العابد يسأل ربه سبحانه فيقول : يا رب هل بات أحدٌ من خلقك الليلة أطول ذكراً مني ؟ فأوحى الله عز وجل إليه : نعم ..الضفدع !! .

وفي رواية أخرى أنه خرج عليه السلام إلى الساحل فعبد ربه سنة فلما تمت السنة قال : يا رب قد انحنى ظهري وكلت عيناي ونفدت الدموع فلا أدري إلى ماذا يصير أمري. فأوحى الله عز وجل إلى ضفدع أن أجب داوود عليه السلام ,فقال الضفدع : يا نبي الله أتمُن على ربك بعبادة سنة ؟ والذي بعثك بالحق نبياً إني منذ ثلاثين سنة أسبحه وأحمده وإن فرائصي ترتعد من مخافة ربي , فبكى داوود عند ذلك عليه السلام .

وإذا كان هذا حال الضفدع في عبادة الله سبحانه فها هي النملة كذلك تعلم سليمان بن داوود عليهما السلام كيف تكون عبادة الله سبحانه . فقد روي أن نبي الله سليمان عليه السلام قد خرج إلى البر يصلي بالناس ويدعون الله أن يسقيهم المطر , فمر على نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلقٌ من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا , فقال سليمان عليه السلام - وكان يفهم منطق ولغة الحيوانات والطيور: ارجعوا فقد سُقيتم بدعوة غيركم .

وها هو الديك ؛ذلك المخلوق الآخر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة) وها هو النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان كلما سمع صوت الرعد يقول (سبحان من يُسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) .

فالرعد يُسبح والديك يُسبح والنملة تـُسبح والضفدع يُسبح الله جل جلاله , كلٌ بالطريقة التي ألهمه الله إياها وفطره عليها .ولينظر كلٌ منا إلى حجم الطاعة التي يؤديها , فهل يظل طيلة الليل في صلاة ؟ وهل لسانه لا يفتر عن ذكر الله ؟ إننا وأن فعلنا ذلك فلا نسبة لهذه الطاعة مع عبادة المخلوقات الأخرى لله عز وجل. فقد قال سبحانه : (وله ما في السموات وما في الأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون , يسبحون الليل والنهار لا يفترون) الأنبياء 19 - 20. فكيف نرى أعمالنا القليلة بعين الإعجاب والتعظيم والله عز وجل يقول (تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن , وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم , إنه كان حليماً غفورا) الإسراء 44 .

يقول الدكتور مجدي الهلالي : (تخيل أنك قد عزمت على التبكير لصلاة الجمعة وخرجت من منزلك في الثامنة صباحاً وأنك تعتقد أنك ستكون أول الداخلين إلى المسجد وأول السباقين إليه لصلاة الجمعة والجماعة , وظل هذا الشعور بالزهو يتملكك , وما أن تصل إلى المسجد وإذا بك تجده قد امتلأ ولا تكاد تجد موضعاً لقدميك , فماذا سيكون شعورك آنذاك ؟ وهل سيستمر زهوك وإعجابك بنفسك أم أنك ستستصغر فعلك ؟! وهذا هو الدور العظيم الذي تـُحدِثهُ معرفة الله الغني الحميد .فعندما تكثر من التسبيح وتظن أنك فعلت شيئاً غير مسبوق يأتيك القرآن ليقول لك: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) الجمعة آية 1 .وعندما يشعر المرء بتعبه من رُكيعات يركعها لله ويخالجه شعور بالرغبة في التخفيف من هذه العبادة لأنه صلى بما فيه الكفاية يأتيه قول الله عز وجل : (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) سورة فصلت آية 38 .

وكذلك فإن التعرف على عبودية الكون لله عز وجل من شأنها أن تجعلنا نضع رأسنا في التراب حياءً من الله وخجلاً من حجم طاعتنا اليسيرة التي لا تكاد تساوي شيئاً بجوار عبادة أصغر مخلوق من مخلوقاته سبحانه) ,فالله جل جلاله لا تنفعه طاعتنا مهما بلغت ولا تضره معصيتنا مهما عظمت , وهو القائل في الحديث القدسي الجليل الذي رواه الإمام مسلم :(يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني , ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني , يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً , يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً) .

إننا لو افترضنا أن كل نعمة من نعم الله علينا تتطلب ساعة عبادة شكراً له سبحانه مقابلها لوجدنا أننا نحتاج إلى مئات بل آلاف الساعات نسجد فيها لله كل يوم لنؤدي جزءاً يسيراً من حقه علينا فيما حبانا به من نعم وآلاء .

ولو أننا لو عوقبنا منه سبحانه بأننا إذا لم نعبده ولم نسجد له فإنه سيوقف عنا هذه النعم , فإن القلب سيتوقف عن النبض , والعين لن تبصر والكبد لن يعمل والكلية لن تنقي السوائل , والنخاع لن يفرز خلايا الدم , وخلايا الجسم لن تمتص السكر , والبول سيُحبس والدم لن يتأكسد والغـُدد سيتوقف إفرازها ... ولن نتمكن من السمع ولا من الكلام أو الشم واللمس , والمعدة سترفض الطعام والعضلات سترتخي والنوم لن يأتي وغير ذلك الكثير .

 (هذه الحقيقة عندما تستقر في كيان الإنسان فإن من شأنها أن تنسيه عمله الصالح , بمعنى أنه لن يظن أن له مكانة عند الله بهذا العمل أو أنه يستحق به دخول الجنة ودرجاتها العُلى , بل يعمل العمل ويجتهد فيه ثم يستغفر الله بعد القيام به لشعوره بأن حق الله عليه أعظم مما يفعل , وأنه إن لم تتداركه رحمة الله وعفوه فسيهلك كمن أدان شخصاً مبلغاً كبيراً من المال يبلغ مليون دينار مثلاً , ثم هذا الشخص بالاجتهاد في العمل وفي نهاية كل شهر قام بسداد درهم واحد , ما هو شعور هذا الشخص المدين وهو يقدم الدرهم لدائنه ؟! هل شعور الفخر والإعجاب بهذا الدرهم أم أنه سينكس رأسه وهو يعطيه إياه ويشعر بتقصيره الشديد في حقه ويستعطفه ويرجوه أن يسامحه على تقصيره ؟! بل إنه يرى أن قبول صاحب الدين له هو فضلٌ منه وإحسان وتكرم .

هذا لو كان الديّن يساوي ذلك فقط , فما بالك بدين الله علينا الذي تعجز قدرات العقل عن إحصائه , إنها نعم الله تعالى علينا الكثيرة التي لا تـُعد ولا تـُحصى ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها , إن الإنسان لظلومٌ كفار) .

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعاً :(أن عابداً عبد الله على رأس جبل في جزيرة في البحر خمسمائة سنة "كانت أعمار الناس أطول مما هي عليه اليوم" ثم سأل ربه أن يقبضه ساجداً قال جبريل : فنحن نمّرُ عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا ونجدُ في العلم أنه يُبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول الرب عز وجل : أدخلوا عبدي الجنة برحمتي . فيقول العبد : يا رب بعملي ؛ يفعل ذلك ثلاث مرات , ثم يقول الله للملائكة : قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادته خمسمائة سنة "عدلتها" وبقيت نعم الجسد كله فيقول : أدخلوا عبدي النار , فيُجر إلى النار فينادي برحمتك أدخلني الجنة , برحمتك أدخلني الجنة فيدخله الجنة . قال جبريل : إنما الأشياء برحمة الله يا محمد) .

هكذا إذن هي نعمة البصر عظيمة , وهكذا نعمة السمع واللمس والشم واللسان ونعمة الصحة ونعمة الوجه الحسن ونعمة العقل ونعمة الأولاد ونعمة الدين , فهل نكافئ الله سبحانه على هذه النعم بركعات يؤديها الإنسان منا يمنُ بها على الله سبحانه؟ أم أن العقل والمنطق يقول إن هذه الركعات بها نؤدي معاني عبوديتنا له سبحانه ولكننا لا نكافئه على نعمه وعطاياه مع أنه سبحانه غنيٌ عنا وعن عبادتنا ونحن الفقراء إليه عز وجل ؟

فيا أيها الجاحدون الذين يظنون أن لهم فضلاً على الله سبحانه , إن الواحد منا إذا دخل بيت صديق له وقام صاحب البيت بتقديم فنجان قهوة له أو كأس شراب فإنك ستقول له : "شكراً , بارك الله فيك", تقديراً على عطيته وتفضله عليك .وإذا كان صاحب البيت قد قدم طعاماً تكريماً واستقبالاً لك فإنك سينطلق لسانك بسيل من كلام الشكر والتقدير والثناء والمديح لمن أحسن إليك وأكرم وفادتك , بربكم أيها الناس فكيف بالله جل جلاله الذي ما من فضل يصيبنا إلا منه ولا نعمة إلا هي من فيض عطاياه ولا خير يصيبنا إلا هو من خزائنه , فما بالنا نعرض عنه ونُدير له الظهر ولا نشكره على عطاياه وشكره , ليس إلا أن نعبده سبحانه ونقر له بالإلوهية والربوبية والطاعة والانقياد .

قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أبلاكا

قل للمريض نجا وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافاكا

قل للصحيح يموت لا من علةٍ بالموت من ياذا الصحيح دهاكا

قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من الذي أهواكا

بل سائل الأعمى خطا بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا

قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع ٍ ولا مرعى من الذي يرعاك

قل للوليد بكى وأجهش بالبُكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا

وإذا ترى الثعبان ينفث سُمهُ فأسأله من ذا بالسموم حشاكا

وأسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا ؟

وأسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا

بل سائل اللبن المُصفى كان بين دم ولحم ما الذي صفاكا

إنه الله جل جلاله وتباركت أسماؤه , الحي القيوم , مالك الملك , ذو الجلال والإكرام , أشهد أن لا إله إلا هو وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , فاللهم ربنا أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ولا تجعلنا يا مولانا عن ذكرك من الغافلين .

رحم الله قارئاً دعا لنفسه ولي بالمغفرة

{والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}

ــــــــــ

*نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

-------------------------